الفصل الرابع
لم يكن بيت زين العابدين بك باذخ الفخامة، وإنما كان رحب اللقاء تستقبل الداخل إليه شرفة واسعة ليست مرتفعةً عن الأرض إلا ببعض درجات قلائل، ثم هي تفضي إلى بهو كبير تحيط به من الجانبين حجرات واسعة للاستقبال، وأما الطابق الأعلى منه فهو حجرات للنوم.
وتحرص بهية هانم زكي على العناية بالمنزل بغاية ما تستطيع من نظافة، وإن كانت الفيران كثيرًا ما تعدو على نظافتها بما لا تحب، فهي تطاردها ما وسعها الجهد؛ فبهية هانم سيدة نشأت في بيت النظافة فيه قطعة من الدين، والدين فيه هو كل شيء. فهي لم تقُل يومًا لزوجها إلا ما يرضيه؛ شأنه أن يأمر، وشأنها أن تطيع، دون أن تحاول تعليل أوامره أو مناقشتها. ولولا ما يشغلها من إنجاب الأطفال لسعدت بحياتها في ظله كل السعادة، فما ينقصها من حياتها شيء إلا أن تصبح أمًّا، فهي تسعد حين تنظر إلى المرآة غاية السعادة، إنها جميلة القسمات؛ فم متسع بعض الشيء، يعلوه أنف صغير، تحيط به وجنتان فيهما امتلاء وفيهما نعومة وإشراق، يغطي الشعر الأصفر أذنيها الصغيرتين، بادئًا من رأس متسع، تاركًا بينه وبين العينين السوداوين جبهةً صافيةً عريضة. وبهية ممتلئة القوام في غير إفراط، وإنما هو القوام كما يشتهيه زوجها طولًا وعرضًا. ولم تكن بهية قد أدركت الخامسة والثلاثين من عمرها؛ وهكذا كان أملها في الإنجاب تمهد له هذه السن الباكرة أن يزدهر ولا يتضاءل.
كان الوقت مساءً، وقد صَعِد زين العابدين مبكرًا من الطابق الأدنى، وقال لها مبتسمًا: هيه، ما رأيك لو سافرنا إلى مصر في باكر؟
– صحيح، هل أُصلحت السكة الحديد؟
– سيمر بنا أول قطار إلى مصر صباح غد.
– ولكن لي شرط.
– ألكِ شروط أيضًا؟
– شرط واحد.
– آخذك معي إلى مصر لتري أباك وأمك، وتملي شروطك أيضًا.
– قلت لك إنه شرط واحد.
– أمرك يا ستي. قولي شرطك.
– أذهب إلى الدكتور نجيب محفوظ.
– ماذا؟!
– دكتور مشهور في مصر سمعت عنه من زوجة مأمور المركز؛ ظلت عشر سنوات بلا خلف، حتى كتب لها الدكتور محفوظ دواءً فأصبح لها ولد وبنت.
– أمرك يا ستي، أمرك. ولكن لي أنا الآخر شرط.
– أمرك.
– لا تطلبي مني أن أُقيم معك في بيت والدك.
– لماذا؟!
– لا أرتاح هناك.
– أمرك.
– اتفقنا.
وكان الصباح، ونزل زين العابدين إلى الطابق الأسفل بعد أن أوصى زوجته ألا تتأخر في إعداد الحقائب. وكان في انتظاره الحاج والي الذي جاء بناءً على موعد سابق.
– صباح الخير يا حاج والي.
– صباح الخير يا سعادة البك.
– هيه، هل أحضرت المبلغ؟
– المائة جنيه معي، إلا أن لي كلمة.
– لا تقُلها.
– لا بد أن أقولها.
– يا حاج والي إن لم أتمتع بمالي فلمن أتركه؟ ها أنت ذا ترى، لا ولد ولا بنت.
– يا سعادة البك العمر أمامك طويل، وقد بعتَ حتى الآن ما يقرب من الخمسين فدانًا، ماذا تفعل غدًا إذا رزقك الله الولد أو البنت؟
– هل كان أحد يصدق أنني سأخلف؟ ها أنا ذا أنتظر مولودي. اعمل معروفًا يا زين العابدين بك، كفاك بيعًا.
– ربنا يسمع منك يا حاج. لك حق من يدري، فها نحن أولاء سنذهب إلى الدكتور نجيب محفوظ في القاهرة.
– إن شاء الله ربنا يستجيب لدعائنا.
– ربنا يهيئ الخير يا حاج.
– على بركة الله، تفضل المبلغ.
– العقد الذي معك سليم؟
– نعم، أبقاك الله. نحن جميعًا نشهد لك بأن بيوعك شريفة، وعقودك نظيفة والحمد لله.
– الحمد لله.
– أستأذن أنا.
– مع السلامة يا حاج والي.
