الفصل الثاني
كان الحاج والي جالسًا في دوار زين العابدين بك ينتظر نزوله من الطابق الأعلى. ولم يكن أحد يشارك الحاج والي في جلسته في الدوار، فهو وحيد. ولم تكن السعادة باديةً على مُحياه، فهو متجهم، شارد الذهن، مفكر تفكيرًا لا تلوح عليه بوادر هناءة أو رضًا؛ فوجهه الأسمر مقطب، وشاربه الذي تعود أن يعتنيَ به كل يوم عند الحلاق مهمَل أشعث غاضب كصاحبه، حتى العِمامة التي لا يلبسها الحاج والي إلا وهي ملفوفة مسبوكة مهندمة، ألقى عليها الحاج والي ظلًّا من تجهمه، فهي منداحة على رأسه، تكاد تتهدل أطرافها على وجهه. وفي عينيه السوداوين ظل من أسف وأسًى، وفي جبهته العريضة غضون من الألم لا من الزمن، وفي فمه كلمة حبيسة لا يدريها ولا يعرف ما هي، ولكنه يعرف أسبابها ودوافعها. كيف يقول ما بنفسه؟ كيف يعبر عنه؟ لم يكن يدري. وأنفه الكبير بعض الشيء يجتذب أنفاسًا عميقة، ولكنها لا تريحه، فما يلبث من حين لآخر أن يفتح فمه الصغير؛ فيلتقط من الهواء شهيقًا عميقًا يزفره في نفخة حانقة ضيقة ملول، فما يجدي الشهيق ولا الزفير ولا الأنفاس اللاهثة التي يجتذبها له أنفه.
ويأتي متولي الخادم إلى الحاج والي، فما يرفع عينيه إلى متولي، ولم يكن متولي ليرضى هذا منه؛ فقد تعود من الحاج والي مداعبته، أو كلمة تحية إن كان جالسًا إلى البك، أما أن يلاقيه بهذا الصمت، بل بهذا الإهمال، فأمر لا يمكنه السكوت عليه؛ فإن الحاج والي لا يفعل هذا إلا إن كان في حال من الضيق شديد. وقبل أن ينطق متولي يكون الحاج والي قد شهق من الهواء شهقةً طويلةً زفرها، وقد ضم شفتيه بعض الشيء فخرج الهواء كصفير فاشل حانق. وقال متولي: أعوذ بالله! لماذا هذا يا حاج والي؟! هون عليك يا شيخ، تبيت نارًا تصبح رمادًا. ما الذي يضايقك؟
وكأنما لم يكن الحاج والي يتوقع أن يتبين متولي حقيقة مشاعره، فهو يقول في أسًى: الهم كثير والله يا متولي. النهاية الحمد لله على كل شيء.
– ماذا، ماذا بك؟ عريس جديد؟ والمال — والحمد لله — موفور وشباب وصحة، وكل ما تشتهيه تجده.
– اسكت يا متولي، اسكت. لا يعرف النفوس إلا خالقها. اسكت لا أراك الله ما أنا فيه.
– يا رجل توكل على الله. هل أحضر الشربات؟
– بل القهوة يا متولي، ولتكن بغير سكر.
– يا رجل أعوذ بالله! أهو حسد ما أصابك؟ ماذا بك قل لي؟ إنك منذ فترة طويلة مهموم، وقد حسبت أنك حين تتزوج سيزول عنك الهم، فإذا أنت تصبح تَعِسًا. أين الضحكة الخالية من التفكير؟ أين النكتة الرائعة من كل كدر؟ أين أنت يا حاج والي؟
– لا عليك يا متولي، لا عليك. هكذا أمر الله.
– يا رجل أنت متزوج من قريب، أهذه حال رجل تزوج من قريب؟
– أمر الله يا متولي.
– لا حول ولا قوة إلا بالله! ولكني رغم هذا سأحضر لك الشربات. لن أتأخر. شربات، شربات، مهما تكن مهمومًا، شربات.
