الفصل الثامن

الفن والدين من خلال كتابات غادامار أو في معاني الألفة مع العالم …

تقديم

كلُّ شيء يوجد في اللغة. لا مفرَّ من الكلمات فهي تحاصرنا. لكنها لا تغلق علينا العالم بل تفتحه نحو آفاق من المعنى والفهم المغاير. وحتى صمت اللغة ليس صمتًا بل هو أيضًا جزء من اللغة حينما تُصاب بسوء الفهم أو بعدمه. فتنتج أحكام مسبقة عما يحدث وتتراكم الحُجب شيئًا فشيئًا إلى أن تُصاب كلماتنا بالتحجُّر. وحين تسقط اللغة في نفق المتعصبين لما فهموا عن أنفسهم، يسقط العالم الخاصِّ بأهل تلك اللغة في سوء فهم قد يكون غير قابل للمعالجة إلا متى نهضنا بإيقاظ معاني الكلمات التي لا نملك غيرها كي ننتمي انتماءً إيجابيًّا إلى عالم مشترك. ذاك هو بعضٌ من رسالة فلسفية تخصُّنا شديدًا هي ما ينادي إليه الفيلسوف الألماني المعاصر غادامار. إن الأمر يتعلَّق بالهرمنيوطيقا؛ أي بإنقاذ اللغة من كلِّ أشكال التحجُّر الذي يصيبها كلَّما تمسَّك أهلها بالتعصُّب لأحكامهم المسبقة ولفهمهم المتجمِّد لأنفسهم. تلك هي دلالة الهرمنيوطيقا أو فن الفهم. فالفهم ليس مجرد عملية شكلية تحدث حول ما نقوله عن الأشياء التي هي عالمنا. إنما الفهم فنٌّ برمَّته يملك شروطه التأويلية وادِّعاء الحقيقة الخاصَّ به والمعنى المتجدِّد الذي يعد به وأفق الانتظار الخاص به.

إن الغرض من هذا المقال هو محاولة رصد أشكال العلاقة الممكنة بين الدين والفن في عصر عسُر فيه التفاهم بين أبناء العالم الواحد حول شكل الحياة الممكنة وشكل التعايش في ظل صدام الهويَّات وصدام الأجندات وغموض الخرائط. وربما في الأمر سوء فهم لشكل الإنسانية الممكنة في ظلِّ ما يحدث بعد الثورات العربية. سنتخذ إذن من كتابات الفيلسوف المعاصر غادامار مصدرًا لفهم فنِّ الفهم الممكن لأنفسنا الحالية بما هي تقوم على شكل من الهوية السردية، حيث يلعب الدِّين والفن فيها دورًا أساسيًّا، والتي تظل في حاجة إلى تجديد ترسانتها التأويلية في فهمها لمصيرها التاريخي الحالي داخل أفق الإنسانية الحالية.

الفن والدين: علاقة متوترة منذ أن تُكتب هكذا على نحو عابر. كلمتان تحملان تاريخًا تراكمت فيه الأحكام المسبقة وسوء الفهم إلى حدِّ التوتُّر بينهما. لقد وصل إلينا هذا الزوج المفهومي وهو في حالة طلاق غامض. لكن ما وصل إلى أسماعنا ليس سوى صدًى باهتٍ لتصور حديث للشَّأن البشري عمومًا. هذا التصور قائم في جوهره على ثنائية الذات والموضوع وعلى معاناة التجربة الإنسانية الحديثة من عدم توفُّرها على جهاز مفهومي خاصٍّ بها، بتميُّزه عن نموذج الحقيقة في العلوم الصحيحة.

إن نقطة انطلاقنا في هذا المقال هو نصٌّ لغادامار حول «الخبرة الجمالية والخبرة الدينية»١ بتاريخ ١٩٧٨م. في هذا النص نعثر على الأطروحة التالية وهي التي ستكون موضوع مقالنا: «إن السؤال الذي يكون مطروحًا في هذه الصيغة: «لغة شعرية أم دينية؟» لهو سؤال يكون حتَّى دون حدود اللياقة عندما نكون في مواجهة تقاليد الفكر الهندي أو الصيني؛ لأننا ها هنا لا نستطيع حتَّى أن نسأل عما إذا كُنَّا نتعامل مع الشعر أم مع الدِّين أم مع الفلسفة. فمن الواضح أن الجدال هو سمة مميزة للتطور العقلي والروحي في الغرب.»٢

سوف نعمل على شرح هذه الأطروحة من خلال ثلاث مراحل: نتوقف فيها أولًا عند معالم مفهوم الهرمنيوطيقا كأفق جديد للتفلسف لدى المعاصرين في معنى فنٍّ للفهم وللتفاهم مع الآخر في أفق كائنات موجودة من أجل اللغة. ونمرُّ ثانيًا إلى فهم تأويلية الأثر الفني بوصفه خيطًا استكشافيًّا ناظمًا لكلِّ التجربة البشرية. ثم نمرُّ ثالثًا إلى طبيعة النصِّ الديني بوصفه وعدًا يستجيب لكونية هرمنيوطيقية بامتياز. من أجل أن ننتهي أخيرًا إلى رصد أوجه اللقاء بين التجربة الدينية والتجربة الجمالية من خلال اشتراكهما في نسج خيوط الحياة المشتركة ضمن أفق الألفة مع العالم …

(١) الهرمنيوطيقا: تجربة فهم من أجل الألفة مع العالم

ينطلق جادامار في نصوصه المنشورة ضمن كتاب فن الفهم من الجدال الفلسفي القائم بين الإرث الرومانسي والمدرسة التاريخية (البنيوية والألسنية) حول ما سماه هيغل علوم الروح.٣

والسؤال الخفي هو التَّالي: هل لا يزال بوسعنا اليوم الحديث عن فصل حداثوي بين علوم الطبيعة وعلوم الروح؟ وذلك في معنًى محدَّد: أن الحقيقة هي دومًا حكر على علوم الطبيعة في حين أن علوم الروح هي تجارب بلا مفهوم؟ وبلا حقيقة أصلًا؟

جادامار يجيبنا إجابة مغايرة: علينا أن نجدِّد ترسانتنا المفهومية وسلوكنا النظري تجاه حقل التجربة البشرية بما هي مفتوحة على الثقافة والتاريخ والرمز والمقدَّس وكلِّ أبعاد الحياة الاجتماعية المشتركة. هناك تحوير نظري إذن من الضروري إجراؤه: علينا تغيير الثنائي التقليدي «علوم الطبيعة-علوم الروح» بأفق تفلسف جديد هو: كونية التجربة الهرمنيوطيقية. ما معنى الهرمنيوطيقا إذن؟

