الفصل السادس عشر
مر وقت طويل على الحاج والي لم يزُر الزقازيق، فانتهز فرصة وجود بعض غلال عنده يريد أن يبيعها فأخذ أُهبته لزيارة البندر وسأل الحاجة بمبة إن كانت تريد شيئًا، فذكرت له ما تحتاج إليه، ولم يكن ما تحتاج إليه كثيرًا، وأخذ الحاج والي طريقه إلى البندر، راكبًا عربته الحنطور، التي كان قد طلب إلى سائقها أن يعود إليه بعد أن يذهب بمحمد إلى المدرسة.
وفي الزقازيق لم يجد تاجر الغلال الذي تعوَّد أن يعامله، فراح يشتري ما طلبته الحاجة بمبة، حتى إذا انتهى من الشراء مال إلى المقهى الذي يجلس إليه كلما ألم بالبندر، وفجأةً تذكر أنه منذ زمن بعيد لم يزُر محمدًا في المدرسة ليعرف كيف يسير في الدروس.
فانتهز الفرصة وقام إلى المدرسة.
وكأنما كان الناظر ينتظر: كنت سأكتب إليك الآن.
– خير؟!
– المدرسون يشكون من محمد.
– لماذا؟
– لا يريد أن يكتب في الفصل، ويهمل واجباته.
وصمت الحاج والي قليلًا. أهكذا تنتهي آماله؟! أهذا ما كان يصبو إليه؟! أيربي طفلًا ليس ابنه فيتجه من التعليم وجهةً لم يكن يبتغيها، وحين يريد أن يربيَ ابنه هو الوحيد يعزف عن التعليم جميعًا؟ ويلتفت إلى الناظر — وفي قلبه هم ثقيل كأنما هو أمام طبيب يعلنه بنهاية الحياة — ماذا أفعل؟
– أتراك لينًا معه؟
– لا أدري، فأنا لا أؤخر له مطلبًا.
– لعلك لو اشتددت عليه بعض الشيء.
– بل أريد أن أشتد عليه كل الشدة. إنه ابني الوحيد يا حضرة الناظر.
– أعرف.
– وليس لي أمل في الحياة إلا أن يتعلم.
– أعرف.
– ماذا لو ضربته الآن أمام إخوانه؟
– عقاب شديد لا أريد أن تلجأ إليه إلا عند الضرورة القصوى.
– إذن؟
– عقابًا أهون من هذا.
– حسن. سيسير محمد في دراسته على أحسن وجه.
سأجيء إليك كل أسبوع لأتأكد من ذلك بنفسي، وأشكرك يا حضرة الناظر.
وخرج الحاج والي عائدًا إلى المقهى، وانتظر حتى موعد خروج محمد، وركب العربة وانتظر مع المنتظرين. وخرج محمد، وفوجئ بأبيه في العربة.
– سلام عليكم يابا …
– اركب.
وركب محمد، وسارت العربة، ولم ينبس الحاج والي بكلمة. وظل محمد صامتًا حائرًا، وقد داخل نفسه هلع لا يدري مأتاه؛ فما هكذا عوده أبوه. كان يتحرق شوقًا أن يدريَ ما يعتمل بنفس أبيه، ولكن أنى له هذا وهو لا يستطيع أن يفتح حديثًا يغلق أبوه أبوابه! وصار الطريق الذي يقطعه محمد مرتين كل يوم دون أن يحس طوله طويلًا لا ينتهي؛ فقد كان محمد يحادث السائق في أثناء الركوب، أما الآن فهو في صمت مطبق لا يشغله إلا صوت العجلات، وحوافر الخيل، والخوف الراعد الذي يملأ قلبه. وأحس الحاج والي بالحيرة التي يعانيها ابنه، ولكن أين هي مما يشغل قلبه من حزن وألم؟!
ووقفت العربة أمام البيت، وقفز محمد يريد أن يبتعد عن نفس أبيه هذه الغاضبة، ولكن أباه عاجله: انتظر.
وكأنما كانت الكلمة حبلًا يمسك بالطفل الصغير، فهو يقف مكانه متسمرًا، ويهبط الحاج والي من العربة، ولا يقول إلا كلمةً واحدة: تعالَ.
ويدخل محمد وراء أبيه، ويجدان الحاجة بمبة في بهو البيت، فيلقي عليها الحاج تحيةً سريعة، ويدخل إلى الحجرة وهو يقول لمحمد: تعالَ.
وينظر محمد إلى الحاجة وتنظر إليه وتقول: أنت عملت حاجة؟
وقبل أن يجيب محمد، يعلو صوت الحاج والي مرةً أخرى في غضب: تعالَ.
ويدخل محمد إلى الغرفة، وتهمُّ الحاجة أن تلحق به، ولكن الحاج والي يردها في شيء من اللين: انتظري قليلًا أنتِ يا حاجة.
وترجع الحاجة إلى مكانها من البهو، ويغلق الحاج باب الغرفة بالمفتاح: لماذا لا تكتب في الفصل؟
ويصمت محمد. لقد عرف الآن السر في غضب أبيه، ولكن لات حين معرفة. ويصرخ أبوه في وجهه: انطق.
ويرتعد محمد من هول الموقف. ويعود أبوه يسأله: ولماذا تهمل في واجباتك؟
ولم ينتظر الحاج والي؛ بل إن يده كانت أسرع من إجابة محمد، وانهال على الطفل ضربًا. والطفل باهت أمام أبيه تدور عيناه في محجريهما، ويحس شيئًا ساخنًا يبل فخذيه، ثم تنفجر عيناه بالبكاء، والأب يضرب حتى أصبح لا يريد أن يقف، ويصرخ: ماذا؟! أمجنون أنت؟! ليس لي إلا ابن واحد، ويريد أن يصبح ضائعًا تافهًا.
ويضرب، والفتى يُحيط وجهه بذراعيه، والأب يضرب لا يدري أين مواقع ضربه! ويضرب، والطفل يبكي، حتى صرخ الطفل أخيرًا بصوت علا على صوت أبيه: كفى يابا … كفى …
وكأنما كانت كلمات الطفل القليلة يدًا سُلطت على قلب الحاج والي فاعتصرته اعتصارًا، كانت كلمات بسيطةً قليلةً ليس فيها اعتذار ولا طلب مغفرة، ولكنها هزت كِيانه كله حتى أوشكت الدموع تطفر من عينيه. كفى يابا كفى. لم يقل غيرها، فما له قد زُلزل زلزالًا؟ وما له قد كف يده وكأنما قبضت عليها يد أخرى قُدت من حديد؟! وتنبه إلى طرق زوجته على الباب ففتح لها، ولم تسأله، وإنما أحاطت الطفل بحنانها، وأخذته وخرجت من الغرفة.
وظل الحاج والي وحيدًا. ألهذا كنا نأتي بهم، لعذابهم وعذابنا؟ ومرةً أخرى عاد الضباب يغشى ناظريه، إلا أنه في هذه المرة كان ضبابًا أكثر كثافةً من كل مرة. وأخرج الحاج والي مسبحته وراح يسبح: لا حول ولا قوة إلا بالله، سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله.