الفصل التاسع عشر
فرغ الحاج والي من صلاة العصر، وتربَّع على السجادة، وراح يتمتم على مسبحته، وكان ابنه محمد جالسًا أمامه، وراح الحاج ينظر إلى ابنه، بينما كان محمد مشغولًا بالمذاكرة، وأحس محمد نظرات أبيه فالتفت إليه، والتقت ابتسامتان لا معنى لهما. وأطال الأب النظر إلى ابنه، وظل الابن رانيًا إلى أبيه حتى انتبه أخيرًا الحاج والي ونكَّس رأسه إلى السجادة؛ أيحرمني حتى من متعة النظر إليه، ما ضر لو تظاهر بأنه غير منتبه إليَّ، وأتاح لي فرصةً أطول من النظر إليه؟! راحة وهدوء يشيعان في نفسي إذا نظرت إليه لا أدري لهما سببًا.
وعاد محمد إلى المذاكرة، إنه في طريقه الآن إلى البكالوريا يتحسس طريقه إلى الشباب في خطًى متعثرة، يحدوها شوق عارم لمجهول من الحياة.
وعاد الأب ينظر إلى ابنه وفكر، وما كان بحاجة إلى التفكير؛ كان قد أعد له المستقبل جميعًا لم يغفل منه شيئًا، لا، هو لا يريد أن يشق ضمير الغيب عن مستقبل ولده، فهو يعلم هذا المستقبل ويعده في أناة وثقة واطمئنان.
وقد ترك الابن لأبيه زمام مستقبله، يخط فيه ما شاء أن يخط ليس له من اعتراض عليه، بل إنه حتى لا يفكر أن يكون ذا رأي في مستقبله.
– كبرت يا محمد.
– أطال الله عمرك يابا. البركة فيك.
– إذا نجحت هذا العام …
– سأنجح يابا.
– ستذهب إلى مصر.
– إن شاء الله.
– لقد اتفقنا على الكلية.
– الطب.
– ولكن هناك أشياء لم نتفق عليها.
– أنا تحت أمرك.
– امتحانك بعد أسبوع؟
– نعم.
– عندما تنتهي من الامتحان نتكلم.
وقام الحاج والي عن السجادة ودلف إلى حجرة نومه فوجد الحاجة بمبة مستلقية على الفراش غير نائمة: هل أنتِ نائمة يا حاجة؟
– لا أبدًا.
وجلس الحاج والي على الأريكة، وثنى رجلًا إلى جسمه، وأخرى إلى الهواء وقال: آن لكِ أن تفرحي بمحمد.
– ماذا؟
– ابنك يا حاجة بمبة، وهل له أم غيرك؟
– وكيف أفرح به؟
– أريد أن أزوجه قبل أن يذهب إلى مصر.
– تزوجه وهو تلميذ؟
– تلميذ في الطب.
– أليس صغيرًا؟
– سيكون وحده في القاهرة.
– بل سيكون أخوه معه.
وصمت الشيخ قليلًا ثم قال: تقصدين حسين؟
– أليس أخاه؟
– حسين مشغول يا حاجة.
– مشغول؟!
– مشغول يا حاجة.
وصمت وانتظرت الحاجة أن يتكلم. وأحس الضباب يتصاعد أمام عينيه، وقال: عرف أني مريض فلم يهتم، حتى أن يرسل خطابًا، وعرف أنكِ مريضة ولم يسأل. وأنا أزوره لا أنقطع عن زيارته كلما ذهبت إلى القاهرة.
– كيف عرف؟
– من حمدي.
وصمت ثم عاد يقول: لقد رفض حتى أن يأتيَ في الإجازة، ومع ذلك … إيه، إنما الأعمال بالنيات.
– إنه ابنك يا حاج.
– لا يا حاجة. لقد أردت أن يكون ابني، ولكنه هو لا يريد. النهاية … النهاية …
– هل قطعت عنه ما ترسله إليه كل شهر؟
– وهل تعتقدين أنني أفعل مثل هذا يا حاجة؟
– لا.
– المهم، أريد أن أزوج محمدًا. ستكون له زوجة تعصمه من الزلل، وتخدمه، فيتفرغ للمذاكرة.
– أتريدني أن أختار العروس؟
– لقد اخترتها؛ هنية بنت عبد الحميد الهراس.
– كبيرة يا حاج!
– وما البأس؟ حتى تعرف كيف تعامله، وأبوها رجل طيب.
– أمرك يا حاج. أأكلم أمها؟
– على بركة الله.