الفصل السادس

الفن والذاكرة في لوحات سلفادور

«أنا أدعو العالم إلى ثورة معوية وجمالية: الطراوة واللزوجة ضد الخط المستقيم والزاوية الحادة وعلامة عدم التجسيد: لوحة الرغبة والانتصاب لوحة الخطأ والقداسة، لوحة الجليل. الهندسة دائمًا طوباوية وبلا شكل وقد أعلنت مرارًا: الهندسة نادرًا ما تكون صلبة.»

سلفادور دالي
«لقد سمحتُ للرغبة أن تتطور داخلي … وجاءت حواسُّ جديدة مكانها لتزيد غرابتي …»
«أنا أفكر بعيني، وهي الإثبات الوحيد الذي أعطي به البريق لروحي تعبيرًا عن مشاعري.»
سلفادور دالي

تقديم

حواسُّ جديدة من أجل نمو الرغبة بما هي الدافع إلى فنِّ الرسم، ذاك هو شعار سلفادور دالي. ما هي حواس اللوحة؟ هل هي ريشة الرسام أم ألوانه أم شخوصه المفضلة؟ ومن أين تأتي حواسُّ كهذه؟ من عبقرية ما أم من مشهد غريب أم من إيقاع روح وحيدة؟ من لمسات الفرشاة أم من إيقاعات الألوان السائلة على قماشتها؟ لسلفادور دالي — الفنان الأسطورة — قصة فريدة حول مولده واسمه الذي حمله عن أخ اسمه سلفادور دالي، مات بدلًا عنه، من أجل أن يعيش سلفادور دالي (الثاني) مكانه. فهو يقول عن هذا الأمر: «أخي الأكبر «سلفادورو» المدفونة معه نصف روحي، حيث إنني مستمر في أن أكون موسومًا بجرح يستحيل محوه.»١ إنه يحيا بشخصين أحدهما مات والثاني مطالب بأن يحيا أكثر من اللازم أو بما يليق بروحين. لكنه كان يخاف ألَّا يكون هو نفسه، لذلك كان يردد خوفًا من أن يصير إلى مجرد شبح لأخيه الراحل ما يلي «كان عليَّ أن أكون نفسي، حتى أوجد»:٢ إن الطريق إلى وجود كهذا هو تحويل كينونته الزائدة عن اللزوم إلى لوحة ميتافيزيقية دائمة يتراقص على سطحها الأحمر والبرتقالي وأزرق السماء والبحر في كينونة مائية لا يمكن لأحد أن يقبض عليها. ويزدحم على بياض القماشة رحم الأم وجسد غالا حبيبته وضحايا الحرب الأهلية الإسبانية … ومعارك أخرى تنكيلًا بأبطال القرن العشرين ورءوسه المدبرة: هتلر بنازيته القاتلة ولينين «بذيله الشيوعيِّ» وبروتون «الكاهن الأكبر» وفرويد بنرجسيته الفظيعة وبيكاسو بلسانه اللاحس لكل شيء … وتتقاطع الثنايا والطيَّات وتستفزُّنا حواسُّ دالي ثلاث مرات: مع السريالية ومع بيكاسو ومع غالا.
أمَّا عن علاقته بالسريالية فأهمُّ حدث فيها هو حدث طرده منها وقد كتب كثيرًا عن هذا الأمر الذي أثَّر فيه شديد التأثير. ويقصُّ دالي قصته مع بروتون والسريالية في النصُّ التالي: «لقد التقينا عام ١٩٢٨م عندما قدمني له ميرو في ثاني زيارة لباريس وقد تظاهر بسيماء الأب الثاني لي، شعرت أنني وهبت ولادة جديدة، كان السرياليون بالنسبة لي نوعًا من المشيمة، لقد آمنت بالسريالية كما اعتقدت بألواح الشرائع، بنهم وشهية لا تشبع وبشكل غير معقول، لقد تمثَّلت خطاب وروح الحركة والتي توافقت مع أعماق طبيعتي، فكانت هذه الطبيعة الساخرة لهذه المحاكمة برمَّتها أكثر من مفارقة، حيث كنت تقريبًا أكثر الأشخاص سريالية في المجموعة كلها. وربَّما كنت السريالي الوحيد. لذلك كان اتهامي في جوهره شيئًا كثيرًا. لقد كان رجال الدين في العصور الوسطى يسجنون عندما يتجرءون على أحد القديسين. هي القصة القديمة قدم الدين ذاته.»٣
لقد كانت حكاية محاكمة دالي من طرف بروتون حكاية مثيرة لسخرية دالي. كل ما في الأمر هي لوحة «اللعبة الكئيبة» التي رسم فيها دالي تفاصيل «بُرازية» أثارت غضب بروتون. وهو ما دوَّنه دالي قائلًا: «كان أول صدام بيننا حول لوحتي «اللعبة الكئيبة» وكانت غالا قد سألتني عما إذا كنت من المقتاتين على الروث كالخنافس.» لكن غاية دالي كانت هي استفزاز المشاهد إلى حدِّ الصدمة. إنه يعترف «أن المطلوب … أن أعرف كيف أشكِّل لهم هاجسًا يرعبهم لأقصى حدِّ، وعندما ابتكرت الأشياء السريالية كنت مشبعًا بالمعرفة الداخلية العميقة بينما استمرت نشوة الجماعة من عمل هذه الأشياء لذلك كان إعجابهم مخيفًا.»٤
أما عن بروتون فقد بدا لدالي بوصفه الكاهن الأكبر بدغمائيته ومزاجه البرجوازي، يقول عنه دالي ما يلي: «منذ أن أصبح بريتون الكاهن الأكبر متشكِّكًا في عدائي الرسمي للسريالية لأنني لم أُجاهر بالولاء له» …٥ … إن ما أبعد دالي عن السريالية هو السياسة وهو ما كتب عنه قائلًا: «فرَّقتنا السياسة والالتزام، كما يسميه السرياليون، الماركسية لا تعدو بالنسبة لي غير شيء يريحني ويلهمني، تبدو لي السياسة سرطانًا في الجسد الشعري، لقد رأيت الكثير ممَّن كانوا أصدقائي يتحللون في «الفعل السياسي» ويفقدون أرواحهم فيه … إنه عالم من حبات رمل لا اسم لها؟ كومة من نمل التكنوقراطية … لم يتدنَّ دالي لحسن حظه للأيديولوجيات الهباء، وكان حديث بريتون السياسي بالنسبة لي كأنه مدرس ابتدائي يحاول تدريس قطيع من الفيلة ليدلفوا من خلال باب محل صيني. كان الانضباط هو الكلمة المفضَّلة. وكان ذلك بالنسبة للفنان هو البرص؟» …٦ وضد السرياليين يكتب ساخرًا: «لم أرغب في سماع المزيد، إنهم أقزام بائسون يتبعثرون في الخلايا الشيوعية ويحاولون فرض أخلاقياتهم وأساليبهم، وأفكارهم التافهة وخيالاتهم على دالي. ضحكت من ادعاءاتهم، وهززت كتفي وانحنى بريتون بتواضع باسم الماركسية اللينينية.»٧
يعرف دالي فنَّ الرسم لديه قائلًا: «كان الهدف هو ابتكار شيء غير منطقي بقدر الإمكان ليترجم الخيالات المتقدة لذهن شاعري، ولإرباك العقل ولكن ليذكي الخيال بأفضل العناصر الممكنة وتوفير أحلام اليقظة العميقة بما يلمس كل الحواسِّ.»٨
لم تكن عبقرية دالي وحواسه ممكنة دون قصة طويلة مع غالا التي كتب عنها أنها «… تعيدني إلى فرشاة الألوان وتحول ما يطاردني من مخاوف إلى عبقرية.»٩ إنه يعتبرها «كرة نارية تنفجر في سماء مجهولة … شيء فريد يسمو على حياتنا ويبرر كل شيء … هي … أنا … كلية العالم … غالا … هي نفسها … وكل النساء … في غالا العالم مكتمل وجديد ومطلق»١٠
وكان يسميها «نقطة الارتكاز … هي أن ترفع غالا الكرة الأرضية مع علامة الحسن. استطعت أن أعيد تنظيم هندسة الذكاء الدالاني. إن أذن غالا المقدسة امتصت كل الدوار الذي يعتمل في روحي، ويسمح لي بإعادة الوحدة الصافية الكاملة»١١

