الفصل الثامن عشر
إن له لنغمةً حلوةً قريبةً إلى النفس، يصبو إليها القلب في تجاوب خفَّاق، عذب هو، لا تملك الأذن إذا سمعته إلا أن تميل إليه في حنين، يملك على الإنسان مشاعره جميعًا، فكأنما الدنيا لم تُخلق إلا ليسمع الإنسان فيها الشعر. يقولون إن للخمر نشوة، فما نشوتها إذا قيست بنغمة الشعر الجميل الجرس الحلو الأرانين؟ فالقلب حين يُصغي إليه وجيب، والعين دمعة حائرة تنطلق عن سعادة غامرة وهناءة تتماوج في النفس جميعًا.
هكذا أحَب حسين الشعر؛ فحياته منذ أحبه شعر، وليس غير الشعر. يستعير الدواوين من مظانها جميعًا، ويحفظ العروض فيجيد حفظه، ويحفظ المنظومات الأزهرية جميعًا في سهولة ويسر، ويحب شواهد النحو التي يضيق بها إخوانه من الأزهريين. شعر، أصبحت آفاق حياته كلها شعرًا، ولكن آماله في أن يصبح شيخًا للوعظ لم تبرح نفسه، فهذا أمل راسخ في بعيد نفسه ليس له عنه حول ولا منصرف؛ آمال الصبا الباكر الحالمة، الجبة والقفطان والعِمامة والنساء والرجال وهنية، وخاصةً هنية، يقبلون يده، ومن يدري فقد يأتي يوم يقبلون فيه طرف الجبة، الخضراء، أو غير الخضراء، وإن كان لا بأس بالخضراء. وأقول شعرًا؛ شعرًا في الصوفية، في حب الله؛ فإنه لا يجوز لشيخ مثلي أن يقول في غير حب الله. ولكنه شعر جميل، يستثير مكامن الدموع، ويداعب خوافي الأشجان، ويجعل النفس تثوب إلى الإيمان من حب الله والتفاني في ذاته العليا، سبحانه. وكانت يد الشيخ اليمنى تداعب قطته وهو مستلقٍ على السرير، تاركًا لآماله الحرية أن تفعل به ما تشاء. وانتبه الشيخ إلى نفسه وإلى يده تداعب فرو القطة الناعم، ويده الأخرى تمسح دمعةً عن عينه. وحيد، وحيد ليس لي إلا القطة، ألم تصدف عن صاحبة البيت؟! لَكَمْ عَرَضت عليك أن تنظف لك الحجرة أو تغسل لك الملابس ولكنك أبيت في إصرار، بل إنك حتى رددت الطعام الذي أرسلته إليك مع الخادمة الصغير. أستغفر الله العظيم … أستغفر الله العظيم. ولكني وحيد؛ أتصلح هذه الكلمة بداية قصيدة؟ أو تكون مثل هذه القصيدة صالحةً للتصوف؟ لا بأس أن أقول في الحب العفيف أو في المشاعر الإنسانية البعيدة عن الدنس والعياذ بالله؛ فالوحدة موضوع لا بأس به. أتُراك لو كتبت القصيدة تمتدح الوحدة؟ أم تراك تقول ما تجده فيها من بؤس وضياع. ما هي إلا سنوات قليلة، نعم … نعم … تصبر نفسك، إنما هي سنوات قلائل وتصبح وحدتك شملًا مجتمعًا، أنت وهنية … نعم إنك تريدها زوجة … هنية … تلك البنت … الفتاة التي تريدها أن تقبِّل يدك أو طرف جبتك … نعم فإنه لا رهبانية في الإسلام. أريد أن أحترف الوعظ وأتزوج وأنجب البنين والبنات، وأعوض نفسي عن الوحدة الطويلة التي عانيتها … طويلة … طويلة هي الوحدة؛ القطة، الوقت المتثائب، رائحة الركود، الزمن المتجمد، الضياع في طوفان الفراغ، دُوامة الصمت، لا حس إلا تسبيح القطة، لا رائحة إلا أنفاسها كأنها أنفاس الملل والضيق والضياع، لا عمل إلا الانتظار لمجهول وذكريات من الماضي أضيق بها من كثرة ما تذكرتها، وآمال في المستقبل أكاد أزهدها لهذا الزمن الطويل الذي يفصل بيني وبينها. مروعة هذه الوحدة … لا … لا شيء يصفها إلا نفسها؛ الوحدة، الانسلاخ عن البشرية المتماوجة حولك، البعد عن دُوامة الحياة، العزلة كأنك عمل سيئ، القطة وأنا. وفجأةً وجد القطة تضطرب تحت يده وتقفز فتُهوي يده إلى السرير ويجتذب نظره عن الحائط الذي أطال إليه النظر يريد أن ينظر إلى مكان القطة فيجد جسم إنسان … امرأة! إنها مفيدة زوجة صاحب البيت! وينظر إلى الباب فيجده قد أقفل وإلى القطة فيجدها متعبةً عند الباب تنظر إليه وكأنما تنتظر ما هو فاعل، ويعود إلى المرأة ثم يثوب إلى نفسه، ثم ينتفض من مكانه، يريد أن يقوم وهو يقول: «أهلًا.»
