الفصل الثاني والثلاثون
صلى الحاج والي الفجر حاضرًا وقصد إلى الأريكة في بهو بيته، وجلس إلى جانب الحاجة بمبة التي كانت تعد له القهوة، وصمت قليلًا ثم قال: ما رأيك يا حاجة بمبة؟
وصمتت الحاجة بمبة وراحت تحرك القهوة على النار، ثم سكبت بعضًا منها في فنجان وأعادتها إلى النار مرةً أخرى، ولم تقُل شيئًا، وأدرك الحاج والي أنها لا تريد أن تجيب فقال لها: أليس أبو الولد أولى به؟
وسكتت الحاجة بمبة مرةً أخرى، واستطرد الحاج والي: وهو أيضًا صغير لا يتحمل الذهاب إلى البندر كل يوم في البرد الشديد، وأنت عارفة برد الصباح المبكر.
وقالت الحاجة بمبة: ألم يكن أبوه يذهب في البرد؟! ماذا جرى له؟!
وأطرق الحاج والي قليلًا ثم قال: لم يكن لمحمد أحد في البندر، أستطيع أن أتركه عنده.
– وهل تعتقد أن أحمد له أحد الآن؟
– لا حول ولا قوة إلا بالله! أليس أبوه هذا؟
وقالت الحاجة في صوت غاضب: لا … لا يا حاج ليس أباه. أنت أبوه وأنا أمه. هل رأيته يسأل عنه؟ إنه حتى الآن لا يعلم إن كان الموعد قد جاء ليذهب إلى مدرسة البندر أم لا. لا … إنه ليس أباه؟
– على مهلك يا حاجة، إنه يعتمد عليَّ وعليكِ.
– أنا لا أقول يشتري له شيئًا، أنا أقول يسأل. اسمع يا حاج، أنا لا أطمئن أن يذهب أحمد ليسكن مع محمد.
– إنه أبوه.
– أعلم ولكن محمدًا ليس عطوفًا، وأخشى أيضًا على الولد من امرأة أبيه.
– وأنت حين ربيت محمدًا ألم تكوني امرأة أبيه؟!
– أنا يا حاج والي أحببت ابنك بل وأحببت ابن ضرتي، أنا …
– نعم أنتِ خطأ في الطبيعة، أنتِ استثناء، أنتِ لا مثيل لك يا حاجة.
– أخشى على أحمد من امرأة أبيه.
– اسمعي يا حاجة، سأوفق بين رأيك ورأيي؛ أنا سأذهب الآن إلى بيت محمد، وأكلم آمال دون علم زوجها، وأرى إن كانت ترحب بأحمد أم لا؟ وسأفهم من طريقة إجابتها حقيقة شعورها، ونتصرف بناءً على هذا.
– قد ترحب ثم تسيء إلى الولد حين يقيم عندها.
– يا ستي لماذا نقدر البلاء قبل وقوعه؟ وعلى كل حال إننا نستطيع دائمًا أن نسترد أحمد، أليس كذلك؟
وسكتت الحاجة، وسكت الحاج، وأخذ يشرب قهوته في هدوء وقالت: هل ستأخذ أحمد معك؟
– لماذا؟
– لا لزوم.
– أبدًا. إنني سأسألها فقط.
وعاد الصمت إلى الزوجين لا يقطعه إلا رشفات الحاج والي للقهوة.