يجيبنا جادامار ضمن نصٍّ له بعنوان «الهرمنيوطيقا وفلسفة الفن» قائلًا: «إن الهرمنيوطيقا من وجهة نظر مصيرها الأصلي إنما هي فنُّ التفسير والتبليغ، وذلك بفضل جهد شخصي لتفسير ما قيل من طرف الآخرين وما يمثَّل أمامنا في التراث، حيثما يكون التراث غير مفهوم على نحو مباشر»٤ إن من مهامِّ الهرمنيوطيقا أن «تجتنب سوء الفهم.»٥
ومن هذا المنظور يعيدنا جادامار إلى هرمس أبي فنِّ التفسير والفهم. قائلًا: «ليس في الأمر أي شطط، أن تدين الهرمنيوطيقا، باسمها إلى هرمس مفسِّر الرسالة الإلهية إلى البشر، وذلك من حيث هي فنُّ إفهام شخص ما ما قيل في لغة أجنبية. وحين نتذكر هذا الاشتقاق للهرمنيوطيقا، فإنه يصير واضحًا تمامًا أن الأمر يتعلَّق بحدث لغوي، بترجمة لغة في لغة أخرى، وبالتالي بالعلاقة بين لغتين.»٦ ما نفهمه من هذا النصِّ لجادامار هو أن الهرمنيوطيقا هي عملية فهم وتفسير موجهة إلى شخص آخر لشيء يقال في لغة مغايرة. ذلك أن كلَّ قول إنما يقول دومًا شيئًا ما لشخص آخر. ليس ثمة قول بلا شيء يُقال. وليس ثمة شيء يُقال إلَّا حينما يكون ثمة شخص ما هو في انتظار ذاك الذي يُقال. فالعملية التأويلية هي إذن عملية لغوية غير ممكنة إلَّا في أفق مشترك. هو أفق الاشتراك في المعنى وفي الحقيقة. ليس ثمة قول دون معنى. وليس ثمة قول دون ادِّعاء حقيقة ما. وليس ثمة حقيقة دون علاقة مع غير يشترك معنا في كينونة لغوية ما.
إن جادامار يستأنف بشكل ما كل الاكتشاف ما بعد الحديث لحقل اللغة مثلما وقع منذ المنعطف الرومانسي الذي اعتبر الشعر المطلق أو الشعر المحض هو اللغة الوحيدة للحقيقة، ومنذ التأويليين مع شلايرماخر ودلتاي وهمبولدت … ومنذ بنيوية العلامة لدى دي سوسير وبخاصة منذ هيدغر وفيتغنشتاين. وفي الحقيقة يعيد جادامار هذا الاكتشاف الحديث للُّغة تحديدًا إلى هردر وهمبولدت، من حيث إنهما قد وقَّعا معًا اختراع فلسفة اللغة. يقول: لقد عثر هردر وهمبولدت في الطابع الإنساني الأصيل للغة الميزة اللغوية الأصلية للإنسان. هكذا استخرجا الأهمية الحاسمة لهذه الظاهرة ضمن التصور الإنساني للعالم.٧ إن الأمر يتعلق بالخروج من براديغم الذات إلى براديغم اللغة. حيث لم تعد اللغة وسيلة لحضور وعي ما إلى العالم. لكن علينا التنبيه هنا إلى الأطروحة الفلسفية العامة لجادامار: ليست اللغة وسيلة ولا واسطة ولا علامة على كوجيطو سابق عليها. نحن لا نستطيع التفكير إلا باللغة وعبرها ومن أجلها. وذلك يعني أن تغيُّرًا عميقًا في تصورنا للإنسان قد وقع مع اكتشاف براديغم اللغة. لم نعد كوجيطو قبالة عالم هو جملة من الموضوعات تحت وصاية ذات تفكُّر. يقول جادامار: «إننا لا نوجد أبدًا بوصفنا وعيًا قبالة العالم … نحن بالأحرى دومًا، داخل كل علم بأنفسنا وكل علم بالعالم، محاصرون باللغة التي هي لغتنا»٨ إن الكينونة اللغوية التي لنا تحتاج إلى الهرمنيوطيقا بما هي تفسير لما هو غريب عنَّا وذلك من أجل تجاوز حالة الاغتراب التي أصبحنا نحيا عليها داخل التصوُّر العلمي الحديث للعالم القائم على نموذج اليقين مثلما تحدده العلوم الطبيعية. إن الغرض من فنِّ الفهم هو تحديدًا الدخول في حالة ألفة مع العالم ومع أنفسنا. فنحن لا نعرف من العالم إلا ما تسمح به مناهج العلم الحديث في حين أن كينونتنا التاريخية هي دومًا أكبر ممَّا نعرفه حولها. ثمة فيما قبل العالم الذي يختزله العلم في موضوعات علمية خاضعة للقيس والتجريب عالم آخر سابق عن عالم العلم هو ما سماه هوسرل يومًا «العالم المعيش.» ذاك هو العالم المقصود فهمه من طرف التجربة التأويلية؛ وذلك من أجل تحرير حقل التجربة البشرية بكل أبعادها الرمزية والتاريخية والمقدَّسة من نموذج الحقيقة الموضوعية المستقلة عن العالم الأليف لنا الذي هو عالمنا الخاصُّ. فما يهمُّ جادامار هو تحديدًا الحقيقة وليس المنهج أي أولوية الحقيقة على المنهج. لكنه لا يعترض على حقائق العلم الحديث إنما يرفض أن يقع اختزال الحقيقة في نموذج الحقيقة العلمية. الهرمنيوطيقا هي نموذج مغاير وتجربة خصبة للعودة إلى المعيش ومساءلته والكشف عن معانيه التي وقع نسيانها أو إساءة فهمها أو التي تكلَّست من فرط غبار الأحكام المسبقة حولها. فنحن لم يعد بوسعنا أن نتعامل مع المجال الواسع للشأن البشري؛ أي مع التاريخ والفن والثقافة ومساحة المقدَّس والرمز والسرد الخيال من خلال مناهج التفسير الطبيعي للظواهر. ضد تشيئة العالم واختزال التاريخ في الموضوعية العلمية واختزال ما هو جمالي في النزاهة الجمالية يقترح جادامار الهرمنيوطيقا القائمة على اللعب والمحاكاة والرمز والاحتفال بما هي كيفيات حدوث الحقيقة في حقل التجربة البشرية. وذلك يعني أن جادامار يعترض على تطبيق مناهج العلوم الطبيعية في العلوم الإنسانية التي لم تفعل غير تعميق الهوة بيننا وبين العالم. إن اختزال الحقيقة في براديغم الذات والموضوع أدى إلى تعكير الألفة بيننا وبين الأشياء وبالتالي إلى الاغتراب الذي ينبغي تجاوزه عبر فنٍّ فهم مغاير أو إتيقا للفهم المشترك.
ينطلق غادامار في كتاب الحقيقة والمنهج (١٩٦٠م) من «نقد للوعي الاستطيقي من أجل الدفاع عن تجربة الحقيقة التي تبلَّغ لنا عبر الأثر الفني، ضد النظرية الاستطيقية التي تقبل أن ترد إلى المفهوم العلمي للحقيقة.»٩ إن الأمر يتعلق لديه بالخروج من حقل الوعي الجمالي القائم على الذاتية كما أسسها كانط، إلى حقل أنطولوجيا الأثر الفني بوصفها الحقل النموذجي الذي ضمنه تنبثق الدلالة الأكثر خصوصية للتجربة البشرية. وهنا نقف على أطروحة غادامار القاضية بأن الفن هو تجربة الحقيقة الوحيدة التي لا يدركها أي منهج علمي. وذلك أن «تجربة الفن هي الدافع الأكثر قوة الذي يجبر العلم على الاعتراف بحدوده.»١٠ يرفض جادامار تعريف الحداثة بوصفها «نزعًا للقداسة عن العالم» كما يرفض اعتبارها حالة من التجاوز لما حدث من تجارب رمزية وثقافية في التراث أو التقليد. إن أهم ما كان يشغل جادامار هو الأطروحة التالية: لم يعد بوسعنا أن نختزل العقل في مجرد العقل النظري أو العلمي بوصفه الأرغانون الوحيد للحقيقة. ليس ثمة عقلانية متحررة تمامًا من الأسطورة. إن الهرمنيوطيقا بهذا المعنى تهدف إلى العثور على فنِّ فهم للحقيقة في مجال التجربة البشرية أكثر أصالة من نموذج الحقيقة في علوم الطبيعة. ذاك الفن اسمه فنُّ الفهم بما هو يتنزل داخل وضعية حوارية اجتماعية مشتركة. إن فنَّ الفهم هذا غير ممكن إلا باللغة وداخل اللغة بما هي حدود تناهي كينونة البشر أنفسهم. نحن كائنات لغوية متناهية لا كيان لنا خارج ما نقوله حول أنفسنا. وبهذا المعنى ليست الهرمنيوطيقا منهجًا قائمًا على قواعد وتقنيات جاهزة لقراءة النصوص وتأويلها بل هي بالأحرى البنية الأنطولوجية لنمط كينونة البشر في العالم. إن فنَّ الفهم ليس مجرد سلوك أنطولوجي من بين جملة سلوكاتنا الأخرى إنما هو نمط كينونتنا الخاص. وهي فنٌّ يهدف إلى فهم كل تجربة حقيقة تتجاوز حقل المناهج العلمية. إن الحقيقة غير قابلة للاختزال في نموذج الحقيقة التي ينتجها العلم. إن فنَّ الفهم يرفض مواصلة الانتماء إلى الثنائيات الحديثة القائمة على تصور للعالم قوامه ثنائية الذات والموضوع والتناقض بين اللوغوس والميتوس.
في نصٍّ له تحت عنوان «ما هي الحقيقة؟» يتساءل جادامار بشكل إنكاري كما يلي: «ما هي الحقيقة؟» … يمكننا التعبير عن هذا السؤال كما يلي: «هل أن العلم، مثلما يريد هو أن يقنعنا بذلك، هو الشكل الأخير والمؤتمن الوحيد على الحقيقة؟ … إلى أي مدى تكون المناهج العلمية مسئولة على أنه ثمة الكثير من الأسئلة التي لا يملك لها العلم إجابة وهو مع ذلك يمنعنا من الخوض فيها؟»١١ إن ما يهدف إليه جادامار من مسألة الحقيقة هو تجاوز براديغم الحقيقة في المعنى الحديث لها بما هي «يقين» كما عين ذلك ديكارت١٢ وذلك من أجل فتح المجال أمام شكل مغاير من الحقيقة في مجال الشأن البشرية. هذا الشكل من التجربة اسمه الهرمنيوطيقا الكونية. وهي تقوم على وضعية الحوار حيث يكون السؤال والجواب والمعنى والحقيقة عناصر للوضعية التأويلية بما هي نمط اشتراك في الكينونة. يقول جادامار في هذا الصدد: «كلما تساءلنا عن الحقيقة، أصبحنا بالضرورة سجناء وضعيتنا التأويلية.»١٣ إن طرح الأسئلة هو سر كل وضعية تأويلية لكن الأهم من ذلك ليس فنَّ التساؤل في حد ذاته، بل هو أن الغاية من الأسئلة هي «القدرة على الاختراق الدائم لما يهيمن في شكل طبقة مغلقة وغير قابلة للاختراق لتصورات جاهزة مبتذلة، على جملة تفكيرنا ومعرفتنا. القدرة على تحيين هذا الأمر إلى حد يصير فيه ممكنًا لنا أن نكتشف أسئلة جديدة وأجوبة جديدة: ذاك هو ما يمثل مهمة الباحث.»١٤
بالإضافة إلى السؤال والجواب تحتاج التجربة التأويلية إلى عنصرين: المعاصرة أي إنه ثمة إمكانية للتوليف بين الماضي والحاضر والمستقبل. يقول جادامار: «… لأن الحاضر يُحددُنا، فإن التاريخ يُكتبُ دومًا من جديد. ليس التاريخ مجرد إعادة بناء وليست مهمته جعل الماضي معاصرًا لنا، لكن لغز الفهم التاريخي ومشكلته تكمن في أن ما صار معاصرًا قد كان دائمًا بالنسبة لنا معاصرًا سلفًا، من حيث هو شيء ما يريد أن يكون حقيقيًّا. إن ما يبدو بوصفه مجرد إعادة بناء لمعنى مضى، يمتزج مع ما يمسنا مباشرة من حيث هو حقيقي … ليست المعرفة التاريخية مجرد عملية معاصرة. وليس الفهم مجرد إعادة بناء لشكل معنى، أو تفسير واعٍ لإنتاج لاواعٍ. إن نفهم بعضنا البعض يعني بالأحرى: أن نتفاهم حول شيء ما.»١٥ إن المعاصرة تعني لدى جادامار تحرير الفكر التاريخي من التصورات المتحجرة التي تقوم على القطيعة والفصل بين ما عشناه سابقا وما نعيشه الآن. وذلك بفضل اللغة: «إني أعتقد أن اللغة تحقق دومًا التأليفات بين آفاق الماضي وآفاق الحاضر»١٦ … نحن لا نكتشف ما يكونه شيء ما إلا حين نتكلم عنه. إن الحقيقة التي نلتقيها في كل ما نقوله عن الأشياء غير ممكنة إلا في أفق جماعة مشتركة ناتجة عن اتفاق. يقول: «إن ما نقصده بكلمة «الحقيقة» — طابع الانفتاح وانكشاف الأشياء — يملك إذن زمنية وتاريخية خاصة. إن ما ندركه مدهوشين، في كل جهد نحو الحقيقة، هو أنه لا يمكننا قول الحقيقة دونما١٧ نداء ودون جواب، وبالتالي دون ما جماعة ناتجة عن اتفاق.»

