الفصل التاسع

نلسون غودمان وصناعة العوالم

«كل شيء هو في أفضل الأحوال في أفضل العوالم الممكنة.»

ليبنتز

«إن العالم هو ما تصفه كل الصياغات الصحيحة.»

نيلسن غودمان

«لقد فقد العالم قدرته على أن يصنع عالمًا.»

جون لوك نانسي

«ما هو لغز في العالم، ليس كيف هو بل أنه هو كائن.»

فيتغنشتاين

تقديم

نحن والعالم: علاقة مشحونة بالرموز والمعاني والمعارك التاريخية؛ بالأديان والآلهة بالملوك والرعايا، بالمؤامرات والضحايا، بالحب بالفن، بالخوف وبالدماء أيضًا. إننا كائنات تنتمي إلى هذا العالم فقط، ولا عالم وراءه أو بعده أو فوقه، مسلَّمة صارت منذ قرنين من الزمن لا تحتاج بالنسبة إلى الإنسانية التي انخرطت في المشروع الحديث، إلى أية فلسفة كي تبرهن على صدقها. ورغم ذلك فإن هذه المسلَّمة تخفي في طياتها أكثر من نقاش فلسفي. فنحن لم نصبح أبناء هذا العالم فقط إلا منذ كانط. وهذا العالم لم يصبح تاريخًا ذا قوانين دقيقة وتناقضات تحركه ومسار يحدده إلا مع هيجل. والعالم لم يصبح حقلًا للتغيير الثوري إلا مع ماركس. لكن كلَّ ذاك العالم الحالم قد انهار فجأة منذ حربيه العالميتين وصار فجأة موضوعة إيكولوجية مهددة بالانقراض (مع جوناس) وانهار المعنى فيه (كما شخصه كل النقاد الجذريين للحداثة من نيتشه إلى أدرنو)، وصرنا نتحدث عن نهاية العالم: بنهاية التاريخ والإنسان والله واليوطوبيا والكاتب والذات … (فلاسفة الاختلاف: ليوتار، دريدا وفوكو، دولوز).

من العالم كأفضل العوالم الممكنة (ليبنتز)، إلى العالم كوهم جدلي (كانط)، إلى العالم كإرادة وتمثل (شوبنهاور) … ومن رؤى العالم (هيدجر) إلى الألفة مع العالم (هيجل-غادامار) إلى كيفيات لصناعة العوالم (غودمان) إلى اللاعالم (جون لوك نانسي) … كلها فلسفات للتفكير بالعالم والمساعدة على العيش فيه على نحو مشترك …

لكن وبالرغم من كل ما حدث من زلازل لفكرة العالم فإننا ما زلنا نسكن عوالمنا أو نتحملها أو ندمرها أو نصنعها بكيفيات مختلفة وعلى معانٍ عدة.

نعم ثمة عالم كلما صنعناه بشكل ما: حينما نقول أو حينما نشير. حينما نعبر أو حينما نمثل. حينما نكتب أو حينما نرسم. ثمة دومًا عالم بصدد الصنع بين أيادينا. ليس ثمة عوالم تسبقنا أو توجد بشكل جاهز سلفًا عن رموزنا وحروفنا، عن استعاراتنا وإدراكاتنا، عن رقصاتنا وعن أغانينا … كلما غنينا صنعنا عالمًا وكلما حكينا صنعنا عالمًا آخر. ليس ثمة عالم واحد كي ينتهي وينتهي بنهايته العالم بشكل إسكاتولوجي رباني أو بشكل عدمي كلبي. نحن من نصنع العوالم. لكننا لا نصنع أفضلها. ولا نصنع ما هو ممكن من صنعها. لقد انخرطت الإنسانية منذ شيغفارا في صنع ما هو مستحيل من العوالم. ذلك يعني أن كُلَّ ما ننجزه في حقل الرموز هو عوالم واقعية لا تستبدل العالم بل تصنعه دومًا بكيفية مغايرة. هكذا تكلم نلسن غودمان الفيلسوف والاستطيقي الأمريكي أحد أقطاب الفلسفة التحليلية وأحد كبار المجددين في مجال فلسفة الفن المعاصرة. وهو في ذلك إنما يحرر فكرة العالم من كل تصور إسكاتولوجي أو طوباوي لها ومن كل رؤية دغمائية أو محافظة تعتقد في عالم وحيد وفي شكل واحد من سكنى العالم.

نيلسن غودمان (١٩٠٦–١٩٩٨م) هو فيلسوف وعالم منطق وبائع آثار فنية أمريكي، هو تلميذ لأحد مؤسسي الفلسفة التحليلية رودولف كارناب، وهو صديق لكواين وأستاذ لنعوم شومسكي. عُرف بنظريته حول الاستقراء وله في ذلك برهان معروف «بمفارقة الاستقراء.» عُرف غودمان أيضًا بأنه أحد أقطاب الاستطيقا التحليلية إلى جانب دانتو خاصة. ويُعتبر كتابه المعنون «لغات الفن» بمثابة نظريته في الجماليات أي في الأنساق الرمزية. وقد تأثر في ذلك بإرنست كاسيرر صاحب فلسفة الأشكال الرمزية بوصفها مفتاحًا لفهم كل علوم الروح أي كل التجربة الإنسانية.

والفلسفة التحليلية التي إليها ينتمي غودمان هي حركة فلسفية تأسست على المنطق الجديد المعاصر التي قامت على أعمال غوتليب فراغو وبرتراند رسل في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وهي حركة فلسفية تعتمد على تحليل منطقي للغة من أجل الكشف عن الأخطاء أو المغالطات الخفية في أشكال التعقل والبرهنة. ومن أهم أقطابها بعد فراغو ورسل، كارناب وفيتغنشتاين. وقد اتسعت هذه الفلسفة فيما بعد كي تشمل حقل الفعل البشري ونظرية اللعب (فيتغنشتاين) والفلسفة السياسية (جون رولس) والجماليات (أرتور دانتو ونيلسن غودمان).