وخرج متولي، وخلت الغرفة بالحاج والي، وثقل عليه الصمت، وثقل عليه التفكير الصاخب، وود لو عاد متولي ولو ليشقشق بهذا الحديث الذي تعود أن يشقشق به، ولكن متولي آثر أن يتركه، ولو كان يعلم أن حديثه الفارغ أهم عنده من الشربات الذي يصر على إحضاره ما تركه. وتأخر متولي، وسمع الحاج والي صوتًا واهنًا، ينبعث غير بعيد من مجلسه، ونظر فرأى مصيدة فيران فاغرةً فاها، في شراهة يقف حيالها فأر يلوب حواليها، مصطنعًا الذكاء والحذر، مقدمًا حينًا على اللقمة التي تبدو للنظرة المجردة سائغةً سهلةً المنال، محجمًا حينًا آخر، وكأنما يريد أن يعرف ماذا ستفعل اللقمة أو المصيدة، إن هو أعرض عنها ولم يُقدم. وانشغل الحاج والي بالفأر واللقمة والمصيدة، وأمعن الفأر في مداورته، ثم هاجم اللقمة فجأة، وكأنما أراد أن ينتهز من المصيدة غفلةً ويختطف اللقمة، ولكن المصيدة لم تغفل، فما هي إلا أن أصبح الفأر جميعه داخلها، حتى أطبقت عليه فمها الشَّرِه. ونظر الفأر إلى باب المصيدة نظرةً حسيرة، ثم عاد إلى اللقمة فأكل جزءًا منها، ثم ما لبث أن عافها. ونادى الحاج والي: يا متولي، يا متولي.
ولم يُجب متولي النداء، وإنما دخل الغرفة زين العابدين بك؛ رجل في أواسط العمر، أبيض الوجه، سمح الملامح، يبدو عليه حرص على أن يأخذ من الحياة أحلى جوانبها، فهو متهيِّئ دائمًا لهذا الجانب الحلو من الحياة بابتسامة مشرقة لا تفارق وجهه، وجسم مليء مُنعَّم لا يحب أن يمنع نفسه من لذائذ الحياة. وقد كان زين العابدين بك في مثل سن الحاج والي، وإن كان مبسوط الجسم عريضه، وكان الشيب قد بدأ يرود فَودَيه في تؤدة وهدوء. وقد كان شأنه في إنجاب الذرية شأن الحاج والي، فهو أيضًا لم ينجب أطفالًا، وقد حاولت زوجته قدر طاقتها أن تنجب له بنين أو بنات؛ ولكنها لم تفلح. ويئس زين العابدين ولم تيأس زوجته. وقد رأى زين العابدين ألا يجعل يأسه يعوق أملها، فهو يترك لها مطلق الحرية أن تفعل ما تشاء من عرض على أطباء، إلى استماع إلى وصفات بلدية، إلى غير ذلك لا يقف دون مطلب من مطالبها، وإن كان هو قد شغل نفسه بغير ذلك، فهو مسرف غاية السرف في إمتاع نفسه، لا يعوقه عما يريد شيء، على استعداد دائمًا أن يقترض ويبيع ليفعل ما تصبو إليه نفسه؛ فهو كثير الولائم، كثير الذهاب إلى القاهرة، يحب لياليها جميعًا والحمراء منها خاصة. ولولا أن الفلاحين قد ثاروا على الإنجليز، فقطعوا الخطوط الحديدية التي تصل القرية بالقاهرة؛ ما استقر زين العابدين في القرية. إلا أن الثورة اندلعت لا يقف في سبيلها شيء، وانقطعت الأسباب بالقاهرة، وكان زين العابدين بالقرية فأرسل فلاحين يشاركون في قطع الخطوط، وجعل أمره إلى الله، وأقام بالبلدة. وحين عسكر الإنجليز على مشارف القرية، أبى أن يتصل بهم، برغم الجهد الجهيد الذي بذله كبيرهم في الاتصال به، ولم يكن ذلك صادرًا إلا عن مشاعره الصادقة. وراح الإنجليز يحاولون إصلاح الخطوط المقطوعة؛ فلا يجدون من الفلاحين إلا ازدراءً، وقد حاولوا أن يغروا زين العابدين، بأنهم سيسعون له أن ينال رتبة الباشوية؛ فلم يكن هذا الإغراء كافيًا، ورفض أن يعاونهم، وإن كان في دخيلة نفسه يتحرق شوقًا أن يتم إصلاح الخطوط الحديدية ليجد وسيلةً إلى القاهرة. لم تكن زوجته تعلم عن حياته في القاهرة شيئًا، بل هي لا تعلم أنه يبيع من أرضه شيئًا، كل ما تعرفه من شأنه أن تطلب منه مالًا لتذهب إلى الطبيب، أو لتشتريَ ما يلزم لوصفاتها فلا يبخل عليها.