– وقام الحاج والي وخرج، وظل زين العابدين وحده يفكر فيما قال له الحاج، ثم ما لبث أن أبعده عن ذهنه، وقام إلى شرفة داره يذرعها في انتظار موعد القطار، وألقى نظرةً إلى الشجر الذي يحيط ببيته، فوجد طيورًا كثيرةً مطمئنة الجلسة فوق أعرافه؛ ما الذي يمسك بهذه الطيور هنا؟ لماذا لا تذهب إلى القاهرة ولها أجنحة؟ أهو الأمن الذي يشيع حول بيته، فهو لا يصيد الطير، فليس ثمة صوت قذيفة يُسمع؟ وهل يكفي الأمن حتى تستقر الطير فوق أشجاره؟ ما لها لا ترود السماء والأشجار؟ إنها غبية هذه الطيور، غبية.
ومالَ زين العابدين بك فجأةً فأمسك بحجر وألقاه على شجرة حافلة بالطير؛ فانبعث الحمام واليمام صاعدًا في السماء، وحوَّم مرةً ثم أتبعها بأخرى، ثم عاد إلى الشجرة، واطمأن به المقام، وزين العابدين ما يزال يقول: غبي هذا الطير، غبي.
حان موعد القطار، ونزلت بهية هانم تتقدمها الحقائب. واستقل الزوجان العربة إلى المحطة، وأقبل القطار بعد قليل، بطيئًا في قدومه، وكأنه يتحسس طريقه ليستوثق أن الإصلاح قد تم بإتقان. وحين بارح القطار المحطة بطيئًا، نظر زين العابدين إلى السماء، وارتاحت نفسه حين رأى يمامةً تسير بجانب القطار وكأنها تسابقه، ثم ما لبث أن انشغل عن السماء بالأرض، وعاد ينظر إلى الطريق الذي انقطع عن السير فيه أشهرًا طوالًا، وشاركته بهية هانم في الصمت والنظر إلى الطريق حتى إذا وصلا إلى القاهرة طلبت بهية في تردد أن يذهبا إلى الطبيب أولًا ما داما قد وصلا في موعد مناسب، والتقى طلبها برغبة زين العابدين الذي أراد أن ينتهيَ من هذه المهمة ليفرغ بعد ذلك إلى القاهرة التي بلغ شوقه إليها أقصى مداه. وتم لهما ما أرادا، وعادا من عند الطبيب، وقد كُتب الدواء للست، واستقبلت التذكرة بأمل عريض مشرق، واستقبلها زين العابدين كما تعوَّد أن يستقبل كل وصفة جديدة يجيء بها إلى زوجته.
واشترى لها الدواء، وذهب بها إلى بيت أبيها، وقبل أن يدخل قال سائق العربة الأجرة: هل أنتظر سعادتك؟
وبدون وعي قال زين العابدين: نعم.
وصعِد فأدى زيارةً عاجلةً ثم استأذن وخرج، إلى القاهرة.
كان «بار الأنس» هو البيت الحقيقي الذي يقطنه زين العابدين حين يأتي إلى القاهرة، وكانت صديقته فاطمة العراقية؛ فتاة أتقنت إرضاء الرجال، فنصيبها من زوار البار هم الأغنياء الذين يحبون أن يبذلوا أموالهم في كرم وإسماح. وقد كانت في هذه الشهور التي غاب فيها زين العابدين قد وطَّدت صداقتها بوجيه آخر من وجهاء القاهرة الذين لم تمنعهم الثورة وتقطيع الخطوط الحديدية من زيارة البار. وهكذا كان دخول زين العابدين إليها أمرًا لا تستقبله بالحفاوة والترحاب في دخيلة نفسها، وإن كانت قد أبدت له كل ما تعلمته طَوال حياتها العريضة من حفاوة وترحاب. جلست إليه بضع دقائق، ثم استأذنت وقامت إلى زميلتها أنيسة ولعة وقالت: هذا السوار يعجبك من زمان.
– نعم.
– وهذا القرط؟
– ما شأنك؟
– الذي أحضر السوار والقرط هو هذا الرجل الجالس هناك.
– نعم أعرفه زين العابدين.
– يدي مشغولة في هذه الأيام بغيره.
– فأنت تتنازلين لي عنه؟
– بعينك.
– فماذا تريدين؟
– كم تدفعين لأتركه لك؟
– أعطيك أول هدية يحضرها.
– وإذا كنتِ خائبة، ولم تستطيعي أن تنالي منه هديةً مناسبةً فماذا أعمل أنا؟
– وماذا أعمل أنا؟
– تدفعين فيه ما أطلبه الآن، والله يهنيك به بعد ذلك.
– قولي، ماذا تريدين؟
– هذا المصحف الذي يتدلى على صدرك.