لقد كتب غودمان معرفًا بمشروعه الفلسفي قائلًا: «إن الهدف الأساسي لمشروعي هو بيان أن الخطاب، حتى حينما يعالج ماهيات ممكنة، لا يحتاج البتة إلى اختراق حدود العالم الواقعي. إن ما نخلط بينه وبين العالم الواقعي ليس سوى وصف جزئيٍّ له. وإن ما نأخذه على أنه عوالم ممكنة ليس سوى أوصاف حقيقية تمامًا، منطوقة في عبارات أخرى. إننا نفكر بالعالم الواقعي كما لو كان أحد العوالم الممكنة. علينا أن نقلب تصورنا للعالم؛ لأن كل العوالم الممكنة هي جزء من العالم الواقعي.»١

لا شيء ممكن فقط. ولا شيء مستحيل أبدًا. بين الواقع والخيال ثمة سبل عديدة للرواح والمجيء. كل شيء يحدث إنما يحدث في الواقع. حتى تخييلاتنا الأكثر خيالية إنما نصنعها كي تصير كتلة من عالم واقعي. كيف نصنع هذه العوالم؟ أليس الواقع موجودًا سلفًا قبل صُنعنا له بما هو أمر واقع؟ وفي أي معنى توجد عوالم متعددة؟ وما العلاقة بين عوالم التخييل وعالم الواقع؟ هذه أهم الإشكالات التي يسعى هذا المقال أن يشتغل عليها وفق أربع لحظات: ننطلق فيها بداية برصد أهم أطروحات كتاب غودمان «كيفيات في صناعة العوالم» كي نقف ثانيًا عند مقاييس نجاح كيفيات صنعنا لعالم ما كي نمرَّ ثالثًا إلى تحديد منزلة الفن داخل فلسفة العوالم الواقعية، من أجل الانتهاء في عنصر نقدي أخير إلى اختبار أطروحات غودمان من وجهة نظر معاصريه.

(١) في كيفيات صناعة العوالم

هو عنوان كتاب غودمان نُشر سنة ١٩٧٨م وتُرجم إلى الفرنسية سنة ١٩٩٢م. هذا الكتاب ضمَّنه غودمان أهم أطروحاته الفلسفية والجمالية. وقد أراده كتابًا ينتمي إلى تيار كامل في الفلسفة الحديثة «انطلق مع كانط حينما استبدل بنية العالم ببنية الفكر، واستأنفها كارل لوفيس حينما استبدل بنية الفكر ببنية المفاهيم، ويستمر إلى الآن مع استبدال بنية المفاهيم ببنية مختلف الأنساق الرمزية في العلوم وفي الفلسفة وفي الفنون وفي الإدراك واللغة اليومية.» وهي «حركة تنطلق من حقيقة واحدة وعالم جاهز وموجود إلى مختلف الصياغات الصحيحة التي تكون أحيانًا في صراع، أو إلى مختلف العوالم بصدد البناء.»٢
هكذا يؤرخ غودمان لمشروعه عن مفهوم العالم: إنه يختار الانتماء إلى الخط الذي دشنه كانط باكتشافه أن العالم هو جملة المفاهيم التي تبنيها الذات عنه ولا وجود لأي عالم في ذاته بمعزل عن التصورات التي نبنيها عنه. وهو تصور سيقع استئنافه خاصة مع إرنست كاسيرر الذي استبدل مفاهيم كانط بالأشكال الرمزية التي لا يسبقها أي عالم ولا يفلت منها أي شكل من العالم. أما غودمان فسيجذر هذا التصور ويجري عليه نقلة نوعية فيحولنا من العالم الواحد إلى صياغات وأوصاف ورسومات متعددة وعوالم هي دومًا بصدد الصنع في كل ما نقول وفي كل ما لا نقول. في المعاني الحرفية وفي المعاني المجازية. ها هنا نجد أنفسنا وجهًا لوجه مع نزعة جديدة تتلاءم مع إعادة تنضيد للفلسفة نفسها بإعادة تصورها من جديد. هذه النزعة الفلسفية يسميها غودمان «النسبية الجذرية التي قد تؤدي إلى شيء شبيه باللاواقعية.»٣

في أي معنى نفهم هذه النسبية الجذرية التي توشك أن تصير «لاواقعية»؟ كيف نفهم أن ليس ثمة عالم واحد بل عوالم عديدة؟

ينطلق غودمان من أطروحة لكاسيرر مفادها أن «عوالم لا عدَّ لها صُنعت انطلاقًا من لا شيء باستعمال الرموز.»٤ ومن أجل فهم مدى استفادة غودمان من كاسيرر نتوقف قليلًا عند فيلسوف نظرية الوظيفة الرمزية. إذ يُعتبر الفيلسوف الألماني إرنست كاسيرر (١٨٧٤–١٩٤٥م) هو من اكتشف بعد همبولدت وظيفة جديدة للغة. بحيث لم تعد اللغة معه وسيلة في خدمة التفكير بل صارت هي ما به يكون إنتاج المعنى ممكنًا. وقد استفاد كاسيرر من ليبنتز فكرة الشكل الرمزي للغة ومن كانط البعد الترنسندنتالي للوعي بما هو شرط إمكان المعرفة؛ وذلك من أجل أطروحة جامعة: أن الأشكال الرمزية تعين دلالة نشاط أصلي لا يمكن أن يصدر إلَّا عن فكر إنساني. وأن الواقع بالتالي لا يوجد بشكل جاهز سابق عن الأشكال الرمزية. وهذه الأشكال الرمزية هي العلم والدين والفن والأسطورة وكلُّ حقل الثقافة الإنسانية. غير أن هذه الأشكال الرمزية ليست انعكاسًا لواقع موجود على نحو مستقلٍّ عنها. بل إن الواقع نفسه لا يمكن أن يصير معقولًا إلا في شكل رمزي. وتساهم هذه الأشكال الرمزية لدى كاسيرر في بناء عالم مشترك.٥
في كتابه «رسالة في الإنسان» (بتاريخ ١٩٤٤م) يعتبر كاسيرر الإنسان «حيوانًا رامزًا» لكونه يتميز عن الحيوان بكونه يمتلك القدرة على إنتاج عوالم رمزية عبر اللغة والأسطورة والفن والدين وكلها تفتح أمام علوم الروح دربًا جديدًا. مع العلم أن كاسيرر لا يقصد من «كلمة رمز المعنى الضيق لانفتاح علامة ما على ما هو عجيب أو مقدس وإنما يتعلق الأمر، وبكل بساطة، بالمعنى الواسع لتشكيل الإنسان للفوضى الصمَّاء وغير المتميزة للانفعالات الحسِّية، وذلك عبر عملية موضعة بطيئة، حيث يتكون الأنا والعالم بشكل متبادل، مانحة بذلك تحرر الإنسان إزاء القوانين الطبيعية.»٦
يعترف إذن غودمان بأنه قد استلهم أهم مفاهيمه من كاسيرر؛ أي: «تعدد العوالم وخداع المظاهر المعطاة والقدرة الخلاقة على الفهم وتعدد الرموز …»٧ لكن همَّ غودمان ليس الدفاع عن أطروحات كاسيرر بل هو محاولة سبر أغوار الأسئلة التالية: «في أي معنى تحديدًا ثمة الكثير من العوالم؟ ما الذي يميز عوالم أصيلة عن عوالم مصطنعة؟ ممَّ تُصنع العوالم؟» …٨
ويصرح غودمان عن اختلاف مشروعه عن مشروع كاسير قائلًا: «إن كاسيرر قد أنجز بحثه بالاشتغال على الكيفية التي تنمو وفقها الأسطورة والدين واللغة والفن والعلم في تقاطع الثقافات المختلفة. أما مقاربتي فتتمثل بالأحرى في دراسة تحليلية حول أنماط ووظائف الرموز والأنساق الرمزية، ولا ينبغي في أية حالة أن ننتظر نتيجة واحدة، فأكوان العوالم وكذلك العوالم نفسها، يمكن أن تُبنى بكيفيات مختلفة.»٩

إن العالم ليس مخلوقًا وليس واحدًا ولا يعاني من الوحدة بأي شكل. مضى الزمان الذي نسكن فيه عالمًا-آية على حكمة الآلهة، وجاء زمان يصنع فيه البشر عوالم متعددة بطرائق متعددة. نحن نشكو من كثرة العوالم لا من انهيار العالم أو نهايته.

