كيف تفكِّر اللوحة … تحت قلم فوكو؟
كيف نمرُّ بأنفسنا من ذوات كسولة تعودت على الفرجة والمتعة إلى ذوات نشيطة قارئة ناقدة حالمة بعوالم أخرى؟ ذاك بعض من سؤال شغل جملة من أقطاب الفلسفة المعاصرة الذين اعتبروا التفكير بالفن فنًّا من فنون التفلسف نفسه.
يتعلق الأمر بتدريب خاصٍّ على شكل من النظر إلى فنِّ الرسم، عين أخرى هي «عين الإعصار» — بعبارة رشيقة لدولوز — ليست من نفس صنف العين العادية الكسولة التي تكتفي بفرجة عابرة على اللوحات دون أن تبحث لهذه اللوحات عن أية منزلة أخرى ما عدا تعليقها على حائط بارد لا يكترث بما يثبَّت عليه.
إن المُؤَوِّل للوحة عين مُغايرة بل هي عين ماكرة أو عين خبيثة بل هي «عين ثالثة» … عين القارئ هي عين تتقن الإنصات إلى صمت الرسوم … بل تتقن لمسها أيضًا … عين لا ترى فقط بل تجمع كل الحواسِّ في نظرة واحدة … فهي لا تقف أمام الرسم من أجل مُجرد الفرجة ولا تأتي إلى اللوحة من أجل مجرد الاستطلاع أو المجاملة أو من أجل التظاهر بشخصية المُثقف أو الذواق للفنِّ مثلما يفعل أرستقراطيو المعارض الفنية … هؤلاء الذين يقفون أمام اللوحات وقوفًا مبهمًا أحيانًا كي يُقال «هو هنا» في معرض فنِّيٍّ … ولا يهمه حينئذٍ لماذا جاء إلى هنا؟ وهل يكترث فعلًا بالرسم … أم أنه جاء من أجل شيء آخر … عين المُؤَوِّل التي تهمنا هي عين ساحرة تقتحم فضاء اللوحة وتداهمها بأسئلة مُغايرة من أجل دفعها إلى نصوص مجهولة لم يكن الرسام نفسه ليقصدها أو ليتنبأ بها.
ما الذي سيحدث حينئذٍ للرسوم حينما تداهمها عين الفيلسوف؟ ماذا سيحدث للكائنات الهشة التي تحيا على سطح اللوحة؟ كائنات من لون ومن ماء تركتها يد الرسام وحيدة ورحلت عنها … ماذا سيحدث للأشكال والألوان والأشياء … وكل العوالم الممكنة التي حلُم بها يدُ الفنان وعينه ومُهجته؟ سوف تتزعزع هذه الكائنات الهشة، سوف تصير نصوصًا ومعاني … وعوالم ممكنة … العين الثالثة تؤلب الرسوم وتؤجج من داخلها ثورات تجريدية ولونية …
وقد تُحاول الرسوم الامتناع عن الفلسفة بتحصين صمتها وغموضها … وقد تحاول الامتناع عن عين الفيلسوف … لكن عبثًا وبلا جدوى … لأن هذه العين الثالثة الساحرة هي عين ثائرة تصنع المعنى والحلم والعالم على نحو مغاير لكل ما هو معطى وجاهز. إن هذه العين ريح تهُب فتضاعف في سرعة الكائنات اللونية وتدفع بالحبر الأسود بعيدًا … وقد تهرب الصور من مواقعها …
عين الفيلسوف هي عين لعُوب تتلاعب بكائنات الرسم وبأحلام الرسام وتعبث طويلًا على الحافة الفاصلة بين اللوحة والإطار وقاعة العرض، بين اللون والريح، بين الحبر والماء …
وأمام كل العيون قد تولد لوحة أخرى، حذاء … تفاحة … وجه هندسي … بحر شديد الزرقة … وقد تولد الدوائر والمربعات وملامح أخرى من الهندسة … وقد يولد عصفور يحط في الحقل … ومجرد بسمة عابرة … ولا يهمُّ حينها لأن الرسم مكنة أكبر من كل العيون الماكرة … انفعالات صامتة وطفرات مزاجية متقلبة غاضبة في امتناعها عن ثرثرة الكلام وضجيج المنابر … خارجة عن طورها … لا شيء يخيف الرسوم ولا شيء يعطل زحفها على العيون الماكرة … والطريف في ثورة الرسوم هو أن ليس هناك طريق واضح … كل عين تخترع الطريق … كل يخترع الطريق وهو يمشي …
أحيانًا يحدث الرسم على الورقة وأحيانًا يهاجر إلى عالم آخر … هو عالم الكلمات … ونحن هنا بصدد تيسير العبور من الرسوم إلى الكلمات أو من وجه اللوحة إلى هامشها … سوف نتدرب على الكتابة على ظهر اللوحة … من أجل أن ندفع باللوحة نحو التحرر من إطارها الخشبي والمتخشب، نحو نصٍّ من حبر. إن الرسام الذي نحن بصدد ثوراته وطفراته ولوحاته لا يرسم لأحد؛ أي هو لا يرسم لأحد بعينه … وربما كلما تخيل المتفرج على لوحاته تعطلت لديه قوة الرسم … إنه يرسم فحسب بل هو يرسم لأي كان مهما كانت هويته وعنوانه ورقم حذائه وجلد معطفه … إن الرسوم تأتي إلينا بلا هوية جاهزة … هي رسم فقط تدعو إلى ولادة رسم آخر … وقد يتقدم الرسام نحو لوحته البيضاء وهو على جهل تامٍّ بما سيرسم وبمصير ما سيرسمه … إنه يتقدم دومًا نحو مصير مجهول بل هو يدفع بالرسم إلى مواجهة المجهول ورسم ملامح وجهه …
لكن كيف نحاور اللوحة؟ كيف نُخرجها من صمتها ومن لغزها؟ كيف نكلم بحرًا أو وجهًا من لون وورق؟ نحن هنا نقف على الضفة التي تفصل اللوحة عن مشاعرنا وأعيننا، والتي تفصل الفن عن ذواتنا الصغيرة المُثقلة بالهموم اليومية الحمقاء … وربما لا مكان حتى لمجرد المتفرج فينا. ففي فضاء الفن قد يكون وجوده متطفلًا واستهلاكيًّا وعابرًا.
