الفصل الخامس والعشرون
لم تكن عزيزة جميلة، وإنما هي؛ شفتان غليظتان، وشعر أُرغم على الاستواء إرغامًا، فهو مفتول في نهايته بأسطوانة تبقي عليه استواءً. وهي ذات عينين ضيقتين، وآمال أشد ضيقًا من عينها. لها قصة تكررت حتى لتكاد تصبح من كثرة تكرارها كأعمال الحياة اليومية التي لا تستحق الرواية؛ كانت خادمة، وكان في البيت مراهق، وحين اضطرتها الحقيقة المتخفية في أحشائها أن تعلنها ذهبت إلى المستشفى ودفع أبو المراهق النفقات في كرم، ثم أعطاها أيضًا عشرين جنيهًا ثمن سكوتها وشرفها في بيعة واحدة. وكان لا بد لها أن تقبل؛ فإن البضاعة التي باعتها لا يقبل شراءها إلا هذا الذي اشتراها، فهو محتكر للصنف. وكانت لن تجد الجنيهات العشرين على أية حال؛ فقبلت ما عُرض عليها. وقبل أن تخرج من المستشفى كانت إحدى الممرضات قد عرَّفتها بسيدة أخرى تتاجر، وبضاعتها اللواتي بعن شرفهن كعزيزة، وانضمت عزيزة إلى المعروضات في بيت الحاجة نبوية. وكانت الحاجة نبوية قاسيةً في معاملتها لبضائعها، ولكنها — والحق يقال — كانت تسافر في كل عام إلى الحجاز تلقي بأحمالها من ذنوب التجارة والقسوة جميعًا، ثم تعود إلى القاهرة بقلب متهيئ لكل ما تعودت أن تمارسه من أعمال.
وهكذا لم تصبر عزيزة طويلًا على الحاجة، فسُرعان ما أقامت تجارةً حرةً وحدها، وبعد أن همست إلى زبائنها بمكانها الجديد؛ جمعت ملابسها، إلى هذا البيت الذي تستقبل فيه زبائنها القدامى ومن استجد منهم بعد ذلك، غير مغالية في الثمن؛ فقد كانت تدري أنها ليست جميلة.
ولم تكن تجارتها رائجة، فقليل من كان يعرفها، وقليل هذا الذي يدفعه من يعرفونها، فهم في أغلب الأحيان طلبة في الجامعة ممن لا يحبون أن يلتقوا بتلاميذ الثانوي في الأماكن العامة.
وكان محمد في يومه هذا ضيقًا أشد الضيق بحياته جميعًا؛ فهو متزوج وغير متزوج في وقت واحد، وهو على كرهه لزوجته يحس أنه بحاجة إلى إنسان. لا لم تكن الوحدة، إنما هو يحس أنه ضائع غير وحيد. نعم إنه ضائع، هذا هو التعبير الذي أحس بصدقه حين نبت كالهمس في نفسه.
ضائع لا يدري لماذا. لم يكن وهو بجانب أبيه يحس الضياع، ولم يكن وهو بجانب زوجته يحس الضياع، وإن أحس الضيق لها والكره، ولكنه لم يكن يحس الضياع، أما الآن فأصدقاؤه كثيرون، ولكن ليس بينهم من يستطيع أن يجد فيه أباه أو هنية.
هل أريد أبي حقًّا؟ ألم أكن أضيق بتسلطه وفرضه رغباته دون أن تكون لي فرصة أن أقول ما أريد؟ فإذا أنا آخر الأمر لا أرى إلا ما يرى، بل ولا مستقبل إلا ما يرسم؛ فها أنا ذا وحدي، أخط مصير نفسي بيدي، أي مصير. لماذا لا أموت؟ ماذا تخسر الدنيا إذا مت أنا؟ أنا في كلية الطب، ولن يستطيع طالب في كلية الطب أن يصبح مهندسًا أو محاميًا. زوجتي ممن أراد هو، وجاء ابني يؤكد هذا الزواج ويثبته إن كان فيه مجال لشك، فماذا بقي لي من مصيري لأخطه؟
وقادته قدماه إلى عزيزة، واستقبلته استقبال زبون قديم. وقال لها بعد حين: أريد أن أعرض عليك موضوعًا.
– تفضل.
– هل أنتِ مشغولة كل أيام الأسبوع؟
– على حسب.
– طيب، هل أنتِ مشغولة طول اليوم؟
– على حسب أيضًا.
– اسمعي …
– هه.
– أريد …
– قل ماذا تريد؟
– لا … لا شيء …
– اسمع يا سي محمد، نحن نسمع الكثير؛ الزبائن لا تجد مكانًا أحسن من عندنا لإفراغ كل ما عندهم. قل، أنت مثل أخي، إن لم أستطع أن أريحك، فأنا لا أستحق أن تعرفني.
– لا، لا شيء والله إلا أنني لا أدري لماذا أحب أن أجلس إليك.
– صحيح؟!
– أحب أن أجلس إليك …
– أهلًا وسهلًا.
– أنت الوحيدة التي أستريح إليها. أنا اخترتك أنتِ من بين كل اللواتي عرفتهن، أنا الذي اخترتك بمزاجي أنا، بكيفي، فأنا أريد …
– قل يا سي محمد، قل ولا تخجل.
– أحب أن أجيء إليك كلما أمكنني ذلك، وأجلس إليك مجرد جلوس، ولن أعطلك.
– يا أخي تفضل. أهلًا وسهلًا.
– مسألة الفلوس …؟
– لا، لا تتكلم فيها يا سي محمد، لا تتكلم فيها. يا سلام!
ونظرت إليه نظرةً طويلة؛ فتًى في ريق الشباب، طويل القامة، أسمر الوجه، ذو عينين كالمرآة يعكسان ما يسقط عليهما من نور، ولكنها لا يشعان من داخلهما نورًا، يبدو عليه أنه كجهاز للاستقبال اللا سلكي، ولكنه لا يصلح للإرسال. يضحك إن سمع ما يُضحك، ويحزن إن سمع ما يُحزن، ولكنه لا يثير الضحك أو الحزن في أحد؛ ولهذا كان أصحابه يحبونه.
وقالت عزيزة: أنا أيضًا يا سي محمد لا أجد راحةً عند أحد كما أجدها عندك. أحس وأنت تسمعني أنك فعلًا مهتم بما أقول، الآخرون لا يسمعون ما أقول …
– لماذا لم تطلبي مني أن أجيء للجلوس إليك؟
– خشيت أن تظنني أريدك أن تأتيَ لمجرد دفع الفلوس.
أنت متزوج يا سي محمد؟
وقص عليها محمد كل ما كان يكتمه عن الأصدقاء الأقربين.