الوطن المُستباح
(١) الجسد العربي١
جرت العادة على تشويه ثقافة الشعوب من أجل تبرير احتلالها والقضاء عليها؛ فالشعوب في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، لها عقل «بدائي»، وفكر «متوحش»، وسلوك «همجي»، وثقافة «بدوية»، وقد أسهم في خلق هذه الصور النمطية الاستشراق، وعلماء الاجتماع والأنثروبولوجيا الثقافية، والمؤرخون، وعلماء تاريخ الأديان، وفلاسفة التاريخ في الغرب بالتوازي مع المد الاستعماري الذي بلغ أوجه في القرن التاسع عشر، ونشأت النظريات العنصرية لتحديد الخصائص الأبدية للشعوب من أجل إثبات تفوق بعضها على البعض الآخر، والأكثر تفوقًا هو الذي له الغلبة على الأقل تفوقًا طبقًا لقوانين التطور التي وضعها داروين، الغلبة للأقوى، والصراع من أجل البقاء.
وبعد حركات التحرر الوطني وحماية الشعوب لثقافاتها والدفاع عنها عاد الاستعمار في موجة ثانية لاحتلال إسرائيل ما تَبقَّى من فلسطين بعد الاحتلال الأول في ١٩٤٨م، ثم احتلال الولايات المتحدة الأمريكية أفغانستان، ثم العراق، واحتلال روسيا الشيشان. ليس الهدف فقط احتلال الأرض وتشويه الثقافات بل استئصال الأجساد كما فَعلت الهجرات الأوروبية مع الهنود الحمر السكان الأصليين في نصف القارة الغربي؛ فالجسد ما زال هو جسم الجريمة، عليه أن يختفي حتى تنظف الأرض ممن عليها، وإحلال الغُزاة محلها وإعطاء أرض بلا شعب إلى شعب بلا أرض كما تريد إسرائيل أو السيطرة على العالم كله باسم العولمة وأيديولوجية اليمين المحافظ، والمحافظة الجديدة، والمسيحية الصهيونية. فالأرض قد تنتفض، والشعب قد يعود إلى المقاوَمة، والثقافة قد تظل حية في قلوب الأحياء؛ لذلك وجب هذه المرة استئصال الجسد نفسه، ولو بُعث فإنه لن يكون في هذا العالم، ولا يعلم الاستعمار الجديد أن العنقاء تُبعث من خلال الرَّماد في هذا العالم.
وهو ما يحدث الآن عندما تغتال إسرائيل طفلة حاملة حقيبة كُتبها على ظهرها في طريقها إلى المدرسة والضابط القاتل يتصورها فدائية تحمل متفجرات على ظهرها في عملية استشهادية، وبعد أن يقترب ويتحقق أنها طفلة ذاهبة إلى مدرستها يُطلق على الجثة عشرين طلقة حتى يخفي جسم الجريمة؛ فإنه يخاف من الطفل الفلسطيني حيًّا أو ميتًا. يفرِّغ فيها خزانة رشاشه حتى لا يُبقِي شيئًا من فلسطين، أرضًا أو شعبًا، رجلًا أو امرأة، شابًّا أو طفلة حتى يطمئن إلى بقاء الاحتلال ودوام الاستيطان بالاستئصال. يريد تمزيق اللحم وتكسير العظم وتحويل الجسد إلى فُتات حتى لا يُبعث من جديد قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ، وجندي آخر يعلق رأسَ فلسطيني مقطوعًا على هوائية دبابته ليُعلِن للناس أنه يقطع الرءوس مع تدمير البيوت وتجريف الأراضي دون أن يعلم أن اجتزاز رأس الحُسين هو الوقود المستمر عند كل المظلومين والمُضطهَدِين عَبْر التاريخ وإلى يوم الدين، وَعَيْنا الرأس تنظران إلى الجندي في تحدٍّ للتاريخ، للحاضر والمستقبل، ويضع الجندي في فَمِ الرأس لُفافة تَبغٍ حتى تُمحى من ذهنه صورة الفلسطيني