ما هي علاقة الرسوم بالكلمات؟ واللوحات بعناوينها؟ وصمت الرسم بضجيج التأويلات؟
سنختبر هذه الإشكالية بإعادة المرور بأهم كتابات فوكو حول فنِّ الرسم حيث تم تحرير اللوحات من أسمائها … وزعزعة العلاقة التقليدية بين الصورة والتمثل … وبثُّ الريبة والفوضى على الدور الكلاسيكي للكلام. لن تكون وظيفة الكلمات أن تسمي وأن تبين وأن تحاكي الصور … مع فوكو سنشهد على تحرير فنِّ الرسم من براديغم التمثيل حيث التطابق بين الأشياء والكلمات وبين الرسوم والعناوين وبين الحقيقة والواقع وبين العقل والسلطة …
لقد كتب فوكو عن الرسم أربع مرات وجاءت كتاباته عن فنِّ الرسم بين ١٩٦٦م و١٩٧٠م: في المرة الأولى كتب عن لوحة الوصيفات لفيلاسكاز. وهو نصٌّ افتتح به كتابه المشهور «الكلمات والأشياء» سنة ١٩٦٦م. في المرة الثانية: كتب عن غليون ماغريت حول لوحته الشهيرة التي تحمل عنوان «هذا ليس غليونًا» بتاريخ ١٩٦٨م. في المرة الثالثة كتب حول ماني، تعليقات على لوحاته في محاضرة ألقاها في نادي الطاهر الحداد بتونس سنة ١٩٧١م. في المرة الرابعة: كتب عن لوحات بيكاسو التي عنونها «الوصيفات» والتي عرضها سنة ١٩٥٧م. وفوكو كتب عنها بتاريخ ١٩٧٠م.
(١) لوحة الوصيفات
لوحة الوصيفات (١٦٥٦م) لفيلاسكاز وتُعرف أيضًا تحت عنوان «عائلة فيليب الرابع» هي لوحة معروضة حاليًّا في متحف برادو بمدريد. وقد وقع اعتبارها من أهم اللوحات العالمية التي أثارت بغموضها ولغزيتها القراءات الأكثر تنوعًا في تاريخ فنِّ الرسم الحديث.
فما هو سرُّ هذه اللوحة؟ لا شيء غير الرسام يرسم نفسه وهو يرسم. كل المشهد سيتبخر في فراغ تلك المرآة التي تستقر في وسط اللوحة.
ضحكة فوكو من بورغيس هي ضحكة سيمتد صداها إلى لوحة الوصيفات لفيلاسكاز بوصفها البراديغم بامتياز لتمثيل عصر التمثيل … لوحة تحمل لغزها معها وتخلخل كل ثوابت العقل الحديث: الرسام والمتفرج، الكلمات والأشياء، الملكة والوصيفات، … المرئي واللامرئي … النظرة وهي تحدق في الفراغ … ما أراده فوكو هو تحرير مشهد الرسم برمته من كل العادات الحديثة في علاقة الذات بالآخر والنسخة بالنموذج والرسام بالمتفرج … تحول عميق سوف يسجله فوكو على سطح لوحة الوصيفات: وصيفات فيلاسكاز ليست هي وصيفات فوكو … ثمة الرسام الذي يرسم نفسه لكنه يتراجع عن لوحته … لحظة التردد بين رأس الفرشاة الماهرة وفولاذية نظرة الرسام … فراغ يسكن بين اللوحة التي تبعثر شخوصها على سطح يتظاهر باستقرار نظامه، والألوان المترددة بين ما تراه وما تحدق به …
من داخل اللوحة ينظر إلينا فيلاسكاز، إنه يتموقع قُبالة لوحته، وعلى يمينه الذي هو يسارنا، ثمة لوحة بصدد ولادته صحبة فريق من الوصيفات، وذلك داخل غرفة مضاءة بنوافذ على يميننا. وفوق الجدار العميق ثمة مرآة تعكس ملك وملكة إسبانيا. والطريف هو أن فيلاسكاز ينتمي هو الآخر إلى لوحته بوصفه رسامًا وبوصفه مرسمًا. فالرسام هو جزء من المشهد وهو نفسه بصدد الرسم والنظر معًا إلى رسمه. إنه اللوحة والمتفرج والذات التي ترسم في آنٍ معًا.
