الفصل العشرون
انتهى اليوم الدراسي في مدرسة البنات، وزاط الفصل بأحاديث كثيرة احتبست مدة خمس وأربعين دقيقة، وانفجرت تريد أن تخرج جميعًا طفرةً واحدة، فهي أخلاط من الكلمات ومِزَق من الجمل. وفي وسط الفصل وقفت فتاتان في بواكير الأنوثة الصاخبة؛ فأما إحداهما فتلقي على ظهرها سبيكةً من شعر أصفر صقيل ينتظم من الخلف، ولكنك إن نظرت إليه من أمام وجدته ثائرًا في عربدة حبيبة كموج البحر إن كان البحر من ذهب، يموج حتى ينتهي إلى هذه الضفيرة، فكأنه بحر يصب في نهر، وقد انسدلت منه خصلات على جبهة الفتاة؛ فتذكر ساحل البحر الذي لا تدري إن كان مخضلًا بالماء أو هو جاف. خصلات كخيال من الوهم لا تدري أهي منسدلة أم هي تجري في تيار الشعر الآخر متجهة إلى السبيكة. ترى الخصلة حينًا، فإن أنعمت النظر لا تراها، ثم تعود فتراها، وهكذا استطاعت هذه الخصلة أن تجعل وجه آمال متجددًا دائمًا لا تمل العين النظر إليه.
وهو مشرق كالصباح الوليد، ذو عينين فيهما جرأة، وفيهما شباب، وفيهما خضرة حلوة، يمازجها لون بني، حتى لا تكاد تدري ما هو لونها الحقيقي. فأما أنفها فأفطس بعض الشيء، يتبعه فم واسع فيه على سعته حزم وإقدام، وهي ذات قَوام حلو، وإن كانت تميل إلى النحافة، أوضح ما في قَوامها ثديان يشرئبان في عربدة طاغية وفي أنوثة باكرة.
وأما الفتاة الأخرى فهي نحيفة أيضًا، وهي أيضًا ذات أثداء عربيدة لها رقبة طويلة بعض الشيء، لكنها لا تغض من جمالها، ولها وجه أسمر يميل إلى الطول، وعينان حالمتان تبدوان ضيقتين، فإن أنعمتَ فيهما النظر أحسست أن صاحبتهما هي التي تضيق منهما، كأنها تحقق النظر في شيء تحبه؛ فنظرتها دائمًا كأنما تقول لمن تلقى إليه لَكم أحبك. وهي ذات شَعر أسود غير ثائر ولا هادئ أيضًا، وإنما هو شَعر قوي صقيل متكاثر تمسك بأطرافه ضفيرتان تأخذان سبيلهما على ظهر ناهد في غيظ أن تقيدهما الأشرطة وإن كانت من حرير.
وأتمت آمال وناهد تجميع الكتب في حقيبتيهما، وخرجتا لا تلتفت واحدة منهما إلى التلميذات الأخريات، فقد كانتا تحسان عند انتهاء اليوم الدراسي أنهما رُدتا إلى العالم الخليق بهما بعيدًا عن الدراسة والتلميذات والمدرسات. وكان هذا الشعور ينبت في صدر كل منهما دون اتفاق بينهما عليه، أو على الأقل دون أن يتفقا عليه بلغة الكلام، وراحتا تجتازان الردهة الطويلة التي تفصل حجرة الدراسة عن الفناء. ولم تأبه ناهد حتى أن تنظر إلى الفتاة التي اصطدمت بها فأوقعت منها حقيبتها، وإنما مالت في كِبر فالتقطت الحقيبة، بينما كانت آمال قد سبقتها بخطوتين. ولم تتعمد ناهد أن تسرع من خطاها، ولا اهتمت آمال أن تتمهل، ولكن سُرعان ما سارتا جنبًا إلى جنب مرةً أخرى. ومرت أمامهما مدرِّسة فوقفت الخادم الجالسة في الردهة، وفي عظمة رفعت لها آمال يدها، وكأنها ترد تحيتها. وكانت ثُلة من الفتيات تسير أمامهما، وجرت قطة خلف آمال وناهد ودلفت من بين رجلي ناهد وقفزت إلى أرجل الفتيات، ونظرت ناهد إلى أسفل، ثم أرادت أن تواصل سيرها، بينما راحت الفتيات يصرخن بين خائفة ومتظاهرة بالخوف. وفي إهمال حالم عبرت ناهد وآمال ثُلة الفتيات وواصلتا سيرهما إلى السلم وراحتا تنزلانه درجةً درجة. وأخيرًا التفتت آمال إلى ناهد: أتظنين أنهم يأتون اليوم؟
– طبعًا.