(٢) الأثر الفني بما هو خيط ناظم للحقل التأويلي بعامة

إن أهمية التجربة الفنية لدى غادامار تكمن تحديدًا في قدرتها على تحرير حقل التجربة البشرية من المنهج العلمي وفتحها على ما يسميه بإتيقا الفهم. وفي تقديرنا يقترح علينا غادامار تنشيطًا للأفق الذي افتتحه كتاب نقد ملكة الحكم لكانط من جهتين اثنتين: أهمية انفتاح الجماليات على البعد الكوني من جهة، واستقلالية الفن عن المفهوم العلمي من جهة ثانية. لكن عيب كانط، حسب غادمار، يكمن في كونه لم يدرك إمكانية أن يكون للفن حقيقة خاصة به واكتفى بتحصينه بمفهوم الحس المشترك.

لكن غادامار لا يترك من استطيقا كانط غير مفهوم «اللعب» الذي يتخذ منه خيطًا هاديًا للتفسير الأنطولوجي «للدلالة الهرمنيوطيقية للأثر الفني»١٨ … في مقالة له تحت عنوان «لعب الفن» يعلن جادامار عن اللعب بما هو موطن لقاء بين الفن والدين قائلًا: «فنحن نكتشف أشكال اللعب في أكثر انواع النشاط الإنساني جدية: في الطقس الديني، وفي إدارة إجراءات العدالة، وفي السلوك الاجتماعي بوجه عام …»١٩
إن الأثر الفني هو تجربة حمَّالة لتجربة حقيقية فريدة من نوعها. لذلك يمكن اعتمادها كخيط استكشافي أو كفكرة ناظمة لمجمل التجربة البشرية في كل أبعادها. ليس الأثر الفني صدمة عدمية ولا استفزازًا سرياليًّا ولا صرخة هدامة بل هو لدى جادامار، دومًا لقاء ما، حدث حي، هدفه هو إعادة تنظيم العالم واقتراح أفق معنى مغاير. ما يثيرنا في هذه التجربة هو أن لقاءنا بالفن هو دومًا موضع تأولي مناسب لتبليغ معنى ما قادر على المحافظة على حضور الغير. يشدد جادامار على حضور الغير بما هو قوام فنِّ الفهم والتفاهم والعيش المشترك. وهذا الأمر هو الذي يميزه حسب عباراته عن هيدجر. حيث يعترف جادامار أن انفجار المثالية القائمة على الذات هو ما غير من وجهة الفلسفة المعاصرة نحو الغير. وفي الحقيقة ما يشغل جادامار هو سؤال إنكاري طرحه عليه هيدجر يومًا سنة ١٩٤٣م «ماذا عن الكائن الملقى في العالم؟» وهو يكتب عن هذا الأمر قائلًا: «أما أنا فقد كانت تشغلني ظاهرة الغير أو الآخر وكنت أبحث بشكل نزيه عن المنزلة اللغوية لمعرفتنا للعالم.»٢٠ إن الهرمنيوطيقا هي فنُّ الإنصات إلى الآخر لأنه ليس ثمة قول إلا وهو موجه إلى شخص آخر حتى لو تعذر حضور ذاك الشخص.
يتمتع الفن في نظر جادامار بوظيفة براديغماتية من أجل فهم التجربة البشرية في أبعادها التاريخية المختلفة. إننا نتعرف على أنفسنا داخل الآثار الفنية. وذلك يعني أن في الفن معرفة تضاهي أو تفوق المعرفة العلمية نفسها. هنا ينشط جادامار قولة نموذجية لأرسطو مفادها أن الشعر أسمى من التاريخ. وهو ما يتردد تحت قلم جادامار الذي يكتب ما يلي: «فأرسطو محقٌّ تمامًا في قوله: إن الشعر يجعل الكلي مرئيًّا على نحو يفوق ما يمكن أن يفعله السرد الأمين للوقائع والأحداث الفعلية التي نسميها التاريخ.»٢١ بعد هيجل لم يعد بوسعنا أن نهمل الحقيقة التي يتضمنها الفن. وبعد هيدجر يصير لزامًا علينا أن نتعامل مع الفن بوصفه انكشافا لحقيقة محجوبة وراء أحكامنا المسبقة وأسئلتنا السيئة وفهمنا المتحجر. ليس الفن شيئًا من الماضي بحيث لم يعد يمثل حقيقة عالمنا المشترك إنما هو كذلك فقط داخل الاغتراب الجمالي الحديث الذي انتجته الاستطيقا منذ كانط. وفي الحقيقة ثمة شكلان من الاغتراب ينادي جادامار بضرورة تحرير الشأن البشري منهما: اغتراب الوعي التاريخي تحت شعار قراءة التاريخ وفق الموضوعية العلمية للمؤرخ، واغتراب الوعي الجمالي القائم على استقلالية الحكم الجمالي عن كل أبعاد التجربة المعيشة.
لا يمكن إذن أن ندخل حقل فنِّ الفهم إلا حينما نحرر التجربة البشرية من الاستطيقا المضللة وهي استطيقا حجبت عنا الحقيقة الأصلية الكامنة في الفن وحولته إلى حقل للمتعة ولتناغم الأشكال المحضة. إن جماليَّات تقوم على الذوق والقبول والرضا هي التي تقطعنا عن فنِّ الماضي بما هو مضى ولم يعد ينال استحساننا وقبولنا. في حين أن الفن القديم هو فنٌّ يكشف عن مساحة المقدس لشعب ما فهو فنٌّ يقول حقيقة ذاك العالم ويجلب لنا معه عالمه. ضد التصور الاستطيقي الحديث للفنِّ بما هو فنُّ المظاهر والأوهام الجميلة والأحلام الكاذبة، مثلما نجد ذلك مع كانط ونيتشه، يعيد جادامار الفنَّ إلى مساحة المقدس التي وُلد داخلها بما هي مساحة إنتاج للحقيقة. ها هنا الحقيقة هي قول شيء ما إلى أناس يشتركون في الانتماء الأليف إلى عالمٍ ما لا شيء يفصلهم عنه. ليس ثمة قطيعة بين الماضي والحاضر بل ثمة تاريخ فعال وفهم متجدد وعالم يأتي إلينا ممتلئًا برمزيته وأعراسه. نحن دومًا جزء من تاريخنا الخاص ولا يمكننا بأي شكل أن ننفصل عنه. إن الفن يجلب لنا معه عالمه إلى حد التلاحم بين آفاق الماضي وآفاق الحاضر. ماضينا ليس وراءنا بل هو متجدد فينا دومًا بقدر تنشيطنا للمعاني القادرة فيه على توحيدنا وغرس الألفة بيننا. ليس الفنُّ إذن مجرد لهو أو هوى عارض إنما يهبنا الفنُّ في كل مرة عالمًا خاصًّا هو عالمنا حينما نلتقي به ثانية على جهة الفهم المغاير.

