الفصل الرابع والعشرون
لم يعد زين العابدين بك يستطيع أن يسهر كثيرًا، فكان كلما جاء إلى القاهرة مدعيًا زيارة ابنته المقيمة عند جدها يذهب إلى صديقته الجديدة نعمات هشيكة بعد الظهيرة فيجلس إليها في بيتها، ثم يصحبها بعد ذلك في عربة حنطور تجوب بهما الجزيرة، حتى إذا اقترب المساء سارت بهما العربة إلى الكباريه فيتركها هناك وينصرف هو إلى بيته أو مقهاه.
لم تكن نعمات هشيكة جميلة، لا ولا كانت فتاةً في مقتبل العمر، إنما هي بقية من ماضٍ تخلف في الكباريه متروكةً لمثل زين العابدين ليقنع بها نفسه أنه ما زال الفتى الذي كانه منذ نيف وعشرين عامًا.
وهكذا كانت نعمات قانعةً بنصيبها من زين العابدين، وقد كانت امرأةً تحسن الحديث وتستطيع أن تعيد إلى زين العابدين ماضيه صورًا من الحديث بعد أن عجز أن يستحضره فتوةً وشبابًا؛ فهي تذكره بغزواته مع العراقية وسنية شخلع وأنيسة ولعة وغيرهن، وتقص — ومن القصص ما هو خيال — كيف كن يتشاجرن ليحظين بصحبته، ويقول زين العابدين في نفسه لعل هذا كان حقًّا، ويحاول أن يقنع نفسه أن لعلها لا تكذب، فإذا عجزت نفسه أن تقتنع راح يلتذ هذا الكذب، ويحاول أن يقربه من الصدق فيهمس إلى نفسه ليس؛ من الضروري أن يكون كذبًا لأنه لم يقع، فإنه كان خليقًا أن يحصل على أية حال. ومن أدراني؟ فنعمات أدرى بدخائلهن وما كان يدور بينهن من حروب وقتال.
ولم تكن نعمات تريد من هذا الحديث إلا إدخال السرور إلى نفسه، فهي تعلم أنه يهدي إليها أقصى ما تستطيع ثروته أن تحتمل، وأنه يقدم لها كل ما يطيق أن يقدم، وما كانت تريد أن تشق عليه في شيء حتى لا ينقطع ما بينهما، فقد كانت على ثقة أن صلتها بزين العابدين هي خاتمة المطاف في حياتها الطويلة العريضة في دنيا الكباريه، فكانت تدري أنها تنهي حياتها العملية بزين العابدين، فهي متشبثة به تشبثها بالحياة، فهي منذ نيف وأربعين عامًا لا تعرف لنفسها حياةً إلا الكباريه والصديق.
وقد أصبحت في الكباريه مشرفةً إدارية، فهي لا تحس أنها أنثى إلا مع زين العابدين، وإحساسها أنها أنثى هو كل شيء بالنسبة إليها، كل شيء؛ فهي تكاد تثق أن حياتها تنتهي بانتهاء الصلة بينها وبين زين العابدين.
أما زين العابدين فقد كان يدري أنه لا يملك أن يتعرف بخير من نعمات هشيكة؛ فأما شبابه فقد ولَّى وهو يدري، وأما ماله فهو لا يكفي إلا ما يستر أمره، وما دام قد أصبح بلا شباب ولا مال، فليس في العالم خير من نعمات ترد إليه الشباب في قصصها، وفيما تمثله من ماضيه وماضيها، وتُبقي عليه المال بعدم مبالغتها فيما تطلب، وعدم ضيقها بما يعطى.