لكن هذه الفرضية تبدو فرضية مستحيلة حسب أراس، ما دامت هذه اللوحة قد رُسمت بطلب من ملك إسبانيا وهي مخصصة للتعليق بمكتبه الخاص. فمن المستحيل تخيل أن ملك إسبانيا سيتظاهر بأنه يجهل أنه هو نفسه الذي ينعكس في المرآة. ولأن فوكو قد حول هذه اللوحة إلى لوحة ديمقراطية، فهو ينظر إلى الوصيفات كما لو كن معلقات في المتحف. بل لقد صار بوسع كل منا وفقًا لذلك، أن يتخيل أنه هو نفسه الذي تعكس صورته المرآة … كأنما فوكو قد اقتلع الصورة من القصر الملكي وأعادها إلى مكانها الطبيعي في المتحف حيث تخلد كل اللوحات: هناك حيث بوسعها أن تبذر خلودها في عيون العابرين.
(٢) رسومات إدوارد ماني
اللوحة الأولى: عنوانها «الموسيقى في معمل القرميد» بتاريخ ١٩٦١-١٩٦٢م
وهي لوحة يبرز فيها الطابع الكلاسيكي لتكوين ماني الذي يركز ها هنا على مكانة الخطوط العمودية بخاصة في شكل أشجار. ما يثير انتباه فوكو في هذه اللوحة هو التالي: هي لوحة تنتظم وفق مدارين كبيرين. مدار أفقي تمثله رءوس الشخوص ومدار عمودي يدل عليه مثلث صغير من الضوء سينتشر انطلاقًا منه كل الضوء الذي سوف يضيء واجهة الركح. لكن هذا الركح نكاد لا نراه إلا من نقطة نظر نازلة إلى الأسفل بحيث يتسنى أن نرى قليلًا ما هو بصدد الحدوث وراء الركح دون أن نتمكن من رؤيته تمامًا. ليس ثمة في هذه اللوحة الكثير من العمق؛ فالشخوص الماثلة في الواجهة تخفي بشكل يكاد يكون كليًّا ما يحدث وراءها … ومن ثمة هذه اللوحة تحدث نوعًا من فعل الإفريز … إن الشخوص تشكل ها هنا نوعًا من الإفريز (أو من اللوحة السمائية) …
اللوحة الثانية: تحمل هذه اللوحة عنوان «حفلة راقصة في الأوبيرا»
اللوحة الثالثة: وعنوانها «إعدام ماكسيمليان»
-
(١)
هذه اللوحة توقع نهاية العمق في فنِّ الرسم الغربي الحديث.
-
(٢)
غلق هذه اللوحة لفضاء الرسم: كل شيء يحدث في اللوحة فقط.
-
(٣)
الطابع المادي المحض للفضاء التشكيلي ولا مبالاته إزاء أية مرجعية خارجة عنه حتى لو تعلق الأمر بالإعدام … ها هنا يقع اغتيال الرسم نفسه منظورًا إليه برسم لواقع ما.
أي قبح أعمق من رسم الإعدام على سطح لوحة بكماء باردة لا شيء يقلق راحتها ما دمنا مدعوين مع ماني إلى تحرير اللوحة من ضجيج الكلام؟
يتعلق الأمر إذن بحادثة إعدام ماكسيمليان سنة ١٨٦٧م. وماكسيمليان هو جنرال نمساوي نصبه نابليون الثالث على المكسيك دون أن يوفر له الدعم العسكري اللازم. انهزم أمام الجيش الجمهوري ووقعت محاكمته ثم إعدامه مع جنرالين من جنرالاته. بعد شهر من إعدامه بدأ ماني في رسم صيغة أولية عن هذا الحدث الفظيع الذي زلزل ماني، أي تلك الطريقة المرعبة التي انتهى بها الأمير الشاب النمساوي.
في هذه اللوحة نشاهد ماكسيمليان واقفًا بين جنراليه: أحدهما أسمر اللون وهو مكسيكي وهو الذي يتلقى الرصاصة أولًا … أما ماكسيمليان فوجهه بلا ملامح في وقفة باردة ببشرة صافية وضاحة … ينتظر موته ببرودة فظيعة … ماسكًا بيد الجنرال الثاني الذي لم يُقتل بعدُ. أما المكسيكي المقتول الأول فيتلقى موته في حركة ارتعاد هستيرية.
لا وجود في هذه اللوحة التي ترسم إعدام ماكسيمليان لأية مشاعر تراجيدية. ليس ثمة توابيت تنتظر القتلى ولا راهب يضمن رحيلهم ولا دموع … فقط جدار ومتطفلون يزدحمون على مشهد القتل … ومن وراء الجدار متطفلون يزدحمون على الفرجة على حادثة الإعدام … هؤلاء هم الشعب المكسيكسي نفسه الذي تحول إلى متطفل على مصيره … المثير في هذا الحدث التشكيلي التاريخي هو: برودة الرسام إزاء حدث جلل كهذا. وهو أمر التقطه جورج باتاي قائلًا عن ماني: «إنه يرسم واقعة الإعدام بنفس اللامبالاة التشكيلية التي يرسم بها وردة أو سمكة.»