إن عوالم غودمان كثيرة لكنها ليست ممكنة فحسب بل هي عوالم واقعية تمامًا. بحيث لا يتعلق الأمر لديه بعوالم تستبدل العالم الواقعي على جهة الحلم أو التعويض، بل بتعدُّد العوالم الواقعية. ما المقصود إذن بتعدد العوالم الواقعية؟ وكيف الجمع في حياة واحدة بين عوالم متعدِّدة؟ من أجل معالجة هذه القضية يتوقف بنا غودمان عند عبارات «واقعي» و«لا واقعي» و«تخييلي» و«ممكن.» ينطلق من قضيتين متناقضتين:

  • «إن الشمس في حالة حركة دائمة.»

  • «إن الشمس لا تتحرك أبدًا.»

والسؤال الذي يؤرقه في هذه الحالة هو التالي: هل نقول إن القضيتين صحيحتان في عالمين مختلفين؟ وإن ثمة من العوالم إذن بقدر ما ثمة من الحقائق المتناقضة؟ أم نقول إننا أمام سلسلتين من الكلمات تملك كل منهما قيمة الحقيقة الخاصة بها، وإنهما بالتالي قضيتان صحيحتان في عالم واحد لكن بالنظر إلى إطارين مرجعيين مختلفين؟ كل المسألة إذن تبدو متعلقة بالإحالة المرجعية الخاصة بكل سلسلة من الكلمات. ليس ثمة قول أو رمز خارج إطار مرجعي يحيله على نسق خاصٍّ في وصف الواقع. وذلك يعني تحديدًا أننا نحن دومًا إزاء طرائق في الوصف ونحن دومًا مرتبطون بطرائق كهذه، ولا يمكن لأي عالم أن يوجد خارج طرائقنا في وصفنا له. بل إن في الأمر نسبية جذرية وريبية إمبيرية واقعية إلى حد كبير: ما يقصده غودمان هو التالي: «إن عالمنا، في الحقيقة، إنما يتمثل في هذه الكيفيات (في وصف العالم) أكثر من كونه يتمثل في عالم أو في عوالم.»١٠ لكن فيمَ تكمن هذه الكيفيات في وصف العوالم؟ إن الأمر يتعلق بتنوع وتعدد الصياغات والرؤى التي تمنحها لنا علومنا المتعددة وأعمال الرسامين والروائيين وكل حدوساتنا وإدراكاتنا وتجاربنا الرمزية على وجه العموم. إننا نصنع عوالم متعدِّدة وفق كيفيات رمزية تشمل العلوم والفنون على وجه الدقة. فكل الأشكال الرمزية تملك إطارًا مرجعيًّا وتُعتبر صياغة لعالم ما. بل أكثر من ذلك فحتى الصياغات التي نلفظها أو نضعها جانبًا باعتبارها صياغات وهمية أو خاطئة أو زائفة إنما تبقى فيها أبعاد مغايرة وأشكال من التنافر التي تنتمي إلى عالم ما. يقول غودمان: «يمكننا اعتبار كل الأوصاف الصحيحة للعالم، رسوماته وإدراكاته والطرائق التي وفقها يكون ثمة عالم أو صياغاته فحسب، كما لو كانت عوالمنا»١١
كيفيات في صناعة عوالم تعني تحديدًا كل الصياغات الصحيحة التي تصنعها الأنساق الرمزية فتصنع بذلك عوالم متعددة. وفي الحقيقة يميز غودمان بين نوعين من الصياغة١٢ أي بين نوعين من كيفيات صناعة العوالم: الصياغة الحرفية أي اللفظية المتعلِّقة بتعيين الدلالة، وهو ما نجده في كل ما تنتج العلوم، والصياغة التمثيلية وهو ما يتجلى في الصور والوسائل التشكيلية وفي كل ما هو غير لفظي. والسؤال الذي يشغل غودمان حينئذٍ هو التالي: كيف نميز بين صياغة صحيحة وصياغة غير صحيحة للعالم؟ وهو إحراج مقلق ما دمنا «لا يمكننا أن نختبر صياغة ما بمقارنتها بعالم لم يقع وصفه أو رسمه أو إدراكه.»١٣ إن العالم لدى غودمان هو ما تصفه لنا كل الصياغات الصحيحة التي صمَّمناها حوله. ورغم ذلك ليست ثمة صياغة خاطئة تمامًا في معنى أنها لا تصنع عالمًا. ذلك أن العالم المحروم من هذه الصياغات الصحيحة لا يحتاج إلى أن يقع نفيه أو الإلقاء به عرض العدم، سيبقى عالمًا دومًا بالنسبة إلى كل محبيه. وفي أفسد حال من أحواله، سيبقى هذا العالم «عالمًا ضائعًا بشكل جيد.»١٤

ليس ثمة عوالم في ذاتها. ثمة فقط صياغات مختلفة للعالم لا تقتضي بأي شكل أن تُختزل في أساس واحد. إن من يؤمن بالتعددية بالنسبة إلى غودمان ليس خصمًا للعلم بل هو فقط خصم لكل «من هو مادي أو فيزيائي يؤمن بعالم واحد.» ما ينادي به غودمان في إطار نزعة تعددية نسبية وإمبيرية هو ضرورة القبول بصياغات مختلفة للعالم. ذلك لا يعني أننا حينما نقبل بصياغات للعالم مغايرة لصياغة العلم الفيزيائي، إنما نسقط بذلك في فهم منقوص من جهة الصِّدق والصرامة. المطلوب هو إذن فقط أن نقبل بمقاييس مختلفة أِقل اقتضاءً ممَّا عليه العلوم وذلك من أجل الانفتاح على كيفيات أخرى من صناعة العالم نجدها ضمن الصياغات التشكيلية والأدبية والتمثيلية عمومًا.