«استمرار الذاكرة» …

figure
استمرار الذاكرة أو الساعات الرخوة ١٩٣١.

هي ساعات رخوة أرهقتها دقات الزمن المتتالية باستمرار فانصهرت وارتخت وضيعت شكلها عمدًا وسالت اعتباطًا تحت ريشة دالي … يقول دالي: «إن لوحتي «الساعات العرجاء» ليست مجرد صورة خيالية وشاعرية للواقع بل إنها رؤية كلوحة الجبن السيال، وفي الحقيقة أعظم تعريف كامل لأعلى التخيلات الرياضية يمكن أن تعطينا الزمان والمكان، هذه الصورة المستوحاة من البارانويا يمكن القول بأنني اختطفتها من عالم اللاعقلانية لأكثر الأنماط هولًا في ترسانة الأسرار» …

لماذا تُصرُّ الذاكرة على الاستمرار وكل شيء حولها في حالة سيلان وانسياب أبدي؟ هل أراد دالي المحافظة على الذاكرة أم أراد تذويبها وتمييعها عبر رسمها؟ سوف نرصد في هذه المداخلة أكثر من ذاكرة في رسومات دالي: ثمة ذاكرة مطبخية وذاكرة إيروسية وذاكرة حربية وذاكرة دينية … وثمة حظٌّ سعيد لتخليد الأطعمة والفواكه واللحوم … ذاكرة الجبن الطري الذي «يشبه المسيح» وذاكرة الفاصوليا التي تشبه الحرب (١٩٣٦م) وذاكرة الخنزير المشوي الذي يشبه جالا، وذاكرة للخبز، خبز دالي نفسه (١٩٣٢م) … وثمة ذاكرة إيروسية حول «لغز الرغبة» (١٩٢٩م) … وثمة أيضًا ذاكرة للحرب بوجهها في شكل جمجمة مسكونة بثلاث جماجم فظيعة (١٩٤٠م) أو بجمجمتها التي تضاجع آلة بيانو (١٩٣٤م) … وثمة أيضًا ذاكرة دينية كاثوليكية تشتدُّ بدالي إلى حدِّ إعلانه عن نفسه بوصفه: «من أعاد إحياء التصوف الإسباني نفسه» … إلى جانب ذاكرات أخرى متمردة على الأب بوجه لينين مرسوم بلسان طويل أبله وبمؤخرة مشوهة وعكاكيز … وعلى بيكاسو بلسان طويل قادر على لحس كل ما اعترضه … وعلى فرويد الذي اختزل اللاوعي في صناديق نشتم منها دومًا رائحة نرجسيتنا الفظيعة … ذاكرة سريالية تبعثر كل أشكال الذاكرة الجامدة … وتدفع بالفن إلى اختراع ذاكرات مضادة للزمن القاتل وللموت الفظيع …

