الفصل الثلاثون
أتلك هي الحياة التي كنت أصبو إليها؟ أهذا هو الفن الذي عشت عمري أهفو أن أكون واحدًا من أهله؟ أعيش في رحابه، وأقضي عمري في ظل منه؟ أهذا هو الشِّعر الذي كنت أريد أن أنظمه؟ ماذا أصبحت؟ وكيف جنحت من الحياة إلى هذا الجانب المظلم فيها؟ هذا الجانب القاتم الداكن. من أنا؟ خباز! يجهز ما يطلب منه، بلا فن، ولا روح، ولا نوازع. أين هذه التهويمات التي كانت تتراقص في داخلي تريد أن تصبح كلامًا وتلح، فإذا هي متفجرة كالينبوع الأصيل دون حفر أو بحث، أو تنقيب! ماذا أصبحت؟ يا حسين نريد أغنيةً يكون معناها كذا وكيت! يا حسين نريد قصيدة، تقول فيها كذا وكيت! هم الذين يقولون وأنا أتلقف أوامرهم لأجعل منها نظمًا لا أجد فيه شيئًا من نفسي، وإنما هي نفوسهم وما يطلبون. وهل أستطيع أن أقول لا؟! وكيف أعيش؟ منذ تزوجت هنية وهي لا تترك عامًا دون أن تقدم إليَّ فمًا جديدًا يريد أن يعيش. ويعيش، من أعصابي يعيش، يقتات من دمي، ومن كرامة فني المهدرة. لم يكن هذا ما أريد؛ كنت أحب الشعر أقوله وأجد فيه نفسي ومشاعري أنا، لا مطالب المطربين والمطربات. فأين مني هذا الشعر الآن؟ أصبحت كآلة الكتابة أكتب ما يراد لي أن يكتب، بفارق واحد؛ أني أخرجه نظمًا أمقته … أمقته. أين هذا من الفن؟ ولكن هل يدري هؤلاء الأطفال في صرختهم الجائعة بماذا يقتاتون؟ بأشلاء فني الذي ودعته بلا أمل في اللقاء. ومن أين لي اللقاء؟ ماذا أصبحت؟ مدرس وموظف أغاني لدى المطربين والمطربات. وتتسامع مصر بما أقول، ولكن ما أبغض ما أقول إلى نفسي؛ هذا ليس أنا. كلما امتدح أحد بعض مقطوعاتي أحسست كأنه يمتدح غريمًا لي أكرهه وأعيش، من جثة آمالي، أعيش من دماء أحلامي أعيش. وهنية وأولادها يأكلون، لا يدرون ماذا يأكلون.
وانهمرت دمعة على خد حسين وتحسسها بيده، ثم نظر إلى مَائها على يده، وأنعم النظر وكأنما يريد أن يعرف من أي منبع انهمرت هذه الدمعة؛ أهي الدمعة التي ألفها تنهمر دون أن يدعوَ إليها داعٍ؟ أم هي صادرة عن نفسه هذه التي يمزقها الألم وتأكلها النيران؟!
ودق جرس التليفون في البيت؛ فقد أرغمه عمله أن يكون في بيته تليفون وأمسك السماعة: نعم.
وجاءه الصوت آمرًا أكثر منه راجيًا؛ ولم يجد ما يقول إلا: حاضر.
وسأله الصوت فأجاب: بعد أسبوع.
وجاء الصوت مرةً أخرى فأجابه: حاضر … أقل من أسبوع … نعمت فهمت ما تريد …
نعم سيكون كما تريد … نعم … حاضر … نعم … حاضر.
ووضع السماعة وظل يردد؛ نعم، حاضر، نعم، حاضر.