الفصل التاسع
أتم حسين تعليمه في الكُتَّاب وختم القرآن حفظًا، وقد كان يحب أن يترنم بما حفظ، وكان يحلو للحاج والي أن يطلب إليه من حين إلى آخر أن يرتل بعض أجزاء القرآن؛ فكان الفتى يسارع إلى الطاعة، سعيدًا غاية السعادة أنه يستطيع أن يلبيَ طلبًا لهذا الرجل. وكان في قراءته خاشعًا تدمع عيناه معًا في صمت وروحانية. كانت هذه الجلسات التي يجلس فيها حسين مرتلًا القرآن في غير تجويد أمام الحاج والي هي أجمل لحظات حياته؛ كان يحس أنه يستطيع أن يكون مفيدًا، وأنه يستطيع أن يمتع هذا الرجل الذي يعوله في غير ضيق به، بل إنه يوسع أمامه آفاق المستقبل في إقبالة أب وفرحة كريم. وكانت السن قد تقدمت بحسين فأصبح يعرف تمام المعرفة موقفه من الحاج والي، وأصبح يشكر هذا الموقف في نفسه أعمق الشكر وأصدقه، فهو دائمًا حائر بهذا الشكر.
ماذا بيدي أن أفعل لأرد فضل هذا الرجل؟ وماذا بيدي أن أفعل لأرد فضل الحاجة؟ ماذا فعلت لأنال هذا الحنان منهما؟ سيد أبو عبد الكريم يعيش مع أمه وأبيه؛ فهما يضربانه في كل يوم ليترك الكُتَّاب ويذهب إلى الغيط. إلى أي مصير كنت ألقى لو أنني عشت مع جدتي وجدي، فلاحًا يصبح بالطعام لجده، ويمسي بالماشية يعود بها إلى البيت؟
وأنظر إلى نفسي الآن؛ فتًى يحيط به الاحترام إن مشى، فهو لا يمشي فردًا إنما يحمل كلام الله، ولكن أأحمل كلام الله ولا أفهم معناه؟! ألا أفهم معناه أنا؟! هيه، أأخادع نفسي أيضًا؟ لأذهبن من فوري إلى الحاج سالم فخر الدين فآخذ عليه التفسير؛ فقد درسه في الأزهر الشريف، وليس في البلد من يفقهني فيه مثلما يستطيع هو أن يفعل. ولكن أتطول بي هذه الدراسة؟ وما لي لا أذهب مباشرةً إلى الأزهر الشريف؟ لقد ختمت القرآن، وحسب الحاج والي ما أنفقه عليَّ من طعام وملبس ومأوًى حتى ختمت القرآن. أتُراني أريد الذهاب إلى الأزهر لأخفف المئونة عن كاهل الرجل الطيب، أم أني أزين لنفسي أنني عفيف؟ وأنا أتحرق شوقًا للذهاب إلى الأزهر لألبس العِمامة والجبة والقفطان، وأروح في البلد وأعدو فلا والله ما الشيخ سالم ببالغ ما أبلغه من الفخامة والمهابة، والبنت هنية أم عبد الحميد التي لم ترضَ أن تلعب معي؛ لتأتين صاغرةً تقبل يدي وطرف جبتي. فأي مكانة في العالم أرفع من مكانتي؟! لتكونن الجبة الخضراء فاقعًا لونها يسر الناظرين، وليكونن القفطان زيتونيًّا. أيشتري لي الحاج والي ما أطلب؟ أيقبل أولًا أن أذهب إلى الأزهر؟ سأذهب؛ فإن حبي للحاج والي لن يجعلني أغير مستقبلي كله من أجله. إنني على أتم استعداد أن أقدم له حياتي، أما مستقبلي فهو لي وحدي ما دام لا يريد حياتي. ما دمت سأعيش؛ فأنا الذي سأصنع مستقبلي بيدي ولن يصنعه لي أحد. أراه منذ اليوم يتكلم عني أني سأصير محاميًا، وعن محمد أنه سيصير طبيبًا، ومحمد لا يزال في الخامسة يتلقى أول دروس الكُتَّاب، ولكن الحاج يرسم المستقبل لكلينا. لن يكون هذا … لا … لن يكون؛ ألا يقولون إن الثورة قد نشبت في مصر من أجل الحرية؟ ما الحرية إن لم تكن حريتي في اختيار طريق حياتي، وطريق حياتي هو الأزهر، فإني أحب أن أسير لابسًا الجبة الخضراء والقفطان الزيتوني اللون ويُقبِّل الرجال، والنساء … نعم وخاصةً النساء وعلى رأسهن هنية يدي، وأرى نفسي عظيمًا في القرية يحيط بي التوقير والاحترام من كل جانب، بل إني أرى المشايخ في البلد أيضًا يحيط بهم …
وصحا حسين من خواطره وأحلامه على صدمة عنيفة من حمار يحمل حملًا عاليًا من البرسيم ويسير خلفه طفل صغير لا يستطيع أن يرى الطريق؛ فالطفل قصير، وحمل البرسيم مرتفع شاهق في الهواء. واغتاظ حسين وهو يرى نفسه مصدومًا من حمار، ولم يستطع أن يكتم غيظه، فما أسرع ما دار حول الحمار وأمسك بالطفل: ولد، أأنت الحمار أم هو؟
– دعني، اترك ملابسي.