لوحة استمرار الذاكرة لدالي بتاريخ ١٩٣١م: هي لوحة ميتافيزيقية ترسم لغز الزمن: هل يستمر أم يفنى ويزول؟ هل ثمة ماضٍ يمضي وآخر لا يمضي؟ استمرار الذاكرة لوحة تخترق الزمن كتوقيت رياضي صلب وأحمق تزحزحه وتعبث بحدوده … الموت ها هنا هو الخصم اللدود ودالي يهزمه بتمييع الوقت وتذويب الساعات بتشويه أشكالها الهندسية الفجة … دالي يعبث بالدائرة التي تبتلع الجميع في دورها المفرغ وتلفظهم كلما انتصر الموت … ثمة أشكال مختلفة من الانتصار على الوقت: برميه كيفما اتفق على طاولة من الخشب الأصمِّ … أو بشنقه على جذع زيتونة ضيعت شبابها منذ دهر … وثمة أمل في تنويم الوقت فوق رءوسنا حين نخلد إلى النوم تاركين الوقت يمرُّ وحيدًا. وتتسع اللوحة أيضًا إلى ساعة لم تعد صالحة إلا للأكل فيتهافت عليها النمل في نهم فظيع … كيف تصرُّ الذاكرة على الاستمرار وكل شيء من حولها في حالة ذوبان وسيلان متواصلة؟ دالي سيتهكَّم طويلًا على الذاكرة … سيتذكَّر ما يحلو له أن يأكل وسينسى ما لا يرغب في أكله ولا في رسمه … ضحك من الذاكرة وعبث بصلابة إلحاحها كلما أصرت على البقاء كما هي في حين أن كل العالم الذي يمضي من حولها يكون قد تخشَّب وتصحَّر ودخل عصره الأخير …

أي معنى للذاكرة في رسومات دالي؟ هل هي ذاكرة الشخص أم ذاكرة الجماعة الثقافية؟ هل هي ذاكرة اللوحة؟ أم هي ذاكرة المعدة؟ هل هي ذاكرة الماضي أم هي ذاكرة المستقبل؟ علينا أن ننبِّه بادئ الأمر أن كل الألعاب اللغوية مُباحة في هذه الباحة الرخوة لذاكرة تتميز في كل مرة بقدرتها على تشويه الأحداث وعلى العبث بالموضوعات بتمطيطها وتهويلها وتغيير شكلها … ثمة ذاكرة تتذكر وثمة ذاكرة تنسى وثمة ذاكرة لا تصلح إلا للذكرى الباهتة بعد زوال الحدث وغيابه من دائرة الحديث … ها هنا تلعب ريشة الرسام بالذكريات فتحولها إلى ذاكرة لا تدوِّن فقط الذكريات الشخصية للفنان بل تصلح للتذكير بزمن الحرب وبزمن اللاهوت وبزمن الأيديولوجي الأيديولوجيات … تذكير بأشباح لينين وبعيادة فرويد التي تعبق برائحة نرجسية فظيعة وبتكعيبية بيكاسو الذي يمتد لسانه للحس كل ما يعترضه من أجل تكعيبه …

سوف ننطلق من تذكير بزمنية اللوحات كما ظهرت تحت ريشة دالي في الزمان الرياضي المستقر لها … ربما يمكننا الحديث عن الفترات التالية:

  • (١)

    طعم العسل ألذُّ من طعم الدماء: وهو عنوان أهم لوحات دالي في فترة أعماله الأولى التي امتدت إلى ١٩٢٩م … وهي فترة جرَّب فيها دالي كل أساليب المدارس الفنية أي التكعيبية والانطباعية والتوحشية والمستقبلية.

  • (٢)

    الساعات الرخوة: تمتدُّ من ١٩٢٩م تاريخ لقائه الأول مع غالا إلى ١٩٤٠م … وتميزت هذه الفترة بثرائها وتعدد اللوحات في اتجاهات مختلفة … بدأت بلغز الرغبة ١٩٢٩م أي برحم الأم الضخم وبتكييف الرغبة أي بذكرى غالا وهي تحرره من انفعالاته المرضية … ثم استمرار الذاكرة … وأشباح لينين ١٩٣١م ووجه الحرب ١٩٤٠م …

  • (٣)

    مرحلة اللوحات المتصوِّفة التي تبدأ بعد انفجار قنبلة هيروشيما وتمتدُّ من إغراء القديس أنطوان التي تفتح دالي على علاقة مع السماء ١٩٤٦م، وتمرُّ عبر الشيطان المنطقي ١٩٥١م حول كوميديا دانتي ثم الصليب النوي١٩٥٢م ولوحات أخرى لإعادة تنشيط التصوف الإسباني على حد تعبير دالي نفسه …