نحن مطالبون دومًا بقول شيء ما من خلال تجربة الأثر الفني. لأنها تجربة غير ممكنة إلا داخل اللغة. يعتقد جادامار أنه ثمة أزمة في الفن المعاصر. والسؤال المطروح حينئذٍ هو: هل ما زلنا مستعدِّين لفهم الأعمال الفنية؟ علينا لأجل ذلك أن نعتبر أن فهم التجارب الفنية غير ممكن إلا انطلاقًا من اعتبارها تحت راية اللعب. ثمة أشكال للعب: هي المحاكاة والرمز والاحتفال. إن مفهوم اللعب هو الخيط الأنطولوجي الناظم لفهم مجمل التجربة البشرية بوصفها لا تقوم على المفهوم العلمي بل على المفهوم الهرمنيوطيقي؛ أي على اللعب. ذاك هو ما يشتغل عليه الفصل الثاني من كتاب «الحقيقة والمنهج»: ما يقوم به جادامار هو وصف فينومينولوجي لتجربة اللعب. إنه يجذِّر تصور شيلَّر للعب ويدفع بهذا التصور إلى تجربة أنطولوجية متكاملة الأبعاد. ليس الإنسان فقط كائنًا من أجل اللعب بالغريزة إنما هو كائن لاعب أنطولوجيًّا؛ أي من جهة كينونته في العالم. أي إن اللعب ليس مجرد حدث عارض أو هزل عابر إنما هو حدث أنطولوجي عميق يؤثر في كينونة اللاعب فيقع تحويل في ذاتيته كي يتحول من ذات لاعبة إلى موضوع اللعب نفسه.

وفي الحقيقة ينبغي أن ننبه على أهمية الكتاب الذي نشره غادامار تحت عنوان راهنية الجميل (١٩٩٢م) والذي يقوم على معالجة التناقض المفترض بين الفن الحديث والفن التقليدي مقترحًا تجاوز هذا التناقض بواسطة إتيقا للفهم تكون مغايرة. يقترح علينا غادمار ثلاثة أبعاد للفن: اللعب والرمز والعرس. والأهم لدى غادمار هو أن هذه المفاهيم الثلاثة الموجهة لكل فن الفهم تتقوم بالمعاني التالية: إن كل تجربة فنية إنما هي في جوهرها ظاهرة للفهم. وإن هذه التجربة الفريدة ترسم لنا دومًا أفق انتظار من المعنى، لكنه معنًى لا يستنفد ولا يقع إنجازه في تمامه. وإن في كل أفق انتظار دلالة كونية أو أساسًا مشتركًا للفهم … ينطلق غاداما٢٢ في تأويله للأثر الفني من أفق الأنطولوجيا التأويلية التي رسمها هيدغر مسائلًا عن حقيقة الكينونة المنسية داخل تاريخ الميتافيزيقا. ها هنا تنفتح الفلسفة بوصفها تجربة تأويلية أصيلة على الأثر الفني بوصفه انكشافًا للحقيقة أو هو «الحقيقة قيد الحدوث.» والطريف في هذه المقاربة هو تجاوزها لحقل استطيقا الذات الكانطية بوصفها من المقومات الجوهرية لميتافيزيقا الذاتية التي قامت أنطولوجيا هيدغر على تدميرها.
يشتغل غادامار في كتابه الرئيس المعنون بالحقيقة والمنهج٢٣ على تأويلية الأثر الفني ضمن ما يسميه مشروع الهرمنيوطيقا الكونية التي تتخذ من الحقل الوسيع للتجربة البشرية ميدانًا لها. إن ما يهدف إليه غادامار هو على وجه الدقة تحويل الأثر الفني إلى أرغانون؛ وذلك من أجل التوجه نحو الكشف عن حقيقة الكائن. لذلك ليس بوسعنا أن نؤَوِّل الآثار الفنية (الأدب نموذجًا) إلا عبر معاشرة للنصوص تتجاوز الثنائي الميتافيزيقي للذات والموضوع. ليس المؤَوِّل ذاتًا وليس النص موضوعًا. بذلك نغادر استطيقا الحكم الكانطية القائمة على الذوق وجماليات المتفرج. لقد مات الكاتب ولم تبقَ لدينا غير النصوص التي تحيا كلما جددنا علاقتنا التأويلية بها، حيث إننا، على حدِّ عبارة غادمير، «كلما التقينا بأثر فنيٍّ التقينا بأنفسنا.» إن تأويلية الأثر الفني لغادامار إنما تعلمنا كيف ننظر إلى الأثر الفني بوصفه براديغمًا لفهم الشأن البشري وبوصفه إمكان للكينونة في العالم وبوصفه حقلًا وسيعًا لاختراع المعاني وانكشاف الحقائق معًا. كل أثر فنيٍّ يرسم لنا علاقةً بالماضي وبالحاضر وأفق انتظار ما ينفك يتغير باستمرار.

(٣) الهرمنيوطيقا والتجربة الدينية

لقد تعرض غادامار للعلاقة بين الهرمنيوطيقا التي يقترحها، بوصفها أفقًا لتأويلية كونية لكينونة لغوية تاريخية في العالم كما يحدث في الحقيقة، والتجربة الدينية، ضمن نصوصه التي نشرها تحت عنوان «فنِّ الفهم.» وفي الحقيقة ثمة أربعة نصوص يشتغل فيها غادامار على النص الديني تمتد من اشتغال على «هيدغر والثيولوجيا في ماربورغ» ثم «الهرمنيوطيقا والثيولوجيا»، و«الكائن والروح والله»، ثم أخيرًا «التجربة الجمالية والتجربة الدينية.»