وفي يده بندقية. وجندي ثالث يضع طفلًا حيًّا على مصفحته حتى يُصاب بالحجارة. يحمي المركبة بالجسد. فإما أن يَقْتُل الفلسطينيُّ الفلسطينيَّ، وإما أن يتوقف الفلسطينيُّ عن انتفاضة الحجارة. ويُمثل بجثث الشهداء حتى يطمئن الإسرائيلي أن الجثة لن تنتفضَ إلى الأبد من دون أن يعلم أن الشهداء لا يموتون لا في الأرض ولا في السماء. شعب يعشق الشهادة في مواجهة شعب حريص على الحياة، والفلسطينيون لا يرهبهم الموت بقدر ما يرتعش الإسرائيلي من الموت، وفي الوقت ذاته تُتاجر إسرائيل بالمحرقة وما فعلته النازية باليهود. فلا فرق بين النازية والصهيونية في التصفيات الجسدية واستئصال الأجساد، وتحويل الوجود إلى عدم، والموت إلى إماتة، والقتل إلى تقتيل، وماذا يضر الشاة سلخها بعد ذبحها؟ وقد قامت كل الشرائع السماوية والأرضية على حرمة الموتى، وعدم التمثيل بالجثث احترامًا للموت، وأُلِّفَت الروايات في ذلك؛ مثل «أنيتجونا» ليوربيدس.
وما يحدث في فلسطين يحدث في العراق، لا فرق بين جندي إسرائيلي وجندي أمريكي، ففي العراق لا يكفي احتلال الوطن، وقهر الشعب بل تُدَمَّر المدن كما دُمِّرَت الفلوجة وتُرِك الضحايا بلا مدافن، «موتى بلا قبور» كما كتب جان بول سارتر، وتتعفن الجثث أيامًا وأسابيع دون حُرمة لميت أو احترام لشريعة أو قانون، وتُدْفَن الجثث بالعشرات دون هوية في مقابر جماعية، يواريها التراب بلا أهل ولا أصدقاء حتى لا يعود الشهيد كذكرى حتى في قلوب الناس، وتتوالى أخبار تعذيب الأجساد ليس فقط في سجن أبي غريب بل في باقي السجون كراهية للجسد العربي، جسم الجريمة، ويطلق الجندي الأمريكي النار على الجسد المُتحرِّك حتى ولو كان إمام مسجد ذاهبًا للصلاة. يخشى حركة الأجساد التي قد تُؤتيه الموت فجأة وعلى غير انتظار؛ لذلك أُمر الجندي الأمريكي في فيتنام بإطلاق النار على كل شيء يَتحرَّك حتى لو كان غُصْن شجرة من نسمة هواء يحسبه مقاتلًا فيتناميًّا. يريد الأمريكي تثبيت الحركة وإيقاف العالم حتى يتمكن من السيطرة عليه.
والغريب أنه في الثقافة الغربية المعاصرة مَذاهب لاحترام الجسد «أنا جسدي» عند جابريل مارسل، والجسد هو وسيلة الاتصال بالعالَم والتعامل مع الآخرين والكلام عند ميرلوبونتي، بل إن السيد المسيح سُمي «الجسد المُقدَّس» أو «الجسد العظيم»، وشَتَّان ما بين النظر والعمل، بين الفكر والممارَسة طبقًا للمعيار المزدوج المعروف في تعامل الغرب مع غيره من الشعوب.
الجسد عند الإسرائيلي قيمة يريد حرمانها من الفلسطيني؛ لذلك تَصوَّر الله جسدًا وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا، وهو جَسدٌ يَخُور فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ، وما يطلبه الإسرائيلي هو كِبَر الجسد قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ، وهو جسم خاوٍ من أي روح، قوة بلا عدل وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ. فالجسد العربي لا يَفْنى حتى ولو مُثِّل به، والجسد الإسرائيلي والأمريكي مُجرَّد ظاهر وباطنه خراب.