إزاء إعدام ماكسيمليان يكتفي الرسام ماني بالرسم بكل هدوء ولامبالاة كي يوقع لنا دون عواطف حادثة موت الذات. إنها وحشية قبح ما يحدث وقساوته التي يحول فيها الرسام اللوحة — التي تجعل هذا القبح مرئيًّا — إلى نوع من العنف الاستطيقي على المشاهد. إن هذه اللوحة مثيرة مرتين: برودة ماني إزاء واقعة الإعدام وبرودة فوكو في التعليق على هذا الحدث التشكيلي الفظيع … لا شيء يثير فوكو غير الجدار الذي يغلق اللوحة في وجه المتطفلين على اغتيالها … لا شيء غير الخصائص التشكيلية وانعدام العمق والغلق العنيف للفضاء التشكيلي … لا شيء يثير فوكو غير اللوحة في ماديتها وفي برودتها ولا مبالاتها تجاه ما يحدث خارج سطحها. ذلك أن فنَّ الرسم لم يعد يحاكي أي شيء ولا هو يطابق أية حقيقة … إنه فضاء مغلق على ضحايا عزل إزاء جلاد لا عواطف له.
ها هنا علينا الإشارة إلى تأويل جورج باتاي لهذه اللوحة في كتاب له حول الرسام إدوارد ماني (١٩٥٥م). باتاي يؤَوِّل هذه اللوحة تأويلًا طريفًا فهو يقول: «لقد بدأ مع ماني تحت اسم الفن صمت عميق ونهائي: صمت المؤسسة اللاهوتية والسياسية التي تنتج الدلالة.» مع ماني تنفتح الحداثة الفنية على انهيار الخطاب الذي يدعي نوعًا من المعقولية الكونية. لقد صار لزامًا على الفن بذلك أن يسكت طمعه في الفصاحة وأن يقطع علاقته بالنصِّ. ذاك هو معنى اللامبالاة والبرودة الجمالية وشطب الذات كأهم العلامات على إنصاف الأثر الفني بإعادة الصمت إلى اللوحة. إن الأمر يتعلق مع ماني بتحرير الفن من النزعة القصصية، من لاهوت العلامة ومن وصاية البلاغة. وحده الفن قادر على جعل أصوات الصمت مسموعة برسم الصمت نفسه.
ها هنا يبصر باتاي الذي استأنفه فوكو على نحو ما بما سيكون شعارًا لجيل كامل من الفلاسفة: تحرير الفن من الكلام. وهو رهان تقاسمه على أنحاء شتَّى رواد فلسفة الاختلاف؛ أي: ليوتار (ضمن كتاب الخطاب والشكل سنة ١٩٧١م)، دريدا (ضمن كتاب الحقيقة في فنِّ الرسم سنة ١٩٧٨م) ودولوز (ضمن كتاب منطق الإحساس سنة ١٩٨١م).
إن لوحة إعدام ماكسيمليان تمثل بالنسبة إلى ميشال فوكو أرشيفًا أسود لجانب مؤلم من تاريخ الغرب، وثيقة من وثائق اللامقول الذي لا يقال بل يُرسم؛ لأنه لا ينتمي إلى تاريخ القول بل إلى تاريخ الصَّمت … متى نحوِّل أحداثنا الصمتية إلى أحداث تشكيلية؟ أم ثمة تحريم لصور الاغتيال في ديارنا؟ … وإلى أن يحين وقت تحويل إعداماتنا واغتيالاتنا — التي بقيت إلى حد الآن ممنوعة من الرسم، مستحيلة عن العدل — إلى أحداث تشكيلية سنواصل الحديث عن لوحات الغرب الذي بدأ منذ زمن في التَّأريخ للجانب المتوحِّش من ذاكرته علَّنا نتعرَّف عمَّ لسنا نحن، كي نتدرَّب على وجهة أخرى في الانتماء إلى أنفسنا …
اللوحة الرابعة: «قينة الأقداح»
… هذه اللوحة حسب فوكو لا تمثِّل شيئًا ولا تمنح للرؤية أي شيء … لا شيء غير شخصية واحدة هي شخصية الخادمة التي تظهر لنا على سطح اللوحة قريبة جدًّا من الرسَّام، قريبة جدًّا من المتفرج، قريبة جدًّا منَّا جميعًا … وجهها يلتفت نحونا كأنما ثمة مشهد يستميل نظراتها، والمثير أن هذه الخادمة لا تهتمُّ لما هي بصدد القيام به أي وهي تضع كتابها. فنظراتها إنما تفزع إلى شيء ما نحن لا نراه ولا نعرفه لكنها تطلبه وتفزع نحوه … ويبدو أن هذه اللوحة تتكون من ثلاث شخصيات، إحداها لا نرى منها غير القبعة، والآخر يهرب بصورته … هم أيضًا ينظرون جميعًا إلى الجهة المقابلة … فبمَ يحدِّقون؟ لا أحد منا يعلم … لأن المشهد نفسه يبدو مشهدًا مبتورًا عمدًا …
اللوحة الخامسة: «حانة جنون الراعية»
وهي لوحة تبدو في نظر فوكو مضادة تمامًا للوحة الوصيفات لفيلاسكاز. إنها لا تحتوي إلَّا على شخصية واحدة: فتاة تنتصب في قلب اللوحة … ومن ورائها ثمة مرآة تحيلنا على صورتها … وهذه الفتاة تحتلُّ كلَّ مساحة اللوحة حيث يتمُّ نفي العمق على نحو مضاعف … فنحن لا نرى خلف الفتاة إلَّا ما هو أمامها … ثمة تمزُّق داخل اللوحة بين ما وقع تمثيله في المرآة وما كان ينبغي أن ينعكس فيها. وفي هذه اللوحة يحتلُّ الرسام مكانين مختلفين. وحيث يكون المتفرِّج والرسام على نفس البعد من الوصيفة. وعلى عكس فنِّ الرسم الكلاسيكي الذي يمنح المتفرِّج والرسام مكانًا دقيقًا، فإننا في هذه اللوحة لا نعلم أين يتموقع الفنان الذي يرسمها وأين علينا أن نكون كي ننظر إلى المشهد … ولم تعد اللوحة فضاء يعيِّن موقعًا ثانيًا للرسام والمتفرج، لكن اللوحة فضاء بوسعنا انطلاقًا منه أن نتنقَّل … لقد صار المتفرِّج كائنًا متحرِّكًا أمام اللوحة.
