الفصل الثالث والعشرون
كان حسين جالسًا في حجرته حين جاءت مفيدة، وأغلقت الباب من خلفها. وبعد حين قالت: لم أعد أنا الوحيدة.
– لا أفهم.
– تعرف غيري.
ومسح حسين الدمعة المنحدرة عن عينه وقال: أنا؟! من قال هذا؟!
– مثلي لا يفوتها هذا.
– أبدًا والله.
– لا تحلف. إنك شيخ محترم. لا تحلف.
– أحلف صادقًا.
– والله إن حلفت على المصحف ما صدقتك.
– يا شيخة اعقلي.
– اعقل أنت يا شيخ. تريد أن تلف عليَّ أنا، وقد كنتَ قطةً مغمضة، وفتحت أنا لك عينيك.
– على فكرة، أين القطة؟
– القطة! وهل تسأل عليها؟ إنها هي الأخرى أحست أنك لم تعد تهتم بها، فتركتك إلى غيرك.
– مَن غيري؟
– لا شأن لك.
– وهل هي وحدها التي تركتني إلى غيري؟
– ومن غيرها.
– لعلك أنتِ أيضًا تفكرين في تركي.
– أنا لا أترك صاحبي حتى وإن كنت أعرف أنه يلعب بذيله.
– هل القطة عندك؟
– أتريدني أن أسلم لك عليها؟
وأطلقت ضحكةً مجلجلةً حتى لم يسمعا الطرقة الأولى على الباب.
وحين خفتت الضحكة سمعا الطرقة الثانية وانحبست أنفاسهما، وأرادت مفيدة أن تقوم عن السرير فأمسك بها حسين وأبقاها حتى لا يُخرج السرير حسًّا. وعاد الطرق إلى الباب صافيًا واضحًا، وعاد الصمت إلى الحجرة أشد صفاءً ووضوحًا، وألح الطارق مرةً ثالثة، ولم يسمع جوابًا، وإن كانت الضحكة الأولى ما زالت أصداؤها ترن في أذنيه، حتى إذا يئس الحاج والي قال في نفسه اترك له فرصةً أن يكون منفردًا، ونزل السلم والضباب يغطي درجات السلم جميعًا. ألهذا كان يربيه؟!
ألهذا يقدم له المال والعون والأبوة؟ إن قطع عنه المال أضاع مستقبله وإن قدمه … أيقدم له المال ليزني؟ ولكنه يذاكر، إنه يقدم له المال ليصبح صاحب شهادة، لا، لن يرده الزنى عن المذاكرة. أهذا هو الشيخ الذي سيصبح واعظًا؟ ويتزايد الضباب أمام عينيه.
حين عاد الشيخ والي إلى حسين، اجتهد ألا يبين أنه فهم شيئًا أو سمع، وقبَّل حسين يده ومسح الدمعة المنحدرة، وعاوده ذلك الشعور بالعجز والاحتقار لنفسه أمام الحاج والي. وقال الحاج: كيف حالك يا حسين؟
– البركة فيك يابا الحاج. الحمد لله.
– قال لي عبد الحميد أفندي مسعود ناظر المدرسة الإلزامية أنك تنشر شعرًا في مجلة الورود.
– نعم يابا الحاج.
– أنا أحب الشعر، وأحب الشعراء، وأنا متأكد أن هذا لا يشغلك عن دروسك.
– لا أبدًا.
– أنت في ثانوية الأزهر هذا العام، أليس كذلك؟
– نعم يابا الحاج. إني أمتحن الآن.
– طبعًا المذاكرة على قدم وساق.
– طبعًا يابا الحاج.
– أتريد شيئًا؟
– البركة فيك.
– أراك لا تسأل عن الحاجة. أنسيتها يا حسين؟
– لا قدر الله يابا الحاج! كيف هي؟
– تسلم عليك.
– أبقاها الله. يابا الحاج أنا كنت سأسافر إليك.
– كذا. إنك منذ سنين لم تزُر البلد.
– لا والله كنت مسافرًا إليك؛ لأراك وأرى الحاجة.
– ولماذا أيضًا؟
– أريد أن أكلمك في موضوع.
– خيرًا؟
– أريد أن أدخل كلية دار العلوم.
ونظر الحاج والي إليه مليًّا، وصمت، وخالجته فكرة ألحت عليه حتى قال: وتظل بالجبة والقفطان؟
– والله أريد أن …
– مفهوم. على كل حال يسرني أن تصبح معلمًا؛ إن هذا أقرب إلى ما كنت أريده لك، فالواعظ في رأيي لا يفيد قدر ما يفيد المعلم. المستمع إلى الواعظ يعلم أن وظيفته هي أن يقول هذا الكلام؛ فالاستجابة له لا تكون عادةً كاملة، أما المعلم فإنه مع تعليمه للمادة التي يقدمها، يعلم الأخلاق بطريقة غير مباشرة، والأخلاق هي كل شيء يا أستاذ حسين، أليس كذلك؟
وأحس حسين النغمة التي غافلت الحاج، وتسربت إلى الحديث وقال: طبعًا.
