الفصل الثالث والثلاثون
دأب الحاج والي منذ ذلك اليوم أن يزور بيت ابنه في كل وقت من أوقات النهار، ودُهش محمد لهذه الزيارات المتكاثرة، ولكن آمال عرفت ما يريد الحاج والي أن يفرضه عليها من رقابة.
وكان الحاج والي يعتبر نفسه المسئول وحده عما يجري في بيت محمد؛ فقد حمل السر وحده، لم يبُح به ولا حتى لزوجته. حمل السر وحده، شر حِمْل عرفه في حياته الطويلة، كان يحس به سرًّا أشد وطأةً من الحياة نفسها، وكان كلما ضاق بسره قصد إلى الزقازيق وداهم بيت محمد، وقليلًا ما كان يجد محمدًا. وما كان هذا يعنيه في شيء، بل كان حين لا يجده يدخل إلى البيت، ويظل صامتًا لا يتحدث، وتحضر له آمال القهوة ويشربها ويظل ناظرًا إليها طوال جِلسته لا ينطق، بل يترك عينيه تقولان، وقد كانتا تقولان كثيرًا، وكانت آمال تستمع إلى هذا الحديث الصامت فينصبُّ على قلبها كأنه المدى القاطعة، وتحاول ألا تنظر إلى الحاج، ولكن عينيه الهادرتين بالحديث ما تلبثان أن تفرضا عليها أن تنظر إليهما لترى وتسمع الحديث الصامت، وتواصل المدى عملها في قلبها، بل في كِيانها جميعًا.
ويشرب الحاج والي قهوته ويطلق تنهيدةً ينتزعها من أعماق آلامه ويقوم إلى الباب لا يسلم، فإذا أقفلت آمال الباب من خلفه تهاوت في بكاء صاخب ثائر ثورةً لا تدري كيف تُنفس عنها.
وفي يوم بينما الحاج والي جالس معها، عيناه مثبتتان عليها قالت له فجأة: عم الحاج.
ولم يُجب فواصلت الحديث: أتستطيع أن تقتلني؟
ولم يجب، فواصلت الحديث: كنت قد هددتني أن تقول لأبي، ورجوتك ألا تفعل. أتُراك إذا قلتَ له تكف عن هذه النظرات؟ قل له … قل له … فقط كف عن هذه النظرات.
وانخرطت في البكاء، ولم يقل الحاج والي شيئًا، وإنما قام وانصرف شأنه دائمًا.
وفي يوم عرض عليها محمد أن يسافرا إلى القاهرة، وكأنما أنبتت كلمة القاهرة فكرةً في نفسها لم تكن تخطر لها.
وفي القطار قالت لمحمد: أنت الآن دكتور معروف في الزقازيق يا محمد.
وأحس محمد الزهو وهو يقول: الحمد لله.
– صاحبتي ناهد قالت لي إنها تعرف زبائن من مصر جاءوا إليك في الزقازيق لتعالجهم.
– صحيح؟
– ألم تكن تعرف؟
– أنا لا أسأل الزبائن من أين جاءوا.
– ناهد قالت لي هذا، وقد ذكرت لي أسماءهم، ولكني نسيتها.
– إذن فزوجك رجل مهم.
– أنت طيب. محمد ليس فيك إلا عيب واحد.
– أعرفه. إنه يسليني يا آمال، يجعلني أنسى كل ما ألاقيه أثناء النهار.
– يا ترى يا محمد لو انتقلنا إلى مصر.
– ماذا؟
– إن اسمك كبير الآن؛ ستجد زبائن أكثر من زبائن الزقازيق، وقد تجد تسليةً أخرى.
– أما الزبائن فلا أعلم. مصر واسعة وأخشى أن أضيع فيها وسَط الزحام. أما التسلية الأخرى فأشك كثيرًا أن أجد شيئًا يسليني عن الورق يا آمال.
– نجرب.
– ألا تخشين أن تكلفنا التجربة زبائن الزقازيق، ولا تعوضنا بزبائن مصر؟
– نحن والحمد لله لا نحتاج للمال؛ أنت وحيد أبيك، وأنا وحيدة أبي، ومرتبك يكفينا. فما الضرر في أن نجرب؟
– على شرط.
– قل شروطك كلها.
– أن تفقدي الأمل في أن أترك لعب الورق.
– لا بأس. يكفي أن أكون في القاهرة وأتنفس.
وأطلقت تنهيدةً عميقة، وأحست أنها أخيرًا تستطيع فعلًا أن تتنفس.