شرود عن المشاهد، لامبالاة تجاه ما يحدث داخل اللوحة، شخوص من طينة فريدة. هكذا تخترع رسومات ماني — على حد تأويل ميكاييل فريد في كتاب له تحت عنوان حداثة ماني (٢٠٠٠) — مفاعيل اللحظة، إنها تخلق الحاضر في هيئة العجيب والمثير وغير المألوف. إن ماني يخترع شكلًا آخر من المحسوس في شكل فراغ مكتظ بشخوص لا تبالي بأحد. ما يهم ماني هو المشاهد. إرباكه ببرودتها وإثارته بضرب من «الرسم الشرس.»
(٣) «هذا ليس غليونًا» فوكو مؤَوِّلًا للوحة ماغريت
ما علاقة الرسم بالمرسوم حينئذٍ؟ وما علاقة اللوحة بما يحيط بها وبمن يحدِّق فيها وبمن جاء إلى حائطها يتملَّقها؟ ثمة في الأمر ما يدعو إلى الحديث عن المسافة بين الكلمات والأشياء وبين اللوحات وعناوينها وبين العناوين والمعاني … والفيلسوف فوكو يدعونا إلى الدخول معه في حقل من العلاقات المثيرة بين الحضور والغياب بكلِّ أشكالهما من حضور اللوحة وغياب الرسام إلى حضور المتفرج وغياب المعاني إلى حضور العنوان وغياب المؤَوِّل … ويصير السُّؤال حينئذٍ إلى "الأمر التالي: ما العلاقة بين النصِّ الذي نكتبه والصورة التي نكتب عنها، بين الرسوم والكلمات وبين العناصر التشكيلية والعلامات اللسانية؟ وهذه اللوحة التي تقف شاهرة صمتها في وجوه المتطفِّلين، في منطقة التخوم ما بين الحضور والغياب، هل تدعونا فعلًا إلى الكتابة عن صمتها، وكيف نكتب ذاك الصمت بأي لون وبأي حبر؟ بالحبر الأسود الذي هو لحم اللوحة ودمها أم بألوان الطيف التي يدخِّنها الغليون وينفث غازاتها على عيون المتفرجين الآتين إلى اللوحات بلا سبب واضح مع سبق الإصرار والترصُّد؟
هنا يخبرنا فوكو أن الأمر لا يتعلَّق في الحقيقة بلوحة واحدة … أو بالأحرى أن ماغريت قد قدَّم صياغتين للوحة تحمل عنوانًا واحدًا. ما العلاقة حينئذٍ بين الصياغة الأولى والصياغة الثانية؟ وهل يمكن لعنوان واحد أن يجمع بين رسمين مختلفين؟ وأي ارتباك أراد ماغريت أن يدخله على فضاء اللوحة وعلى كينونة الرسم؟ يبدو أن في الحكاية انهزامًا لكاليغرام الرسم وانهيارًا للمرسم نفسه … ثمة طلاق منذ البداية بين اللوحة وعنوانها … بين اللوحة واللوحة نفسها …
صياغتان للوحة واحدة، أو هي لوحة واحدة انقسمت على نفسها وانفصمت وكسرت جدار الوحدة فعبرت إلى لوحة أخرى. المشكلة هي أننا لا نستطيع أن نحسم هوية هذه اللوحة: أيهما هي؟ الأولى أم الثانية؟ ولا نستطيع أن نحسم أمر العنوان: عن أية واحدة منهما يصدق «هذا ليس غليونًا»؟ وأيُّهما تحررت من سلطة العنوان والاسم والدلالة واللغة؟ وأيهما بقيت سجينة العلاقة الكلاسيكية بين الأسماء والأشياء؟
لكن فوكو لا يكتفي بهذا النوع من الشكوك حول هذه اللوحة فتراه يضاعف من سرعة الحيرة مزعزعًا طمأنينة الرسم القابع في صمته مستوليًا على مكان ما … ويبدو إذن أن الحديث يدور حول غليونين … فما العلاقة بينهما؟ هل هما رسمان لغليون واحد؟ وهل ثمة غليون حقيقي وغليون وهمي؟ هل ثمة الغليون وصورة الغليون؟ أم نحن بالأحرى أمام رسمين لا أحد منهما يمثل أي غليون؟
ها نحن إذن نسقط في متاهة من نوع خاصٍّ جدًّا … هي متاهة الخلط بين الوجود والتمثُّل أو بين الكائن وصورته التي تمثِّله … وكأنما بينهما تطابق أو تماثل وكأنما الرسم هو نفسه ما يمثل أي ما يرسم … ها هنا يزعزع فوكو نسق براديغم التمثُّل برمَّته فيشوِّش على اللوحة تناسقها مع ما ترسمه ومع ما تسمِّيه ومع من يرسمها أو يتفرَّج عليها … الذات والموضوع والشكل والمضمون والأصل والنسخة والظاهر والباطن … كلها تسقط دفعة واحدة في مرسم ماغريت.
والنتيجة: انهيار للمرسم وللإطار … سقوط فظيع لبراديغم التمثيل … لوح مكسر … شظايا من الأشكال والحروف المنفصلة … كل الرَّكح سقط أرضًا … في حين تبقى اللوحة التي تقيم في الأعلى، ذاك الغليون الكبير بلا قيس ولا حدٍّ ولا إحداثية … يظل غليونًا صامدًا في سكونه غير القابل للمس …
ورغم كل هذه المسرحة للوحة وانهيارها يظل «رسم ماغريت حسب فوكو رسمًا بسيطًا … لا شيء غير غليون ونصٍّ يسميه … كلنا يعلم اسم الغليون» … لغتنا تعلم جيدًا اسم الغليون. لكن وجه الغرابة في هذه اللوحة هو هذا «التناقض بين الصورة والرسم». والمشكلة التي تولد للتوِّ هي إذن: «هل نحن مضطرون دومًا إلى الربط بين الأشياء وأسمائها؟» لقد صمَّم ماغريت كاليغرام الرسم ثم هزمه بعناية فائقة … لقد رسم ماغريت غليونًا وقال «هذا ليس غليونًا»، إنه بذلك يهزم أكثر تناقضات حضارتنا الأبجدية قدمًا: العلاقة بين النصِّ والصورة وبين الكلمات والأشياء … لقد هزم الدور الأبدي الذي أوكلته الحضارة الإنسانية للكلمات: أن تسمي، أن تبين، أن تشكِّل، أن تقول، أن تعيد إنتاج المعنى، أن تبلغ، أن تحاكي، أن تدلِّل، أن تنظِّر، أن تقرأ، أن تؤَوِّل … كلُّ هذه الأدوار للكلمات قد انهزمت دفعة واحدة في لوحة ماغريت التي ترسم غليونًا وتسمِّيه بنفيه … «هذا ليس غليونًا» … لقد زعزع ماغريت بذلك العلاقات التقليدية بين الصورة والكلمة وحرَّر الكلمة من الصورة وشوَّش صفاء العلاقة الكلاسيكية بين الكلمات والأشياء.
كيف سنتكلم عن الرسوم بعد زعزعة العلاقة بينها وبين الكلمات؟
ها هنا تحضر إلينا إمكانيتان للاقتراب من الرسوم: إمَّا أن تكون كتابتنا عنها ضربًا من الشرح لها والوصف لتفاصيلها في محاولة لاختراق صمتها وإمَّا أن تهيمن العلامات اللسانية على العناصر التشكيلية في نوع من الادعاء أننا نفذنا إلى صميم اللوحة وأمسكنا بدلالاتها وانتصرنا على صمتها … وهنا تعترضنا المشكلة التالية حسب قراءة ميشال فوكو: هل ثمة تواشج وتساوق حميم بين الكلمات والرسوم؟ وبين اللوحة وما نظفر به إزاءها من دلالات؟ يعرض علينا فوكو ثلاث إجابات عن هذا السؤال نختزلها في ما يلي:
-
أولًا: إجابة الرسام الشهير بول كلي الذي يذهب إلى
نوع من التجاور بين العناصر التشكيلية والعلامات
اللسانية داخل فضاء اللوحة المبهم الملفوف بهالة
من الغموض والعبقية المثيرة … وإن في الأمر
لضربًا من التقارب المكاني العائم والزئبقي الذي
يمتنع عن اللَّمس بغير العين … وذلك يعني أن
موضوعات من قبيل السفن والمنازل والأشخاص إنما هي
أشكال مألوفة للنظر وعلامات تغري بالكتابة معًا …
وكلما رسمناها اعترفنا بحميمية مخصوصة بين
الأشياء وأسمائها … وهكذا تجاري اللوحة وتجاور
وتجامل معًا اسمها وعنوانها والموضوعات التي
تسكنها. هكذا لا طلاق بين الكلمات والأشياء وكل
لوحة ترسم منزلًا أو شخصًا أو تفاحة أو بحرًا أو
مشهدًا طبيعيًّا فهي ستبدو لنا من وراء حجاب
الرَّسم كأنها تجرُّنا على قنوات وطرق وحقول بل
هي سطور تُقرأُ وأقلام تسطر وتدعو إلى الولوج إلى
العالم الذي رسمته اللوحة …
ما يحدث على سطح اللوحة حين تلتقي بالكلمات التي تُسمِّيها هو النظرة نفسها التي تقع على الرسم فيغريها بالسَّفر داخل المشهد إلى حدٍّ تضيع فيه الكلمات في ثنايا اللوحة ونتوءاتها ودروبها التي قد لا تؤدِّي … ها هنا مع بول كلي يصير الرسم همسًا حميمًا ملحًّا يحضن صمت الأشكال وتأتي الكلمات فتستحوذ على هذا الصمت وتستثمره وتعطيه حقَّ الكلام … هكذا إذن تولد إزاء اللوحة علاقة عميقة بين الكلمات والأسماء والأشياء تفتح على إمكانيات لامتناهية للتمثيل والتشكيل والتشابه وكأن اللوحة تنتصب إزاءنا في كل مرة قائلة بأعلى صمتها ومطلق لونها ومدى شكلها: «هذا أنا فأبصروا بي» … كي تغدو مناسبة للتقاطع البهيج بين كل الحواسِّ … ثورة للمحسوس في أبهى حلله … وتغدو اللَّوحة حسب بول كلي في تصالح سعيد مع ما ترسمه ومع ما تُسمِّيه وكأنها إنما تشبه اسمها تمامًا وبلا ريب … وفي الحقيقة تنتصب اللوحة قبالتنا قائلة: «هذا هو ما تبصرونه» ولا يهمُّ حينئذٍ ما الوجهة التي ستتخذها العلاقة التمثيلية، وإن كانت اللوحة ترسم المرئي وإليه تحيل أم هي تخترع مرئيًّا شبيهًا …