– أتترك الحمار يقودك يا ابن الحمار؟
– لا شأن لك بي.
– كيف؟! أتترك حمارك يصدم خلق الله، وتقول لا شأن لك بي؟! طيب والله لأذهب بك إلى أبيك. ابن من أنت؟
– دعني، اترك ملابسي، لا شأن لك بي.
وتجمع حول حسين والطفل نفر من القرية وراحوا ينحون على حسين باللوم حينًا أو قد ينحو بعضهم باللوم على الطفل. وفجأةً تقدم إلى ميدان المعركة رجل طويل القامة عريض الكتفين وأمسك بتلابيب حسين: ماذا يا ابن شحاته، ألم تجد إلا ابني لتهينه؟
– لقد ترك الحمار يصدمني.
– وما له يا أخي؟! أما عجيبة! ألم يبقَ إلا أنت يا من تعيش عالةً حتى تتعدى على طفل صغير؟
وألجمت الكلمة حسين فأطال النظر إلى الرجل، ولم يستطع أن يمنع عينه الأخرى أن ترسل دمعة، ثم ألقى برأسه إلى الأرض وأولى الجمع ظهره ومشى. وصمت الرجل العريض المنكبين كقاتل أدرك بشاعة جريمته بعد أن ارتكبها، ونظر حواليه فرأى في عيون الناس جريمته مجسمةً في نظرات آلمة؛ فما استطاع مُكثًا، وخف خطاه وراء حسين: يا حسين، يا حسين.
ولم يقف حسين. فعاد الرجل ينادي: يا شيخ حسين.
وأحس حسين حلاوة كلمة «شيخ» فتلكأ هونًا وأدركه الرجل: أزعلت مني.
وصمت حسين.
– حقك عليَّ. هاتِ رأسك لأبوسها.
ولم يدرِ حسين من أمر نفسه إلا أن دمعاته الصامتة أصبحت نشيجًا عاليًا. وواصل الرجل كلامه: إن الله غفور رحيم يا شيخ حسين. يا رجل أنت حامل كلام الله؛ فاغفر لي.
وربت كتفه، ثم احتواه في حضنه الواسع، وتجمع الناس الذين شهدوا موقفهما الأول، وراحوا يجاملون حسين، ويرجونه ألا يحمل على الرجل غلطة لسانه، وتهافت النشيج من حسين واقترب من الصمت، وقال الرجل العريض الكتفين: لا تذكر ما قلته للحاج والي؛ فإنه لو عرف ما قلت لم يُعفني من الزجر والتأنيب. اصفح عني يا شيخ حسين، وأقسم بالله لا أعود لها أبدًا.
ثم نادى بأعلى صوته على الطفل الذي كان يسير خلف الحمار فجاء فقال له: قبِّل يد الشيخ حسين يا ولد واعتذر له.
وقال الطفل: يا أبي أنا لم أرَه.
وزجره أبوه في عنف: قبِّل يده قلت لك.
وتكلم حسين أخيرًا مغمغمًا: أستغفر الله! لا لزوم لهذا.
وقال الرجل: اجعله يقبل يدك لينال بركتك؛ أنت حامل كتاب الله، ومبروك. اجعله يقبل يدك من أجل خاطري، أعطه يدك حتى أعرف أنك صفحت عني.
وأمسك الطفل يد حسين فقبلها في سرعة قبل أن ينتبه حسين. وأحس حسين رضًى في نفسه وقال: أستغفر الله العظيم! يا سيدي أنا متشكر على كل حال. سلام عليكم.
ورد الجميع السلام في همهمات، وانصرف حسين، وقد أصبحت رغبته أن يصبح شيخًا أعمق في نفسه وأبعد غورًا.