والغريب أنه يُعاب علينا أننا لا نعرف قيمة للجسد. نقطع الرأس، ونغتال الأبرياء. ونعامل المرأة عندنا كجسد في تَعدُّد الزوجات، والضرب والعدوان الجسدي عليها، وجعَلْنا المرأة مجرَّد عضو جنسي، وغطَّيْنا العُري بالحجاب.
ولا يضيرنا أن تكون هذه الأرض من هذه الأجساد كما قال أبو العلاء:
والخلود عند ابن رشد مَرَّتان. مَرَّة بالعقل عندما يتحوَّل إبداع الفرد إلى تراث حضاري عامٍّ في عقل الإنسانية، ومرة أخرى من خلال البدن الذي يتحوَّل إلى تراب وطين ينبت فيه الزرع، ويزدهر فيه الاخضرار.
فإذا كانت الروح لا تفنى فإن البدن أيضًا خالد؛ فتحية إلى الجسد العربي.
(٢) القلب المفتوح٢
إن الوطن العربي اليوم بمثابة قلب مفتوح، أو جَوف مفتوح يُجري فيه كل من شاء أي عملية جراحية دون أَخْذ رأي صاحبه، ودون أن يعرف مدى الخطورة، وما إذا كان الهدف هو صحة الجسد أو القضاء عليه. إنه أشبه بملعب بلا صاحب، تلعب كل الفِرق على أرضه كما تشاء وتُسجل الأهداف في شِباك صاحبه إن وجد.
لا يوجد مُتحدِّث باسمه، ولا مُعبِّر عن مصالحه، ولا مُجسِّد لوجوده وثقله عَبْر التاريخ. بل هي مجموعة من الإرادات المتضاربة بل المتعارضة، والمَشارب المتباينة، يضرب بعضها بعضًا سرًّا أو علنًا، المغرب أقرب إلى الغرب منه إلى الشرق، والهجرات منه بالملايين إلى الدول الغربية، وهو قريب منه جغرافيًّا ولغويًّا. فلماذا لا يكون الخاصرة الجنوبية للاتحاد الأوروبي؟ والخليج العربي مُستقَر للقوات الأمريكية حتى لا يتكرر العدوان عليه من الشرق ولا من الشمال، ولم تنجح اتفاقية دمشق في أن يقوم العرب بالدفاع عن أنفسهم بأنفسهم، بعد أن سمحوا للأجنبي بالتدخل في شئونهم ونُصرة فريق على فريق، وحارَب العربيُّ مع الأمريكي ضد العربي.
ويختلف العرب في مؤتمرات القمة، وإذا اتفقوا ففي عبارات إنشائية وبيانات عامَّة تتكرر في كل مؤتمر حتى حفظها الناس؛ فهي تدوَّن قبل الانعقاد، وعرف الناس النتائج قبل المُقدِّمات، والحلول قبل المشاكل. فلم تَعُد للعرب كلمة مسموعة، وردت إليهم مبادرة السلام العربية اعترافًا كاملًا في مقابل انسحاب كامل؛ فالجسد المُسجَّى لا قيمة ولا ثقل ولا قوام له.
ويعلم الغرب جيدًا أنه يتعامل مع نُظم سياسية قد لا تترجم تمامًا طبيعة القوى السياسية في الشارع العربي، نُظم وريثة نصف قرن أو يزيد، والشارع العربي قد تغيَّر، وظهرت الحركة الإسلامية كعامل مؤثِّر في المعادَلة السياسية بعد أن استُبْعِدَت في بناء الدولة الوطنية الحديثة بعد الاستقلال وأصبح الكثير منها خريج سجون، ونزيل معتقَلات. تعود إلى الساحة السياسية ناقمة غاضبة، وتبدو الفاعل الوحيد المؤثِّر في الداخل والخارج، تخشاها أنظمة الحكم في الداخل، ويهابها الغرب في الخارج، وبدل أن تكون داخل الجسد المُسجَّى تَرُدُّ إليه الحياة أصبحَتْ خارجه، تَهيم على وجهها خارج الزمان والمكان.
