الفصل الخامس عشر
ثلاث سنوات مرت بحسين في القاهرة، ثلاث سنوات يذكرها وهو مستلق على سريره بجوار قطة تلوذ بيده الحانية عليها في غرفته المنفردة مثله على سطح بيت ساقته إليه عجلة زين العابدين بك، وأبقاه فيه خوفه أن يواجه البحث عن بيت جديد، فقد كان يخشى أن يلقى من الغربة أكثر مما لقي، ولَحجرة عرفها لمدة يوم ثم أسبوع ثم شهر أحب إليه من أخرى لم يعرفها قط مهما تكن تفضلها. لا … لا يريد أن يوغل في الاغتراب أكثر مما اغترب، فهو يبقى في الغرفة، باردة في الشتاء حارة في الصيف، لكنه ألفها وألفته، وقل أن يجد شيئًا يألفه في القاهرة الكبيرة الواسعة المترامية الأطراف. ومع الأيام التي أصبحت شهورًا فسنين أصبحت هذه الحجرة على السطح ملاذه ومأمنه هُرع إليها هالعًا من القاهرة، فأمَّنت خوفه، وأقرت مضطربه، واستراح بين ضلوعه قلب مفزع شديد الوجيب عاصف الضربات. ليس ينسى يوم فزع إلى غرفته هذه في اليوم المشئوم من أيامه الأولى في القاهرة؛ يوم نزل مزهوًّا بجبته وقفطانه وحذائه اللامع يتبختر في الشوارع يزين لنفسه أن يتفرج على القاهرة، معتقدًا أن الأعين فيها جميعًا سوف ترمقه بالإجلال والإكبار. وسار على غير هدًى، وراح يتلفت حواليه أينما سار، محاولًا ما وسعه الجهد أن يرى أثر قفطانه وعِمامته الزاهية على من يمر بهم من الناس، حذرًا كل الحذر أن تنحدر هذه الدمعة التي لا تترك عينه، فهو يمسح خده، سواء لديه كانت الدمعة منحدرةً أو كان مكانها جافًّا لا أثر للدمع فيه. وتعود إليه نظرته توهمه أن العيون تتبعه، وإن كان هو في بعيد نفسه يعلم أن ما تلقيه إليه نظراته وَهْم لا يتصل بسبب إلى الحقيقة؛ فالناس منصرفون عنه إلى ما يشغلهم من حديث أو عمل أو لهو، ولكنه مع ذلك يحب أن يصدق أوهامه أكثر مما يحب أن يصدق الحقيقة التي يعلمها، فهو وقور في مِشيته، بطيئة خطواته قليلة حركاته إلا تلك اليد يمسح بها من حين إلى آخر دمعته الحقيقية أو الموهومة لا يدري، وإنما هي يده يرفعها بين الفينة والفينة؛ حتى لا تصيب الدمعة شيئًا من وقاره أو أناقته.
وظل سائرًا يتهدى به شارع إلى حارة، أو حارة إلى زقاق، حتى انتهى به المطاف إلى أصوات عالية أوضح ما فيها أيمان مغلظة، تتراوح بين أيمان الطلاق والقسم بالله ثلاثًا، وراح يقترب من الأصوات، لأن طريقه يحتِّم عليه أن يقترب منها، حتى أصبح في مركز الدُّوامة من الصراخ المرتفع.
– وأنت من أدراك بكلام الله؟ يا رجل دعِ العلم لأهله، أنا لم أرك في يوم من الأيام تلبس العِمامة، إلا إذا كان ذلك قبل أن أعرفك، أي قبل أن تولد.
– يا رجل! يا رجل اتقِ الله! زوجتي طالق يا شيخ إن لم تكن هذه الآية من كلام الله.
– تعني أنها من القرآن؟
– في القرآن.
– زوجتي طالق ثلاثًا إن كانت في القرآن أو كانت تعرفه أو شافته. الرجلان على جانبي الطريق؛ أحدهما على باب دكان حوله رهط من الأصدقاء، والآخر على المقهى في الجهة المقابلة يحيط به هو الآخر رهط من المعجبين، وكلا الرجلين يريد أن يكون ذا علم. وحسين يمر بينهما وتختطف أذنه هذا النقاش فيسير طريقه واثقًا أن الجماعة ستنشغل بنقاشها عن قفطانه وعِمامته. ويعبر حسين المقهى والدكان ويوشك أن يبتعد، ولكن الصراخ ينقطع بشكل مفاجئ فلا يسمع حسين إلا كلمةً واحدة.
– نسأله.
ويعقبها صوت يصبح أصواتًا: يا أستاذ.