لم يذهب حسين إلى الحاج والي، وإنما قصد إلى الحاج سالم فخر الدين، وهو رجل قطع من مراحل التعليم في الأزهر شوطًا ليس بالبعيد، وإنما كان ما تعلمه كافيًا لأن يجعل منه مفتي القرية، فإليه يقصد الناس ليفسر لهم ما غمض عليهم من شئون دنياهم ودينهم، وقد كانت الدنيا عندهم تختلط بالدين في أغلب الأمور، وقد كان الحاج سالم ذكيًّا يفصل في الأمور بحدة ذكائه أكثر مما يفصل فيها بعلمه، وكان جميل السمت، ذا لحية مهيبة وضاح الجبين، تتوسط جبهته تلك العلامة السمراء التي تختلف سمرتها بين الدكنة والخفة حسب كثرة صلاة صاحبها أو قلة صلاته؛ تلك العلامة التي تأخذ مكانها على جبهة المصلين جميعهم لا تفرق بين الصالح منهم والمرائي. وكان الحاج سالم إلى جانب مكانته الدينية ذا عمل آخر بالقرية؛ فقد كانت الودائع جميعها تأخذ طريقها إليه فيحفظها لأصحابها حتى إذا احتاجوا إليها وتلمسوها عنده وجدوها كما أودعوها إياه بربطتها كما يحلو لهم أن يقولوا.
كان الشيخ يجلس منفردًا حين دخل إليه حسين.
– السلام عليكم يا عم الحاج.
– وعليكم السلام يا ابني ورحمة الله وبركاته، أهلًا وسهلًا.
– أنا حسين بن شحاته أبو إسماعيل.
– أهلًا وسهلًا. رحم الله أباك، كان رجلًا طيبًا.
– أريد أن أذهب إلى الأزهر يا عم الشيخ.
وتجهم وجه الشيخ قليلًا، ثم قال: وماذا بعد ذهابك إلى الأزهر؟
– وماذا بعدُ يا عم الشيخ؟
– أي ماذا تنوي أن تفعل؟
– أريد أن أحصل على شهادة العالِمية.
– العالِمية؟!
وسكت الشيخ قليلًا. إذن فسيأتي له منافس في القرية، نعم إن أمامه سنوات طوالًا حتى ينال الشهادة، وربما مت أنا في هذه الفترة، ولكن ماذا يكون العمل لو أنني عشت، أيأتي هذا الطفل وقد حصل على شهادة العالمية، وأُصبح أنا نَسيًا منسيًّا في هذا البلد؟
– وماذا تنوي أن تفعل إذا أخذت العالِمية إن شاء الله؟
– أريد … أريد …
وسكت. فقد أصبح لا يدري ما يقول، فما كانت آماله وأحلامه بصالحة أن تلقى على مسمعي الشيخ الجليل. وقال الشيخ: أتنوي بعدها أن تقيم هنا معنا، أم تأخذ طريقك في القاهرة بعد ذلك؟
وقال حسين مترددًا: كل ما أريده الآن أن أحصل على العالِمية.
– يا بني إنها شهادة صعبة.
– أعرف ذلك.
– وقد سقط الكثيرون وهم يحاولون الحصول عليها.
– أنا أريد أن أفهم كلام الله الذي أحفظه ولا أفهمه.
وأطلق الشيخ تنهدةً وقال: هل تصدق أن أحدًا قد فهم كلام الله كله؟
– لا بد أنه مفهوم يا سيدنا، ولكنني أنا عاجز عن فهمه. فأنت مثلًا تفسره بكلام مفهوم واضح، وأنا أريد أن أفهمه كما تفهمه أنت.
– يا بني فهمت شيئًا وغابت عني أشياء.
– لا بأس، إنما أريد أن أفهمه.
– ولماذا؟
وسكت حسين قليلًا ثم قال: لماذا أريد أن أفهم كلام الله؟
– نعم لماذا؟
– لأعرف ديني.
– ألا تعرفه؛ الحلال بيَّن، والحرام بيَّن.
– نعم، ولكني أريد أن أفهمه جميعه، وأن أدرس ديني على الأساتذة الكبار في الأزهر، لأني … لأني …
– لأنك تريد أن تشرحه لغيرك.
– نعم، ولأني أيضًا …
وسكت حسين لحظات حتى قال الشيخ: ولماذا أيضًا؟
– ولأني أجد حلاوةً في كلام الله لا أدري أسبابها …
– لعلك إذا أصبحت وكلام الله حرفتك تفقد هذا الشعور بالحلاوة.
– أفقدت أنت هذا الشعور يا مولانا؟
وبُهت الشيخ، ثم ما لبث أن قال ملهوفًا، وكأنه يدفع عن نفسه تهمة كفر وإلحاد: لا … لا أبدًا … أستغفر الله العظيم … أستغفر الله العظيم … إنه لا تغني الدنيا عن الآخرة … لا … لا تغني الدنيا عن الآخرة … ماذا تريدني أن أفعل لك يا بني؟
– أريد منك توصية لأصدقائك هناك.
– أكتب لك ما تريد إن شاء الله.
– بارك الله لنا فيك يا عم.
– بارك الله خطاك يا ابني، مع السلامة.