لكن لن نعيد عبور هذه اللوحات عبر الزمن الرياضي الصَّلب بل عبر ذاكرات الرسم الرخوة العابثة بزمن الموت والراسمة لزمنية خلود لا يمضي ولا يموت بل يستمرُّ في شكل ديمومات رخوة سائلة مثل سيلان الألوان على اللوحة … إن الخيط الإشكالي الذي نسعى إلى رسمه في هذه المداخلة هو التالي: أن ثمة علاقات عنكبوتية حميمة بين الذاكرة وفنِّ الأكل والبعد الروحي وفنِّ الرسم معًا … ليس ثمة ذاكرة واحدة، ثمة ذاكرات بقدر الذكريات. وثمة ذاكرات بقدر الإبداعات. ثمة ذاكرات بقدر صمودنا في وجه الذاكرة الجمعية النمطية الجاثية سلفًا على أقدارنا تحت راية الانتماء إلى جماعة أو ثقافة أو تراث ما … وثمة ذاكرات بقدر قدرتنا على بعثرة الزمن الرياضي الذي يدفع بالجميع كلما انقضت لحظة ما إلى الموت … عند دالي ثمة ذكريات زائفة أو مغلوطة وذكريات حقيقية … لكن الزائفة أكثر إشراقًا وأكثر حقيقية من الذكريات الحقيقية نفسها …

… ثمة في أعمال دالي ميتافيزيقا للذاكرة من نوع خاصٍّ جدًّا: ميتافيزيقا تنسج بين المعدة والفن والجبن والمسيح واللحم وغالا علاقات لا يحدُّ استمرارها حتى الزمن … ذاكرة الرسام وذكرياته التي تنسج عالمًا سرياليًّا قوامه كوجيتو مغاير تمامًا لكوجيتو ديكارت: أنا آكل إذن أنا أرسم … بقدر ما أتذكر ما في أحشائي أصيِّر الأشياء في لوحاتي ما يحلو لأحلامي أن تكون … لا حدَّ للإبداع ولا حدَّ للعبقرية … حتى الموت ينهزم ها هنا … لأن الرسم يبقى خالدًا حتى وإن اندثر الرسام …

يقول دالي عن لوحة «استمرار الذاكرة أو الساعات الرخوة» ما يلي: «تكمن عبقرية دالي في حذف المظاهر للزاوية الصحيحة، المنطق، الجمالية التي تغلق الحقيقة في أقفاص عائدة إلى الأشكال العضوية الطيعة والأشكال العرجاء التي يمكن بها تشكيل حقيقة من التوافقات. إن «ساعاتي العرجاء» على سبيل المثال هي مثال على ذلك رمز لهذا التصوير. أنا أقوم باستدعاء كل الأشياء لتتحدَّى من خلال البدء، الحسِّي والشهواني والشبقي والدليل الوجودي. دعونا نمشِ في العالم من خلال صورة دالي. نحن في قلب التيه ويمكننا أن نشق طريقنا وفي الوقت نفسه نصبح نحن أنفسنا متاهات» …١٢
سلفادور دالي: كل من يعرف قصته يعرف جيدًا أنها بدأت منذ اسمه … لقد وُلد هذا الاسم من ذكرى لأجل تخليد ذاكرة تطلب الاستمرار إلى الأبد … هي ذكرى أخيه الذي وُلد ومات قبل أن يستمر … دالي ها هنا اسم لأخيه الذي هزمه الموت باكرا وقبل سنة من ولادة سلفادور دالي الثاني … وُلد من ذكرى وظلَّ طيلة حياته استمرارًا لذاكرة أخرى جعلها ذاكرته الخاصة … عاش بجسد واحد لكنه تعدد بلوحاته وانفعالات ألوانه وضحكات شخوصه الرخوة وموضوعاته اللاحمة إلى حدٍّ فظيع … استطاع أن يهزم الموت الذي هزم أخاه قبل الأوان فعمر طويلًا إلى أن مات بعد الأوان محترقًا بذكرى غالا حبيبته التي بدونها لم يكن ليُشفى من ذهانه ومن ضحكاته القاتلة … عاش بجسد واحد لكنه حمل دومًا في أعماقه أحشاء مرحة فكانت معظم لوحاته لوحات أكولة ملهوفة على مصِّ السوائل والتهام القشريات بأنواعها … من سائل الحلزون إلى سائل نابليون كما يحلو له أن يحدِّث عن نفسه … سلفادور دالي عاش بأشباح متعددة: شبح أخيه وشبح أبيه وشبح غالا وشبح لينين وفرويد وبيكاسو والمسيح والقديس أنطوان. لكنه عاش بحلم إسبانيا … دالي هو إسبانيا نفسها حين تنهض من عمق أسلافها الذين أكلوها من فرط إثارتها لشهوة القرم فيهم، لقد أراد دالي أن يرتقي بالنهار الإسباني المتوجع من الحرب إلى عزِّ الظهيرة … هي إسبانيا التي رسمها دالي في أوجه أوجاعها قائلًا: «من كل إسبانيا تنبعث رائحة اللحم المحروق … لحم روحي مقطع يختلط بالرائحة اللغوية لعرق الحشود التي تزني مع بعضها البعض وتزني مع الموت معًا» …

اللوحة الأولى: بورتري لغالا حاملة لحمًا مشويًّا على كتفيها

figure
بورتراي لغالا ١٩٣٣م.

