الفصل السادس
كانت الريح عاصفةً يشتد عصفها كل حين، بدأت أول ما بدأت بذرات الرماد تحملها، ثم قَوِيت فأصبحت تحمل الأوراق الجافة المتساقطة على الأرض، ثم راحت تخلع عن أشجار الكافور أوراقها، ثم اشتد ساعدها فإذا هي تحطم أعراف الشجر لا تفرق بين الكافور أو غيره من الأشجار، وراحت تحمل الأعراف في سرعة مجنونة تندفع إلى حيث لا تدري مقصدًا.
رياح عمياء مجنونة معربدة ليس فيها من الثبات إلا أنها تندفع إلى هدف واحد، وإن كانت لا تدركه، ولا تدري لماذا اختارت هدفها هذا، وهي مع ذلك تتردد أحيانًا في الاندفاع إلى متجهها؛ فهي تدور حول نفسها بما تحمله في دُوامة عنيفة من الهواء والرماد وأعراف الشجر، ولكن قليلًا ما يدوم ترددها، ثم هي تَمضي في سبيلها لا تلوي على شيء، ريح قل أن تعرفها مصر. وسارع المطر ينهمر، فهو السيل الجارف ينسكب أنهارًا من السماء، فهو أنهار في الأرض فياضة تحتفر المجرى في إصرار وإلحاح. وكأنما أرادت السماء أن تنير الطريق للأنهار الناشئة الصغيرة؛ فالبرق يخطَف الأبصار إن وُجدت في العراء أبصار، فالناس في بيوتهم يعتصمون من اليوم الراعد والسيول والأعاصير بالجدران الصماء والضلف المغلقة من النوافذ، ويستعينون في القرية بالمواقد والأفران على البرد الزمهرير القارس.
أما الحاج والي وأهل بيته فهم في شأن غير شأن الناس، فقد كانت صالحة تعاني آلام الوضع، تقف إلى جانبها قابلة القرية الحاجة زينب أم عوضين، والحاجة بمبة تعين بكل خبراتها التي تلقتها من المواقف المماثلة مع الصديقات أو قريباتها. بينما انتبذ حسين مكانًا قصيًّا يحاذر أن يعرقل الأرجل المتسارعة غُدوًّا ورواحًا بين جنبات البيت، تنسكب من عينه تلك الدمعة التي لا تفارقها، والتي تعُود إلى الانسكاب كلما أزالها حسين بيده. أما الحاج والي فقد جلس إلى الأريكة ممسكًا بمسبحته يتمتم عليها بذكر الله، محاولًا ما وسعه الجُهد أن يبدوَ في هدوء الرجل، وإن كانت طبيعة الإنسان تأبى عليه الهدوء أو القرار.
وخرجت القابلة فطلبت تبنًا، وذُهل الحاج والي، ولكنه لم يسأل عما يدعوها إلى طلب التبن، وإنما قام وصحب حسينًا إلى المتبن فملأ قُفةً وعاد هو وحسين يحملانها، ويحملان على ملابسهما كميات كبيرةً من ماء المطر، وفي أقدامهما ألواح كاملة من الطين؛ فقد كان لا بد لهما أن يخرجا إلى العراء ليصلا إلى المتبن.
وعاد الحاج والي إلى أريكته وحسين إلى مكانه القصي، وعادت المسبحة إلى أصابع الحاج، والدمعة إلى عين حسين.
ولكن آلام صالحة لا تنقطع، تتنفسها في آهات ينشق عنها كِيانها كله، والغرفة ذات الباب المقفل صماء لا تُفلت أحدًا من داخلها ليخبر الحاج والي ماذا يحدث في الداخل، وأخيرًا انشق الباب عن القابلة وهي تقول: لا بد من طبيب يا حاج، أنا لا أستطيع أن أقوم بولادتها وحدي …
وقال الحاج والي: طبيب؟! تقولين طبيب؟!
وخرجت الحاجة بمبة وهي تصيح: نعم يا حاج! طبيب! أم نترك البنية تموت؟!
– ومن أين آتي بالطبيب الآن، كيف لي به؟!
– اطلبه من تليفون العمدة. اطلبه يحضر بأية وسيلة.
وقام الحاج والي يريد أن يخرج، وحينئذ تقدم حسين وهو يقول في صوت واهن حازم: أنا قادم معك يابا الحاج.
ويقول الحاج في صوت طيب، ولكنه حازم أيضًا: لا، ابقَ أنت هنا يا حسين.