ذاهله دهشة خائفة، وقبل أن يقوم تدفعه يد المرأة في جرأة: نم.
ويرتمي مكانه: لماذا؟
– إلامَ تظل خائبًا؟
– نعم؟!
– يا رجل اصحُ من نومك. أصبحت رجلًا.
– نعم؟!
وأطبقت بشفتيها على شفتيه، والتهبت حواسه، وحين أخلت سبيل فمه وجدته ووجد نفسه يقول: حرام!
فأطبقت على شفتيه مرةً أخرى، وحين تركته قال مرةً أخرى: حرام!
ونامت المرأة إلى جانبه، وهو لا يتوقف عن القول: حرام!
– حرام … حرام … حرام.
أقام صلاة الفجر حاضرةً ثم تناول إفطاره وراح يذاكر بعض الحين ثم لبس ملابسه ومد يده ليتناول العِمامة؛ فأحس يده كأنها تريد أن ترتد عن العِمامة دون أن تأخذها، حتى إذا استجمع قواه اختطف العِمامة إلى رأسه؛ فأحس كأنها أطواق من حديد تضغط على رأسه حتى ليكاد رأسه ينفجر. ليست هذه هي العِمامة التي يعهدها، لا ولا هي التي يتيه بها عجبًا. ماذا دهى العمامة، ماذا ألم بها؟!
خلع ملابسه وعاد إلى الحمام مرةً أخرى وراح يسكب مزيدًا من الماء على جسمه. وانهمر الماء وانهمر حتى إذا خُيِّل إلى حسين أنه يستطيع أن يلبس عِمامته دون أن يضيق بها أو تضيق هي على رأسه؛ خرج من تحت الماء وعاد إلى غرفته. وقبل أن يجفف الماء عن جسمه انفرج الباب عن مفيدة، ولم يلبس حسين العمامة، لا، ولا ذهب إلى الأزهر في يومه هذا.
لم تعد علوم الأزهر تعنيه، إنما كان يهتم بالشعر فيها فقط، وهو منذ عرف مفيدة أشد انصرافًا عن العلوم الدينية. وكان يحس أنه غير متلائم مع ملابسه، ولا مع المستقبل الذي يعد نفسه له، حتى لقد أخذ يتجه بآماله إلى آفاق أخرى غير الأفق الذي كان قد رصد له حياته.
ولكنه مع ذلك مضطر أن يظل على عهده من لبس الجبة والقفطان والعِمامة، وإن كان في داخل نفسه يخلع العِمامة والجبة والقفطان. لم يعد يعنيه أن يقول شعرًا في الصوفية، وإنما أصبح يعنيه أن يقول شعرًا في أي شعر، فهو يقرأ، ويقرأ. وطاب له العيش مع مفيدة ومع آماله العريضة أن يصبح شاعرًا، ولكن هاجسًا ما يلبث أن يهجس في نفسه؛ ماذا يفعل به الحاج والي، إن هو اتجه إلى الشعر ولم يتجه إلى ما أراده لنفسه من تعليم ديني؟ وماذا يمكن أن يفعل الحاج والي؟ بل ماذا يمكن أن أفعل أنا إذا غضب عليَّ الحاج والي؟ ضائع أنا شرير، ألتمس الرزق من غير أبي، بل من رجل لا تربطني به صلة إلا الفضل منه والفقر مني، ورغبته أن يفتخر أمام الناس أنه يغدق عليَّ عطفه، ورغبتي أنا في أن أتعلم، وإن بذلت في سبيل ذلك كرامتي وماء وجهي.
وليس لي اليوم محيد عن التعليم الذي أخذته لنفسي، وإلا فأين أُولي وجهتي من العلم؟ لات حين، لا بد أن أكمل تعليمي حتى أجد ما أقتات به ولْيفعل بي الحاج والي بعد ذلك ما يشاء، إنما بيني وبينه أن أنال شهادة، أي شهادة. لا، لا حاجة بي أن تكون شهادة العالِمية، فماذا يمكن أن تكون إن لم تكن العالِمية؟ وتدخل مفيدة وينقطع حسين عن التفكير.