غير أن فوكو لا يوافق على أي نوع من القراءة التي تقوم على القول بالرابطة التمثيلية بين اللوحة واسمها … ويحذرنا من هذه الرابطة ومن نسق التمثيل الذي يتقاطع على سطح الرسومات مع الإحالة اللسانية … حيث يحدث ألَّا تُشبه اللوحة عنوانها ويحدث أن تُنكِّل اللوحة بالعلاقة الطبيعية المألوفة بين الاسم والشيء … حذارِ إذن فبوسع اللوحة أن تُفجِّر كلَّ الركح التقليدي وأن تفضح كلَّ المؤامرات الخفية التي اعتدنا على عقدها بين الكلمات والأشياء … إن في اللوحة اقتدارًا عميقًا على خلق الشظايا … فلا تقتربوا كثيرًا من الرسوم الخطيرة …
- ثانيًا: ويذهب الرسام الشهير كانديسكي إلى القول بالعراء التشكيلي للوحات … لا شيء يوجد غير الخطوط والألوان … وأن لا مجال للحديث عن علاقات بين الكلمات والأشياء واللوحات والموضوعات … لا عمق للوحات … ما في الرسم سوى الأشياء فحسب … فحينما نرسم كنيسة فنحن نرسم كنيسة فحسب أو نرسم جسرًا فهو جسر لا غير أو قوسًا أو وجهًا … لا شيء تحضنه اللوحة غير الأشياء تنتصر على التمثيل والتشابه والمحاكاة وكل قراءات الرسم … وتنتصب اللوحة في عرائها التشكيلي المحض بلا وصاية وبلا علاقات وبلا تأويلات وبلا سياسات … إن الرسوم حينئذٍ لا تُشبه غير ما ترسمه دون ادعاء أية علاقات خارجها بين العلامة والتشكيل وبين الكلام والصَّمت … ويذهب كاندينسكي إلى أن هذا الشكل الأحمر أو البنفسجي أو البرتقالي … ليس سوى توترات لونية وعلاقات محضة بين الأشكال والألوان مُلقاة هكذا على صدر الرسم بلا وجهة لا تبالي ولا تُغري ولا تدعو أيًّا كان إلى محرابها المائي … إن اللوحة لا تنتظر أحدًا ولا تحتاج أحدًا قابعة في عفويتها واعتباطيتها وفي حريتها المحضة …
-
ثالثًا: أما ماغريت فيذهب بالعلاقة بين الرسوم
وأسمائها مذهبًا مغايرًا … فبالنسبة إليه «لا
ينبغي أن تُشبه صورة الغليون غليونًا، بل عليها
أن تشبه غليونًا آخر مرسومًا يشبه هو بدوره
غليونًا. ولا يكفي أيضًا أن تشبه الشجرة شجرة
والورقة ورقة بل عليها أن تشبه ورقة الشجرة نفسها
ولن يكون المركب في البحر شبيها بالمركب فحسب بل
وبالبحر أيضًا إلى الحدِّ الذي تصير فيه السفينة
وأشرعتها مصنوعة من البحر نفسه.»٣٠ وينبغي أيضًا على لوحة الأحذية أن
تصل إلى حدِّ انطباق زوج الأحذية على الساقين
الحافيتين اللتين سوف تحتويهما …
لكنَّ أهمَّ ما يثير في هذا الأمر هو قول ماغريت بضرب من العلاقة المعقدة والعرضية معًا بين اللوحة وعنوانها. ليس بوسعنا أن نكون أيضًا قارئين للوحة ومتفرِّجين عليها في آنٍ … فاللوحة تظهر دومًا على نحو يُفاجئ الجميع وفيما أبعد من أُفقية الكلمات. ويذهب ماغريت إلى أن «العناوين مختارة بشكل يمنع وضع لوحاتي في منطقة معهودة تريد آلية التفكير إثارتها من أجل التملُّص من الحيرة» … وكأننا إذن إنما نضع عناوين للوحات من أجل الهروب من الإبهام والغموض الذي يلفُّها وكأننا نخاف صمت اللوحة فنلجأ إلى العناوين نحتمي بها من الرسم. وهنا يدفع بنا ماغريت إلى مضيق يصعب اختراقه حيث يبدو أننا إنما نعطي اسمًا للوحة من أجل استبعاد التسمية نفسها … فالاسم ليس مقصودًا لذاته … ثمة مغالطة ومناورة تعدُّها لعبة التسمية في كلِّ مرة لكل من ينتظر من الاسم أن ينقذه من امتناع اللوحة عن الكلام … وكأنما يد مجهولة تأتي في كلِّ مرة كي تلقي بعنوان ما تحت صمت اللوحة … وبذلك يغدو عنوان «هذا ليس غليونًا» مكرًا من اللغة دُبِّر خصِّيصًا من أجل الزجِّ بنا نحو فضاء غامض من العلاقات الغريبة والاجتياحات المفاجئة والمدمِّرة معًا … رسوم تساقط في باحة الألفاظ اللعوب وكلمات ليست كالكلمات تخترق اللوحات وتندسُّ بينها وبين ألوانها وأشكالها فتتناثر الرسم شظايا ثائرة متمرِّدة خارجة عن طور الصمت وعن طور اللون وعن طور اللفظ … ويتحول الرسم إلى فضاء تائه متعب من ثقل الأسماء ومن تطفُّل المؤَوِّلين ومن كسل المتذوقين ومن اعتباطية المعاني …
وفي حين ينهمك الرسام بول كلي في بناء فضاء بلا اسم ولا هندسة، تغدو فيه اللوحة مجرد نسيج من الصور والعلاقات بين العلامات والمرسومات، فإن ماغريت إنما ينشغل بضرب من التفجير السري لفضاء اللوحة … فتراه يندفع نحو حفر هذا الفضاء بحدِّ الحرف وحدِّ اللفظ … وحيث تكفي العناوين حتى تجبر الصورة على الخروج للتوِّ من ذاتها وعلى الانعزال عن فضائها وعلى الشروع في الطفو بعيدًا أو قريبًا من ذاتها بمشابهة ذاتها حينًا وبمغايرتها حينًا آخر. وتصير اللوحة من فرط صمتها ومن شدة مكرها إزاء عنوانها كالجدار الذي يشرف بأحجاره العظيمة وبتطاوله في البنيان من علوٍّ على الثرثارين والأخرسين. كما تغدو عناوين اللوحات ضربًا من الألفاظ الهشة التي لا تصلح إلَّا لتنظيم فوضى الصخور … لكن بوسع الكلمة أن تسافر بعيدًا عن الثرثرة الضائعة الهائمة … وبوسع العنوان أن يكون أيضًا وجودًا قادرًا لا شيء يقدر على محوه من فوق جسد الرسم … بل وقد قد يصير الكلام أسفل اللوحة وعلى ظهرها علامة على أشدِّ الرسوم هروبًا من الاسم ومن التأويل ومن العين معًا.
«هذا ليس غليونًا»: ليس رسمًا ولا عنوانًا مطابقًا للوحة بل هو شرخ تحدثه العلامات اللسانية في صورة الأشياء وقدرة غامضة على النفي والانشطار وولادة الشظايا … هكذا هي لعبة الكلمات والرسوم لدى ماغريت، لعبة فريدة من نوعها تصير فيها العناوين أوتادًا وأرضًا تدور ورسومًا تتهاوى وتنشطر إلى ما لا نهاية لها كي تهيم على وجهها في طرق مجهولة في عين الرسَّام والرسم والقارئ والمتفرِّج … ها هنا «تكون الأشكال غامضة إلى حدِّ أنه ليس في استطاعة أحد تسميتها إذا لم تعيِّن نفسها بنفسها …» بل وأكثر من ذلك سيغدو «الموضوع في اللوحة بمثابة الحجم المنظم والملوَّن على نحو يجعل صورته معروفة للتوِّ ولا تحتاج إلى تسمية.»٣١يتعلق الأمر إذن باعتباطية عنوان اللوحة إلى حدٍّ يهرب فيه الموضوع وتذهل اللوحة عما رسمت كاشفة بذلك عن هشاشة ورهافة الغطاء الرقيق الذي يلفُّها … ثمة إذن ضرب من هشاشة الرسم ومن قابليته للضرر من فرط العناوين التي تسكنها الرغبة في الاستحواذ على الرسم واختزاله في العلامة اللسانية … لكن الرسوم تثور على سلطة الكلمات وعلى استبدادها …
يقول فوكو: «كان بول كلي ينسج فضاءً جديدًا ليضع فيه علامته التشكيلية. أما ماغريت فيترك الفضاء التمثيلي القديم يسيطر، لكن بشكل سطحي فحسب؛ لأنه لم يعد سوى صخرة ملساء حاملة لأشكال وكلمات، لا شيء تحتها، إنها شاهد على القبر: حيث إن الشقوق التي تصور الأشكال وتلك التي رسمت الحروف لا تتواصل إلا عبر الفراغ، عبر اللاوجود الذي يختفي تحت صلابة المرمر»٣٢ … ضرب من الغياب سوف يصيب اللوحات داخل هذا الفراغ التشكيلي الشاهدة على القبر لكنه غياب بوسعه «أن يصعد إلى السطح وأن يلامس اللوحة نفسها» … وتمتلئ الرسوم بالنعوش بدلًا عن الشخصيات التقليدية وبالفساتين الملوَّنة وبوجوه مستعدة للكلام ويظهر اللاوجود إلى الوجود رسمًا بدلًا عن الأشخاص الذين غادرونا.