وفي الحقيقة ينطلق غادامار في تكوين موقفه التأويلي من الدين من كلمة لهيدغر قالها في محاضرة داخل نقاش حول علم اللاهوت في مدينة ماربورغ الألمانية في عشرينيات القرن العشرين. ومفادها بتعبير غادامار: «إن علم اللاهوت ينبغي أن يستعيد رسالته الحقيقية التي كانت تتمثل في البحث عن الكلمة القادرة على تلبية نداء الإيمان والمحافظة على الإيمان.»٢٤ كيف يمكن أن نفهم هذه العبارة لهيدغر؟ أي إيمان يقصد؟ وأية كلمة بوسعها أن تلبي نداء الإيمان وأن تحفظه؟

إن أسئلة كهذه لا يمكن السير على دربها إلا في سياق فلسفي تاريخي دقيق كانت فيه فلسفة هيدغر مطالبة باختراع تأويل مغاير للحقيقة ضد تأويل الكانطيين الجدد لها وبخاصة منهم كاسيرر. فقد اعتقد هؤلاء أن الاكتمال الحقيقي للمعرفة إنما يكمن في العلوم، في الطابع الموضوعي للتجربة، في صفاء المفهوم وفي دقة المعادلات الرياضية. هيدغر سيجري تحويرًا جذريًّا على معنى الحقيقة بإعادته لها إلى الأصل اللغوي اليوناني بما هي أليثيا؛ أي انكشاف؛ أي انفتاح على فهم ما هو محتجب. ومن أجل ذلك يقوم هيدغر أيضًا بتحوير معنى الزمان نفسه. وذلك في أفق البنية التأويلية الجديدة للدزاين؛ أي الكينونة هنا في العالم بما هي كينونة قائمة على النسيان وليس على التذكر. وهي بذلك كينونة تعيش في الحاضر دومًا لكنها مشدودة في نوع من السقوط إلى الماضي. فالزمن لدى هيدغر وحسب توصيف غادامار، لا يولد بل هو يمر دومًا. وهو لذلك لا يستوفي كينونته لا في الحاضر ولا في تعاقب اللحظات الحاضرة بل في الطابع المستقبلي الجوهري للدزاين. يتعلق الأمر إذن بانفتاح الدزاين على التجربة التاريخية أو الطريقة التي يصيبنا فيها الطابع التاريخي بالنسيان؛ أي نسيان يشهد على أن شيئًا ما يحدث لنا بدلًا على أننا نحن من يقوم به. وتلك هي علاقتنا بالماضي. وذلك يعني أنه من أجل فتح الحقيقة على نموذج مغاير للنموذج الحديث كان على هيدغر تحرير فكرة الزمان من التصور الفينومينولوجي لهوسرل القائمة على مفهوم القصديات المجهولة أو التفكر الترنسندنتالي.

انطلاقًا من مفهوم الدزاين بما هو انكشاف؛ أي نداء نحو فهمه لذاته، يجد علم اللاهوت مبررًا له. ها هنا تتدخل اللغة من أجل الكشف عن المعاني المحجوبة؛ أي مساعدة رجل الدين على فهم كلمة الله. ذلك أن «رسالة اللاهوت هي فهم ما خفي من المعاني في كلام الله.»٢٥ وهو ما يعني لدى غادامار أن رسالة علم اللاهوت هي تحديدًا فهم ما خفي من المعاني المتحجبة في كلام الله. فعلم اللاهوت هو كالدزاين نفسه يشتقُّ رسالته وكينونته من كونه انفتاحا دائمًا على فهم الحقيقة وهي حيز الحدوث. الإيمان إذن هو تحديدًا فهم كلام الله. وذلك يعني وفق عبارات غادامار أنه «حينما نتكلم عن فهم المؤمن لعقيدته فذلك يعني أنه صار على وعي بتبعيته إلى الله؛ أي إنه صار من المستحيل عليه أن يفهم نفسه انطلاقًا ممَّا بحوزته» …٢٦ لكن هذا التأويل البروتستانتي اللاهوتي للإيمان سيقع تجاوزه من طرف هيدغر، وهو أمر أبصر به غادامار الذي يعتبر أن هيدغر قد أجرى تحويرًا عميقًا على المفهوم اللاهوتي البروتستانتي بحيث صار من الممكن للدزاين؛ أي نحن الذين نوجد هنا في العالم، أن نمنح تأويلًا أصيلًا لأنفسنا. بحيث يصير نداء هيدغر إلى استعادة الكلمة المستجيبة للإيمان وللمكوث ضمنه، تعني في تأويل غادامار «الحقيقة … انبثاق الفهم الذاتي لضياعنا … الانكشاف بوصفه تحجبًا … مسكن الكينونة … كل هذا الكلام هو تجاوز لأفق الفهم الذاتي حتى لو كان فهمًا تاريخيًّا آيلًا إلى الفشل …»٢٧
إن ما نخرج به من هذه الاستعادة التأويلية التي أجراها غادامار مع هيدغر هو استئنافه لأستاذه في المعاني التي نختزلها في النقاط التالية؛ أولًا: ضرورة تعميق الطابع التاريخي العميق لكل عملية فهم لأنفسنا. ثانيًا: أن المكسب الحقيقي من علم اللاهوت يكمن في الكشف عن معنى ما، وهو معنى يتجاوز الأفق الخاص للمؤَوِّل، مهما كان هذا المؤَوِّل حتى لو كان اسمه القديس جون أو القديس بول … ثالثًا: من المستحيل الفصل بين معنى النص المقدس ومعناه الخلاصي. رابعًا: أن نفهم، لا يعني وفق غادامار أن نرمم مقاصد الكاتب مهما كان هذا الكاتب. خامسًا: أن كل فهم إنما يبقى دومًا مجرد مسار أو طريق لا يكتمل أبدًا لكنه يحمل رغم ذلك جملة معنى حاضرة برمتها. سادسًا: في كل نصٍّ ثمة دومًا تجربة عالم يحمل دائمًا جملة تراثنا التاريخي. سابعًا: أن كل استجابة لنداء التراث، بما في ذلك علم اللاهوت، إنما هي دومًا «كلمة تجعلنا نمكث في الحق.»٢٨
في نص له تحت عنوان «الهرمنيوطيقا وعلم اللاهوت» وهي محاضرة نُشرت في مجلة العلوم الشرعية بتاريخ ١٩٧٧م، يقترح غادامار الاشتغال على علم اللاهوت بوصفه علمًا من العلوم الإنسانية. وهو في ذلك يجعل من علم اللاهوت حقلًا تأويليًّا مشروعًا بما هو شكل من الخطاب أي حقل لغوي بامتياز. ما دامت الهرمنيوطيقا تمتد إلى كل سلوك لغوي في التجربة البشرية بإطلاق. هنا يقرر غادامار الاشتغال على العلاقة بين الهرمنيوطيقا وعلم اللاهوت تحت راية مفهوم الخطاب. وذلك لأنه يميز بين الخطاب والنص. ذلك أن النص حينما يصير خطابًا يتحرر من ماهيته التقليدية بوصفه كتلة متموضعة ثابتة مغلقة على معانيها وممتنعة عن كل تحيين معاصر. إن ما يهدف إليه غادامار من وراء هذا الإجراء هو ادماج الخطاب الديني ضمن المنظور التأويلي بما هو خطاب قابل للتكيف مع التأويلات المعاصرة. وذلك انطلاقًا من مسلَّمة هرمنيوطيقية تقتضي أن «تكون المهمة الرئيسية للهرمنيوطيقا هي تبادل وجهات النظر بين النص المعطى وفهمنا الحالي.»٢٩ وذلك يعني أن الهرمنيوطيقا تحرر الكلام الحي من المعاني التي تحجرت وتجمدت وصارت حجابًا للحقيقة الملائمة لأفق المعاصرة الخاص بكل تأويل جديد. إن الفرق إذن بين النص والخطاب هو تحديدًا الفرق بين شيء ما استقر وثبُت فأصبح كقطعة النسيج الواحدة، والكلمة الحية التي يمكن استعادتها في كل تأويل جديد.
يميز غادامار بين ثلاثة أنواع من النصوص: النص الشعري والنص الفلسفي والنص الديني. وما يهمنا من هذا التمييز هو الأطروحة التي يعبر عنها قائلًا: «إن التمييز بين هذه الأنواع الثلاثة من النصوص، الديني والفلسفي والشعري، هو تمييز خاص بالفكر الغربي، ذلك أنه من المُحال التمييز بين الفلسفة والشعر والدين حين نعود إلى التراث الصيني أو الهندي أو حتى إلى العالم الإسلامي.»٣٠ إن ما يهمنا هنا هو أن النص الفلسفي يتميز عن النصين الشعري والديني بحيث يفترق عنهما بشكل جلي بما هو نص حواري لا ينتهي ولا يكتمل أبدًا. ففي «الفلسفة ليس ثمة نصٌّ نهائيٌّ.»٣١ وبالتالي لا يمكن لأي تأويل أن يستنفد النص الفلسفي؛ أي أن يأتي على كل المعاني الممكنة داخله. لذلك نحن مدعوون دومًا إلى التدرب على السماع لو أردنا تأويل النصوص الفلسفية. لأن العبارة الملائمة للمعنى في النص الفلسفي إنما على حد اعتبار غادامار «تتجاوز إمكانات العقل البشري نفسه.»
غير أن ما يهم بحثنا ها هنا ليس النص الفلسفي إنما القرابة التي يحرص غادامار على بيانها بين النص الشعري والنص الديني إلى حد اعتبار «الطابع الشعري جزءًا لا يتجزأ من كل عملية تبليغ للرسالة الدينية.»٣٢ ما هي أوجه القرابة بين النص الديني والنص الشعري؟
كلاهما يتوجَّه على طريقته إلى ما يسميه غادامار «الجماعة المثالية للمؤَوِّلين» حيث تكون كل عملية تأويل هي نوع من المعاودة والاستعادة للنص ضمن فهمنا المعاصر؛ وذلك يقع داخل ما يسميه غادامار «سلسلة التأويلات المعطاة داخل تراث ما.»٣٣ وبالنسبة للخطاب الديني فإنه دومًا خطاب يتوجه إلى جماعة القديسين الذين إليهم تعود مهمة فهم وتأويل الكلام المقدَّس. وفي الحقيقة ينبِّهنا غادامار إلى خيط رهيف يفصل بين النص الشعري والنص الديني؛ فالنص الديني لا تقع استعادته وتحيينه على نحو معاصر كأي نصٍّ آخر لأنه ليس نصًّا فقط. فهو «صوت متكلم يتوجه إلى جماعته ويفرض نفسه على الوضعية الجماعية لكل مؤمن به.»٣٤ غير أن هذا الصوت ليس صوتًا شخصيًّا بأي معنى إنما هو صوت جماعي يتجلى كي يجعل الجماعة الدينية ممكنة. وذلك هو ما يهم غادامار من النص الديني: قدرته على أن يكون كونيًّا وأن يتضمن شروط الكونية الهرمنيوطيقية الكاملة.
ثمة إحراج يشتغل عليه غادامار هو التالي: أن النص الديني هو نصٌّ غير قابل للتغيير لأنه اكتسب عبر التراث قوته ونفوذه وطابعه الإلزامي. فكيف يمكنه أن يكون إذن حقلًا تأويليًّا ما دام هو نصٌّ ثابت ومغلق؟ يقف غادامار هنا على طبيعة خاصة بالنص الديني بوصفه «وعدًا».٣٥
إن اعتبار النص الديني بوصفه بحسب بنيته التأويلية نفسها، وعدًا، إنما يمثل «فرضية هرمنيوطيقية أساسية.» وذلك يقتضي أن يكون كل تأويل له قائمًا على اعتباره في طابعه التبشيري بوصفه خلاصًا أو بشارة. إن الكتاب المقدَّس، والحديث هنا هو حديث عن المسيحية أساسًا، هو بحسب غادامار «بشارة مدمجة داخل قصص ملحمي وقع في الماضي؛ أي إن هذا القصص ينبغي أن يتحول إلى معنى إسكاتولوجي بالنسبة إلى كل عضو ينتمي إلى الجماعة الدينية.»٣٦ وذلك أن كل عضو في هذه الجماعة الدينية عليه أن يعثر داخل قصص الماضي على وضعيته المستقبلية الخاصة أي على الخلاص. إن النص الديني بهذا المعنى ليس أثرًا لكاتب أو لمؤلف مثل أي نصٍّ آخر بل هو وعد وبشارة وشهادة من طرف شخص ما عايش أو تقبل رسالة الماضي كما لو كان قد عايشها بنفسه. ها هنا يبدو المؤَوِّل دومًا في وضعية غريبة: أنه مطالب دائمًا بإعادة إحياء الماضي كوعد بالمستقبل أي بالخلاص. عليه أن يستعيد رسالة الماضي بتحريره من المعاني المتحجرة وبإحياء الكلام الحي داخل أفق المعاصرة الممكن لنا.