وقف الحاج والي يسلم على زين العابدين، فعاجله هذا قائلًا: مبروك يا رجل.
وقال الحاج والي حسيرًا: لا تهنئني يا زين العابدين بك.
– لماذا؟!
– لو تعرف ما أنا فيه ما هنأتني.
– خيرًا يا رجل، ماذا بك؟
– لا والله ليس خيرًا أبدًا.
– قل ماذا حدث؟
– لا شيء. تزوجت.
– وهل هذا يحزنك؟!
ويدخل متولي حاملًا الشربات، ويقول زين العابدين: أحسنت صنعًا يا متولي.
وقال متولي: تفضل يا حاج. مبروك.
وأخذ الحاج الكوب ووضعه على المنضدة، وقال زين العابدين: ماذا بك؟
وقال متولي: يا سيدي إنه منذ جاء وهو بهذا النكد.
وقال زين العابدين: عجيبة!
وخرج متولي وهو يقول: عجيبة!
والتفت زين العابدين إلى الحاج والي: ما لك يا حاج والي؟
– ألم تعرف كيف تزوجتُ يا زين العابدين بك؟
– نعم عرفتُ.
– عرفتَ أن زوجتي هي التي خطبت لي؟
– نعم، ولا أكتمك؛ لقد اندهشت لهذا، وكنت أريد أن أسألك منذ سمعت، ولكنك لم تأتِ.
– خجلت أن ترى وجهي.
– ولماذا تخجل؟
– ما الذي يجعل امرأتي تخطب لي؟ لا بد أنها رأت حرصي الشديد على الإنجاب.
– نعم، لا شيء في ذلك.
– أليس هذا مخجلًا؟
– لماذا؟!
– كيف سوَّلت لي نفسي أن أُهين كرامة زوجتي إلى هذا الحد؟
يا سعادة البك أنت سيد العارفين، ألا تتصور مقدار الألم الذي عانته امرأتي، وهي تخطب لي امرأةً غيرها؟ أقسم بالله يا سعادة البك إنني منذ جاءت زوجتي، وأنا أستحي أن أكلمها أمام الحاجة.
وصمت زين العابدين، وأحس الحاج والي ببعض الراحة، وهو يلقي هذا الحديث لأول مرة إلى مسمعَي إنسان واسترسل: أَكلُّ هذا من أجل الأولاد؟!
– وهل الأولاد شيء بسيط يا حاج والي؟
– والله يا سعادة البك أصبحت لا أدري.
– اسمع يا حاج والي، لقد سمعت عن زوجتك الحاجة أنها عاقلة وكريمة، ولكنها بما فعلته جعلت نفسها مثلًا أعلى فأكرمها.
– أُكْرمها! أُكرمها يا سعادة البك! إنني لا أدري كيف أعاملها. يتهيأ لي أحيانًا أنها ليست من البشر، ولا أدري كيف أعامل الملائكة. لقد جعلتني لها عبدًا. أنا عارف يا بك، أنا عارف بشعور المرأة وبغيرتها، عارف. كيف أستطيع أن أوفيها حقها؟
– أنت محق يا حاج والي، الحاجة بمبة تستحق ما تقوله عنها.
– ولكن … ولكن أنا … أنا خجلان يا سعادة البك.
– أخطبتْ لك دون أن تخبرك؟
– أخبرتني بعد أن خطبت.
– وماذا فعلتَ؟
– فعلتُ ما لا زلت أخجل منه.
– ماذا؟
– ثُرت، ولكنني في دخيلة نفسي كنت مسرورًا.
– كيف؟
– غضبت. قلت لها أتزوج؟! هذا كلام فارغ … و… و… ولكن لم أفلح في إخفاء حقيقة نفسي. إنها زوجة عشرين سنة وذكية؛ أدركت أنني مسرور، فإذا هي تقول في كل هدوء، سأشتري لعروسك بعض، ملابس وتتزوجها في الأسبوع القادم إن شاء الله. وكأنما ألقت على رأسي ماءً باردًا، فإذا أنا صامت وكأني مستسلم. ثم قمت وخرجت؛ فإذا جميع من في البلدة يعرفون أمر الخطبة، فهم يهنئونني، وأرى في عيونهم ابتسامةً تجمع بين التعجب والحسد، يُخيَّل لي أنهم كلهم يتمنون أن تكون زوجاتهم مثل زوجتي، مع أنهم جميعًا آباء، لهم من البنين ما تضيق به البلدة. لم أجد من أشكو له همي إلا أنت، ولكني كنت خَجِلًا منك، فغبت عنك ثم لم أجد بدًّا من أن أتغلب على خجلي، وإلا انفجرت بالألم الذي أعانيه فجئت، وارتحت أن قلتُ لك ما قلتُ يا زين العابدين بك. أبقاك الله لنا.