كيف يمكننا أن نصنع عوالم متعددة؟ وهل ثمة عوالم تُصنع من لا شيء؟ إجابة غودمان أن ليس ثمة عوالم تُصنع من لا شيء كما أسطورة الخلق من عدم. بل ليس ثمة عدم في أي مكان. إننا نصنع دومًا عالمًا ما انطلاقًا من عوالم أخرى هي بحوزتنا. ف فأن نصنع معناه دومًا أن نعيد الصنع. لقد تحرر العقل البشري منذ زمن من الأمل الزائف في تأسيس مطلق لعالم واحد، وبذلك تبخرت فكرة العالم نفسه بما هي فكرة ميتافيزيقية تحتاج إلى ضامن أنطولوجي من أجل أن يقع استبدالها بعوالم لا تعدو أن تكون صياغات أي أوصافًا ورسومات وكلمات ومجازات. إن عوالمنا هي عوالم استعارات. لذلك «يمكن أن يكون لدينا كلمات دون أن يكون لدينا عالم، لكن ليس ثمة عالم دون كلمات أو رموز أخرى.»١٥

إن الحديث عن كيفيات صناعة العوالم لا يعني أننا بصدد إنجاز دين جديد «يعلم الآلهة أو البشر» كيفية صناعة العالم، بل إن غودمان يكتفي فقط في إطار نزعته النسبية والريبية الجذرية باقتراح جملة من الإجراءات التي وفقها نصمِّم عوالم مغايرة عبر الكلمات والرموز والمعادلات والحقائق وكل التوصيفات والرسومات والصور التشكيلية والتمثيلية والتجريدية معًا. ومن كيفيات صناعة العوالم يحدد غودمان الطرائق التالية:

  • أولًا: التركيب والتفكيك١٦ وهي عملية تقع انطلاقًا من الأسماء والمحمولات والحركات والصور كأن تقع تسمية جملة من الأحداث تحت راية اسم واحد (موضوع أو شخص …) أو عبر تبديلات استعارية. بحيث إن عوالمنا هي دومًا ما نسميه أو نصفه أو نشير إليه نحن أنفسنا. يقول غودمان: «إن تناسق الطبيعة الذي يبهرنا أو عدم انتظامها الذي نحتج عليه ينتميان كلاهما إلى عالم واحد نصنعه نحن أنفسنا.»١٧
  • ثانيًا: التوازن١٨ وهنا يحيلنا غودمان على وظيفة الآثار الفنية التي لا تكمن لديه في أن تسمي أو أن تصف فحسب كما الكلمات في خطاب مغاير بل هي «تجسيدات للأجناس المناسبة». إن قصيدة ما لا تذكر أية كلمة تعبر عن الحزن ولا تحيل على أي شخص حزين يمكنها بواسطة الكيفية الخاصة بلغتها أن تعبر بشكل حادٍّ وموجع عن الحزن. إن لوحة تُرسم باللون الرمادي تعبر هي الأخرى عن الحزن دون أن تسمِّيه عبر الكلمات. ها هنا نصنع عالمًا وفق عملية التمثيل١٩ أو التعبير وهي تصنع التوازن بمعنى تتقن تجسيد جنس وجيه٢٠ ومناسب وملائم لشعور ما. تلك أيضًا كيفية من كيفيات صنع العوالم.
  • ثالثًا: التنضيد ٢١ وفيه يشدد غودمان على «أن لا شيء يتحرك أو يسكن إلا بالرجوع إلى إطار مرجعي.»٢٢ وهنا يعني التنضيد الرجوع دومًا إلى نسق البناء الخاص بعالم محدد. فنحن لم نبنِ معارفنا العلمية حول العالم إلا عبر أنساق وتجميعات لإدراكات مناسبة. وكما أن طبيعة الأشكال تتغير وفق أنماط الهندسات التي تنتمي إليها كل مرة، فإن إدراكاتنا تتغير بحسب أنماط التنضيد أي التنظيمات الرمزية لها.
  • رابعًا: الطرح والإضافة:٢٣ وهنا يتعلق الأمر بجملة التقطيعات الحادة التي نجريها من أجل أن نصنع عالمًا من عالم آخر وذلك من أجل استبدال مواد قديمة بأخرى جديدة. إن ما نتعلمه هو فقط قطع ذات دلالة في حين أن قدرتنا على أن يفلت منا الكثير من المعاني والأشياء وأن تمر في صمت هي قدرة لا محدودة.
  • خامسًا: التشويه٢٤ كما يحدث في فنِّ الكاريكاتور الذي يستعمل المبالغة في تشويه ما يحدث كي يصنع عالمًا. تلك هي أهم الكيفيات التي نصنع منها عوالمنا لكنها ليست كل الكيفيات بإطلاق ولا هي بالإمكانيات الوحيدة والنهائية. كل إنسانية تصنع عوالمها بالطرائق التي بحوزتها فعالم الاسكيمو ليس هو عالم أمريكا وطريقة بيكاسو في رسم «وصيفات فيلاسكاز» (١٩٥٧م) ليست هي طريقة فيلاسكاز في رسمها (١٦٥٦م) … ثمة حرية جذرية في كيفيات صنع العوالم وثمة عمليات متنوعة ولامتناهية في تجسيده عبر التقسيم والتركيب والتنضيد والإفراغ والملء والاعوجاج والتشويه وتجسيد ما هو مناسب لتوازن عالم ما. لكن شيء ما بقي منقوصًا: متى ننجح في صنع عوالم؟ وهل ثمة كيفيات صناعة للعوالم فاشلة؟ وهل يصنع الفشل عالمًا؟ ما هي مقاييس نجاحنا في صنع عالم ما؟