كان زين العابدين يصبغ شعره، وكان يحس أنه بصبغته هذه يصبغ عجزه، وهذا التيبس الذي ألم بأطرافه، وهذه الغضون التي تكاثرت حول عينيه وفي وجهه، بل وفي جسمه كله، بل أنه كان يحس أنه يصبغ الأيام الشاحبة من الشيخوخة؛ أيامًا في بياض الثلج وجموده كان يُجري عليها الصبغة وينظر إلى المرآة ويبتسم. وحسبه عند نظره إلى المرآة ابتسامة، لا، لم يعد يطمع في هذا الفرح العربيد الذي كان يتواثب في نفسه كلما نظر إلى المرآة، لا ولم يعد يريد هذا الاطمئنان غير المبالي الذي كان يتميع في نفسه عندما ينظر إلى المرآة، وهو بطبيعة الحال لم يعد يفكر أن يشعر بهذا الزهو الذي كان يثب إلى قلبه من المرآة.
بحسبه من المرآة ابتسامة. وأحيانًا كانت الصبغة ينصل لونها؛ فكان زين العابدين يرى الشعرات البيض المتفلتة من الصبغة تلتقي بالشعرات السود، فكان يفرح من هذا اللقاء؛ فحبيب إلى نفسه أن يلتقيَ الشباب بالشيخوخة، ولو كان هذا اللقاء في ألوان، وإن كان هذا اللقاء مصطبغًا تكلف فيه هو الشباب بفرشاة وصبغة، وفرضت فيه الشيخوخة نفسها كسُنة من سنن الطبيعة وفترة من فتراتها. ولكنه كان يفرح على أية حال ويداعبه أمل، مجرد أمل أن تهبَّ إليه من شبابه نسمات، أو نسمة من حين إلى حين، مهما يتباعد ما بين هذا الحين وذلك الحين.
كانت القاهرة تودع الشتاء، وكانت النسمات تهب بعيد الظهيرة حانيةً هينةً المسرى، كأنها تصل بين شتاء بارد تودعه القاهرة، وصيف قائظ تستعد لاستقباله، أو كأنها بشائر من الربيع أرسلها كما يسبق الحراس المواكب. واستقل زين العابدين عربةً ذات حصانين يبدو بوضوح أن أحدهما ذكر والأخرى أنثى، كما يبدو بوضوح أنهما تزاملا في هذه المهنة فترةً طويلةً من الزمان، فبينهما هذه الألفة المفروضة بين زميلين قديمين، فلو أطاق كلاهما لعانق كل منهما ذراع الآخر في حنان الآدميين الذين تقدمت بهم السن، ولم يعودوا ينتظرون من المستقبل إلا أن يستعيدوا معًا ذكريات من الماضي الطويل. وكان سائق العربة رجلًا في فتوة الشباب عريضًا ضخمًا لا يعبأ كثيرًا بما بين الحصانين من ألفة وتواد، بل إنه حتى لا يرعى حرمة الذكر أمام أنثاه ولا رقة القلب في معاملة الأنثى؛ فهو يسوط كليهما في حركة يأتيها عفوًا، كأنها جزء من واجبه، وبشكل يقطع أنه لا يكن كثير رحمة لزميليه في العمل، ولولاهما ما كان له عمل. من اليسير أن يدرك من يراه أنه اشتراهما منذ قريب، وأنه قد دفع مقابلهما ثمنًا لا يستحقانه، وهما على ما هما عليه من تقدم في السن. لم يكن صاحب العربة رحيمًا على الحيوان الأبكم فيهما، كما لم يكن رحيمًا على كبر السن الذي يمثلانه، وإنما كان يثأر للعرق الكثير الذي بذله في سبيلهما.
وكأنما كان الحصانان يرجوان أن يجدا في شيخوختهما شيئًا من الراحة، أو شيئًا من التوقير على الأقل، فحين لم يجداه من صاحبهما الجديد، راحا يفرضانه فرضًا بمِشية وانية غير عاجلة ولا مبالية بهذه السياط التي تنهمر عليهما، وكأنما يريدان أن يقولا؛ لَكم عرفنا أمثال هذه السياط ولكنك في آخر المطاف مضطر أن تقدم إلينا أوفر الطعام وأحسن العناية، وإلا حرمناك رزقك جميعًا، فللشيخوخة تجربتها وفائدتها في كثير من الأحايين.