فلسطين قلب مفتوح، تلعب فيه إسرائيل كما تشاء، تحتل المدن وتُقيم الحواجز، وتبني الحائط العنصري، وتقف على المعابر، تداهم المخيمات وتُدمر البيوت، وتجرف الأراضي. تغتال القادة والنشطاء، وتقبض على أفراد المقاومة، ولا رادَّ للعدوان إلا بعض عبارات الشَّجْب والتنديد في الداخل، وإدانة الاستعمال المُفرِط للقوة دون أصل العدوان. فلسطين أرض بلا صاحب، ووطن بلا شعب، هي أرض الميعاد لبني إسرائيل، ومن طرأ عليها ووفد إليها كعرب فلسطين فحكْمُه حكم الأقليات كما هي الحال في الأنظمة العنصرية. المقاومة فيها إرهاب وعنف وقتل للأبرياء وإجبار لإسرائيل على الانسحاب من الأراضي المحتلة وهو تهديد لأمنها، وانتقاص من سلطانها. الجسد المفتوح مُسجًّى في فلسطين، تدوس عليه إسرائيل بالأقدام، وتربط شرايينه في دورات دموية صغيرة لا تُعيد إلى القلب حياته.
والعراق قلب مفتوح، تلعب فيه قوات التحالف الرئيسة والرمزية، وفي مقدمتها القوات الأمريكية، تُدمِّر المدن، وتهدم المنازل، وتقتل الأبرياء، تحل الجيش والشرطة والحزب، وتنهب دُور الحكومة وأبنية الدولة ومكتبات الجامعة والمتاحف، وتُتاجِر في نفط العراق باسم برنامج النفط في مقابل الغذاء، وتلعب فيه المخابرات الإسرائيلية والغربية والشرقية كما تشاء باستثناء إرادة شعب العراق. الكل يخطط لمستقبله إلا شعبه، الكل يسعى إلى تقطيع الأطراف ولا أحد يسعى إلى حماية القلب والحفاظ على نبضه وقوَّته.
والسودان قلب مفتوح تلعب فيه القوى الغربية ما تشاء في جنوب السودان وغربه، ظل الغرب يدعم الجنوبيين بإرسال السلاح مباشرةً، واستعمال مطارات الجنوب من دون المرور بالخرطوم، ويعلن رئيس وزراء بريطانيا أنه سيرسل ثلاثة آلاف جندي دفاعًا عن سكان دارفور، والأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، ودول الجوار والاتحاد الأفريقي، الكل يلعب في جوف السودان، ويعيد ترتيب الأوراق طبقًا لميزان القوى الحالي، والولايات المتحدة الأمريكية تعلن أن ما يحدث فيه هو تطهير عرقي، أما ما يحدث في فلسطين فهو دفاع عن أمن إسرائيل.
ومن يصمد من العرب والمسلمين؛ مثل سوريا وإيران من أجل حماية الجسد العربي والإسلامي إلا أن الخنجر بيد القاتل ممدودة تهدد سوريا إن لم تتوقف عن مساعدة المقاومة العراقية، وتأييد حزب الله في جنوب لبنان وفتح دمشق لقادة المقاومة الفلسطينية، والاستسلام التام لإسرائيل، وكذلك يتم تهديد إيران إن لم تتوقف عن التجارب النووية، وإن لم تقبل التفتيش على مفاعلاتها، وإن لم تقبل الخضوع التام للغرب: الولايات المتحدة وإسرائيل، كما أنه يجب أن تتوقف عن تدعيم سوريا وحزب الله في لبنان.