(٢) هل ثمة عوالم حقيقية وعوالم خاطئة؟

هنا يتطرق غودمان إلى مسألة الحقيقة. إن في الأمر إحراجًا يمكن صياغته كما يلي: هل يمكن أن نعرف الحقيقة أو نختبر مدى صحة عالم ما من خلال المقياس التقليدي أي مقياس التطابق مع العالم؟ هنا يُجري غودمان تحويلًا ريبيًّا على مفهوم الحقيقة. فيحررها من التعريف التقليدي لها بوصفها تطابقًا.٢٥ لكنه لا يتبنى أي تعريف آخر معاصر من جنس التعريف الهيدغري والتأويلي بعامة حول الحقيقة بما هي أليتيا أي كشف لما هو محجوب. يقول غودمان في هذا الصدد ما يلي: «إن الحقيقة لا يمكن أن تُعرَّف أو تُختبر من خلال تطابقها مع «العالم»، ذلك أن الحقائق لا تختلف فقط وفقًا للعوالم، لكن الجميع يعترف أن طبيعة الاتفاق بين صياغة وعالم منفصل عنها هي طبيعة غامضة» …٢٦ يتعلق الأمر بمفهوم نسبي للحقيقة يحررها من كل نزعة دغمائية تعتقد أن الحقيقة هي حقيقية دومًا وبإطلاق وقادرة على التوافق مع كل عالم واحد. انطلاقًا من هذه النزعة النسبية الجذرية يقع الحد من عجرفة التصور الدغمائي للحقيقة. يحدث للحقيقة ألا تناسب عالمًا ما ويحدث لها ألا تكون حقيقية في كل الحالات. ذلك أنها «لم تعد حاكمًا متجبرًا وصارمًا، بل صارت خادمة طيعة خدُومًا.»٢٧
وتبعًا لذلك يمكن لمنطوقات حرفية خاطئة أن تكون صحيحة على المستوى المجازي. فعوالمنا تُصنع ممَّا يقال حرفيًّا ومم يُقال استعاريًّا، مما لا يقال بل يعبر ويمثل ويشير. فما يُقال لفظيًّا يمكن أن يكون إما حرفيًّا أو مجازيًّا، وما لا يُقال لفظيًّا يمكن أن يكون تمثيليًّا. كل العلوم تنتمي إلى ما يُقال على جهة اللفظ فتكون حقائقها إما حرفية أو استعارية. ثمة الكثير من الاستعارات في العلوم. أما ما لا يُقال فيمكن أن يقع تمثيله عبر الفنون. ويترتب عن ذلك نتيجتان: الأولى: أن الحقيقة ليست حكرًا على العلوم. أما الثانية فهي: أن مسألة الحقيقة في الصياغات غير اللفظية لا قيمة لها بتاتًا. ليس بوسعنا حينئذٍ أن نتحدث عن لوحة أو صورة أو قصيدة أو فيلم أو رقصة في لغة الصحيح والخاطئ. ثمة من اللوحات خاصة التجريدية منها ما لا تقول أي شيء ولا تعين أية دلالة، بل تكتفي فقط بأن تشير أو تظهر شيئًا ما. ذاك الإظهار وتلك الإشارة هي كيفية من كيفيات صناعة عالم ما. وهنا علينا أن ننبه إلى أن غودمان إنما يفعل هنا تمييزًا افترعه أحد أقطاب الفلسفة التحليلية فيتغنشتاين بين ما يُقال وما لا يُقال. أي بين ما يُقال في لغة العلم وما لا يُقال في لغة العلم؛ أي «ما ينبغي إسكاته». وهنا نورد نصًّا لفيتغنشتاين في رسالة إلى برتراند رسل (بتاريخ ١٩ / ٠٨ / ١٩١٩م): «إن جوهر الأمر يكمن في النظرية المتعلقة بما يمكن أن يُقال بواسطة القضايا؛ أي بواسطة اللغة (وطبعًا بما يمكن أن يُفكر فيه)، وما لا يمكن التعبير عنه بمساعدة القضايا، بل يُمكن أن يُشار إليه فحسب. ذلكم هو على ما أعتقد المشكل الجوهري في الفلسفة.»٢٨
لكن غودمان يتجاوز هذا القرار الفلسفي التحليلي المعروف لدى فيتغنشتاين الأول من أجل الانفتاح على ما لا يُقال؛ أي ما يقع التعبير عنه داخل الآثار الفنية. إن ما لا يُقال في لغة القضايا العلمية يمكن أن يُقال في لغة أخرى هي لغات الفن. وبدلًا عن الحديث عن الفن في لغة الصواب والخطأ علينا الحديث عنها في لغة يسميها غودمان بلغة التصحيح. وعليه فإن مطلب الحقيقة، كل الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة «يبدو قاعدة هجينة ومعطلة لكل من يصنع عالمًا». ثمة في الأمر مفارقة ذات وجهين: حين نطلب «كل الحقيقة» فإن مطلبنا ذاك يبدو واسعًا وكبيرًا ومشحونًا بالتفاهات. أما حين نطلب «الحقيقة وحدها» فهذا قليل؛ لأن ثمة ما هو أكثر منها وما يتجاوزها. إن الحقيقة وحدها غير كافية لصناعة عالم. وهو ما يجعل غودمان يكتب ما يلي: «إن الحقيقة تكون في الغالب غير قابلة للتطبيق. وهي نادرًا ما تكون كافية. وعليها أحيانًا أن تترك المجال لمقاييس تزاحمها.»٢٩

(٣) متى يكون ثمة فن؟

هو سؤال يطرحه غودمان ويشتغل عليه ضمن كتابه «كيفيات في صنع العوالم». يتعلق الأمر بالأهمية القصوى التي يوليها غودمان إلى عوالم التخييل بعامة؛ أي كل الفنون من شعر ورقص وموسيقى ورسم وأدب … وكل الفنون التي يقع تصميمها عبر وسائل غير تعيينية أي غير لفظية وهي كيفيات تقوم على التمثيل؛ أي اعتبار الفن تجسيدًا لعينة من عالم بصدد الصنع. هذه الفنون تستعمل الأصوات والحركات والرموز التي تنتمي إلى أنساق غير ألسنية. وبالنسبة إلى غودمان تمثل هذه الكيفيات التخييلية في صنع عوالم مركز اهتمامه الخاص.