ويمضي حسين سبيله، ولكن الأصوات تتعالى: يا سيدنا، يا سي الشيخ.
ويقف حسين ويلتفت وفي عينيه سؤال يريد أن يتأكد به أنه هو المقصود. وتتعالى الأصوات مرةً أخرى: نعم أنت. تسمح لحظة.
ويتجه حسين إلى الجمع. ويبادره الرجل الجالس إلى المقهى: نريدك في سؤال.
ويفرح حسين؛ فقد واتته الفرصة مبكرةً أن يصبح أهل إفتاء فيجلس القرفصاءَ معتمدًا قدميه دون أن يلامس جسمه الأرض، موليًا وجهه إلى أهل المقهى وظهره إلى أهل الدكان. وقال وقد تمكن من جِلسته: نعم.
– هل في القرآن: وإذا الصحف تطايرت وانتشرت؟
ويقول حسين في وقار وثقة: لا، إنما يقول سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ …
ولا يُكمل الآية، وإنما هي ركلة عنيفة في ظهره ترفعه إلى أعلى قليلًا ثم تهوي به على الأرض منكفيًا على وجهه، عِمامته نافرة عن رأسه، وصوت يطن في أذنه: ألم يبقَ إلا العيال نسألهم في كلام الله؟ وأنت ماذا تفهم في كلام الله يا ابن … يا ضائع. قم … قم خيبة الله عليك وعلى أبيك.
ويغرق الجانبان في الضحك لمنظر حسين وعِمامته، ويقفز حسين إلى عِمامته حيث هي، وينفجر باكيًا وينتهز مكانًا خاليًا وينفلت منه، وقد علا بكاؤه. تملأ نفسه الحسرة ويروح ويعدو، وقد أحست نفسه الظلم مريرًا حانقًا، يزيده الرعب مرارةً وحنقًا، لا يجد متنفسًا منه إلا الدموع والنشيج.
وراح يعدو لا يدري إلى أين، وانغلقت عليه المسالك فأصبح لا يدري كيف يصل إلى حجرته، فيقف وينظر إلى حاله، وينظر إلى خلفه، حتى إذا استيقن أنه غير متبوع راح يتحسس طريقه إلى الحجرة حتى بلغها، وحين دخلها عاوده الأمن وإن لم تفارق نفسه المرارة. واحتضنته الغرفة ذلك اليوم ووجد فيها مأمنًا ووجد فيها أنيسًا. هذه القطة التي عرفها أول ما عرفها في ذلك اليوم، وكأنما جاءته ليشكوَ إليها ما وقع له، ولتشكو هي إليه الجوع والتسكع، كان هو وحيدًا بغربته، وكانت هي وحيدةً بجوعها، والتقى الاثنان وبدأت بينهما في ذلك اليوم صداقة لا تزال مشدودة الأواصر حتى يومه هذا. لا، لا ينسى حسين كيف كانت هذه الغرفة مأمنًا له من الفزع، وكيف صارت القطة أنيسًا من الوحدة، وليس ينساهما أيضًا فيما وقع له بعد ذلك من ظلم.
كان ذلك بعد إقامته في القاهرة ببضعة أشهر، وكان الأزهر قد أتاح له بعض صداقات، وكان أقرب الأصدقاء إليه فتًى من القرية المجاورة لقريته سبقه إلى القاهرة بسنة، واستطاع أن يجد عنده ما يحب من حديث عن أماكن وأشخاص يعرفها كلاهما، هذا الحديث الذي يذيب الوحشة ويثير الحنين ويشعر الإنسان بدفء الحياة في ظلال بلدته وعلى وديانها وحقولها، وتحته النخيلات هناك وعلى ضفاف النهيرات، وذلك الحديث الذي لا يجده حسين في القاهرة إلا حين يلم به الحاج والي وقليلًا ما يفعل، ثم هو لا يستطيع أن يُفيض معه في الحديث إفاضة الصديق إلى صديق، وإنما هي أسئلة يمنعها الإجلال أن تكثر، ويعوقها الخجل أن تصل إلى التفاصيل. أما حين يتحدث حسين إلى صديقه حمدي؛ فالذكريات المشتركة، والأماكن التي يعرفها كلاهما، والأشخاص الذين تربطهم بهما صلات الملعب والكُتَّاب؛ فقد كان كتاب القريتين واحدًا. وهكذا توطدت الصداقة بين حسين وحمدي، وأصبح حمدي مرشدًا لحسين في القاهرة، وصار حسين يبتعد عن حي الدراسة، مطمئنًا إلى خبرة حمدي ومعرفته بالطرق، فهو يزور أحياء القاهرة، معتمدًا في السير على رجليه، وفي معرفة الطريق على حمدي. حتى كان يوم زارا فيه حديقة الحيوانات، وأتما زيارتها وأرادا العودة، وكان التعب قد أخذ منهما أخذًا وبيلًا. فقد قضيا يومهما جميعه سائرين. وقال حسين: نركب الترام.