وأفغانستان والشيشان وكشمير أيضًا قلوب مفتوحة يلعب من يشاء فيها؛ فقد غزت الولايات المتحدة أفغانستان بدعوى القضاء على نظام الطالبان الذي يأوي تنظيم القاعدة، وتم تدمير وطن بأكمله بالطائرات والصواريخ والمدافع طويلة المدى، وهو مُدمَّر أصلًا بالقهر والفقر والتخلُّف وتُجَّار الحروب والمخدرات.
وغَزَت روسيا الشيشان، وقَضَت على استقلالها التاريخي، وليس هناك أعز على الشعوب من استقلالها الوطني، وما زال الجسد الشيشاني يُصارع مَن يلعب في جوفه ما دام القلب ما زال ينبض بالحياة، والأفضل لروسيا (الاتحاد السوفييتي السابق)، اتحاد بين دول مستقلة كنوع من الكومنولث الآسيوي.
وكشمير أيضًا قلب مفتوح، والعشرات تسقط من أجل الاستقلال، وتفرَّقَت كلمة المسلمين، وفقدت القدرة على الضغط على الهند والنظام الدولي لإجراء الاستفتاء وإعطاء شعب كشمير حق تقرير المصير.
والجوف المفتوح ذاته في تايلاند وبورما والصين حيث يُلاقي المسلمون أبشع أنواع الاضطهاد وليس لهم نصير، والأمة فاقت المليار، وتكون خُمس سكان العالم.
لم يَعُد الجسد الملقى، والقلب المفتوح بقادرَيْن على الاستلقاء إلى الأبد، والعبث بجوفهما وقلبهما من كل جانب إلا من صاحب الجسد الذي لا يكاد ينطق؛ لذلك فقدت الأمة قُوَّتها التفاوضية، وغاب من يتحدث باسمها، وإن تحدَّث أحد باسم قُطره فالغرب يعلم أنه يتحدث باسم نفسه بالرغم من ادعاء البعض: «إن شعبي ورائي».
الجِرَاح مفتوحة في الجسد العربي، والكل يوسِّع فيها دون أن يلئمها حتى أصبح الجسد العربي مثخنًا بالجراح، في نزيف دائم حتى يُصفى دمه ويصبح جثة هامدة بلا حِراك.
هل يمكن عقد قمة عربية للاتفاق على الحد الأدنى من الوفاق العربي، ويتحدث باسمه رئيس عربي بقوة تفاوضية جماعية؟ هل يمكن للنُّظم العربية أن تُعبِّر عن شعوبها بعد أن تُعبِّر الشعوب عن نفسها، وتكون قوة للموقف التفاوضي العربي؟ فالحاكم الذي يَتكلَّم باسم شعبه أقوى من الحاكم الذي يفاوض بشخصه، والقرار الجماعي أقوى وأكثر مدعاة للاحترام من القرار الفردي، ويد الله مع الجماعة.
(٣) هل فقد العرب زمام المبادرة؟٣
أحد أبعاد الأزمة الراهنة الانسداد السياسي، وتوقُّف مسار التاريخ ودوران الزمان، والعجز عن الحركة، وانتظار فِعْل الآخَرِين لإحداث رد فعل مُبالَغ فيه؛ مثل ردود الأفعال حول الرسوم الساخرة، أو الأفلام أو البرامج التليفزيونية التي تسخر من حضارتنا، أو غياب رد الفعل مطلقًا كما هي الحال في أنهار الدماء التي تسيل كل يوم في فلسطين والعراق، والمظاهرات العارمة كرد فعل على حرق منبر المسجد الأقصى، والسكون التام أمام احتلال مدينة القدس ذاتها، والأقصى جزء منها، ومنبره جزء من الجزء.
