الفصل الثاني عشر
أحس الشيخ والي حين سافر حسين أنه لم يحقق فيه الأمل الذي كان ينشده من تعليمه، وصبَّر نفسه أنه على كل حال ليس ابنه، وازداد عزمًا أن يعلم ابنه التعليم الذي كان يريده له، وكأنما أراد أن يستعجل السنين؛ فهو يفكر أن يُدخل محمدًا منذ سنه هذه الباكرة إلى المدارس الأميرية. وهمَّ أن يفعل، ولكنه ما لبث أن تذكر أن سنه لا تسمح بذلك، فانتظر على كره منه، عازمًا ألا يبدأ العام الدراسي الجديد إلا ومحمد تلميذ في المدرسة الأميرية.
وكان محمد يذهب إلى الكُتَّاب في انتظام، وكان يخاف عصا الشيخ التي يتناول بها المهملين من لِداته، فهو حريص على أن يحفظ اللوح فيجيد حفظه، إلا أنه بعد أن سافر حسين وانفرد به اللوح أصبح الحفظ بالنسبة إليه عمليةً شاقة، يبذل فيها ساعات طويلة كانت تخلو بفضل حسين ليلعب فيها «الحكشة» أو ما يحلو له ولرفاق ملعبه من ألعاب.
فهو الآن لا يفرغ من حفظ اللوح إلا والشمس قد مالت للغروب، فهو لا يصيب من اللعب إلا حظًّا يسيرًا، ولكنه مع ذلك لا يتخلى عن حفظ اللوح مهما يفقد من ساعات اللعب، فلعب قليل مع تجنب لآلام العصا خير من لعب كثير يعقبه هم كثير.
وكان محمد يذهب في بعض الأحيان إلى بيت زين العابدين ليلعب هناك مع ابنته آمال، وكان يصحبهما في الملعب أطفال آخرون، من بينهم رشاد أبو عبد الباقي. وكان رشاد يلاحظ اهتمام آمال بمحمد، ويحاول جُهده أن يستثير اهتمامها به، فقد كان يحس فيها شيئًا مختلفًا عن الفتيات الأخريات؛ فملبسها غير ملبسهن، وطريقة كلامها غير طريقتهن. فهو يحس أن ثمة فارقًا بينها وبين بنات القرية، وإن كان لا يدري سبب هذا الفارق ولا حقيقته. وكان يرى في ذهابهم إليها دون أن تذهب هي يومًا إلى ملعبهم في جرن القرية فضلًا لها لا يمكن التغاضي عنه.
ولم يكن يدري السبب في أن الصلة التي تصلها بمحمد أقوى من جميع الصلات الأخرى التي تصلها بأطفال القرية، كما كان يعلم أن الحاجة بمبة كثيرًا ما تزور بهية هانم مصطحبةً معها محمد في زياراتها؛ فآمال معذورة أن تأنس إلى محمد، فهو وحده الذي يكثر من زيارتها. ولكن رشادًا لا يهمه من هذه الأسباب جميعًا، إلا أن محمدًا أقرب إلى آمال منه، وهو لا يقبل هذا، فهو يتحين الفرص لينال من محمد نيلًا يصيب منزلته عند آمال، وقد واتته الفرصة من قريب.
كانوا يلعبون أمام بيت زين العابدين حين جاءت الحاجة لتزور بهية هانم، وكان الليل قد أوشك أن يخيم على القرية، فرأت الحاجة بمبة أن ينتهيَ لعب الأطفال، فهي تنادي «محمد وآمال» وتصعد بهما إلى الطابق الأعلى، ويضيق رشاد بهذا ضيقًا شديدًا؛ فإن أمه لا تكثر من زيارة بهية هانم كما تفعل الحاجة، ولا يستطيع هو أن يصعد وحده؛ فما له من رفيق يجعل صعوده طبيعيًّا، ولكنه يأبى أن ينصرف مع الأطفال الآخرين الذين انصرفوا، فهو يمكث مراقبًا لباب البيت منتظرًا — وإن كان لا يدري لماذا — خروج الحاجة بمبة ومحمد. وفي الطابق الأعلى يكون إجهاد الملعب قد أخذ من محمد مأخذه، فما هي إلا أن يريح جسمه إلى الكرسي؛ حتى يهاجم النوم عينيه، فيستسلم له في إذعان ودعة، والحاجة بمبة مشغولة عنه بالحديث إلى بهية هانم، حتى إذا حان موعد الانصراف نظرت إلى محمد في كرسيه فوجدته في نومته العميقة، وتحاول أن توقظه، ولكن بهية هانم تلح عليها أن تتركه يقضي الليل عندهم، وتعدها أنها ستوقظه في الصباح ليذهب إلى الكُتَّاب؛ وتشفق الحاجة بمبة على محمد، وتتركه وتأخذ سبيلها إلى الخارج.
وما تكاد تغادر باب زين العابدين حتى ينبت رشاد من ثنايا الظلام: أين محمد يا خالتي الحاجة؟
– بسم الله الرحمن الرحيم! ماذا تفعل هنا يا رشاد؟!
– لا شيء، كنت هنا. أين محمد؟
– نام فتركته عند الست حتى الصباح.
وفي الصباح أيقظت بهية هانم محمدًا وقدمت إليه فطورًا كريمًا، وتركته ينطلق إلى الكُتَّاب، ومر محمد بمنزله فأخذ اللوح وتوجه إلى الكُتَّاب. وهناك كان رشاد قد دبر مؤامرته، فقد لقيه الشيخ في غضبة عنيفة: أين بِتَّ الليلة يا محمد؟
– في بيت زين العابدين بك.
ولم يزد، فقد أمر به الشيخ فأمسك غلامان بقدميه وانهال الشيخ عليهما ضربًا مبرحًا. وبينما كان الحاج والي يختم صلاة الضحى فوجئ بضجة على الباب، فنظر من شباكه فوجد محمدًا على حمار يبكي بكاءً مرًّا، فخف إليه فوجد قدميه متورمتين لا يستطيع أن يلمس بهما الأرض، واحتمل الشيخ ابنه وقلبه ينفطر لهفًا عليه، وما أن أودعه السرير حتى قصد إلى الشيخ في كُتَّابه.
– لماذا هذا يا عم الشيخ عبد العظيم؟
– ألم ترسل لي رشادًا أن أضربه؛ لأنه بات ليلته خارج المنزل؟
– لا، لم أفعل. وإن كنت فعلت أهكذا يضرب الأطفال؟ لن يعود محمد إلى الكُتَّاب ثانيةً يا شيخ عبد العظيم.
وخرج الحاج والي وقد ازداد إصراره أن يتوجه محمد منذ الآن إلى التعليم المدرسي، فهو يقصد إلى زين العابدين ويتفق معه على أن يشارك محمد آمال في الدراسة المنزلية، حتى يبدأ العام الدراسي الجديد، فيذهب إلى مدرسة البندر.
أما رشاد فلم يكفه ما وقع عليه من عقاب الشيخ الذي حُرم مما كان يفيده من تعليم محمد، بل زاد الطين بلةً أن محمدًا أصبح رفيق آمال في الدراسة أيضًا، لا في الملعب وحده.