– وهل …
– سنرى.
واصلتا سيرهما حتى خرجتا من الباب دون أن تنظر واحدة منهما إلى البوَّاب الكهل الذي حياهما في ابتسامة ساذجة، وسارت الفتاتان في الطريق، حتى إذا بلغتا شارعًا جانبيًّا انحرفتا إليه، ولم يطل بهما المسير، حتى انحرفتا مرةً أخرى إلى طريق آخر. وقالت آمال وكأنها فوجئت: جاءوا!
وقالت ناهد في عظمة مطمئنة: طبعًا.
– وماذا سنعمل؟
– سنرى.
وسارتا وعبرتا السيارة المكشوفة التي كانت واقفةً على جانب الطريق وبها شابان؛ فأما السيارة فأنيقة غاية الأناقة ذات خراطيم كبيرة من المعدِن تخرج من مقدمتها وتتجه إلى أسفل فتكسبها عظمةً وتفردًا، وقد كانت مقدمة السيارة طويلةً والخراطيم كثيرة. وأما الشابان فقد كان أحدهما أسمر اللون نحيفًا، والآخر يميل إلى البياض قدر ميله إلى السمن، وكان هو الذي يمسك بمِقود السيارة. وقد دأب الشابان أن ينتظرا آمال وناهد منذ ثلاثة أيام في هذا الموعد كما دأبا أن يسيرا خلفهما بالسيارة حتى تلتفت إليهما ناهد في صوت هامس مثير: بيتنا هنا.
فيعود الشابان أدراجهما لينتظرا في اليوم التالي، ويسيرا ويسمعا النغمة الهامسة المثيرة ويعودا.
وسارت السيارة خلف آمال وناهد، ولكن الشاب السمين سبق الفتاتين وأوقف السيارة ونزل منها، واعترض الطريق. وهمست آمال لناهد: ماذا سنعمل؟
ولم تجِب ناهد، وإنما واصلت سيرها، وأرادت أن تعبر الشاب، وأرادت آمال أن تفعل مثلها، ولكن الفتى مد ذراعيه ونظرت إليه ناهد نظرتها الساجية وقد أضافت إليها بعض عتاب وقالت في همستها المثيرة: الناس!
وقال الشاب: نحن وحدنا.
وقالت ناهد: ماذا تريد؟
– ماذا تريدين أنتِ؟
– أروح.
– أما يكفي هذا؟
– ما هو؟
– كفى.
– ماذا؟
– أتمانعين في فسحة صغيرة بهذه السيارة؟
– وماذا نقول في البيت؟
– تقولين كان عليكما واجب في المدرسة.
والتفتت ناهد إلى آمال: ما رأيك يا آمال؟
وقاطعهما الشاب: تعيش الأسماء. وحضرتك؟
– ناهد. هيه يا آمال.
– كما تشائين.
وقال الشاب: هيا، هيا.
وحين بلغا السيارة نزل الشاب النحيف وهو يقول: أخيرًا. أهلًا وسهلًا.
ودلف إلى المقعد الخلفي، وأمسك بيد آمال، فركبت إلى جانبه وجلست ناهد إلى جانب صاحب السيارة، واندفعت السيارة إلى الطريق.