(٤) التجربة الجمالية والتجربة الدينية

ما دامت كل الخبرات إنما تولد في اللغة تعيدنا الهرمنيوطيقا دومًا إلى أصل الكلمات مثلما وُلدت في لغة شعب ما. هنا العودة إلى اليونان منذ هيجل تبدو علامة على شرعية فلسفية لما ستقوله كل فلسفة. يعيدنا جادامار إذن في هذا المقال حول الخبرة الدينية والخبرة الجمالية إلى القرابة اللغوية الأصلية بين كلمتَي الشعر والثيولوجيا. إنه يؤهل مساحة المقدس لاستقبال أسئلة جديدة وأجوبة جديدة ضد التحجر الذي أصابها. إنه تأهيل وتنشيط وإيقاظ للمعاني الأصيلة التي تحجبها الأحكام المسبقة وسوء الفهم يعيد العلاقة بين الشعر والثيولوجيا إلى فرحة اللقاء الأول. فالهرمنيوطيقا هي فرحة أيضًا: فرحة بأننا كشفنا الحقيقة ونفضنا الغبار عن جوهرة قديمة فتجلت بذلك أمامنا آفاق مغايرة وإمكانات جديدة. لقاء تأويلي بين الشعر بما هو «صنع من خلال الكلمة» والثيولوجيا من حيث هي تعني حرفيًّا «الكلام المقدس.»٣٧ ما هي أوجه اللقاء إذن بين صناعة الكلام والكلام عن المقدس؟ الكلمة واللعب وادعاء الحقيقة: تلك هي نقاط اللقاء الأساسية بين الفني والديني مثلما وُلدت في الثقافة اليونانية القديمة حيث إن «الشعراء أنفسهم هم على وجه التحديد الذين مثلوا الوسيط الذي انتقل عبره ذلك التقليد.»٣٨ ذلك أن الشاعر نفسه هو الذي ينقل قصص الآلهة ويرسم معالم المقدس. ينشط جادامار هنا تحديدًا التقليد اليوناني ضد التقليد الحديث من أجل ايقاظ المعاني المتردمة في عمق الوعي البشري حول العلاقة الأصلية بين الفني والديني. إن الفصل بين الفن والمقدس هو فصل قائم على سوء فهم لحقيقة التجربة الفنية. إن الغرض ها هنا هو استعادة قدرة الفن على إنتاج المقدس. علينا أن نضيف في هذا السياق أن جادامار يعتبر التراجيديا اليونانية بمثابة النموذج التأويلي من أجل فهم العلاقة بين الفني والديني بما هي علاقة منغرسة في اليومي المعيش وبما هي تقول حقيقة مشتركة بين أناس ألفوا معًا الانتماء إلى عالمهم الخاص في شكل احتفال وفرحة. ذلك أن المشاهدين للتراجيديا كانوا يسلمون فعلًا بأن ما يحدث أمامهم على الركح في شكل تخييلي إنما يحدث في عالم متواصل مع عالمهم. هكذا كان الفنُّ يتحدث إليهم عن آلهتهم وعن مقدساتهم أي عن عالمهم الخاص. فالتراجيديا لم تكن تسلي شعب اليونان بل كانت تحاكي عالمهم وتحكيه في معنى أنها تجلب لهم عالمهم في شكل فني.
إن العلاقة بين الفن والمقدس هي لدى جادامار قضية هرمنيوطيقية بامتياز. وذلك لسببين: الأول أنها تتضمن فهمًا مسبقًا محددًا يُرادُ توضيحُه «لأنها قضية تتعلق بالكلام.»٣٩
وهنا يشدد جادامار على مهمة الهرمنيوطيقا بما هي فهم محايث للحياة اليومية وليست متعالية عنها. فينقلنا من التفكر الترنسندنتالي الكانطي إلى الفهم المنغرس في الحياة الاجتماعية المشتركة. إن كل ما يحدث للبشر إنما يحدث لهم في لغتهم اليومية، فيما يقولون وفيما يكتبون. غير أنه علينا أن نتقن الإنصات إلى ما هو غريب وغير مفهوم. يقول: «إن الفن الهرمنيوطيقي هو في الحقيقة فنُّ فهم شيء ما يبدو غريبًا وغير مفهوم بالنسبة لنا.»٤٠ فمهمة الهرمنيوطيقا تتمثل في «أن نعيد إيقاظ لغة الكتابة المتحجرة كيما تتحدث من جديد» و«أن نتيح للنص أن يتحدث إلينا من جديد.»٤١ الهرمنيوطيقا مهمة لا تنتهي أبدًا وهي ليست حكرًا على فئة معينة بل هي مهمة ملقاة على عاتق كل منا. نحن كائنات في العالم بقدر ما نسكن لغتنا جيدًا. إن المتحدث إلينا من جديد ليس هو الكاتب بل هو النص ذاته. فنحن ننتمي إلى عصر موت الكاتب. لم يعد ثمة غير النصوص وآفاق المعنى والحقيقة المتجددة عند كل تأويل. كل قول مسكون بادعاء حقيقة. ذاك هو القاسم المشترك بين الفن والدين. تلك أطروحة يعلن عنها جادامار ضد التصور الاستطيقي الحديث القائم على نزاهة الفن واستقلاليته عن كل حقول التجربة البشرية الأخرى الدينية والاجتماعية.
إن عودة جادامار إلى التراجيديا اليونانية باعتبارها تجربة نموذجية من أجل تصحيح العلاقة بين الفني والديني تمر بالضرورة عبر منزلة الشعر في بيان الحقيقة. وهو ما نعثر عليه في نص له بعنوان «عن مساهمة الشعر في البحث عن الحقيقة.» ذلك أن الشاعر هو الذي منح الشعب اليوناني القديم آلهته. يقول جادامار: «فها هو هيرودوت يخبرنا بأن هوميروس وهزيود قد منحا اليونان آلهتهم: فحتى الأديب الذي وقف على عتبة عصر التنوير اليوناني، كان لا يزال من البديهي بالنسبة له القول بأن الشعر القديم قد جسد حقيقة المعرفة الدينية.»٤٢ لكن يبدو أن هذه العلاقة لم تعد بديهية بين الشعر والمقدس وذلك «لأننا لم نعد نبدي نفس الاستعداد التلقائي في تعلم ذلك الذي كان يُعد طابعًا مميزًا للأزمنة الأقدم عهدًا.»٤٣ تحت راية الحداثة وقع إذن الفصل بين الديني والشعري وبين الفني والمقدس حيث «صار الفنُّ — وفق العبارة الشهيرة لهيجل — شأنًا من شئون الماضي.»٤٤
لكن جادامار لا يسلم بهذا الحدث الفلسفي الخطير على مصير الفن إنما يتدخل من أجل إنتاج وضعية تأويلية مناسبة لاستعادة منزلة الفن على قول الحقيقة؛ أي على استعادة مرحة للمقدس بيننا في أفق ألفة بالعالم واقتراب منه كما يحدث لنا. يعيد جادامار إلى اللغة الشعرية ماهيتها الأنطولوجية. يقول: «إنه ليبدو لي أمرًا لا جدال فيه أن اللغة الشعرية تتمتع بصلة خاصة فريدة بالحقيقة» بل هو يوقظ المعنى الأرسطي القائل: «إن الشعر هو لغة أسمى من التاريخ.» فيمَ تتمثل مساهمة الشعر إذن في قول الحقيقة ومن ثمة في مشاركة الدين تقريبنا من العالم؟
إن أشد ما يقلق جادامار هو عدم قدرة العصر المسيحي الغربي منذ قرون عديدة على إنتاج دراما حقيقية وذلك لأن الغرب قد أساء فهم علاقتنا بالعالم. إن اختزال علاقة الإنسان بالعالم في ثنائية الذات والموضوع الذي أدى إلى نزع القداسة عن العالم هو الذي جعل في اغتراب مع أنفسنا ومع الغير الذي هو يقوم مقام أنفسنا. يقول جادامار: «ألف وخمسمائة عام من التاريخ المسيحي لم تنتج دراما حقيقية …»٤٥
إن تصحيح علاقتنا مع العالم واستعادة الألفة معه يقتضي إذن استعادة المعنى الأصلي للحقيقة. والمقصود أليثيا بالعبارة اليونانية أي الانفتاح. وذلك ضد التقليد الحديث الذي يذهب إلى الحقيقة في معنى التطابق مع الواقع. يقول جادامار: «والتعبير أليثيا على نحو ما كان يُستخدم في اللغة الحية لدى اليونان، يمكن ترجمته على نحو أفضل باعتباره انفتاحًا … فأن يصبح المرء منفتحًا هو أمر يعني أن يقول المرء ما يعنيه» …٤٦ … لكن ما معنى أن يقول شخص ما شيئًا يعنيه؟ إن ذلك يعني في عبارات جادامار: «إن أي شيء يُظهر ذاته من حيث طبيعته التي يكون عليها، انما يكون بذلك شيئًا حقيقيًّا.»٤٧ من أجل ذلك يميز جادامار بين ثلاثة أشكال من قول الحقيقة؛ أي من تقريب مربط الأشياء منا، هي الشعر والدين والقانون. يقول: «هذا البقاء وذاك القرب يجد دومًا له في لغة الأدب وعلى أتمِّ نحو في القصيدة. وليس هذا بنظرية رومنتيكية، ولكنه وصف أمين لكون أن اللغة تمنحنا اقترابًا من عالم تنشأ فيه أشكال خاصة معينة من الخبرة الإنسانية: البشرى الدينية التي تعلن الخلاص (أي العهد)، والحكم القانوني الذي ينبئنا بما هو صواب وما هو خطأ في مجتمعنا، والكلمة الشعرية التي من خلال وجودها هناك تكون شاهدة على وجودنا.»٤٨

