الفصل الثامن
أشرقت الفرحة على بيت زين العابدين إشراقةً لم يكن البيت يتوقعها، بل كان سيد البيت أبعد الناس عن التفكير في أن أمله هذا قد يوافيه التحقيق. ومن أين؟ وقد مرت بزواجه السنوات الطوال، ومحاولات زوجته لا تقف على طول هذه السنوات، وما كانت إطاعته لها في الذهاب إلى الطبيب إلا إذعانًا يائسًا؛ فما كان يحب أن يتعلق أملها بشيء ويقصيها عنه. ومن حيث لا يحتسب أشرق الأمل وتحقق، وأنجبت له زوجته ابنة! نعم ابنة. وما غض من فرحته أن الوليد بنت وليست ولدًا، إنما أحس الفرحة كاملةً لا ينتقص منها شيء. حين حمل الفتاة وأحس خفق قلبها بين يديه، وسمع صراخها العريض؛ أحس أن الله قد وهب له حياةً ثانيةً يمسكها بين يديه، بل أنه أحس أنه يمسك الحياة كل الحياة بين يديه. وحين سرى هذا المعنى في كِيانه وأحس به في أعماقه ليتملكه جميعًا؛ أحس دموعًا عجيبةً تطفر إلى عينيه كأنها فيض فرحة لم يتسع جسمه الصغير على ضخامته أن يتسع لها. وأقسم بينه وبين نفسه أن يهيئ لهذه الفتاة من غدها خيرًا، وأقسم بينه وبين نفسه أن يكبح جماح شهواته حتى يُبقي من المال ما يرد الحاجة عن هذه الطفلة الصغيرة التي ما تزال تسعى في الهواء على أربع نحو مستقبل جديد. وكالعابد قد أتم طقوسه أعاد زين العابدين الوليدة إلى أمها، ثم قبَّل الأم وقبَّل الوليدة، وخرج من الحجرة، ثم خرج من البيت، ونظر حواليه، ونظر إلى السماء، ودارت عيناه ودارتا، فوجد الطيور على أعراف الشجر مستقرة الجلسة مطمئنةً هادئةً كشأنها دائمًا كلما اتخذت من أعراف أشجاره مكانًا لها. وفي هذه المرة لم يعجب للطيور مقيمةً على أشجاره على رغم الأجنحة التي تتمتع بها، بل عجب من نفسه كيف كان يريدها أن تظل سابحةً في السماء لا تراح إلى عش مطمئنة، ولا تستقر إلى بيت آمن كأشجاره هذه. وأنعم زين العابدين النظر فيما تخفيه أعراف الشجر عن العيون، وأنعم، حتى إذا رأى عشين متواريين بالأوراق انشرح صدره وأحس بالسرور والفرح والاطمئنان يشيع في نفسه جميعًا.
أما فرحة بهية هانم بابنتها، فقد كانت توشك أن تصبح جنونًا يحتاج إلى من يكبح جماحه، وهي معذورة؛ فلم يكن إنجاب هذه البنية مجرد أنها أصبحت أمًّا، وما هذا في ذاته بقليل، إنما هي بهذه البنية الصغيرة ترد كيد الكائدات من أهل زوجها اللواتي كن يدعين أنها عاقر لن ترى لنفسها أطفالًا أبد الدهر، وكن يسرفن في الكيد فيغرين زوجها أن يتخذ لنفسه زوجًا أخرى، وأن إنجابها أيضًا إنقاذ لها من هذا الفراغ الذي كانت تعانيه في أيامها الطوال بالقرية. لقد أصبحت أمًّا! أصبحت تؤدي الوظيفة الكبرى في الحياة؛ إنها تشارك الحياة في تكوين الناس، إنها، هي نفسها أصبحت حياةً وتمد بالحياة روحًا أخرى؛ روحًا تحيا وتنبض ولها قلب يخفق وعقل سيفكر ويدان ورجلان. إنها أم! أم! قد لا تعني هذه الكلمة شيئًا لسيدات كثيرات، أما لها هي … هي التي سعت إلى هذه الأمومة بكل دَقة من دقات قلبها على مدى السنوات الطوال التي تزوجت فيها، وهي … هي التي لم تترك سبيلًا إلى هذه الأمومة إلا سلكته، أَما لها … لها هي … فكلمة أم القصيرة الحاسمة هذه تعني لها كل شيء؛ لم تعد تريد من الحياة شيئًا آخر، لا … لا تريد ولدًا، لا تريد إلا أن يطيل الله عمر ابنتها هذه، فإنها هي التي منحتها هذا اللقب، وقد كانت تقول، ويا طالما قالت إنها على استعداد أن تتنازل عن إحدى عينيها لتنال هذا اللقب. وقد كانت جادةً فيما تقول، ولا أحد يدري هل كان مصدر الجد فيما تقول أن أحدًا لن يطلب منها عينًا ليعطيها وليدًا أم لا، ولكنها كانت جادةً على أية حال، فكيف بها وقد جاءها الوليد، دون أن تتنازل عن عينها؟ ألا أنها لا تريد من هذه الحياة إلا أن تبقى على لقبها؛ «أم» دون زيادة. شكرًا لله، شكرًا لله. وفي غمرة فرحتها أمرت أن يُشترى خروف وثلاثة من الديكة الرومية، وخمسة أزواج من الفراخ وعشرة أزواج من الحمام وأن ترسل جميعها إلى الدكتور نجيب محفوظ بالقاهرة. ولا يعنيها ما يصنعه الدكتور بهذه الهدية، ولا كيف سيحافظ عليها، إنما كل ما يعنيها أن ترسل إليه هذا الشكر ممثلًا في هذه الحيوانات، وقد ظلت تقول في نفسها: «لو استطعت أن أرسل له الدنيا جميعًا لأرسلتها وظَلِلت مقصرة.»