… هذه اللوحة تجمع بين المرأة والأكل وبعد ديني إبراهيمي … هذه اللوحة تعني كما تأوَّلها صاحبها: أن دالي كان يرغب في أن يأكل غالا حبيبته … وبدلًا عن أكل غالا رسم لحمًا مشويًّا معلقًا على كتفيها … لقد قرر أن يأكل لحم الخروف بدلًا عن لحم المرأة غالا … إن هذا الرسم يذكِّر حسب تأويله هو نفسه بواقعة إبراهيم الذي استبدل ذبح ابنه إسماعيل بذبح خروف … هذه اللوحة تحمل رمزية طقس توحيدي قديم فترسمه على نحو سريالي خاصٍّ جدًّا …

لقد قدم دالي في كتابه المذكور أعلاه هذا التأويل الذاتي للوحته بورتري لغالا في سياق مثير لنا اليوم: هو سياق إحالته على علاقة مخصوصة بالعرب … يقول: «في ذلك الصيف (أي صيف ١٩٣٣م) … كنت أرغب في أكل كل شيء … ولكني كنت أيضًا على عطش شديد … لقد شعرت فجأة بسلالتي الشمال أفريقية … أن عطش العرب هذا هو الذي جعلهم يتهافتون على إسبانيا ويخترعون الظلال وفورات الماء … متعطش أنا إذن مثل العرب، ولقد كنت أيضًا مقاتلًا مثلهم» …

هذا النصُّ وهذه اللوحة ترسمان معًا تارة بالحرف وأخرى باللون شكلًا من الذاكرة الفنية التي تجمع بين الإيروسي (غالا) والأسلاف (عرب الأندلس) والذكرى التوحيدية (كبش إبراهيم) … دالي إذن سيستمر هكذا مثل العرب متعطشًا دومًا وملهوفًا دومًا على الغزو والأكل … أكل كل ما يحلو له: أكل غالا المرأة، وعلى أكل الخبز (المسيح) وعلى أكل الرسم نفسه من أجل طقوس تصوف نووي قادر على اختراق الجوهر الحميم للكون نفسه …

اللوحة الثانية

figure
بيضة على طبق بلا طبق ١٩٣٢م.

هي لوحة بيضات على طبق بلا طبق … وهي لوحة تنتمي إلى سلسلة أخرى من اللوحات التي تعيدنا إلى ذاكرة الرحم … المنبت الأول للوجود نفسه … سلسلة من اللوحات الرحمية أهمها: لغز الرغبة (١٩٢٩م) وبيضة على طبق بلا طبق (١٩٣٢م) والطفل الجيوسياسي … (١٩٤٣م).

في الفصل الثاني من كتابه «الحياة السرية لسلفادور دالي» يكتب دالي تحت عنوان مثير، «ذكريات داخل الرحم»، قائلًا: «أعتقد أن قرائي لا يتذكرون البتة، هذه الحقبة الهامة جدًّا من وجودهم التي تسبق مجيئهم إلى العالم … لكني أنا أتذكر ذلك الأمر جيدًا كما لو كان قد حدث الآن» … يخبرنا دالي في هذا الفصل أن ثمة قرابة ما بين ذكريات الرحم والجنة المفقودة … إن هذه الذكريات الرحمية هي «شيء ما إلهي … بل هي الجنة» … لكن ماذا تشبه الجنة لديه إذا كانت الجنة هي ما عاشه داخل الرحم من ذكريات؟ «يجيبنا إنها لون النار: حمراء، برتقالية وصفراء تميل نحو الزرقة. إنها رخوة، متحركة، متناظرة، مضاعفة ولزجة.»

… ذاك ما كان يراه وهو في رحم أمه وذاك هو ما سجلت ذاكرة اللوحة لديه … لقد «كانت البيضتان ضخمتين فسفوريتين مفصلتين بوضوح في طيِّهما وإعادة طيهما للون الأبيض الميال قليلًا نحو الزرقة.»

اللوحة الثالثة

figure
الطﻔﻞ الجيوسياسي ١٩٤٣م.
في هذه اللوحة التي رسمها سلفادور دالي في أمريكا في قلب الحرب العالمية الثانية طفل يجهد نفسه للدفع بجسده نحو كوكب الأرض. مخاض عسير لإنسانية لم تعد قادرة على الولادة من فرط إتقانها لآلة القتل. تبدو أمريكا في هذه اللوحة مستقبلًا لولادة جديدة للإنسان في حين تبدو أوروبا مسحوقة من طرفها. وسلفادور دالي يشير إلى إمكانية ولادة أخرى في وقت كان فيه العالم يضطرم بلهيب الحرب العالمية الثانية. شرخ في رحم الأرض ودم يسيل وإنسان جديد يهم بالولادة تحت نظر امرأة عارية وطفلها يختبئ بين ساقيها مفزوعًا من هول ما يقع. يبدو ظلُّ الطفل أكبر من جسد الأم لأن المعنيَّ بالأمر هنا هو الطفل في نوع من اليوطوبيا الفنية الطريفة. في هذه اللوحة يولد الإنسان الجديد من بين يدي الرسام الذي يرى في أمريكا مستقبلًا للعالم الجديد. ثمة في هذه اللوحة ما يدفع الرسام إلى هجرة الماضي؛ ماضي الحرب، لا برسم زمن جديد فقط بل برسم ولادة أخرى لنمط آخر من البشر. هذا النوع من الإنسان يجاهد من أجل التحرر من نرجسية الماضي وإرساء خارطة أخرى. في هذا السياق يقول سلفادور دالي ما يلي: «حينما يشعر شعب ما بالحاجة إلى القطع مع الروابط الثقافية التي تشده إلى الأنساق المنطقية للماضي، من أجل ميثولوجية مستقلة … فإن دوافع القطيعة مع هذه الميثولوجيا المهجورة ينبغي إيضاحها»، علينا أن نذكر بأن مبحث الأكل والمأكولات هو مبحث قارٌّ في جماليات دالي وفي رسوماته وبخاصة تلك التي امتدت بين ١٩٢٩م إلى ١٩٤٠م … من ذلك خاصة خبز أنتروبومورفي ١٩٣٢م وتجسيدات رخوة ١٩٣٦م.