– هذا! لقد ثمَّنته بعشرين جنيهًا.
– أنت تعرفين أنني أستطيع الاحتفاظ برجلين وبعشرة عند اللزوم.
– النهاية، أمري إلى الله. خذي.
وخلعت أنيسة المصحف وتقدمت هي وفاطمة من مائدة زين العابدين وجلستا، وقالت فاطمة في دلال: يا زين العابدين بك، أنت فاجأتني بزيارتك، وأنا الليلة مشغولة في فرح، وقد رجوت أنيسة أن تصاحبك الليلة.
– يا ستي أهلًا بأنيسة.
وتم الاتفاق دون أي اعتراض من زين العابدين، فما كان يمكن أن يعترض بمشهد من أنيسة، وهو بعدُ ليس حريصًا كل الحرص على أن تطول صلته بفاطمة أكثر مما طالت، وما كادت فاطمة تقوم عنهما حتى سارع هو يسألها: أين نتعشى الليلة؟
وكانت خبيرةً بما يرضي الرجال، خبيرةً أيضًا بالأمكنة التي يمكن أن تقصد إليها إذا كان معها زبون على هذا الغنى الذي يتمتع به زين العابدين. وسُرعان ما اكتشف فيها زين العابدين هذه المواهب، فهو يسألها بعد العشاء: وأين الغداء؟
– غداء! أي غداء يا رجل، ونحن ما نزال في العشاء؟!
– أقصد غدًا. ماذا بك، لماذا لا تفهمينني؟
– غدًا! أي غد يا سعادة البك؟! الكلام كان عن ليلة واحدة، وأنا لا أعرف لليلة واحدة.
– وأنا لا أعرف على ضرة.
– فماذا أنت فاعل بفاطمة؟
– من باعك بِعه.
– يا راسي.
– يا ستي، كم من أفراح أحيتها ونحن أصدقاء ولم تعتذر!
– تعجبني.
– عارف.
– نتغدى غدًا في روض الفرج.
– يا بنت! في الهواء الطلق على النيل.
– فاهمني.
– وغدًا سأكون فهمتكِ أكثر وأكثر.
وفي الغد قصد هو وأنيسة روض الفرج، واختار منضدةً على النيل وأمر بالغداء، وطلب زين العابدين حمامةً مشوية، وطلبت هي كبابًا، وفي انتظار الأكل أن يأتيَ نظر زين العابدين إلى السماء وكأنما يريد أن يرى مقدار سطوع الشمس، ولكن أدهشه أن وجد حدَّاءات كثيرات تحوم حول المكان. وقال لأنيسة: ماذا تفعل كل هذه الحدَّاءات هنا؟
– كل مخلوق يبحث عن رزقه.
وسكت، وجاء الطعام، واستقر على المائدة، وبدأ زين العابدين يأكل، فقطع لنفسه لقمة خبز غمسها في سلطة الطحينة، حتى إذا ابتلعها، مد يده للحمامة المشوية، وقد أخذ به الجوع مأخذه، ولكن لم يكد يمد يده حتى انقضت على الحمامة حدأة بارعة، فإذا الحمامة المشوية في مخالبها، وإذا هي في السماء مرةً أخرى قبل أن يُفيق زين العابدين من المفاجأة المذهلة.
خرج زين العابدين من الفندق يريد أن يقصد حي الصاغة؛ فقد كان لا بد له أن يشتريَ هديةً للصديقة الجديدة، ووقف ينتظر عربةً أن تمر به، ولكن طال به الوقوف دون أن تمر به عربة، وسئم زين العابدين الانتظار، فراح يمشي آملًا أن يلتقيَ بعربة، ولم يمر بذهنه أنه من العسير أن يجد هذه العربة؛ فقد ترك القاهرة حين تركها قبل الثورة، وقائدو العربات يلحُّقون على المارة أن يركبوا، وحين نزل في أمسه من القطار لم يجد صعوبةً تُذكر في الحصول على عربة، وقد ظلت العربة معه حتى عاد إلى الفندق، وسأله السائق إن كان يريده في اليوم التالي، ودُهش من السؤال، ولكنه وافق، وظن أن سائق العربة يريد أن يضمن رزق غده، ولم يشأ أن يحطم آماله، فوافق، وظلت معه العربة طَوال اليوم التالي حتى عاد إلى الفندق، فهو إذن يجهل كل الجهل ما ألمَّ بالمواصلات حتى في القاهرة، وقد أوقعه هذا الجهل في خطأ يدفع ثمنه الآن، فهو لم يطلب إلى السائق أن يعود في يومه هذا، فما كان يتصور أنه لن يجد عربةً في أية لحظة يشاء. ومرت به عربة كارو، وتولته الدهشة، ولكن لم تكد تمر من أمامه حتى ظهرت عربة أخرى كارو أيضًا، ولم تكن مزدحمة، فإذا سائقها يقف بجانبه ويقول: تفضل يا بك.