وأحد أسباب هذه الأزمة غياب زمام المبادَرة عند العرب خاصَّةً مصر، والمبادَرة فعل حُر، انبثاق الحياة وطفرة فيها بمصطلحات برجسون، وهي فِعل حدسي، وإدراك مباشر، ورؤية وكشف وإلهام بلغة الصوفية، هي انتفاضة الوجود، والتَّحوُّل من الثبات إلى الحركة، ويقظة الوعي والتحول من النقل إلى الإبداع، هي قفزة من الكَمِّ إلى الكيف وعبور المستويات غير المتصلة بلغة كيركجارد، هي التقدم والرُّقي والطفرات في الطبيعة حيث يصعب وجود حلقات مفقودة بين الجماد والنبات، والنبات والحيوان، والحيوان والإنسان، والإنسان والملاك، بلغة التطور الخالق. وهي الثورات في تاريخ الشعوب بعد أن تتوقف عن الحركة، ويطول عُمْر الحاكم والمياه الجوفية تسيل من تحت أقدامه لا يراها. يتهمها أنصار الوضع القائم بأنها خبَل جنون وحُمق، والجنون فنون، والحق هو تاريخ الجنون منذ بترارك في «مدح الجنون» حتى فوكو في «تاريخ الجنون»، وتُتهم بأنها مقامَرة ومخاطَرة غير محسوبة العواقب لم تحظَ بالموافقة عليها من الديوان بورقة رسمية عليها خِتم النسر، كما اتُّهِم حزب الله أخيرًا في معركته مع إسرائيل لتحرير ما تبقى من أراضي الجنوب والأسرى العرب في سجون العدو.
وهي مبادرة يقوم بها الأفراد والجماعات والشعوب، أفعال فردية وجماعية وشعبية وطنية، يزخر التاريخ بها. الأفعال الفردية أفعال الأبطال والقادة العظام؛ رمسيس الأول مُدافعًا عن مصر بعربته الحربية ضد الغزاة من الهكسوس مُصلِّيًا للإله حورس، والإسكندر الأكبر الذي زحف من أوروبا إلى آسيا، ومن اليونان حتى بلاد الهند والسِّند، ومن أثينا حتى أواسط آسيا مُبشرًا بالحضارة اليونانية، وفي رأي المسلمين داعيًا إلى التوحيد، وهو ذو القرنين المذكور في القرآن الكريم؛ من أجل تكوين إمبراطورية شاملة يحكمها العقل وتُمارَس فيها الفضيلة طبقًا لتعاليم أرسطو المعلِّم الأول، وهو هانيبال عابرًا البحر الأبيض المتوسط، وصاعدًا جبال إيطاليا حتى يستولي على روما في الصراع الأبدي بين روما وقُرطاجنة، بين أوروبا وأفريقيا، بين الشمال والجنوب، وليس فقط بين الفرس والروم، بين كسرى وقيصر، بين الشرق والغرب، وهو صلاح الدين قاهر الصليبيين الذي وحَّد مصر والشام وانتصر عليهم في حطين بعد أن طهَّر الجبهة الداخلية من الخانعين والمستسلمين بدعوى السلام والمحبة مع الأعداء؛ مثل الصوفية، وغلق خانقاتهم وزواياهم؛ حتى لا يُمثِّلوا طابورًا خامسًا يطعن الأمة من الخلف بأيديولوجية الهزيمة والاستسلام بدعوى عالمية الإيمان وعولمة الروح. وهو فكتور كولمبوس الذي اعتمد على خرائط المسلمين ونظرياتهم في كروية الأرض للالتفاف حول العالم عَبْر البحار، والانتقال من أوروبا إلى آسيا، ومن الغرب إلى الشرق عبر المحيطات كمَد استعماري ثانٍ بعد أن فشلت الطعنة الصليبية الأولى عَبْر المتوسط نحو الأرض؛ فلسطين عن طريق الغزو البري، وهو محمد علي مؤسِّس مصر الحديثة، هذا الجندي الألباني الذي حضر إلى مصر مع الجيش التركي؛ دفاعًا عن مصر ضد الغزو الأوروبي؛ فحوَّل مصر بإدراكه إمكاناتها الجغرافية والتاريخية وقدراتها المادية والبشرية إلى