وأحس صوته منحبسًا فتنحنح وعاد يقول: طبعًا.
– بلدنا يحتاج إلى الأخلاق أولًا ثم إلى العلم، بهما نستطيع أن نُخرج العدو، ونكوِّن وطنًا عظيمًا. ولكن الأخلاق أولًا يا أستاذ حسين، الأخلاق أولًا.
ومسح حسين الدمعة المنحدرة، وعاد يتنحنح وهو يقول: طبعًا … طبعًا.
– على بركة الله يا بني. وهذا مبلغ يكفي لإحضار حُلتين جديدتين ما دمت تريد ذلك. هيه، أتركك أنا.
– ولماذا العجلة يابا الحاج؟
– أريد أن أزور محمدًا. إنك لا تزور أخاك يا حسين؟
– أخاف أن أشغله؛ فكلية الطب صعبة يابا الحاج.
– زُره يا حسين، فلن يكون لك إلا هو، ولن يكون له إلا أنت.
– أنا آسف يابا الحاج.
وخرج الحاج، وودعه حسين إلى باب السلم، وانتظر حتى غاب عن ناظريه، ثم راح ينظر إلى الجنيهات العشرة التي تركها له، ثم طواها ووضعها في جيبه في عناية بالغة، وانحسر عنه شعور العجز والاحتقار لنفسه.
يوم انتهى الامتحان اتفق حسين مع أمين كامل الشاعر الذي ينشر معه في مجلة الورود أن يقيما حفلًا خاصًّا لهما يدفعان تكاليفه مناصفة، يشتريان فيه زجاجةً من الكونياك، ويدعوان فتاةً يعرفها أمين لا تتقاضى إلا قدرًا ضئيلًا من المال. وكان حسين في دخيلة نفسه يريد أن يحتفل أيضًا بأول يوم يلبس فيه البدلة، ولم يجد أنسب من زجاجة كونياك وفتاة أمين احتفالًا بهذه المناسبة. وقبل أن يحل موعد الحفلة راح حسين يلبس بدلته الجديدة في عناية بالغة، فلبس القميص والبنطلون، فلم يلقَ مشكلات تعترضه، حتى إذا أراد أن يعقد رباط الرقبة أشكل عليه الأمر، وراح يربط ويفك، أو يربط فتتعقد عليه الأمور، حتى إذا يئس وضع الرباط على السرير، وجلس ينتظر مفيدة لعلها ترى حلًّا لهذه المشكلة. ولكن طال غيابها، فأراد أن يقوم إلى موعده دون رباط الرقبة، ولكنه تذكر ما سيلاقيه من سخرية أمين فجلس في موضعه، وقد صمم ألا يذهب إن لم ينعقد رباط الرقبة. وفجأةً دخلت إليه مفيدة، فعاجلها قبل أن تفكر في موضوع آخر، فراحت تربط له الرباط، كما تفعل لابنها الصغير، وأكمل هو ملبسه، وانفتل من الباب لم يشكرها إلا بقبلة عاجلة.
وحين بلغ شقة أمين وجده جالسًا في بهو منزله وحيدًا وأمامه الزجاجة لم تفتح. وسأله: وأين الشغل؟
– في الداخل.
ولم يتمهل، بل اندفع إلى الحجرة الوحيدة في الشقة، وكان الوقت في الغروب، والشبابيك مقفلة، ولكنه رأى كتلةً آدميةً جالسةً على الأريكة، فارتمى بجانبها، ومد فمه يقبل، فاستقبله شعر خشن كثيف، وطالعه صوت رجل: من أنت؟
ولم ينزعج حسين وإنما مسح دمعته، وقد أدرك أن الفتاة مع آخر دعاه أمين، فقال دون أن يفكر: أنا حسين شحاتة، ومن أنت؟
وقال الشاب على الناحية الأخرى من الفتاة: أهلًا، أنا محمود أدهم.
فقال حسين وهو يحتضن مكانًا خاليًا من جسم الفتاة: أهلًا فرصة سعيدة. من سنين وأنا أريد التعرف بك.
– ها نحن أولاء تعارفنا.
وحين خرج الثلاثة من الحجرة، وجد حسين أن الحفل لم يكن مقصورًا على أربعتهم، فقد جاء أغلب كُتَّاب المجلة، وأعلن أمين أن الحفل مقام لمناسبة إزاحة الجبة عن جثة حسين شحاته. وكان الشعراء منهم قد أعدوا قصائد بهذه المناسبة، وارتجل حسين قصيدةً يفخم فيها من شأن نفسه، ويهون من أقدار الناس جميعًا إلا هو. وجُرت الكأس والضحكات.