الفصل الثامن والعشرون
أنهى محمد فترة التمرين بقصر العيني، وَعُيِّنَ طبيبًا بالمستشفى الأميري بالزقازيق.
واستقبل أمر تعيينه في غير رضًا ولا فرح؛ فما كان يريد أن يكون قريبًا إلى يد أبيه التي خطت له مستقبله، وما كان يريد أن يكون في البلدة التي شهدته طفلًا وفتًى. إنه يريد أن يبتعد، يبتعد ليشق لنفسه ما بقي من طريق، يريد أن يختار أصدقاءه، ويختار حياته كما يشتهي. أي موظف أحمق في وزارة الصحة اختار له هذا المكان؟ لا شك أنه موظف يبحث عن أيسر الأمور. سأل من أين محمد فقيل من الشرقية؟ فقال يذهب إلى الزقازيق. وماذا يستطيع محمد أن يقول بعد هذا، فلْيرم به إلى الزقازيق، ولْيصارع الضياع مرةً أخرى، فإن استطاع أن يتخلص منه فليرتمِ في شبكة أبيه، والطريق الذي يريد أن يخطه له دائمًا.
زاره أبوه، واستقبله بكل ترحاب. إنه يحبه، لكنه يريد أن يخط لنفسه طريق نفسه. لعله كان يختار الطب لو ترك له أن يختار، ولكنه هو لم يختَر، فهو يحس أنه مسوق في طريق لا يملك فيه لنفسه مصيرًا. أما كان يكفي أباه أن ينجبه، ويختار له اسمًا، ويختار له التعليم منهجًا، كان لا بد أيضًا لأبيه أن يختار له الطب؟ ويختار له الزوجة؟ ويختار له البيت الذي يعيش فيه؟ نعم إنه طلَّق زوجته، ولكنه مع ذلك يحس أن الخيوط التي تربط حياته خيوط غريبة عليه ليس بينه وبينها آصرة من تعرُّف، هي غريبة عن نفسه لا جذور لها في أنحاء كِيانه، خيوط تمتد إليه من خارجه لم تنبت من داخله ولا هي نمت معه، لا ولا واكبت حياته، لا يستطيع أن يتذكر متى فكر في كلية الطب، ولا لماذا اختارها، ولم يختَر غيرها، لا ولا يستطيع أن يقول في نفسه أنه قارن بين كلية الطب وغيرها من الكليات. لقد وجد نفسه فيها كما وجد اسمه محمدًا، وكما وجد زوجته هنية، طريق دفعته إليه يد أبيه، فما استطاع عنه حولًا ولا منصرفًا. واليوم يحل موظف الصحة الأحمق محل أبيه فيختار له الزقازيق لا يستشيره ولا يحاول أن يتعرف ميله. القلق يساوره منذ جاء إلى الزقازيق، الخوف. لماذا؟ إنه لا يدري! أهو يخشى أن تتلقفه يد أبيه مرةً أخرى؟ أم هو يخشى أن يغلبه الضياع على أمره؟! أم يخشى نفسه، فقد طالما ساورته الخشية من نفسه، قلق لا يفارق نفسه. فإن خلا لنفسه بعد ساعات العمل فتكت به نيران القلق، فهو يلجأ إلى الأصدقاء من الزملاء وهم لا يقيمون في بيت أحد منهم وإنما يقصدون إلى النادي، وهم هناك لا يقصرون تسليتهم على الحديث، وإنما يلجئون من ملالتهم إلى لعب البوكر؛ لعبة سهلة التعليم، سريعة الكسب، سريعة الخسارة، ولم يستغرق محمد كثير وقت ليصبح من اللاعبين المداومين. وقد كان أجرأ لاعب على المائدة، فما كان يخاف شيئًا إلا الخوف الذي يحس به وهو بعيد عن اللعب. كان عندما يلعب ينسى كل شيء ولا يعاوده القلق إلا وهو بعيد عن اللعب. وبعدُ، فماذا كان يمكن أن يخيفه غير ذلك؟ إن قَصَّر المرتب استطاع أن يطلب من أبيه عونًا، ولن يرد أبوه له طلبًا؛ فهو من الناحية المالية آمن على نفسه، ويُستغرَق في اللعب. ويعرف أبوه أنه إذا أراده يجده في النادي، ويعرف أيضًا أنه يقامر. وتعود سحب الضباب تتكاثف أمام عينيه؛ لا حول ولا قوة إلا بالله! أربي اثنين فيصبح الأول زانيًا لا يحفل بالمعروف الذي قدمتُه له حتى ليتزوج طليقة ابني وأخيه، ويصبح الثاني مقامرًا؟! ويحتسب الله في أولاده، ويعاوده السؤال القديم: لماذا نُصر على أن نأتيَ بالأولاد؟! وتتجمد السحابة من الضباب أمام عينيه والسؤال في ذهنه. ويسعى إليه وهو على المصطبة أمام بيته جاره الحاج مهدي: يا حاج أتستطيع أن تطلب لنا الدكتور محمد؟
– نعم يا حاج مهدي. فيمَ تريده؟
– زوجة ابني عثمان متعسرة في الولادة.
– أطلبه من تليفون زين العابدين بك.
ويقوم الحاج والي إلى التليفون ويطلب ابنه وتخف كثافة الضباب أمام عينيه ويهتز السؤال في ذهنه بعض الشيء.