كان الوقت ضُحًى حين بلغ الحاج والي منزل ابنه، هكذا كان واثقًا أنه لن يجد محمدًا بالمنزل، وصَعِد الحاج والي درجات السلم في هدوء بطيء حتى بلغ الشقة التي يسكن فيها محمد، ومد يده يريد أن يدق الجرس ولكنه فوجئ بزجاج الباب المصنفر يكشف له عن منظر أخذ له …
رأى الحاج والي شبحين يتعانقان أحدهما لرجل وآخر لامرأة شعرها مرسل على كتفيها، وطالت القبلة. والحاج واقف ذاهلًا عن نفسه ويده نصف ممتدة إلى الجرس، وعيناه شاخصتان إلى ما يرى، وفمه مفتوح من الدهشة! لماذا لم يذهب محمد إلى المستشفى حتى الآن؟ وانتهت القبلة وفُتح الباب، ولم يكن محمد في بيته! كان عزت زكي، ولم يكن الحاج والي يعرفه، ولم يكن هو يعرف الحاج والي! وقالت آمال في لعثمة: أهلًا عم الحاج …
وظل الحاج صامتًا، وأدرك عزت الموقف الذي يواجهه فنظر قليلًا إلى الحاج، ثم وثب يعدو السلم في سرعة مجنونة.
وقالت آمال: تفضل …
ودون أن يجيب الحاج والي أخذ سمته إلى درجات السلم، والضباب يغشى طريقه، والذهول يأخذ عليه مسالك تفكيره.
ظل الحاج والي سائرًا بجانب بحر مويس يغمض عينيه ويفتحهما وكأنما يريد أن يمحوَ ما رأى، فتزداد الصورة التصاقًا بعينيه وذهنه وكِيانه كله. ماذا يفعل؟ أيخبر ابنه؟ إنه إذا فعل فكأنه قتله! فإن الزوج يظل محتفظًا برجولته حتى يعرف أن زوجته تعبث بشرفه؛ المعرفة هي الحد الفاصل بين الشرف وعدم الشرف، فكيف يقول لولده وحيده إنه بلا شرف؟! أيقول لأبيها؟ وماذا يستطيع أبوها أن يفعل؟ ووثب إلى ذهنه في هذه اللحظة موافقة أبيها السريعة على زواجها من محمد وهو من كان لأخرى قبلها وله منها ولد!
لا بد أن زين العابدين يعرف عن أخلاق ابنته عوجًا. ماذا يفعل؟ أيقول له؟ لا. وجد نفسه يحنو على ابنه أن يعرف أحد حتى ولو كان أبوها أن شرف ابنه مَهين مضاع. ماذا يفعل إذن؟ عاد أدراجه إلى بيت ابنه ودق الجرس وفتحت له آمال الباب ودخل إلى حجرة الجلوس ودخلت من خلفه وأغلقت الباب وظل ناظرًا إليها فترةً طويلةً ثم قال: لماذا؟
وصمتت وصمت حينًا ثم قال: ماذا أفعل الآن؟ أقول لأبيك؟!
وعاد إلى ذهنها ذلك السجن الذي فُرِضَ عليها في القرية، فقالت في سرعة: لا.
– إذن ماذا أفعل؟ ماذا يمكن أن أفعل؟ لو قلت لمحمد قتلته!
وأطرقت آمال صامتةً لا تدري ماذا تقول، وعادت إلى نفسها تلك الوساوس من وحدتها بالقرية، فهي تقول دون وعي: لا تقل لأبي.
– وأسكت؟! أسكت كأني لم أرَ شرف ابني يلطخ على يديك؟
أسكت يا ست آمال؟
وصمتت آمال لحظات ثم قالت: إنها أول مرة.
– أتظنين أن هذا يهمني كثيرًا؟! إن مجرد عزمك على هذا يكفي.
وساد الصمت. وعاد الحاج يقول: من هو؟
– المهندس الذي يسكن بالطابق الأعلى.
وعاد يقول وكأنه لم يسمع الإجابة: ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟!
وقام عن كرسيه وتركها واقفة، وقصد إلى الباب الخارجي وأخذ سبيله إلى الطريق يمشي بجانب بحر مويس والضباب يغطي طريقه.
ألهذا كنت حريصًا على أن يكون لي أولاد؟ ألهذا نجيء بهم؟! ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟!
