الفصل الرابع عشر
كان زين العابدين جالسًا في شرفة داره ينتظر عربته أن تعود من المحطة حاملةً حماته وحماه الذي أبرق إليه أنه قادم في يومه هذا.
وكان زين العابدين سعيدًا في انتظاره هذا؛ فقد تولت ثلاثة كلاب أو كلبان وكلبة تسليته بتمثيلهم أمامه قصة الثلاثي الخالد الزوج والزوجة والعشيق، وقد اندمج ثلاثتهم في أدوارهم اندماجًا أنساهم المتفرج الوحيد زين العابدين.
وقد اختارت الكلبة دور المنتظر لا تجنح بعواطفها أو تصرفاتها جنوحًا ينبئ عن حقيقة مشاعرها، بينما راح الكلبان يعتركان ويتجه كل منهما إلى الكلبة كلما خُيِّل إليه أنه بلغ من عدوه ما يشتهيه له من هزيمة؛ فما يلبث الآخر أن يلحق به في منتصف الطريق يرده عن الكلبة أن يصل إليها. ولم يكن زين العابدين يعلم أي الكلبين هو الزوج وأيهما العشيق، فإنهم في دنيا الحيوان يتقاربون فيختلطون، ولكن زين العابدين رأى في عيني أحد الكلبين ذِلةً وانكسارًا، ورأى في عيني الآخر توقحًا وجرأة، وكاد يعرف من هذه النظرات حقيقة كل منهما، إلا أنه عاد فاختلط عليه الأمر، لا يدري مدى ما أصابه من صدق النظرة وقوة الاستنتاج. واستطاع أحد الكلبين ذو النظرة المتقحمة أن يصل إلى الكلبة آخر الأمر؛ واستقبلته العاهرة استقبالًا حارًّا جعل الكلب الآخر الكسير النظرات مذهولًا محجمًا عن محاولة كان قد بدأها ليرد الكلب المنتصر، وكأنما أصاب هذا الترحيب من الكلبة كبرياءه، فهو ينعم النظر، وتبدو عليه ألوان من الحيرة والذلة والرغبة والزهد، ثم يُولي الكلبين والمتفرج ظهره وينصرف عن المسرح جميعًا.
ولو كان للمسرح ستار لأُسدل على الكلبين الآخرين؛ فإن الرواية كانت بلغت ما يجب عنده أن تتخفى شخوصها بين الكواليس، ولكن زين العابدين ظل يرنو إلى الكلبين متشوقًا إلى القاهرة وصديقته الجديدة سنية شخلع حسيرًا في الوقت نفسه لقلة المال معه، أسيفًا أنه لم يعد يستطيع أن يبيع أكثر مما باع، فقد تضاءلت أرضه فأصبحت أربعين فدانًا، وما يستطيع بعد ذلك أن يبيع منها شيئًا، ولا يستطيع كذلك أن يواجه ما تحتاج إليه سنية من مصاريف، ولا هو مطيق أن يهجر سنية أو البار، فهو في دُوامة من الحيرة يتخبط بين جدران من خوف الفقر، ومن الرغبة العارمة في بقاء محبوبته، ومن قلة الأرض لا تستطيع أن تغل له ما يكفي رغباته، ولا تستطيع أيضًا أن تتضاءل أكثر مما تضاءلت. وقد كانت حيرته هذه قديمة، ليس للكلاب فيها شأن إلا تذكير بحقيقة تسيطر عليه أغلب الوقت، وقد كان بقاؤه بالقرية أكثر ما يضيق له، ولكنه لا يملك إلا أن يبقى بها، وإن كان هو لا يتولى زراعة الأرض بنفسه، بل يؤجرها إلى الفلاحين، فإشرافه على المستأجرين إشراف هين لا يستغرق من وقته إلا أقل وقته، ثم يفرغ بعد ذلك إلى هذه الحيرة وهذا الضيق بالقربة، وهذا الشوق اللاهف للقاهرة وسنية والبار.
أفزع الكلبين العاشقين صوتُ العربة وهي تأخذ موقفها أمام البيت، وانتبه زين العابدين، وهَمَّ يستقبل زواره في حفاوة وتوقير؛ فقد كان يعلم أن حماه وحماته لا يحبان شيئًا في الدنيا أكثر من أن يلاقيا التوقير أينما ذهبا.
