مقدمة
بعد أن بدأت مصر — بؤرة الدوائر الثلاث — التفريط في استقلالها الوطني والانكفاء على ذاتها، تَقلَّص دورها في محيطها العربي وأثرها في أفريقيا وآسيا، فرَّطَت مصر في أمنها القومي في الشام، وتَركت فلسطين تُذبَح كل يوم، وفَكَّت ارتباطها معها في اتفاقية كامب ديفيد في ١٩٧٨م ومعاهدة السلام في ١٩٧٩م، وتخلَّت عن اللاءات الثلاث: «لا صُلح، ولا اعتراف، ولا مفاوضة.» ورُفع شعار «مصر أولًا» تَلَتْه شعارات مُماثلة «الأردن أولًا» «الكويت أولًا» بل شاركَت مع القوات الأمريكية في العدوان على العراق بدعوى تحرير الكويت، وتَركت سوريا وحيدة، تَعِيب عليها تحالُفها مع إيران، وتأييدها لحزب الله، وأيَّدَت الموالاة ضد المعارَضة في لبنان، وأصبحت جزءًا من الدول المعتدلة مع الأردن والسعودية بدلًا من أن تكون من دول الطَّوْق، ولم ينجح إعلان دمشق دفاعًا عن الأمن القومي للخليج، وكما فَرَّطت في أمنها القومي في الشمال فَرَّطت أيضًا في أمنها القومي في الجنوب، في السودان والصومال والحبشة ومَنابع النيل، وأصبح أمْن السودان مُهدَّدًا بانفصال الجنوب والغرب، دارفور وكردفان في الطريق، وأصبحت الدول الكبرى هي اللاعب الرئيس في السودان بعد احتجاب مصر، وتحوَّلَت ليبيا من القومية العربية إلى الاتحاد الأفريقي بعد أن خذَلَها العرب وقت الحصار.
ونتيجة لاحتجاب مصر عن محيطها العربي أصبح الوطن مستباحًا، فلسطين والعراق اليوم، والسودان وسوريا ولبنان غدًا، وخطر التفتيت قادم على الخليج، سُنَّة وشيعة، وعلى المغرب العربي، عربًا وبربرًا. لم تَعُد العروبة غطاءً حاميًا للعرب كما كانت في الستينيات، وأصبح الخطر الإيراني أشد على العرب من الخطر الصهيوني، وكما احتجَبت مصر وانكفأت على شئونها الداخلية انزوى كل قُطْر عربي داخل حدوده؛ فبدأت الفُرقة والتَّشتُّت والتَّشرذم والصراعات الداخلية لدرجة الحروب الأهلية كما حدث في لبنان، وانقلبت الثقافة الوطنية والثقافة القومية إلى نزعات عرقية وطائفية ومذهبية وقبلية وعشائرية، وما زالت المقاومة الفلسطينية والمقاومة العراقية وحيدتين على الساحة، بل إن انتصار لبنان يُنزع اليوم من المقاوَمة بالمطالبة بنزع سلاحها وفقدان استقلالها باسم سيادة الدولة.
وكما بدأت الدائرة الثانية في التَّفكُّك انهارت الدائرة الثالثة تمامًا، دور مصر كحلقة اتصال بين أفريقيا وآسيا، وفَقدَت دورها في حركة تضامن شعوب آسيا وأفريقيا، وهي من الدول المؤسِّسة لمؤتمر باندونج، وحركة عدم الانحياز في ١٩٥٥م، وبعد أن ساهمت مصر في تأسيس «منظمة الوحدة الأفريقية»، ومركز لحركات التحرُّر الوطني في أفريقيا، تُناهض الاستعمار والعنصرية، تَخلَّت عن دورها الأفريقي، واحتلَّت إسرائيل مكانها، وبعد أن اعترفت مصر بالكيان الصهيوني اعترفت وراءها مُعْظم الدول الأفريقية، فلماذا تكون مَلَكِيَّة أكثر من المَلِك؟
وكما انعزلت مصر عن أفريقيا انعزلت أيضًا عن آسيا. فما زالت في قطيعة مع إيران منذ الثورة الإسلامية في ١٩٧٩م أكثر من ربع قرن بالرغم من المصالح المشترَكة بين العرب وإيران بما لدى إيران من قدرات دفاعية تقف ظهيرًا للعرب في معركتهم الكبرى في فلسطين ضد الكيان الصهيوني، وما زال توجُّهها نحو الشرق، ماليزيا وإندونيسيا والهند والصين واليابان وأواسط آسيا، يقدم رِجلًا ويُؤخِّر أخرى، وتملأ إسرائيل مكانها وتدخل في مشرعات تنموية وعسكرية مع مُعْظم الدول الآسيوية.
هذا الجزء الثاني «مصر والعرب والعالم» محاولة لإحياء دور مصر في محيطها العربي والإسلامي، الأفريقي والآسيوي، بدلًا من أن تحل إسرائيل محلها وتجعل نفسها بؤرة الدوائر الثلاث، وأداة تحديث لمحيطها العربي والأفريقي والآسيوي؛ فإسرائيل دولة بلا حدود، حدودها مدى ما يستطيع أن يصل إليه جيش الدفاع الإسرائيلي، والمصالح الإسرائيلية، والأمن القومي الإسرائيلي. كيف تتعامل مصر مع نظام العالم الجديد، العالم ذي القُطب الواحد، العولمة، حوار الحضارات، العالم قرية واحدة، ثورة الاتصالات؟ كيف تضع جدول أعمالها الخاص بها، استكمال حركات التحرر الوطني، التنمية الشاملة، توحيد مجالها الحيوي، والحفاظ على أمنها القومي، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتجنيد الجماهير بدلًا من جدول الأعمال الخارجي المفروض عليها، الشرق أوسطية والمتوسطية؟
مدينة نصر، ٢٨ من سبتمبر ٢٠٠٧م