الفن والدين والقانون ثلاثة أشكال من الألفة مع العالم. هذه الأشكال الثلاثة تشترك في كونها تقول الحقيقة بما هي معنى وإظهار وانفتاح على العالم. لكن ما شكل الحقيقة الخاص بكل من هذه الأشكال؟ يميز جادامار بين ثلاثة أنواع من النصوص: النص الشعري الذي يسميه «البيان» والنص الديني واسمه «العهد» والنص القانوني واسمه «الإعلان.» فما الفرق بين البيان والعهد والإعلان بما هي أشكال من قول الحقيقة أي من القرب من العالم؟

أما عن البيان أي شكل الحقيقة التي يقولها الشعر فيعرفها جادامار قائلًا: «إنه قول يقول بشكل كامل تمامًا ذلك الكلام الذي لا نحتاج أن نضيف إليه أي شيء وراء ما يُقال كي نقبله من حيث تحققه كلغة.»٤٩ إن الشعر هو الشكل المكتمل لتحقق اللغة وهو شكل من التحقق الذاتي المستقل الذي لا يحتاج إلى أي واقع كي يشهد على حقيقته. إنه شكل من الحقيقة التي تشهد على تحققها بذاتها. فهو ليس تطابقًا للواقع ولا تقليدًا … ولا نسخة محكية عنه. فالشعر حسب جادامار هو قول سيكون من باب الخطأ الفاحش أن نبحث له عن تحقق آخر علاوة على أنه قد قيل. إنه حقيقي لأنه قيل فقط ولا شيء خارج ذلك. ذلك أن «اللغة تكون شعرية بمعنى أنها لا يتم تحققها بواسطة أي شيء وراء ذاتها؛ أي لا يتم تحققها بواسطة أي تأييد قد نبحث عنه عن طريق التحقق من الوقائع أو من خلال خبرة إضافية.»٥٠ إن الشعر لغة تحقق ذاتها وتشهد على حقيقتها بوصفها لا تحيل إلى أي شيء آخر خارج ما تقوله. لذلك فقط تعتبر اللغة الشعرية بيانًا في معنى إظهار وهو ما يمثل لدى جادامار «الإنجاز العظيم لكل كلام.» بهذه النظرية الهرمنيوطيقية للشعر بوصفه بيانًا أي إظهارًا لحقيقة ما يقال في اللغة، يدحض جادامار كل الصور الحديثة عن الشعر بما هو انفعال زائد عن الحياة اليومية. الشعر ليس زائدًا على عالمنا بل هو عالمنا وقد تحقق فيما نقوله عن أنفسنا. يقول جادامار: «ولهذا السبب، فإنه يبدو لي أن أية نظرية جمالية تفسر الكلمة الشعرية ببساطة على أنها مركب من لحظات انفعالية ودلالية زائدة على لغة الحياة اليومية، إنما هي نظرية مضللة تمامًا.»٥١ فالكلمة الشعرية لا تقول الحقيقة بالنظر إلى واقع خارجها بل هي تقول الحقيقة لأنها تملك «القدرة على التحقق.» ها هنا تكون الكلمة الشعرية حقيقية «لأنها تكشف عن معنى ما أي تظهره فتجعلنا على قرب منه …» وهنا نقف على أمر هام هو أن «الشيء الحاسم هو أن الكلمة تستدعي ما يكون هناك؛ لكي يكون قريبًا على نحو عياني.»٥٢ إن الشعر يبدع «القرب». لكن ما هو القرب الذي يبدعه الشعر أو يمسك به ويتمسك بإبقائه؟ إن الأمر يتعلق دومًا بقرب نتمسك بإبقائه لأنه «يهدد بالفرار من قبضتنا.» هنا نقف على فكرة هرمنيوطيقية أساسية هي فكرة التناهي: نحن كائنات متناهية في الزمان وكل الأشياء تهدد بالانفلات من قبضتنا. من يشفينا من تناهينا؟ إنه اللغة القادرة على قول الحقيقة. ويمثل البيان أي الشعر أحد الأشكال النموذجية لانتصارنا على الزمان ذلك «لأن الكلمة الشعرية توقف تمامًا زوال الزمان.»
ليس الشعر هو اللغة الوحيدة للانتصار على تناهينا بما نحن كائنات من أجل الموت، بل يمثل الدين إلى جانب الشعر شكلًا نموذجيًّا للقبض على ما يهدد دومًا بالفرار والتلاشي. الدين هنا يملك اسمًا هرمنيوطيقيًّا خاصًّا. إن لغته هي لغة العهد. فما هو المقصود تحديدًا بذلك؟ يعيدنا جادامار إلى قولة المصلح الديني لوثر؛ أي إن الدين لغة «تبقى مكتوبة»؛ أي تبقى عهدًا يتعهَّد بوعد ما. يقول جادامار عن هذا النوع من النصِّ «وهذا هو المعنى الذي تكون به نصوص الدين الموحى به شكلًا من أشكال العهد، حيث إنها لا تكتسب طابع الخطاب إلا بقدر ما تكون موضع تسليم من جانب الشخص المؤمن بها.»٥٣

أما عن الإعلان بما هو الشكل الثالث من أشكال الألفة مع العالم فيخص النص القانوني ذاك النص الذي يميز المجتمعات الحديثة. ذلك أن النصَّ القانوني لا شرعية له قبل الإعلان عنه.

