الفصل الرابع والثلاثون
حين أبلغ محمد أباه أنه نقل إلى القاهرة، صمت الأب طويلًا حتى اضطُر محمد آخر الأمر أن يقول: ماذا يابا؟ أيغضبك هذا؟
وظل الحاج والي صامتًا فترةً أخرى، ثم قال فجأةً وقد عاوده شعور بالخوف أن يرى ابنه الأفكار التي تدور برأسه: وما الداعي لهذا النقل؟
– المجال هناك أوسع.
– هنا يعرفك الناس.
– وسيعرفني الناس هناك.
ولم يكن الحاج والي يحتاج إلى كثير تفكير ليدرك أن آمال هي التي ألحت لإتمام هذا النقل، ولكنه لم يستطع أن يقول شيئًا إلا: مصر واسعة يا محمد.
– والناس فيها كثيرون.
– أخشى أن تضيع هناك بين الأطباء بعد أن أصبحت هنا معروفًا.
– لا تثق بي يابا؟!
وصمت الحاج والي قليلًا ثم قال: بل إني أثق بك كل الثقة.
وعاد إلى الصمت، وهوَّم السكون عليهما لحظات، ثم قال: يا محمد خذ بالك من …
ولم يكمل، وقال محمد: ممن يا أبي؟
وتنهد الأب ثم قال: من صحتك يا ابني.
وفهم محمد ما يقصد أبوه، أو خُيِّل إليه أنه فهم، فأطرق في استخذاء، فقال الأب: إنك تسهر كثيرًا ولا تراعي …
وصمت وصمت محمد، وأكمل الأب بعد تنهدة عميقة: صحتك.
وعاد الصمت مرةً أخرى يحلق على الأب وابنه، ثم قال الحاج والي: إنك تحتاج لفلوس للنقل ولإنشاء عيادة.
وسكت محمد. وقال الأب: خذ، معي الآن مائة جنيه، وإن احتجت لزيادة أرسل لي.
– أطال الله عمرك يابا.
وانصرف محمد، وظل الأب وحيدًا، وعندما قَدِمت إليه الحاجة بمبة وجدته ساهمًا مفكرًا، ولم تحاول أن تسأله عما به، بل تركت الغرفة. وعاد هو إلى وحدته، وإن كان لم يفارقها؛ لماذا تفعلين هذا بنا يا آمال؟ لماذا تفعلين هذا بنا؟
سُرعان ما استعاد محمد صِلاته بأصدقاء الكلية، فقد كان يتصل بهم كلما جاء إلى القاهرة. فحين نقل إليها كان على علم بمكان أصدقائه جميعًا؛ وفي مقدمتهم مجدي عبد العزيز الذي أصبح طبيبًا بمستشفى الملك حيث نقل محمد. وهكذا التأم الصديقان مرةً أخرى، تجمع بينهما الذكريات القديمة والزمالة في المستشفى.
وما إن استقر المقام بمحمد وآمال وسوسن في القاهرة، حتى أخذ محمد يبحث عن طلْبتين؛ الطلبة الأولى رفقة يشاركونه في اللعب، والطلبة الثانية شقة تصلح عيادةً له. وقد حقق له مجدي الطلبتين كلتيهما. فإن يكن مجدي غير هاوٍ للعب القمار، إلا أنه يجلس مع اللاعبين كل ليلة في نادي القاهرة، قانعًا بالمشاهدة عن الاشتراك في اللعب، وسُرعان ما انضم محمد إلى هؤلاء اللاعبين، واثقًا أن ليس بينهم نصاب يغش في اللعب.
كما استطاع مجدي بما له من صِلات ممتدة في القاهرة أن يعثر لمحمد على شقة مناسبة في ميدان الأزهار لتكون عيادةً له.
أما آمال فإنها قبل أن يستقر بها المقام في القاهرة، كلَّمت صديقتها ناهد، وما أسرع ما تم بينهما اللقاء.
– أخيرًا يا آمال. أخيرًا عدت إلى مصر.
– أنت لا تعرفين كم كنت أشتاق إلى مصر وإليك.
– حدثيني عن أيامك في الزقازيق.
– أيام سوداء. لا أراك الله مثلها.
– سأعوضك عنها أيامًا بيضاء مشرقة.
– أحتاج إلى سنين طويلة؛ لأعوض ما شفته من عذاب.
– هل كان لك أصدقاء في الزقازيق؟
– زوجات الموظفين.
– أنا أقصد أصدقاء لا صديقات.
– اسكتي.
– وراء اسكتي حكاية.
وقصت آمال قصتها مع صديقها الوحيد عزت، وما فعله معها الحاج والي، وحين انتهت قالت ناهد: عبيطة.
– وماذا كنت أفعل؟
– لماذا يكون هذا في بيتك؟
– وأين يمكن أن يكون؟
– أنت عبيطة.
– هل لك أصدقاء؟
– عدد شعر رأسي.
– وزوجك؟
– يسهر في الخارج، وأسهر في الخارج. ألا يسهر زوجك؟
– يسهر.
– سأعوضك عن أيام الزقازيق.
– سنرى.