وهكذا سارت العربة في هدوء على الرغم من صخب السائق. وزين العابدين يحاول ما وسعه الجهد أن يملأ فراغ المقعد في العربة بجسمه، ولكن هيهات له أن يستطيع؛ فقد ضمر جسمه مع الأيام، ألم تضمر أيامه أيضًا؟ ولكنه لا يريد أن يصدق الضمور في جسمه أو في أيامه، فهو يتوسط المقعد ويضع يدًا على يمين، ويدًا على يسار، ويفرج ما بين رجليه قدر ما يستطيع، واضعًا عصاه على الكرسي الصغير المقابل له، ينظر إلى الذين يمر بهم يكاد يسألهم ماذا ترون؟ ألا ترون شبابًا؟ وهذه الوردة الحمراء ألا تصنع لي شبابًا؟ وهذا الشعر الفاحم، فما الشباب إن لم يكن كذلك. وتمر به الأعين فتبتسم حينًا، أو تعبره كظاهرة تعودت أن تراها، فما تحس فيها جديدًا.
ووقفت العربة عند بيت متهرئ القسمات حاول أن ينتحر فعاجله صاحبه بالإسعاف، ونصب له مساند من الخشب تأخذ الطريق على من يريد السير على الطوار، حتى ليخيل لرائيه أنه عجوز مال على ذراعه فنام واستقر به الحال في نومته، أو لعله يذكِّر آخرين بواحد من أهل الكهف أصابته نوبة الإغفاء، وهو مستند على ذراع له. ولكنه كان عند زين العابدين بيت نعمات، وكان عند نعمات المأوى الذي تلجأ إليه في زمان يولي وشيخوخة تسارع إليها الخطو.
طلب زين العابدين من السائق أن ينتظر، فأمر السائق الخيل بدوره ألا تتحرك، وألحق أمره بسباب كثير، والتفت إليه الحصان الذكر والغَمامة على عينيه، ثم التفت إلى زميلته ومسح شفتيه بلسانه ثم استكان. ونزل زين العابدين من العربة ونفض الشارع بعينيه، كأنه مُقدم على مغامرة، حتى إذا اطمأن إلى خلو الطريق؛ دلف إلى الباب المختفي بين الأعمدة التي تسند البيت.
ولم يطل غياب زين العابدين، وعادت معه نعمات، وقد ارتدت فوق ملابسها معطفًا جديدًا اشتراه لها زين العابدين منذ قريب.
كان وجه نعمات مختفيًا وراء كثير، ولكن لم يكن الحجاب من الأشياء التي كان يحتجب وراءها الوجه.
وسارت العربة، وقبل أن ينطق زين العابدين التفت إليه السائق نصف التفاتة وقال: الجزيرة؟
وقال زين العابدين في مرح: تعجبني.
واتجهت العربة إلى الجزيرة. وقال زين العابدين: أنتِ اليوم قمر.
وقالت نعمات، وقد ابتسمت عن أربع أسنان ذهبية، وعن تجاعيد كثيرة حول فمها: اليوم فقط يا عمر؟
– وكل يوم وشرفك.
– أين كان هذا؟ كنت لا تسأل عنا أيام سنية شخلع. الله يرحم أيامها.
– أنت التي كنت منصرفةً عنا.
– وهل كنا نتوصل؟
– أيام.
– ألا تعجبك أيامنا هذه؟
– حلوة، والنبي حلوة يا نعنع.
– أراك تتحسر على سنية.
– أنت أنسيتيني الكل.
– يا ترى صحيح؟
– والنبي صحيح … صحيح والنبي.