يكتب غودمان متحدثًا عن الفنون ما يلي: «إني أهتم هنا بتلك الكيفيات في صنع العالم وبتلك الصياغات. فالأطروحة الأساسية لهذا الكتاب هي أن الفنون، وذلك بشكل لا يقل جدية عن العلوم، ينبغي اعتبارها أنماطًا من الاكتشاف والخلق وتوسيع المعرفة في المعنى الواسع لنمو الفهم، وأن فلسفة الفنِّ ينبغي اعتبارها بما هي جزء لا يتجزأ من الميتافيزيقا والأبستمولوجيا.»٣٠ في هذا النص ثمة قرار فلسفي هام جدًّا يقضي باعتبار الفنون حقلًا معرفيًّا لا يقل صدقية وأهمية وقدرة على صنع عوالمنا عن العلم نفسه. الفن أيضًا يعرف ويمكن أن يكون جزءًا من الميتافيزيقا أو من الإبستمولوجيا. ليس الفن منطقة محرومة من الحقيقة ولا هو حقل المتعة بلا مفهوم كما ذهب إلى ذلك كانط في كتاب نقد ملكة الحكم.٣١ وليس الفنُّ أيضًا حقل الأحلام الكاذبة «كي لا نموت من الحقيقة» كما حدثنا نيتشه الأول في كتاب الفيلسوف ذات مرة.
متى يكون ثمة فن؟ هذا السؤال يجعلنا نقف عند إحراجات محبطة ومخيبة للآمال: ما هو الفن؟ وهل ثمة فنٌّ خالص؟ وما المسافة التي تفصل الفن عن اللا-فن؟ من أجل الخروج من هذه المآزق الفلسفية يقترح غودمان تطبيق نظرية الرموز من أجل تحديد متى يكون ثمة فنٌّ ومتى لا يكون. وهنا نجد أنفسنا أمام المكسب الأساسي لفلسفة الفنِّ لدى غودمان. ثمة فنٌّ طالما ثمة رمز أو بعد رمزي؛ أي طالما ثمة إحالة على مرجع. ما المقصود بهذه الفكرة؟ يجيب غودمان: «إن كل أثر تمثيلي هو رمز. إن فنًّا بلا رموز هو فنٌّ يتوقف عند حدود الفن بلا موضوع.»٣٢ وذلك معناه أن الفنَّ يشتغل عبر التمثيل، وأن التمثيل هو دومًا إحالة مرجعية؛ أي هو رمز. إن ما يراهن عليه غودمان هو إذن ما يلي: أن كل عملية عزل للفن عما يرمز إليه أو المرجع الذي يحيل عليه؛ أي إن كل حديث عن فنٍّ خالص — بمعزل عن كل مرجع خارجي — بمعنى فنٍّ مغلق على بنيته الداخلية، هو حديث لا يتناغم إلا مع «فكر يميني»، ولا يعد إلا بحرمان الفنِّ من أبعاده العميقة الخاصة بالتأويل. كل الآثار الفنية التمثيلية منها والتجريدية، حتى تلك التي لا تمثل شيئًا ولا تعبر عن أي شيء بوسعها أن ترمز إلى شعور ما أو عاطفة أو فكرة. إن غودمان يشدد هنا على البعد الرمزي للفن؛ فالفن يبقى دومًا رمزا حتى لو اقتصر فقط على خصائص شكلية كاللون والنسيج والصوت … إن أثرًا فنيًّا ما هو دومًا عينة على عالم بصدد الصنع؛ أي هو عينة على إحالة مرجعية لعالم واقعي. وتدعيمًا للقيمة الرمزية للفن بما هي مقياس كل فن. يكتب غودمان ما يلي: «إن من يبحث عن فنٍّ بلا رموز لن يجد أي فنٍّ لو أخذنا بعين الاعتبار كل الكيفيات التي ترمز وفقها الآثار الفنية. نعم لفن بلا تمثيل أو بلا تعبير أو بلا تمثل. لا لفن لا يفعل أيًّا منها.»٣٣ إن الآثار الفنية يمكنها أن تكون أمثلة في معنى أن تجلب الانتباه نحو أمر ما وقع إهماله كبعض الألوان أو بعض المشاعر أو بعض الأشكال.
إن أشد ما يحرج غودمان هو إذن السؤال الذي أنهك كل المحاولات الاستطيقية الحديثة: «ما هو الفن؟» سؤال وقع الخلط أحيانًا بينه وبين «ما هو الفن الراقي؟» ذلك أنه يمكن لحجر ما عُثر عليه على قارعة الطريق ووقع عرضه في المتحف أن يصير فنًا. ويمكن لواجهة سيارة بها عطب أن تُعرض أيضًا في معرض فنيٍّ على أنها أثر فني. فلو كانت هذه الأشياء آثارًا فنية، هل يمكن لكل أحجار الطريق ولكل الأشياء المعطوبة حينئذٍ أن تصير آثارًا فنية؟ استفهامات استنكارية وأمثلة عبثية يضربها غودمان كي يبين أن هذه المسائل مطروحة بشكل مغلوط. فليس الأصح أن نسأل «ما هي الموضوعات التي تشتغل دومًا بوصفها آثار فنية؟» بل أن نسأل «متى يشتغل موضوع ما بوصفه أثرًا فنيًّا؟» وإن إجابة غودمان واضحة: إن موضوعًا ما يصير أثرًا فنيًّا كلما اشتغل بوصفه رمزًا. فالحجر الملقى في الطريق لا يصير أثرًا فنيًّا إلا متى عُرض في متحف فهو حينئذٍ عينة على أثر فنيٍّ ما. أما حين يقع عرضه في متحف جيولوجي فإن هذا الحجر يكتسب قيمة رمزية مغايرة بما هو عينة على أصل ما أو على حقبة تاريخية، لكنه رغم ذلك لا يشتغل بوصفه أثرًا فنيًّا. لأن مساحة الرمز ليست حكرًا على الفنون بل هي تشمل كل كيفيات صنع العوالم بما في ذلك العلوم. لكن غودمان يفضل الفنَّ عن بقية الأشكال الرمزية الأخرى. وذلك لأن، حسب عباراته نفسها، «منابع الفنان أي أنماط إحالته المرجعية، حرفية أو غير حرفية، ألسنية أو غير ألسنية، تعيينية أو غير تعيينية، تبدو أكثر تنوعًا وإثارة من منابع العالم.»٣٤

يمكننا تجميع أهم أطروحات غودمان حول كيفيات صنع العوالم في أربعة:

  • أولًا: إننا لا نرث عوالمنا من العلماء أو المؤرخين بل من الأدباء والرسامين.
  • ثانيًا: ليست الاستعارة مجرد إجراء تزويقي بل هي كيفية من أجل صنع عوالم متعددة. كل الاستعارات لها إحالة مرجعية. أي ليس ثمة استعارة غير واقعية.
  • ثالثًا: إن تخييلاتنا وقصصنا لا تنطبق على أي عالم ممكن أو حالم أو طوباوي بل هي تحيل وتمثل وتعبر عن عوالم واقعية كما لو كان عالمًا ما يحدث على نحو مجازي أو استعاري.
  • رابعًا: إن العوالم التخييلية إنما هي توجد داخل العوالم الواقعية وليست تعويضًا لها ولا تحليقًا خارجها. إن كل القصص التخييلية إنما تحدث دومًا داخل العوالم الواقعية.

(٤) غودمان ومعاصروه

نسعى في هذا القسم النقدي من بحثنا إلى الكشف عن مدى أهمية أطروحة غودمان حول أهمية الرموز في صنع عوالمنا من خلال المرور ببعض قرائه ونقاده. وهم كما سيتعاقبون بشكل خاطف في هذا الجزء الأخير من مقالنا على التوالي: بول ريكور وأرتور دانتو ومرتن زيل وروشليتز.