اللوحة الرابعة

figure
ﺗﺠﺴﻴﺪات رﺧﻮة ١٩٣٦م.
لا نستطيع أن نجعل هذه اللوحة تمرُّ هكذا مرَّ الفرجة السلبية … هذه اللوحة من أفظع اللوحات وأكثرها استفزازًا وفضحًا للحرب الأهلية في إسبانيا … مشهد مرعب يزدحم فيه بشر وحيوانات في حالة هروب فزعًا من مسخ عملاق شاهرًا نبضتيه في وجه السماء … وفي قاع اللوحة فاصوليا مسلوقة وفضلات كريهة الرائحة … وكائن غريب نصف امرأة ونصف رجل أو هو مسخ بصدد الانتحار … وفي قلب اللوحة سماء ملبدة بالغيوم هي خريطة إسبانيا نفسها … يقول دالي عن هذه اللوحة: … «لوحة أعرض فيها حشدًا ضخمًا من الأيادي والأرجل التي تخنق بعضها بعضًا في ضرب من الهذيان … ولقد أحطت هذه البنية اللزجة لهذا الكم من اللحم في الحرب الأهلية بالفاصوليا المسلوقة لأنه ليس بوسعنا أن نتخيل إمكانية ابتلاع كل هذا اللحم العبثي دونما مصاحبة له ولو بشكل أخرق ببعض الخضر الكئيبة والمطحونة» … تلك هي ذاكرة الحرب أفظع من الحرب نفسها … واقعية إلى حد فظيع في لوحة سريالية تجعل من الرسم أشد واقعية وأفظع من الواقع نفسه … لقد كتب دالي عن لوحته قائلًا: «بدأت رسم لوحتي: هاجس الحرب الأهلية» والمعروفة أيضًا باسم «التشكيل الناعم للفاصوليا المسلوقة» والتي تداخلت فيها الأذرع والسيقان ليخنق كل منهما الآخر حيث يتنبأ بذلك القتل المتبادل في إسبانيا المفتونة بأهوال التدمير الذاتي. الجثة الإسبانية سرعان ما ستجعل العالم يشم رائحة أحشائها. الرأس المقطوع لكبير الأساقفة سيتم جره في شوارع برشلونة مع الهياج العظيم والمروع لأطفال إسبانيا لنزع أحشاء بعضهم بعضًا بالحديد الملتهب بنار الحقد، كانوا يقدمون أنفسهم للمحرقة بشجاعة الإنكا الذين كانوا يُضحُّون بأنفسهم فقط ليستمتعوا بالموت. كان هناك الموت دون مسوغ أو فقط لمجرد القتل، أو للكسب المادي، أو للسخرية، أو للتعسف، أو للمثالية. «كان لا بد للوركا أن يموت لأنه أعظم إسباني على الإطلاق وأكثر رموز الموتى.»١٣

اللوحة الخامسة: غواية القديس سانت أنطون

figure
غواية القديس سانت أنطوان ١٩٤٦م.

منذ ١٩٤٦م ستدخل ذاكرة سلفادور دالي في حقبة جديدة هي حقبة التصوف أو ما سمَّاه بالتصوف النووي في بيان كتبه تحت هذا العنوان سنة ١٩٥١م … وذلك حصل إثر انفجار القنبلة الذرية في هيروشيما ونهاية الحرب العالمية الثانية. وهي مرحلة يستعيد فيها دالي الموضوعات الدينية الكاثوليكية ويوجه لوحاته نحو مباحث سماوية ومقدسة معلنًا أنه جاء «كي يعيد تأهيل التصوف الإسباني» … في هذه المرحلة الأخيرة سيدخل فنُّ الرسم في ذاكرة دينية لكنها من نوع خاصٍّ جدًّا: إنها تمزج بين الماضي المسيحي والمستقبل النووي … وهو ما نراه مثلًا في لوحة «غواية القديس سانت أنطوان» ١٩٤٦م.