دولة عظمى في القرن التاسع عشر تقف أمام أعتى الجيوش الأوروبية دفاعًا عن مصر وريثة تركيا في الخلافة المنهارة، وليحكم من القاهرة بدلًا من إسطنبول، وهو عبد الناصر الذي شارَك في الحركة الوطنية المصرية في الأربعينيات وتكوينه حركة الضباط الأحرار في أثناء حرب فلسطين في ١٩٤٨م، وكَرَدِّ فِعْل على هزيمة الجيوش العربية بالقضاء على الأنظمة الملكية الفاسدة والإقطاع، وتحويل مصر إلى مركز للتحرر الوطني في العالم العربي والعالم الثالث كله، وقيامه بتأميم القناة في ١٩٥٦م بعد أن رفضت الولايات المتحدة الأمريكية تمويل السد العالي في ١٩٥٤م، ورأى أمامه ديليسبس جديدًا على وجه أوجين بلاك مدير البنك الدولي الذي يعرض أمامه شرط التمويل وهو الدخول في حِلف بغداد، والتفريط في الاستقلال الوطني.
وتقوم بالمبادَرة جماعات المقاوَمة، والتنظيمات السرية بشق سراديب تحت الأرض للإمداد بالسلاح ولممارسة حرب العصابات ومباغتة قوات العدو، جندًا وعتادًا من حيث لا يشعر، فتقضي النملة على الفيل، ويقضي الفأر على الأسد كما حدث في حرب فيتنام ضد القوات الأمريكية، من فلاحين بسطاء في مواجهة أعتى جيوش العالم عُدَّة وعتادًا. كذلك فعلت المقاوَمة في جنوب لبنان، وكان آخرها انتصار حزب الله على الكيان الصهيوني بخَيال عسكري وإبداع ميداني، الفرد في مواجهة «ميركفا» المُصفحة الدبابة زهرة الجيش الإسرائيلي، وكما فعل كاسترو في ١٩٥٨م بمجموعة من المقاوِمِين لإسقاط أعتى نظام تَسلُّطي، نظام باتيستا، وهكذا أيضًا فعل ماوتسي تونج في «المسيرة الطويلة» من قلب الريف زحفًا على المدن حتى العاصمة بكين، وهروب تشان كاي تشيك إلى جزيرة فرموزة، وهو ما تقوم به المقاوَمة الفلسطينية والعراقية الآن ضد الاحتلال الصهيوني لفلسطين، والأمريكي للعراق عن طريق التفجير عن بُعد والقنص والانقضاض على العدو من السراديب أو بالطيران الشراعي.
وتقوم بها أيضًا الشعوب والجيوش الوطنية كما هي الحال في الحرب العالمية الثانية وتحرير أوروبا من الغزو النازي والفاشي، وكما فعل مونتجمري في معركة العَلمين ضد روميل في حرب الصحراء، وهو ما فعله الجيش المصري في حرب أكتوبر ١٩٧٣م بعبوره القناة وشق الساتر الترابي بمَدافع المياه بعد أن ظن العدو الصهيوني أن مصر قد ذهبت إلى غير رجعة، وماتت دون بعث أو نشور، وما زالت إيران وكوريا الشمالية دولًا ونظمًا شعبية صامدة؛ دفاعًا عن الاستقلال الوطني وممارسة حرية الإرادة الوطنية، وحقها في امتلاك الطاقة النووية لأغراض السِّلم أو حتى الحرب في حالة العدوان عليها؛ فالغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية مدجج بالسلاح النووي للقضاء على ما تبقى من نُظم اشتراكية في العالم حتى تصبح الرأسمالية هي النظام الوحيد الذي لا بديل له باسم العولمة والعالم ذي القُطب الواحد، وتبقى إيران ممثِّلة لإرادة الصمود أمام قوى الهيمنة والاستعمار الجديد؛ دفاعًا عن الهوية الثقافية الوطنية المستقلة، ترفض الدخول في بيت الطاعة الذي دخلته معظم النظم العربية، تؤيد المقاوَمة الوطنية في لبنان والصمود الوطني في سوريا.