وتقدم زين العابدين من العربة وأمسك بيد حماته، ينزلها منها؛ سيدة في الخمسين من عمرها، ولكنها تتخذ من الملابس والحجاب ما يجعلها في الستين؛ فوشاح أبيض يحيط برأسها، وخمار شفاف يدور حول أسفل وجهها الوردي اللون الذي لا تزال آثار نضرةً تتخايل فيه. وبين الوشاح على الرأس والخمار على الفم تطل عينان فيهما طيبة وفيهما ذكاء وفيهما حب سيطرة لا تجد مجالًا ولا متنفسًا. أما قَوام الست ازدهار الناضورجي فكان معتدلًا لا يُتهم بنحافة، ولا يعاب بإفراط سمنة. ونزلت ازدهار هانم وتبعها زوجها زكي بك الناضورجي وهو ذو شارب يَلقى منه كل عناية وتكريم، أحمر الوجه قصير القامة أصلع الرأس حتى لا يفلح الطربوش الأحمر الزاهي في إخفاء صلعته جميعًا، إنما تظل قطعة كبيرة منها باديةً من مؤخرة الطربوش حيث ينسدل الزر في نظام وإحكام، وكأنما كانت هذه القطعة من الصلع تغافل الطربوش فتخرج إلى العِيان دون أن يشعر بها.
وقبَّل زين العابدين يد حماته، وانحنى وهو يسلم على حميه انحناءةً لا تخطئها العين، وشاعت في عيني ازدهار هانم علائم رضًى، وهمت ظلال ابتسامة على شارب زكي بك، وأخذ الجميع سبيلهم إلى الطابق الأعلى. وثمة استقبلتهم بهية في ترحاب تحيط به كثير من القيود، فلا يبدو إلا في تقبيلها ليد أبيها ويد أمها ووجنتها، وإن كانت في دخيلة نفسها تريد أن تحتضن كلًّا منهما وتقبله قبلات كثيرةً عارمة، وكأنما كانت آمال تدري ما في نفس أمها، فهي تهاجم جدها وتتعلق برقبته ويقع طربوشه على الأرض ويتخلج هو في وِقفته حتى ليوشك هو أيضًا، ولكن يتماسك وهو يغالب الضحك على فمه، محاولًا بكل جهده أن يجعل من ابتسامته كشرةً فلا يفلح جهده، وتتركه آمال إلى جدتها، فما هي إلا ضمة واعتناق حتى ينتهك ستر السيدة الوقور، فالخمار في الأرض والوشاح في منتصف الرأس والسيدة غير غاضبة ولا عاتبة، وكأنما كانت تشتهي هي أيضًا هذا اللقاء من ابنتها؛ فأجابت حفيدتها خوافي رغباتها. وبهية تحاول أن ترد الابنة العاتية فلا تحفل بها، وزين العابدين ينظر فرحًا أن رأى طربوش زكي بك الناضورجي على الأرض لأول مرة في حياته، فهو لم يرَه قبل اليوم إلا منتصبًا على رأس صاحبه، لا يميل ولا يحيد، مثله مثل شارب زكي بك نفسه. ثم ها هو ذا اليوم يرى الطربوش في الأرض والشارب مهوشًا من أثر تقبيل آمال. وتُعربد في نفس زين العابدين ضحكة لا مبالية تذكره بالبار وسنية شخلع وهو يرى زكي بك ينحني في وقار إلى الطربوش يلتقطه مختلسًا النظر إلى زين العابدين، كأنما كان يريده أن يلتقطه هو بدلًا منه، أو كأنما يريده — على الأقل — أن يبدوَ وكأنه غير منتبه للطربوش الساقط وانحناء البك الكبير لإحضاره.
وتنتهي معركة الاستقبال، ويجلس الجميع، ويدور الحديث، ولكن لا يكاد، فإن زكي بك يقول في أمر حازم: زين العابدين بك، أنا سآخذ ابنتي وحفيدتي معي إلى مصر. وتعجب زين العابدين وقال في دهشة: نعم! لماذا … لماذا يا سعادة البك؟!
– البنت كبرت؛ ولا بد لها أن تدخل المدرسة.
وصمت زين العابدين، فإن هذا حق لا سبيل إلى التغاضي عنه، وهو لا يريد لها أن تتعلم تعليمًا مشوهًا، كما أن وجود ابنته في القاهرة يجعل ذهابه إليها مقبولًا أمام نفسه على الأقل، ولكن لماذا تذهب زوجته، نعم.
– ولماذا تذهب بهية؟
– لتمكث معها فترةً حتى تتعود على المدرسة.
وأطرق زين العابدين. وقال زكي بك: زين العابدين بك، هل أنت مشغول هذه الأيام هنا؟
– أنا … لا … أبدًا.
– إذن تذهب أنت أيضًا معنا، وتُدخل ابنتك إلى المدرسة وتتنزه في …
وقطع زكي بك جملته وتنحنح، ثم استطرد في لهجة جادة صارمة، كأنها لا تعني شيئًا على الإطلاق.
– أظن أنك لا تمانع. هيه، لا مانع، هيه.
وأطرق زين العابدين وكأنه يمتثل لأمر لا سبيل إلى التخلص منه.
– أمرك يا سعادة البك. لا مانع، لا مانع.