وهي لوحة تستحضر صورة القديس سانت أنطوان المؤسس لتقليد حياة الرهبنة في مشهد للعصر النووي وإمكانية حرب النجوم … وفي اللوحة نتعرف على القديس أنطوان عاريًا في الصحراء شاهرًا الصليب في وجه أحصنة وفيلة بأرجل عملاقة وبين ساقيه جمجمة مجهولة الهوية ملقاة أرضًا … لوحة تحضنها سماء ملبدة بالغيوم السوداء وبعض من الأصفر وأزرق ورمادي … ألوان تستبق على كارثة ممكنة … في صحراء وحيدة هاجرها الرحَّل إلى الأبد … والقديس أنطوان ما زال يحمل ذاكرته في شكل صليب مسيحي وما زالت غواية حياة الدير تغريه بالصمود في وجه كل أشكال الغزو التكنولوجي والنووي … سانت أنطوان هو دالي نفسه في قصة أخرى وفي ذاكرة هي هي نفسها تستمرُّ لكنها لا تبقى أبدًا على حالها لأنها تغير من زمانها ومن أشكال تمثلها للماضي وللمستقبل معًا … هل بوسع القديس أنطوان أي سلفادور دالي أن يواجه العصر النووي بصليب قديم وبجمجمة مجهولة الهوية وبعرائه المتوحش؟ لوحة تغوي بالتصوف النووي لكنها لا تغوي بالهرب إلى الكنائس … لا شيء من التنسُّك التقليدي ولا من ذاكرات الوعي البائس المثقل بالخطايا والذنوب … لا اعترافات ولا بكائيات … فقط هو الرسم وهو أهواء اللوحة وإغراءاتها وهي تتعرَّى في نوع من العرس التشكيلي العابث بالماضي النائم في أحشائنا … كل شيء يتبخر ولا يبقى غير اللوحة وغير دالي وغير ذاكرة الفن … إن الذاكرة ليست الماضي الذي لا يمضي إنما هي المستقبل وهو يهم بأن يأتي … ما علينا إلَّا أن نغريه بالفن والحبِّ والرسم …

اللوحة السادسة: خبز دالي خبز لا يصلح للأكل فقط …

figure

للخبز رمزية عميقة لدى كل الشعوب … فهو خبز الأنبياء أو ما تبقى من لحمهم … وهو خبز الأمراء أو ما يتبقى على موائدهم … وهو خبز الفقراء أو ما يبقى في أحشائهم … والخبز شعار للثورات التي تحلم بالخبز أوَّلًا، بالحرية ثانيًا، وبالكرامة الوطنية أخيرًا … ثمة خبز للفقراء وثمة خبز للأغنياء وثمة الخبز الحافي للأدباء. لكنْ ثمة أيضًا خبز لا يصلح إلا للرسم … خبز فنِّيٌّ خيالي عبثي … خبز مضاد لسياسات الخبز الرسمية … خبز من أجل كتابة تاريخ فنِّ الرسم منذ الرسومات الأولى المفتونة بسحر الخطوط وصولًا إلى اللوحات المشطَّة في الحداثة … خبز مشاغب يبعثر ألوانه على انفعالاتنا وينثر الرعب ويرقص على أنغام الكاووس … خبز ديونوزي للنشوة ولأشباه الآلهة ولأكثر من بشر … خبز سريالي يستفز ويخترع التأويلات ويخلق المعاني على قارعة اللوحات الفنية …

في هذا السياق يتنزل «خبز سلفادور دالي» الذي أعلنه شعارًا لأعماله الفنية قائلًا: «منذ عودتي إلى باريس، أعلنت من جديد هذا الشعار اللغز: الخبز، الخبز، لا شيء غير الخبز» … لكن هذا الشعار جعل الناس يعتقدون أن دالي صار شيوعيًّا … فأجابهم في تهكُّم استثنائي جدًّا: «أن خبز دالي لا يمكن أن يكون من أجل إنقاذ عائلات عديدة … أن خبزي هو خبز مفترس، مضادٌّ للإنسانية … هذا الخبز أرستقراطي، جمالي، ذهاني، سفسطائي، مسيحي، هو خبز مثير ومستفزٌّ ومعطل لكل أنواع البداهات اليومية.»

خبز مفترس هو إذن خبز دالي … لكن من سيفترس؟ في هذه العبارة انقلاب صارخ ضد القيم الفنية والجمالية التقليدية: ها هنا لا تكون اللوحة انفعالية سلبية تنتظرنا كي نراها ونحكم عليها … بل هي من يأتي إلينا ويسطو على منظوريتنا ويفترس المرئي الذي بحوزتنا … إنها لوحة لاحمة مستفزة متنمِّرة ستهاجمنا في كل لحظة … ستجعلنا لحمًا لها … سيكون الواقف قبالتها في حالة خطر … فحذار. ليس الأثر الفني بضاعة صالحة للاستهلاك … وليس الخبز المرسوم ها هنا في اللوحة الفنية خبزًا من أجل الأكل … بل هو من سيأكلنا … فهو لا يأتي إلى سلَّتنا من المخبزة بل من المرسم … وهو لا يولد قبالتنا من السنبلة بل من اللون … وهو خبز مفترس لأنه سريالي ذهاني سليل الرغبة والحلم والجنون والخيال واللاوعي …

لقد رسم دالي الخبز أكثر من مرة: رسمه سنة ١٩٢٦م بعد الحرب العالمية الأولى ورسمه ثانية سنة ١٩٣٢م تحت عنوان مثير «خبز أنتروبومورفي» ثم رسمه سنة ١٩٤٥م في لوحة هي فقط سلة من الخبز الغامض الذي يتخذ شكل «اللغز المكتمل» …

سلة من الخبز قضى دالي شهرين كاملين في رسمها الذي اكتمل يومًا واحدًا قبل نهاية الحرب العالمية الثانية … هل كانت سلة الخبز توقيعًا لنهاية الحرب؟ لا شيء تبقَّى من الحربين غير سلَّتي خبز ملقاة على سطح اللوحة في حالة من الألغاز والسخط والاستفزاز الفظيع … لقد رحلت الأفواه التي كانت تحلم بهذه السلة من الخبز … مات الإنسان ولم يبقَ غير الخبز … ويحلو لدالي أن يتبجَّح بسلَّتيه في نوع من العبثية التي يريدها في حجم عبثية الحرب وفظاعتها معتبرًا كل من يجمع بين اللوحتين، قادرًا «على فهم تاريخ فنِّ الرسم منذ السحر الخطي البدائي إلى الواقعية المشطَّة.»