لم يدرِ لماذا أراد أن يذهب إلى محمد ويراه، أحس كأنه يريد أن يستوثق أنه لا يعرف عن زوجته شيئًا! أو أحس أن ابنه جريح وأنه لا بد أن يكون بجانبه، لا يدري أي دافع خالجه، وإنما أحس أنه يريد أن يرى ابنه. ووجد قدميه تقودانه إلى المستشفى الأميري الذي يقع على بحر مويس، ذلك النهر الذي صاحبه منذ دخل في غمار نكبته ولم يفارقه. ظل سائرًا بجانب النهر حتى وجد نفسه أمام باب المستشفى، ومع ظهور الباب طالعه سؤال لم يفكر فيه؛ ماذا هو قائل لابنه؟ أي سبب سيخلقه ليبرر هذه الزيارة؟ ولم تطل حيرته؛ فسُرعان ما قفز أحمد إلى ذهنه. ودخل إلى المستشفى وسُرعان ما استُدعي له محمد الذي قبَّل يد أبيه في محاولة جادة أن يخفيَ دهشةً من الزيارة. ونظر الأب إلى ابنه وهو يقبِّل يده، وأحس نحوه حبًّا كبيرًا ووجد يده تربت ظهره في حنان، وتشبثت يده لحظةً بجاكتة محمد، فقد خالجت نفسه رغبة ملحة أن يعانق ولده، ثم استيقظ من خوالجه، فما تعوَّد أن يعانق ابنه كلما لقيه. وانفرجت أصابعه عن الجاكتة، وأمسك بيد ولده وقاده إلى الكرسي وجلسا: كنتُ في البندر، وخطر لي أن أراك.
ولم يكفِ هذا السبب عند محمد، وأحس أن أباه ما زال يخفي سببًا آخر. فنظر إليه وحب الاستطلاع لا يريد أن يبارح عينيه وقال: أهلًا وسهلًا، شرفت …
– وهناك موضوع قلت أكلمك فيه.
– أنا تحت أمرك يا با.
– أحمد …
وسكت الأب، وسكت محمد، وفكر الحاج والي أن أحمد ربما يكون رقيبًا على آمال يمنعها، وقبل أن يسترسل في تفكيره، نظر إلى محمد وكأنما خشي أن يكون قد أبصر ما يفكر فيه؛ فقال دون ريث تفكير: أنت تعلم أن موعد دخوله المدرسة الابتدائية قد حل.
– نعم.
– أخاف عليه من الصباح الباكر وبرده، فأنا لا أنسى يومًا مرضت أنت فيه بالالتهاب الرئوي، وتعلقت أنفاسنا بأبواب السماء حتى شفاك الله.
– أنا تحت أمرك.
– يخيل إليَّ أنه لو أقام معك، لكان هذا أنسب له.
– أنا طبعًا …
وقاطعه أبوه: وطبعًا أنا سأقدر زيادة التكاليف عليك.
– أنت لا تؤخر عني طلبًا.
– وهل لي إلا أنت يا ابني؟
وأحس سكينًا حادةً وهو يقول هذا، وعاوده الضباب؛ أتراي ظلمتك حين جئت بك إلى الدنيا؟ ولم يرَ محمد ما يعانيه أبوه، وكان يفكر فيما يريد أن يقول، وهوَّم الصمت على الاثنين لحظات، ثم تنحنح محمد وقال: الحقيقة أنني أطمئن على أحمد مع أمي الحاجة أكثر مما لو كان عندي في البيت.
ونظر الأب مليًّا إلى ولده، وأدرك ما يريد ابنه أن يقول، ثم قال: لعلك على حق. طيب أقوم أنا.
– لم تشرب القهوة.
– وراءك شغلك. سلام عليكم.
– مع السلامة يابا.
وقبَّل يده وهو يسلم عليه، ويخرج الحاج والي مرةً أخرى إلى الطريق وبحر مويس. لم يعد موضوع أحمد يهمه في ذاته، وإنما كان يريد أن يرى محمدًا وقد رآه، وسار في الطريق، وعاد الضباب يغشى سبيله، ولكنه نوع آخر من الضباب. رفع الحاج والي يده إلى عينه ومسح الدموع التي تراكمت على أهدابه.