الفصل السادس والعشرون
كان زين العابدين يجلس في غرفة الاستقبال بمنزله وحوله رهط من أعيان القرية بينهم الحاج والي، وكان القلق يسيطر عليهم جميعًا، فقد كان الراديو يذيع أنباء الحرب في ثورة محمومة امتدت من أوروبا فشملت العالم أجمع بلغت قرية الحميدية. وزين العابدين، والحاج والي، وهذا الرهط الطيب الذي لا يتصل له سبب بالحرب إلا أن ينزعج، ويسيطر عليه هذا القلق الآخذ الوبيل؛ النفوس منهم هالعة لا تدري ما المصير في الغد، والأيام المقبلة كلها مغلَّفة بدخان قاتم من نيران الحرب. كل فرد منهم ينظر إلى غده في ذعر، تختلف بينهم أسباب الذعر ولكنهم جميعًا متفقون على الذعر والقلق والترقب للغد الكالح المغبر المستخفي في أطواء الدخان، وأصوات الطلقات، وآهات الصرعى، وضجيج الجنون، وصراخ المطامع، تُغَشيها الدعاية، ويهتك عنها الدمار أستار الخداع.
الراديو يكاد ينفجر من هول ما يذيع، وزين العابدين والحاج والي والرهط الآخرون صامتون لا يتحرك لسانهم بكلمة، وإن ثارت في نفوسهم؛ لا ليستمعوا فحسب، وإنما لأنهم وجدوا من الصمت ستارًا يخفون وراءه القلق الراعد بين جنوبهم. وانتهى المذيع من أخباره، وشمل الصمت الكون أجمعه حولهم لحظات، وظلوا هم في دُوامة من صمتهم. وما لبث الراديو أن عاد إلى الحديث مرةً أخرى: «تسمعون الآن أغنية الأمل الضائع شعر حسين شحاته غناء نجوى مصطفى». ولم يكن الحاج والي يتوقع أن يسمع اسم ربيبه مذاعًا وشعره غناءً؛ فأحس كأن الدنيا حوله تهنئه. وسُرعان ما تصاعد الضباب أمام عينيه، ثم راح ينجاب طبقةً بعد طبقة حتى لم يبقَ إلا غلالة رقيقة من الضباب. وجاءت الأنغام وواكبت الأبيات اللحن، ونظر الحاج والي إلى زين العابدين والآخرين فوجدهم ناظرين إليه، وعلى فم كل منهم ابتسامة كأنه يهنئه بها. وأنعم النظر إلى الوجوه وقد راحت موجة الذعر تنحسر عنها شيئًا فشيئًا فهم ينعمون بما يسمعون، بل أن بعضهم يمصمص شفتيه، وآخر منهم يقول «الله، الله»! وزين العابدين يهز رأسه، وأصبحت الغرفة ألحانًا، وانحسر عن هذه الحجرة من العالم قلق الحرب المروع؛ فالنفوس ترف مع النغم، والقلوب تتفتح للآمال، وتسترجع الذكريات، والدنيا — هنا في هذه الحجرة — دنيا ودود فيها حب وفيها متعة وفيها سرور. وعلى الأرض، من هذه الحجرة السلام.
وانتهت الأغنية، وراح الحاج والي ينظر إلى زين العابدين ينتظر منه أن يقول كلمة. وقالها زين العابدين آخر الأمر: الشعر هائل يا حاج والي.
وتصاعدت بعد هذه الجملة أحاديث الإعجاب من الجالسين، وأحس الحاج والي نفسه الصدئة تنقع في السعادة، ودار الحديث بعد ذلك عن الأغنية والشعر. وفكر الحاج والي — وهو في دُوامة الفرح — كيف أصبح الحديث مشرقًا وبهيجًا، بعد أن كانت ريح الحرب القاتلة هي التي تسيطر عليهم؟ وأحس الحاج والي أنه يريد أن يصبح وحيدًا، فهو يستأذن ويقوم إلى الطريق المنفرد من القرية، إلى الليل، ليل القرية الذي يُشيع الوحدة في النفس بصورة يعجز عنها في أي مكان آخر. ومشى الحاج والي لا يسمع إلا أنفاس الليل، حتى لقد نفت مسامعه عنه صرير الصراصير، ونقيق الضفادع، ونباح الكلاب، فليس ثَمة من حوله إلا أنفاس الليل في القرية، وتلك الرائحة التي تنتشر في أمسيات الريف؛ رائحة الأعشاب الخضراء وهي تحترق، اختلطت برائحة الندى وقد استقر على أوراق الشجر. وكان الحاج والي وهو سائر يشق سحابات من الضباب لا يدري؛ أهي التي تعود أن تتراكم أمام عينيه؟ أم أنها سحابات آتية من العشب الأخضر المحترق؟
نعم إن حسينًا لم يعد يسأل عنه، وهو منذ حصل على مرتب من وظيفته قطع ما بينهما قطيعة توشك أن تكون كاملة. نعم إن حسينًا عرف مرات كثيرة بمرض الحاجة بمبة، وبمرض الحاج والي، فلم يكلف نفسه عناء خطاب يرسله! ونعم إنه لا يزور حتى أخاه في القاهرة. ولكن مهما يقطع حسين ما بينه وبين الحاج، بل ما بينه وبين أخيه؛ فإنه لا يستطيع أن ينكر أن الحاج والي هو الذي جعل منه هذا الإنسان الذي يذيع الراديو اسمه وتغني له المطربات. لا مهرب له من هذا، وإن جهد هو أن يهرب من ماضيه.
وماذا كنت أريد منه؟ فليأخذ طريقه في الحياة موفق الخطوات، فلا والله ما تمنيت عنده شيئًا، ولا السؤال … لا ولا السؤال! يكفيني منه أن يُسعد الناسَ مثلما أسعدَ اليومَ زينَ العابدين بك ومن كان معه، ومثلما أسعدني، نعم لقد أسعدني.
ومضى الحاج والي يشق الضباب ورائحة العشب الأخضر المحترق المختلطة برائحة الندى تلاحقه، غير ملتفت ولا عابئ بصرير الصراصير، ولا بنقيق الضفادع، أو نباح الكلاب.