– يا رجل، المسألة لا تستأهل كل هذا.
– بل تستأهل يا سعادة البك، ولكن ماذا أفعل؟ لم تعد هناك فائدة. أيستحق الأطفال كل هذا؟ أيستحق الأطفال أن تطعن امرأة صالحة كزوجتي كرامتها كامرأة، وتتجاهل أنوثتها إلى درجة أن تخطب لزوجها امرأةً لتنجب له أطفالًا؟ ماذا أصنع بهم؟ لماذا كنت شديد الرغبة في الإنجاب إلى درجة أنْ جعلتها تقتل أنوثتها بيديها، وكأنها تنتحر؟ ماذا سأصنع بهم؟ وماذا سيجري في الدنيا إذا لم أنجب أنا أطفالًا؟ هل ستتوقف الدنيا عن الدوران؟ ماذا أصنع بهم؟ أرى من عندهم أطفال يضيقون بهم، وأراهم إذا مرض أحدهم يكاد الأب يموت من قلق وخوف وشفقة! ثم إذا صح الطفل المريض؛ وجدت الأب ضيقًا غاية الضيق بما يحمل من مسئولية. لا تؤاخذني يا سعادة البك، فأنت لم تُنجب. أي شعور عجيب يشعر به الأب فيجعلني حريصًا كل هذا الحرص على أن أنجب؟ أنت لا تدري شعوري هذا، أم تُراك تدري؟
– بل لا أدري، حقًّا أنا لا أدري. ولا أكتمك، فقد كنت أحب أن أدري.
– أهو حِرصنا على أن يظل اسمنا من بعدنا؟
– وماذا يهم من بعدنا إن بقي اسمنا أو لم يبقَ؟
– فماذا إذن؟ أي شيء عجيب في هذه المخلوقات الصغيرة الجبارة يجعلنا نحبها ونحرص عليها، ونتوق إلى أن نصبح آباءً لها؟
– لعلنا نحب فيهم الحياة يا حاج والي، فهم حياة جديدة. وإقبال الأطفال يشعرنا — أو هو يُشعر الآباء — أن الحياة ما زالت تستطيع أن تجدد نفسها.
وماذا نحب في هذه الحياة؟ هذه الحياة التي لا نستطيع فيها أن ننال ما نهفو إليه إلا على أشلاء أحبائنا وكرامتهم!
– ليس هناك كثيرون خطبت لهم زوجاتهم يا حاج والي.
– نعم، ولكن هناك كثيرين سعَوا إلى الإنجاب بشتى الوسائل، وسهروا الليالي الطوال لتحقيق هذه الأمنية. لقد كانت زوجتي شريفةً فيما فعلته؛ سمعت عن نساء أخريات بذلن أنفسهن لغير أزواجهن ليهبوا لأزواجهن أطفالًا، أحبوا أزواجهن إلى درجة الخيانة من أجلهم. هل يستحق الأطفال هذا؟ هل يستحقون؟ أم نحن مخدوعون؟ أنا حائر يا سعادة البك، حائر. ماذا في هذه المخلوقات الصغيرة؟ أي سحر فيها؟ إنهم أقوى من الحياة يا زين العابدين بك، أقوى من الحياة؛ يهون على المرأة أن تموت ولا ترى زوجها مع غيرها، ولكن زوجتي خطبت لي، خطبت لي؛ لأنها أحست إلى أي مدًى أريد أن أرى لنفسي أطفالًا. هذه المخلوقات اللعينة، اللعينة، اللعينة.
– ولكنك مع هذا تريد أطفالًا يا حاج والي.
وأطرق الحاج والي لحظة، وخُيل إليه أن سحابات من ضباب تغشى ناظريه، ثم قال في أسًى: نعم يا زين العابدين بك، نعم، إني أريد أطفالًا.