ويخرج الحاج إلى الطريق، يشق سبيله في الرياح العاصفة يكاد لا يبصر ما أمامه من شدة الرياح وانسياب الماء حتى يصل آخر الأمر إلى بيت زين العابدين، ولا يعرج إلى البيت، وإنما يقصد إلى دار سائق العربة محمود أبو عبد الهادي، فيطلب إليه أن يجهز العربة ليذهب إلى المركز، ويوشك محمود أن يقول إن الخيل لا تستطيع المشي في هذه الأنواء العاصفة، ولكنه يرى لهفة الرجل ويقدِّر أيضًا ما سيناله من عطاء فيطيع، ويركب الحاج العربة وتأخذ سبيلها إلى المركز ولكنها — على رغم قوة الخيل — تمشي بطيئةً متمايلةً تغرس عجلاتها في الطين كلما سارت. وحين عادت العربة بالطبيب كان الفجر قد أوشك يرسل نوره، وكانت السماء قد أقلعت عن المطر، وكانت الريح تبدو وكأنما مسها الكبر، ولكنها مع ذلك تأبى أن تعترف بالوهن؛ فهي تجر الأشياء التي كانت تحملها في صدر النهار بخفة واستهزاء، ولكن البرد كان ما يزال شديدًا قارسًا.
ودخل الحاج والي والطبيب إلى البيت، ونادى الحاج والي: يا حاجة بمبة.
وخرجت إليهما الحاجة، وما لبثت أن قالت: الحقنا يا دكتور. تفضل.
ودخل الطبيب ودخل معه الحاج والي، وكانت صالحة تلقف أنفاسها في ضعف وإصرار، وكأنما هي تنتزع الهواء من الحياة انتزاعًا. ومرت بذهن الحاجة بمبة خاطرة عجبت لها في هذا الموقف الضنك؛ لقد رفضت أن يراها طبيب رجل، وخطبت لزوجها هذه الفتاة لتلد له، ولكن الله أراد — لحكمة لا يعلمها إلا هو — ألا يأتي الولد — إن هو جاء — إلا على يد طبيب رجل. وصحت الحاجة من خاطرتها على صوت الطبيب: اتركونا أرجوكم. لا أريد إلا القابلة. أيصح يا حاجة زينب أن تعملي التبن؟! كم مرةٍ أنهاك عن هذه القذارة! أرأيت نتيجة عملك؟ اتركونا أرجوكم.
وخرج الحاج والي، وخرجت من ورائه الحاجة، واقتعدا الأريكة ولم يُخرج الحاج سبحته، وإنما راح يسأل الحاجة بمبة في إشفاق: هل الحالة خطيرة؟
– ربنا يسلم يا حاج. أنا لم أرَ في حياتي ولادةً كهذه.
وأراد أن يُعيد السؤال، فوجد أنه سيصبح سخيفًا، كما وجد أنه لن يسمع الجواب الذي يتلمسه، فلم يجد مناصًا من أن يعود إلى مسبحته، فهو يخرجها ويأخذ في إسقاط حباتها الواحدة بعد الأخرى في محاولة فاشلة للهدوء أو الاطمئنان، وحسين ينظر إلى الحاج والحاجة والدمعة في عينه، وشعور بالخطر يملأ جوانحه، وإن كان لا يدري ما وجه الخطر أو أسبابه.
وطال غياب الطبيب وطال، وباب الحجرة مقفل لا يند عنه إنسان يعرف منه الحاج ما يجري داخل الغرفة.
وأطل الصباح في تباشيره الأولى وتهيأ الحاج للصلاة، ولكن الصوت الخالد الذي يستقبل به الأطفال الحياة ند عن الغرفة المقفلة ببكاء. وتوقف الحاج باهتًا وراح ينظر إلى الغرفة، ولكن بابها ظل صامتًا إلا عن البكاء، ولم يطِق الحاج صبرًا فاندفع إلى الباب وفتحه وقبل أن يقتحم الحجرة واجهه الطبيب مرتبكًا لا يدري ما يقول. وعاجله الحاج والي: هيه، خير يا دكتور؟
وصمت الطبيب وقالت القابلة: أصبح لك ولد يا حاج.
وقال الحاج: وهي … صالحة … كيف هي؟
واستخذت القابلة حسيرة، وألقت بنظرها إلى الأرض، وقال الطبيب: تعيش أنت يا حاج.
وذُهل الحاج وأقدم على سرير زوجته ثم أحجم، وترك الغرفة ثائر النفس ممزق المشاعر بين أمل تحقق وروح أُزهقت في سبيل تحقيقه. لا يدري ماذا يفعل إلا أنه دون وعي استقبل القبلة وكبر وانتوى الصلاة ودمعات تموج في عينيه وقرأ الفاتحة ثم وجد نفسه يتلو الآية الكريمة:
بسم الله الرحمن الرحيم قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ صدق الله العظيم.