ريكور: يُعتبر أهم فيلسوف استفاد من فلسفة غودمان في صناعة العوالم عبر الأشكال الرمزية. حيث يعترف في تصدير كتابه «الاستعارة الحية» بأن فلسفة الاستعارة التي يقترحها إنما «تستند إلى نظرية تعيين الدلالة المعممة القريبة من غودمان … وأن هذه القرابة على المستوى الاستكشافي تمثل الحجة الرئيسية لهذه الهرمنيوطيقا في الاستعارة.»٣٥ وهنا يقع استئناف الفلسفة التحليلية لغودمان في أفق الفلسفة التأويلية لريكور التي «تعتبر أن الموضع الحميم للاستعارة ليس اللفظ ولا الجملة ولا حتى الخطاب إنما هو فعل الكينونة نفسها.»٣٦ إن المكسب الهام ها هنا هو أن الاستعارة ليست مجرد زخرف لفظي بل ثمة حقيقة استعارية؛ أي إن اللغة ذات وظيفة مرجعية تعيينية. هنا يُجري ريكور نقلة هرمنيوطيقية على نظرية غودمان حيث نتحول من: لغة تقول العالم في معنى تصنعه على صياغات عدة، إلى لغة تقول الكائن. كلاهما ينقل اللغة في علاقتها بالواقع من «واو العطف» إلى «هو» الرابطة الوجودية. إن ما يستفيده ريكور من غودمان هو ما يسميه بالوظيفة التعيينية للرموز أي إن اللغة تحيل دومًا على مرجع ما. انها ليست مجرد قول بل هي فعل. ثمة شكل من اللعب اللغوي المثير بين «العالم والعمل».٣٧ وعليه لم يعد ثمة فصل بين العاطفي والمعرفي والتخييلي والحقيقي. ثمة تطابق بين المرجع وتعيين الدلالة٣٨ ذلك أن الرمز إنما هو دومًا رمز لشيء آخر. وهذه الرموز هي بمثابة «الملصقات»٣٩ التي تحيل على «حادثات»٤٠ وهو ما يتلاءم وفق تعبير ريكور مع «النزعة الاسمية التواضعية» لنلسن غودمان.٤١
يقول ريكور مؤَوِّلًا هذه الفلسفة: «ليس ثمة ماهيات ثابتة تمنح مضمونًا دلاليًّا للرموز اللفظية أو غير اللفظية، وبمقتضى هذا الأمر تصبح نظرية الاستعارة يسيرة الفهم: لأنه من الأيسر علينا أن ننقل ملصقة على أن نصلح ماهية. وحدها العادة تصمُدُ.»٤٢ إن أهم ما يستفيده ريكور من نظرية غودمان في «الاستعارة المعممة والكونية» هو مفهوم التمثيل في المعنى الحرفي الذي ارتضاه له غودمان نفسه أي ضرب الأمثلة. وهنا تتنزل الفنون جميعها لأنها استعارات تمثيلية. إن الآثار الفنية تمثل الدلالة باعتبارها تنطوي عليها العبارة. فالاستعارة نقل لا يحصل إلا بواسطة الأمثلة. وذلك كأن نقول مثلًا: إن لوحة ما مرسومة باللون الرمادي تعبر عن الحزن. فتمثيل الرمادي داخل لوحة رمادية يعني أننا إزاء مثال عن الرمادي. أي إن الرمادي ينطبق أو يحيل أو يرمز إلى شيء ما وبالتالي أن الرمادي هو الذي يعين دلالة ذاك الشيء. فاللوحة هنا إنما تُعيِّن تحديدًا دلالةً ما تصفه. فاللون الرمادي قد وقع تعيين دلالته بواسطة المحمول «رمادي». والمحمولات إنما هي ملصقات في حالة الأنساق الرمزية اللفظية. لكن الرموز غير اللفظية يمكنها أيضًا أن تشتغل بوصفها محمولات بما هي أمثلة. فحركات رئيس الفرقة الموسيقية تُعين دلالة الأصوات التي ينبغي إنتاجُها دون أن تكون هي ذاتها أصواتًا. أما الرقص فيُعين دلالة الحركات التي نقوم بها في الحياة اليومية أو الطقوسية ويعيد تنظيم تجاربنا. هنا يقر ريكور مؤَوِّلًا غودمان أن ليس ثمة فرق بين التعبير والتمثيل. فاللوحة هي حرفيًّا لوحة رمادية وهي مجازيًّا لوحة حزينة. في المرة الأولى نحن إزاء الواقعة. وفي الثانية نحن إزاء الهيئة أو الشكل. فالواقعة هي وضع الأشياء. أما الهيئة أو الشكل فهي استعمال حملي أو مرجعي. ليست الاستعارة إذن زخرفًا قوليًّا إنما هي «ضرب من الغزل العجيب بين محمول له ماضٍ وموضوع يتمنع عن الاستعارة وهو فيها الراغب.»٤٣

ما نخرج به من هذا الاستفادة الهرمنيوطيقية التي سجلها كتاب الاستعارة الحية لريكور ثلاث نتائج هي التالية:

  • أولًا: إن التمييز بين تعيين الدلالة والوسم٤٤ ليس مبدأ صالحًا للحديث عن الوظيفة الشعرية؛ لأن الوسم في علاقة بحالات ذاتية عاطفية تمامًا لا تملك قيمة مرجعية على نفس القيمة التي للخطاب الوصفي.
  • ثانيًا: إن الأصوات والصور والمشاعر هي تمثيلات وليست أوصافًا. إنها بذلك تمثل٤٥ — في معنى المثال — ولا تتمثل٤٦ في معنى التمثل الذي يفترض ذاتًا للتمثل وموضوعًا متمثلًا كما في براديغم الوعي من ديكارت إلى هوسرل. فهي تمثيلات على ملكية الأشياء أكثر من أنها مجرد تأثيرات ذاتية لهواة الشعر.
  • ثالثًا: إن الخصائص الشعرية، بما هي خصائص منقولة، تضيف معنى ما إلى تصورنا للعالم. فهي حقيقية لأنها تُصالح بين الملائمة والجدَّة، وبين البداهة وعنصر المفاجأة.
دانتو: ضد فلسفة الاستعارة التي يلتقي في رحابها غودمان وريكور، يوجه دانتو الناقد الفني الأمريكي أحد أقطاب الجماليات التحليلية نقودًا حادة لفلسفة غودمان: فالاستعارة بالنسبة إليه لا تقدم لنا شيئًا لا نعرفه سلفًا. والاستعارة أيضًا لا مكان لها في العلم ولا في الفلسفة باستثناء حين تصير الفلسفة أدبًا. أما عن البعد الجمالي فلا علاقة له بالبعد المعرفي. وضد فلاسفة الاستعارة وغودمان أحدهم يكتب دانتو في كتابه المعنون «بعد نهاية الفن» (١٩٩٢م) ما يلي: «لقد وقع في نظري توسيع مفهوم الاستعارة بشكل مفرط، على الأقل في حقل الإدراك … ومن جهة أخرى يبدو أنه حتى في أيامنا هذه لم يقع إدراك الدور الهام الذي تلعبه الاستعارة … من وجهة نظر التعيين السياسي للواقع.»٤٧
مرتن زيل: الذي يشتغل في حقل الجماليات المعاصرة على ما يسميه «المعقولية الجمالية» تطبيقًا واستصلاحًا لفلسفة هابرماس حول نظرية الفعل التواصلي، يوجِّه هو الآخر نقدًا لاذعًا لجماليات غودمان بخاصة. ذلك أن هذا الأخير أخطأ عملية تقييم ما هو جمالي حين خلط بين الحقيقي والناجح. كما رسم مرتن زيل حدود الطابع الاستعاري لفلسفة غودمان من أجل أن يفسح المجال أمام البعد التواصلي الذي به تتحدد معقولية الحقل الجمالي. ومن أهم الحدود التي رسمها للاستعارة هي؛ أولًا: أن المنطوقات الاستعارية لا تمثل السياق القولي المباشر، بل هي تميز النسيج الدلالي الذي نتكلم عنه. ثانيًا: أن المنطوق الاستعاري لا يمثل وضعية التفاهم الوقتي بل يمثل فقط حقل موضوعات القول. ثالثًا: أن السياق الاستعاري يجعل أنماط القول الاستعاري معقولة لكنه لا يتعلق بالظواهر التي نتكلم عنها.٤٨
روشليتز: من أهم المشتغلين على الجماليات المعاصرة وهو من أتباع هابرماس إلى جانب مرتن زيل يكتب عن غودمان قائلًا: «إن الاهتمام الذي يوليه غودمان للغات الفنِّ لا يمكن فصله عن النقاش الأمريكي حول العلاقات بين اللغة والواقع، حول أنواع المرجع والدلالة. إن الفن بالنسبة إلى هذه النظرية لا أهمية له إلا بوصفه براديغم لنظرية أعم هي «كيفيات صناعة العوالم» التي تسعى إلى تنسيب الفرق بين تمثل علمي وتمثل استطيقي للعالم.»٤٩ وهذا أمر لا يتماشى ورواد المعقولية الجمالية التواصلية ضد دعاة الطابع الاستعاري والحياة الرمزية والتخييلية بما صانعة لعوالم واقعية. ها هنا تبدو الخصومة الفلسفية (وفق كلمة مشهورة لدولوز وغاتاري ضمن كتاب ما هي الفلسفة) على أشدها بين دعاة الإبداع وجماعة التواصل: أي بين الخط الفلسفي الذي يمتد من نيتشه إلى دولوز والخط الفلسفي الذي يمتد من كانط إلى هابرماس.