إن خبز دالي يحمل توقيعات متعددة ومتناقضة … إنه خبز فلسفي ميتافيزيقي من عجينة غريبة الطعم … هذا الخبز ليس حكرًا على فئة ما … وليس شعارًا لأيديولوجيا ولا هو ملك لأي حزب أو طبقة أو دولة. إنه خبز مفترس يشترك فيه الجميع: العقلاء والمجانين، الفقراء والأرستقراطيون و«المهلوسون» والصامتون … إنه خبز مفترس لكل النزعات الأيديولوجية والخصومات والسياسات التي تقسم الناس إلى فئات وطبقات … إنه خبز مفترس للغة العقل ولقيمه الحاسبة ولحروبه التي لم تبق منها غير رائحة الأحشاء النتنة … إنه خبز إيروسي نهم إلى حدِّ الشهوة الشاهقة … إن خبز دالي يصلح للرسم وللأكل وللحكي وللضحك بل هو خبز فتاك ومدمر لهندسة الخطوط المستقيمة … إنه خبز مفترس للطغاة، مضادٌّ لكل من يُتاجر بجوع الجياع ولكل من يحكم ظلمًا باسم خبزهم.

لقد أعلن دالي عن حلمه السريالي الحميم: إنه يحلم بتأسيس ما يسميه «مجتمع الخبز» … وهو مشروع هدفه «استفزاز منظم لعقول الحشود التي وقع السطو عليها من طرف الدول» … لقد كان دالي يحلم بخبزة عملاقة طولها ١٥ مترًا … وهي خبزة ستثير حسب حلمه انفعالات متناقضة وتأويلات وخصومات … وستخلق ظاهرة أدبية واجتماعية فريدة من نوعها … وستدفع من ثمة الناس إلى التفكير بالخبز على نحو مغاير … التفكير هو شكل آخر من الأكل بأحشاء بهيجة … لقد كتب عن خبزه هذا قائلًا: «لقد اخترعت فكرة رغيف طوله عشرون مترًا يوضع في حدائق رويال بباريس وفرساي وعدة عواصم أوروبية، وخلق فضيحة قادرة على أن تسبب حالات هستيرية تتحدى الأسس المنطقية لمعظم الأفكار المقدسة: «الكومونة» البشرية، لكن في الوقت الذي كانت فيه أشيائي الرمزية تثير السرور العظيم، فإن خبزي كان صدمة كما لو أن آلتي الفكرية تتزين بكئوس الحليب الساخن.»١٤

النتيجة: أن الخبز لا يصلح للأكل فقط بل يصلح الخبز للفنِّ أيضًا … والخبز هو موضوعة سريالية واقعية أكثر من الواقع نفسه … والخبز هو أيضًا ظاهرة تستفز المشاعر وتؤججها وتدفع بنا إلى الكتابة … إلى الغرابة … إلى الرسم … إلى الحلم … إلى اختراع خبز آخر وحلم آخر وأحشاء مرحة بدلًا عن أحشائنا الكئيبة «المحشوة بالسبانخ» …

يقول دالي في كتابه «حياتي السرية»: «إنَّ كل ما أحبه بعمق وذنب هو أحشائي»، ويقول أيضًا «إني أرى الفكَّ عضوًا رائعًا يشي برغبتنا الخاصة في الحياة وقيمة الواقع، وهو مجرد صهريج هائل للفساد، والمقابر فيه مناضد عشائنا. إن الحقيقة بين أسناننا. فقد برهنت الفلسفة نفسها في فنِّ الأكل أن الإنسان يكشف عن نفسه حين تكون الشوكة في يده.»

إن خبز دالي يدفعنا إلى الضحك من الخبز الحافي الملغز والمعطوب والملغم بمعارك وأقاصيص وأيام للقتل المفاجئ غدرًا … خبز يصلح لاستفزاز الذاكرة الجمعية التي وقع السطو عليها سياسيًّا … ذاكرة محشوة بالآلام والأحلام وبدماء من ماتوا من أجل الرغيف لكلِّ الأفواه … خبز من يعتلي العروش باسم توفير الخبز ولا يفعل غير احتكاره والمتاجرة به … خبز يمر عبر أحشائنا كي يجوِّز لنا العبور من آخر أوجاعنا إلى أول أحلامنا …

١  سلفادور دالي، أنا والسريالية، الاعترافات السرية لسلفادور دالي، ترجمة أشرف أبو اليزيد، دار الصدى، دبي ٢٠١٠م، ص٧٤.
٢  نفسه، ص١٠٠.
٣  نفسه، ص١٣٤.
٤  نفسه، ص١٣٥.
٥  نفسه، ص١٣٦.
٦  نفسه.
٧  نفسه، ص١٣٧.
٨  نفسه، ص١٣٩.
٩  نفسه، ص١١٨.
١٠  نفسه، ص١٧٢.
١١  نفسه، ص١٢٢.
١٢  نفسه، ص١٨٧.
١٣  نفسه، ص١٦١.
١٤  سلفادور دالي، أنا والسربلية، مصدر مذكور، ص١٤٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