– نركبه، لكن اسمع: أتريد أن نركب أم تريد أن أجعلك تتنزه نزهةً أخرى؟
– أنا متعب.
– إنها نزهة مريحة.
– كيف؟
– نركب سلم الترام بدلًا من الترام نفسه، فنكسب مكسبين؛ الأول أننا سنكون خارج الترام لنتفرج على الشوارع التي سنمر بها فُرجةً لا نستطيعها من داخل الترام، أما المكسب الثاني فهو أننا لن ندفع شيئًا.
– لا بأس.
وكان حسين قد تعلم منذ حادثته الأولى ألا يَخرج بعد الظهر بملابس الأزهر، فهو يلبس طاقيةً ومركوبًا وجلبابًا، وكان حمدي يرتدي مثل هذه الملابس أيضًا. وبدأ الاثنان المغامرة، ولكن لم يكادا، فقد ركبا أول ما ركبا ترامًا ذا سائق لا يحب هذه العادة من الفتيان؛ فما كاد الاثنان يقفان على السلم حتى وجد حسين طاقيته تُختطف عن رأسه، وقبل أن ينظر إلى من اختطفها كانت طاقية حمدي تلحق بطاقيته، ونظرا فإذا السائق يضع الطاقيتين على المقبض الذي يمسك به ليتحكم في الترام وهو يقول: حتى لا تركبا مجانًا مرةً أخرى يا أولاد الكلب.
وراح حسين وحمدي يستعطفانه، ولكن الرجل ظل صامتًا، وكأنه فقد النطق، حتى إذا بلغا انحناءةً شديدةً أمال السائق الترام بعنف؛ فإذا حسين وحمدي على الأرض، وقام كلاهما يجري ولم يكن الترام في سرعته الكاملة، فهما يعودان بجانبه يستعطفان السائق أن يرد إليهما الطاقيتين، ولا يُجيب، ويخشيان أن يثِبا مرةً أخرى إلى السلم أن يضربهما الرجل الصارم. وزاد الترام من سرعته، وزاد الاثنان من سرعة عدوهما وينفلت المركوب من رجل حسين، ويستقر على شريط الترام وتمر عليه العجلات الحديدية فإذا هو نصفين، ويقف حسين ويُضطر حمدي للوقوف. كانت المصيبة واحدة، فصارت مصيبتين، والطاقية مهما تكن من الوبر غالية، إلا أنها على أية حال أرخص من المركوب، ويمسك حسين ببقايا المركوب بين يديه، والترام يبتعد عنهما بالطاقيتين، وينظر حسين إلى حمدي: أرأيت شورتك، نتفرج ولا ندفع؟
ويضع حسين فردة المركوب تحت إبطه، ويمكسك بالمركوب الآخر الممزق ويقطع الطريق حافيًا، حريصًا أن يميل إلى كل محل أحذية يلاقيه كبيرًا كان أو صغيرًا، يسأل الواقف به سؤالين: أيمكن إصلاح هذا؟
– لا.
– أيمكن أن تبيع لي فردةً واحدة؟
وقد يجيب المسئول بلا ساخرًا، أو يجيب بطرده هو وصاحبه في صلف وكبرياء.
ويصل حسين إلى غرفته، ويقفل الباب، ويرتمي إلى فراشه ويبكي. وتثِب القطة إلى جانبه فيمد إليها يده بغير وعي، ويمسح على ظهرها وتنحدر الدموع من عينيه.
كانت الحجرة في ذلك اليوم ملاذًا له في بؤسه وشقائه؛ فهو إذن لا يريد أن يتركها، فقد ألفها وألفته.
وألف أيضًا أهل البيت؛ فإن زوجة صاحب البيت وهي شابة في ريق العمر كثيرًا ما تلقي إليه نظرات فيها عطف وفيها انتظار لشيء. لم يكن حسين يدري ماذا تنتظر، ولكنه كان يحس أن هناك شيئًا تنتظره هذه الفتاة، ولكن الأيام في مرورها البطيء جعلته يعرف أن هناك ما تنتظره امرأة من رجل وما ينتظره رجل من امرأة. حين بلغ اليوم الذي يعرف فيه هذا الشيء؛ كان يقول كلما تذكر الست مفيدة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم … أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.