وجملة القول إن الشعر والدين والقانون هي أشكال من إبقاء الأشياء بقربنا بإظهارها في حالة الشعر أو بالتعهد بها في حالة الدين أو بالإعلان عنها ونشرها في حالة القانون. ذاك هو معنى الشعور بالألفة في العالم، مصطلح يستلفه جادامار من هيجل، وكل ذلك إنما يحصل في اللغة وفي اللغة الأم تحديدًا. ويقف جادامار عند معنى هذه الألفة: «فما هي تلك الألفة التي تساندنا باعتبارنا موجودات تمارس فعل التحدث؟ من الواضح أنه ليست فحسب كلمات وعبارات لغتنا هي التي تصبح باستمرار أكثر ألفة بالنسبة لنا، وإنما ما يُقال في هذه الكلمات. فعندما تنضج معرفتنا باللغة، يصبح العالم قريبًا منا ويكتسب استقرارًا معينًا. فاللغة تؤسس دومًا التلفظات الواضحة الأساسية التي توجه فهمنا للعالم. وإنه لمن طبيعة الألفة بالعالم أننا عندما نتبادل الكلمات مع بعضنا بعضًا، فإننا بذلك نشارك في العالم.»٥٤  فالشعر يشهد على وجودنا والقانون يعلن عمَّا هو خاطئ وعمَّا هو صحيح في سلوكنا المدني، والدين يتعهد بخلاصنا ويمنحنا البشرى. تلك أشكال من استعادة علاقتنا الأليفة بعالمنا الذي نقوله في أفق لغة مشتركة لا شيء يوجد خارجها غير أوهامنا.

خاتمة

لقد حاولنا من خلال هذا العمل أن نعرض ملامح العلاقة الممكنة بين الفن والدين من خلال مؤلفات الفيلسوف الألماني المعاصر هانس جورج غادامار. وإن أهم ما نخرج به من التأويل الطريف الذي عثرنا عليه في نصوص غادامار هو المكاسب التالية:

  • (١)

    ليس ثمة من توتر بين الفني والديني إلا داخل منظور أحادي لا يزال يعتقد في إمكانية موضعة التجارب الإنسانية وتحويلها إلى أشياء يمكن إخضاعها إلى منهج محدد سلفًا. إن التجربة البشرية في كل أبعادها هي تجربة لغوية في جوهرها وهي بالتالي حقل هرمنيوطيقي مفتوح على معانٍ غير قابلة للاستنفاد أبدًا. وهذا يعني أنه خارج نموذج الحقيقة العلمية ثمة نموذج مغاير لحقيقة تأويلية هي الحقيقة في العلوم الإنسانية.

  • (٢)

    استعادة العلاقة الأصيلة بين الفني والديني مثلما وُلدت في لغة اليونان حيث كان الشاعر هو الوسيط بين لغة الآلهة ولغة البشر وذلك كما كتبته تراجيديا هوميروس.

  • (٣)

    اعتبار النصِّ الديني وعدًا يجعل منه نصًّا مفتوحًا على التأويل ما دامت كل الهرمنيوطيقا إنما هي في جوهرها وعد بمعانٍ جديدة يحررها المؤَوِّلون من نصوص تحجَّرت وتراكمت عليها حجب التقليد والأحكام المسبقة.

  • (٤)

    هذا الأفق الطريف للمصالحة بيننا وبين ماضينا باعتبارنا ظواهر تأويلية يمكنه أن يساعدنا في فهم علاقتنا بنصوصنا وبتراثنا وتحرير هذا التراث من كل أشكال التوتر التي أقمناها بيننا وبينه لاعتقادنا في كونه تراثًا مغلقًا على ثوابته.

١  انظر: هانس جورج جادامار، تجلي الجميل، تحرير روبرت برناسكوني، ترجمة ودراسة وشرح د. سعيد توفيق، مصر، المجلس الأعلى للثقافة، ١٩٩٧م، ص ص٢٨٣–٣٠٣.
٢  نفسه، ص٢٨٣.
٣  H. G. Gadamer, L’art de comprendre. Ecrits 2. Herméneutique et champs de léxpérience humaine, Paris, Aubier, 1991. p. 11.
٤  Ibid., p. 142.
٥  Ibid., p. 143.
٦  Ibid.
٧  Ibid., p. 59.
٨  Ibid., p. 61.
٩  H.-G. Gadamer, Vérité et méthode, Paris, Seuil, 1996, p. 13.
١٠  Ibid., p. 1.
١١  H. G. Gadamer, L’art de comprendre, op. cit., p. 41.
١٢  Ibid., p. 44.
١٣  Ibid., p. 49.
١٤  H. G. Gadamer, L’Art de comprendre, op. cit., p. 51.
١٥  Ibid., p. 55.
١٦  Ibid.
١٧  Ibid.
١٨  Ibid., p. 119.
١٩  جادامار، تجلي الجميل، مصدر مذكور، ص٢٥٥.
٢٠  H. G. Gadamer, L’art de comprendre, op. cit., p. 19.
٢١  تجلي الجميل، مصدر مذكور سابقًا، ص٢٦٢.
٢٢  انظر فتحي المسكيني، التفكير بعد هيدغر أو كيف الخروج من العصر التأويلي للعقل، بيروت، جداول ٢٠١١م.
٢٣  هانس جورج غادمير، الحقيقة والمنهج، الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية، ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح، بيروت: دار أويا، ٢٠٠٧م، الفصل ٢.
٢٤  Gadamer, l’Art de comprendre, op. cit., p. 243.
حول اهتمام هيدغر بعلم اللاهوت بوصفه قد أجرى على فهم مصيره تحويرًا تأويليًّا جذريًّا يقر غادامار أن كتاب الكينونة والزمان نفسه إنما هو في أصله محاضرة ألقاها هيدغر سنة ١٩٢٤م أمام رجال الدين في مدينة ماربورغ، نفس النص المذكور، ص٢٤٤.
٢٥  Ibid., p. 250.
٢٦  Ibid., p. 251.
٢٧  Ibid., p. 253.
٢٨  Ibid., p. 257.
٢٩  Ibid., p. 260.
٣٠  Ibid., p. 261.
٣١  Ibid.
٣٢  Ibid., p. 262.
٣٣  Ibid., p. 263.
٣٤  Ibid.
٣٥  Ibid., p. 266.
٣٦  Ibid.
٣٧  هانز جورج جادامار، تجلي الجميل، «مصدر مذكور»، ص٢٨٣.
٣٨  نفسه.
٣٩  نفسه، ص٢٨٤.
٤٠  نفسه، ص٢٨٥.
٤١  نفسه.
٤٢  جادامار، تجلي الجميل، مصدر مذكور، ص٢٢٣.
٤٣  نفسه.
٤٤  Hegel, Est ….
٤٥  جادامار، تجلي الجميل، نفسه، ص٢٢٧.
٤٦  نفسه، ص٢٢٧.
٤٧  نفسه، ص٢٢٨.
٤٨  نفسه، ص٢٣٩.
٤٩  نفسه، ص٢٣١.
٥٠  نفسه، ص٢٣٣.
٥١  نفسه، ص ص٢٣٣-٢٣٤.
٥٢  نفسه، ص٢٣٧.
٥٣  نفسه، ص٢٣٠.
٥٤  نفسه، ص٢٣٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