خاتمة

إن نلسن غودمان الفيلسوف الأمريكي قد اقترح على العقل البشري المعاصر فكرة مثيرة: ليس ثمة عالم واحد. وإننا نحن لا نرث عوالمنا من أحد غير أنفسنا. أي إن عوالمنا هي ما نصنعه كل يوم بأنفسنا. لا أحد سيعوضنا عن عالم خسرناه بعالم يهبنا إياه سبهللًا. فالعالم لا يُعطى ولا يُباع ولا يُشترى. بل ليس ثمة عالم واحد كي نخاف من أن ينتهي أو ينهار فجأة. وليس ثمة عالم جاهز صُمم بشكل نهائي من أجل البقاء أبدًا. ضد دعاة القيامة والمدمنين على كل أشكال الآخرة، بوسعنا أن نكتفي بصناعة عوالمنا الواقعية، كل يعتني بحديقته.

هل نصنع العوالم (غودمان) أم نسكنها (هيدغر)؟ هل نؤَوِّل العالم أم نغيره (ماركس)؟ رغم الانزلاقات الخادعة التي تهددنا حين نجمع بين الأميتين في هذين السؤالين بوسعنا الاكتفاء في خاتمة هذا البحث، بالنتيجة المتواضعة التالية: ثمة في كل ما وقع من نقاش فلسفي حول فكرة العالم منذ ليبنتز مرورًا بكانط وصولًا إلى غودمان معركة بين جماعة التخييل ودعاة التغيير. غودمان حاول أن يجمع بينهما: فما يصنعه التخييل ليس خياليًّا البتة. إن الأشكال الرمزية هي كيفياتنا في صناعة عوالم واقعية تمامًا. نلسن غودمان لا يعلِّمنا كيف نصنع عوالمنا، فهو لا يدَّعي تعليم الآلهة ولا تعليم البشر طرائق صنع العوالم، إنما هو قد نبه الإنسانية الحالية التي أوشكت على اليأس من إنقاذ العالم بعد كل الكوارث التي وقعت والتي هي بصدد الوقوع، إلى أفق جميل: بوسعنا دومًا أن نستمر في صنع عوالم حتى في أحلك الأزمان. فنحن نرسم عوالمنا بالكلمات والحكايا والأغنيات. كلَّما ضاق أفق إلَّا وفتحنا أفقًا آخر. ثمة دومًا عالم ما هو بصدد الحدوث عبر قصائدنا ومعارفنا. لا مكان للعدم، ولا حياة للعدميين بيننا.
١  Nelson Goodman, Fact, Fiction and Forecasts, cité par Jean Pierre Cometti, le Philosophe et Poule de Kircher, chap. II.
٢  Nelson Goodman, Manière de faire des mondes, Paris, Gallimard, 1992, p. 13.
٣  Ibid., p. 12.
٤  Ibid., p. 15.
٥  Voir: E. Cassirer, Philosophie des formes symboliques, Paris, Minuit, 1976.
٦  E. Cassirer, Essai sur l’Homme, Paris, Minuit, 1975.
Muriel Van Vilet, Ernest Cassirer et l’art comme forme symbolique, Presses Universitaires de Rennes. 2010, www, PUF-Editions. Fr., p. 2.
٧  Nelson Goodman, Manières de faire des Mondes, op. cit., p. 15.
٨  Ibid., p. 16.
٩  Ibid., p. 21.
١٠  Nelson Goodman, Manières de faire des Mondes, op. cit., p. 17.
١١  Ibid., p. 19.
١٢  Version.
١٣  Ibid., p. 19.
١٤  Ibid.
١٥  Ibid., p. 22.
١٦  Composition et décomposition.
١٧  Ibid., p. 27.
١٨  Pondération.
١٩  Exemplification.
٢٠  Genre pertinent.
٢١  Agencement.
٢٢  Ibid., p. 30.
٢٣  Suppréssion et Supplémentation.
٢٤  Déformation.
٢٥  Adéquation.
٢٦  Ibid., p. 36.
٢٧  Ibid., p. 37.
٢٨  فيتغنشتاين، دروس في الجماليات، ترجمة فتحي المسكيني، ضمن إطلالات على الجماليات بالعالم الغربي في النصف الثاني من القرن العشرين، المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون بيت الحكمة، قرطاج ٢٠١٠م، ص٢٣٥.
٢٩  Nelson Goodman, Manières de faire des mondes, op. cit., p. 152.
٣٠  Nelson Goodman, op. cit., p. 146.
٣١  Emmanuel Kant, Œuvres philosophiques, Paris, Gallimard, 1985, t. II, p. 978.
٣٢  Ibid., p. 89.
٣٣  Ibid., p. 99.
٣٤  Ibid., p. 152.
٣٥  P. Ricoeur, La métaphore vive, Paris, éditions du Seuil, 1975, p. 11.
٣٦  Ibid.
٣٧  World and Work.
٣٨  Dénotation.
٣٩  Etiquettes.
٤٠  Occurrences.
٤١  Ibid., p. 294.
٤٢  Ibid., pp. 294-295.
٤٣  Ibid., p. 296.
٤٤  Dénotathon et Notation.
٤٥  Exemplifier.
٤٦  Représenter.
٤٧  Arthur Danto, Après la fin de l’art, Paris, Seuil, 1996, p. 124.
٤٨  Martin Seel, l’art de diviser, Le concept de rationnalité esthétique, Paris, Armand Colin, 1993, p. 224.
٤٩  Rainer Rochlitz, l’art au banc de l’essai. Esthétique et Critique, Paris, Gallimard, 1998, p. 28.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