– ماذا؟!
وأوشك أن يغضب، ولكنه نظر فوجد الراكبين لا يَقِلون عنه وجاهة.
وقال أحدهم وهو أفندي أنيق: تفضل يا بك. يظهر أنك حديث القدوم من الريف.
وقال زين العابدين، وهو لا يزال في دهشته: نعم.
– هذه هي وسيلة المواصلات الرسمية الآن؛ فسائقو الحنطور مضربون.
وقال السائق: أتحب أن تجلس في الدرجة الأولى؟
– ماذا؟! وهل عندك درجة أولى؟!
– نعم، هنا في المقدمة. تجلس على وسادة، وستجد الجِلسة مريحةً ونظيفة.
– وكم الأجر؟
– قرشان. إلى أين أنت ذاهب؟
– إلى الصاغة.
– تفضل.
ودفع زين العابدين القرشين، وركب واستأنف الحديث: ولكني ركبت بالأمس عربة حنطور.
وقال السائق: لا بد أنك ركبتها من المحطة.
– نعم. والترام؟
– أضرب عماله أيضًا.
وقال أحد الراكبين من الوجهاء: لقد وجدنا «الكارو» أمتع.
وقال السائق: إنها ركبة سلطاني!
وقال زين العابدين: ولكن لماذا الاستمرار في الإضراب، وقد سُمح للوفد بالمفاوضة وتألفت وزارة رشدي، وأوشكت الأمور أن تستقر؟
وقال الأفندي الذي حادثه أولًا: لجنة الموظفين لا تزال مضربة، وقد وضعت شروطًا للعودة للعمل، وهكذا استمر الإضراب.
وقال آخر: الإضراب مستمر وإن كانوا قد أخذوا يجمعون الاكتتاب للوفد.
– أعانهم الله. لا بد أن ينجح الوفد في مهمته.
واستمر الحديث بين الراكبين حتى بلغ زين العابدين الصاغة فنزل واختار سوارًا من الذهب الثقيل دفع فيه عشرين جنيهًا، وعاد وقد عرف طريقه فوقف إلى موقف العربات الكارو فركب الدرجة الأولى، وصعِد معه شاب يلبس الملابس البلدية، وأفندي لا تبدو عليه مظاهر الغنى، كما ركب إلى جواره في الدرجة الأولى وجيه يرتدي ملابس الفقهاء، وإن كان يبدو عليه أنه تاجر. وسارت العربة، وبدأ الأفندي غير الأنيق حديثه مع الذي يلبس الملابس البلدية: يا ليتني كنت أملك أكثر من هذا كنت قدمته.
– وما له؟ كل إنسان يقدم ما يستطيع. أنا لم أجد شيئًا، ولولا زوجتي لظَلِلت حزينًا طول العمر.
– وما له يا أخي! ألستما زوجين؟
– نعم، ولكنها عروس جديدة، ولم أُحضر لها إلا هذا العقد.
– والله إنها عاقلة.
– رأت مقدار ضيقي، فقالت لي بِعه، وحين يأتي المال تشتري لي غيره.
– هل بعتَه؟
– لا، سأقدمه إلى لجنة الاكتتاب، فإني أخشى إن بعته أن يبخسوا ثمنه؛ أنا اشتريته بعشرة جنيهات، ومعي عقد شرائه، سأقدمه هو والعقد إلى اللجنة، واللجنة ستبيعه بثمنه.
وسمع زين العابدين الحديث فعجب له، وراح يفكر في هذه القاهرة التي انتفضت هذه الانتفاضة، فلم يعد يسمع شيئًا، إنما هو طنين من الدماء الفوَّارة في عروقه، إنه البعث. ووقفت العربة فما درى أين وقفت، ونزل الأفندي والشاب فوجد زين العابدين نفسه ينزل معهما، وسارا فسار خلفهما ودخلا بيتًا وقدم كل منهما اكتتابه، وأخذ كل منهما إيصالًا وانصرفا، وتقدم هو فقدم السوار الذي اشتراه ومعه العقد الذي يثبت ثمنه، وسأله الذي يتولى جمع الاكتتاب: اسم حضرتك؟
ودون وعي قال: أنيسة ولعة.
وقال الرجل مدهوشًا: ماذا؟!
وانتبه زين العابدين ليقول: اكتب الإيصال باسم أنيسة ولعة.
وحين التقيا قدم لها الإيصال، فنظرت إليه نظرةً عميقة، واحتضنته وهي تقول: هذه أعظم هدية نلتها، بل أظنها أعظم هدية سأنالها في حياتي؛ لقد جعلت مني إنسانة لها وطن وعليها واجب نحوه. أطال الله عمرك.