– كنتَ أيام سنية …
وراحت تعيد على مسمعيه أيام مجده، وهو يزداد انتفاخًا بجانبها وينظر إلى المارة يكاد يستوقفهم ليسمعوا ما يسمع، وقد تسري في داخله في لحظة عابرة همسة تقول كذب ما تسمع، ولكن سُرعان ما يكتم هذه الهمسة، فإن الحقيقة كئيبة عندما يحلو الخيال. وعلى كل حال ما أقرب الواقع من الخيال، وعلى كل حال هو مبتهج يكاد يطير من البهجة؛ نسي الشيخوخة والصبغة، ونسي الحقيقة لم يعد يذكرها، لم تعد الحقيقة عنده إلا هذا الذي ترويه نعمات، ووقائع تشركه هي فيها في جرأة ودُربة ومِران، وهو لم يفعلها، أو لا يذكر أنه فعلها، بل إنه يكاد يذكر أنه فعلها، بل إنه واثق أنه فعلها وأنها الحقيقة هي الحقيقة. وتسير العربة.
ويصل موكب الذكريات الأساطير إلى الجزيرة، تمر العربة بعربات أخرى، وتمر بسيارات، والذكريات تنهمر وزين العابدين نشوة هيهات أن تبلغها نشوة الخمر مهما تتزايد. وينظر زين العابدين إلى العربات والسيارات، لو استطاع أن يصرخ فيمن بها: أتعرفون أنتم الحب والشباب؟ تعالوا فانظروا كيف كنت، بل فانظروا كيف أنا إلى الآن. ويزداد إنعامًا في العربات والسيارات الواقفة يرميها بنظرات محايدة ليس فيها معنًى. وتسير العربة.
ولكن العربة تبلغ سيارةً مكشوفة، ويقول زين العابدين في نفسه؛ مكشوفة! أليس لها غطاء؟! وينعم النظر ثم ينتفض انتفاضةً مجنونة، ويعود ينظر؛ إنها هي. ويقول: بنتي؟!
ويُخيل إليه أنه قالها في نفسه لم تنطق بها شفتاه، وما درى أنه صرخ وراح السائق يحث الخيل على العدو، وهي تأبى إلا أن تسير. وأمسكت نعمات بملابسه ذاهلةً لا تدري ماذا تفعل أو تقول. ويقول زين العابدين ذاهلًا: قف! قف يا أوسطى.
وتقول نعمات: ماذا تريد أن تفعل؟
ويرد السؤال الرجل إلى بعض العقل، وإن كان جسمه قد أصبح مرجلًا يغلي، ويلتفت إلى نعمات فتطالعها منه نظرة ذاهلة حائرة كسيرة مخذولة. وتعيد سؤالها: ماذا تريد أن تفعل؟
ويقول في حيرته الذاهلة: خذي.
ويُخرج من جيبه جنيهًا: خذي هذا وامشي أنتِ، نعم اتركي العربة.
وتنزل نعمات إلى الطريق تبحث عن عربة، وينظر زين العابدين إلى السائق يقول له في استجداء آمر: انتظر أنت.
ويقصد إلى آمال جالسةً مع شاب في المقعد الخلفي من سيارة مكشوفة غير عابئ بناهد في السيارة نفسها. وفي ثورة مكبوتة، يضع يده على ذراع بنته التي كانت مسترخيةً على جانب السيارة. وكأنما وجدت ثورته انفجارتها في تشبثها بذراع ابنته، ولم يقل شيئًا إلا: قومي.
وانتفضت آمال.
– بابا!
وقال مرةً أخرى في نفس الثورة: قومي.
وفي لحظة كان ركاب السيارة منتثرين حولها، وكانت آمال مجرجرةً إلى العربة المنتظرة وسارت العربة.
وقال زين العابدين للسائق: إلى محطة مصر.
وانتظر القطار ساعةً ونصف الساعة لم يقل كلمةً واحدة، بل حتى لم يعد يفكر، إنما كل ما سيطر على ذهنه أنه يريد أن يذهب إلى بيته في قرية الحمدية، ولا شيء آخر.
وحين حل الموعد انتزع ابنته الصامتة بدموعها التي تنثال على وجنتيها وركبا، وسار القطار.