فقد العرب زمام المبادرة؛ لتوقُّف الخيال السياسي باسم الواقعية والحكمة السياسية، وبدافع الحذر المبالَغ فيه، والبيروقراطية الوظيفية، وحساب المكسب والخسارة على الأمد القصير، و«تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها.» غاب الخيال السياسي لحل أزمات العرب في السودان وفلسطين، وقد كان يمكن لسوريا أن تقفز على الجولان في أثناء الحرب العربية الإسرائيلية السادسة التي قادتها لبنان ولتخفيف الحِمل على حزب الله، وربما تستيقظ مصر وتنهض من جديد؛ دفاعًا عن حبيبة قلبها سوريا، وإحراج الأردن كدولة مواجهة في معركة العرب الكبرى. كان يمكن للعرب الذين صالحوا العدو سحب السفراء أو قطع العلاقات أو إيقاف التطبيع والتبادل التجاري، بل أعلن البعض أنه لا يمكن أن يفعل شيئًا، وأنه غير مُستعِد للدخول في معركة. بينما أعلن البعض الآخر أنهم من المغلوبين على أمرهم أمام إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، وبعد هزيمة يونيو (حزيران) ١٩٦٧م واتهام العرب أمريكا بالتدخُّل عن طريق الطيران الأمريكي لمساندة القوة الجوية الإسرائيلية وبيان بطلان هذا الاتهام، أجاب موسى ديان بأنه وضع خطته بناءً على حدود الخيال العربي؛ فإسرائيل تمتلك أربعمائة طائرة أطلقتها كلها للقصف الجوي لمطارات العدو ولم تترك طائرة واحدة في سمائها للدفاع كما تقضي بذلك الكتب العسكرية والمذكرات المحفوظة، نصف القوات الجوية للهجوم والنصف الآخر للدفاع، وكان باستطاعة العرب بطائرة واحدة الدخول إلى سماء إسرائيل المفتوحة ودك مطاراتها ومُدنها، ويبدو أن عُقدة ١٩٦٧م ما زالت في اللاوعي العربي توجهه وتُخيفه وتُحذره من المواجهة، ولم يمحها انتصار ١٩٧٣م، ولا المقاوَمة في جنوب لبنان، ووقف غزو بيروت في ١٩٨٢م، وتحرير الجنوب في ٢٠٠٠م، ودك المدن الإسرائيلية في ٢٠٠٦م.
توقف العرب عن أخذ زمام المبادرة لتوقف الطموح العربي والشهامة العربية والبطولة العربية؛ فقد انتهت المشاريع الكبرى التي حملها العرب منذ فجر النهضة العربية حتى الدولة العربية الواحدة، حلم الخمسينيات والستينيات، وانتهى الإحساس العربي بالمثال والتصدر، ونسوا أبا فراس الحمداني.
بل انتهت المبالغة العربية:
وكان الفارس العربي يبني قصره وحصنه في قمم الجبال وليس في السهول. فقَدَ العرب الإحساس بالأمانة والرسالة، ورضوا أن يكونوا مع الخوالف والقاعدين والتثاقل إلى الأرض. رضوا بالدنيا دون الآخرة، حرصوا على الحياة، وكرهوا الموت والشهادة. لم يعودوا يلتزمون بشيء أمام النفس وأمام الناس وأمام الله، وهم خير أُمة أُخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. تبلَّدت الحواسُّ إلى درجة الخيانة والمساوَمة مع العدو على الأخ العربي كما فعل يهوذا مع المسيح، بل إن المبادَرة العربية التي تستخدم اللفظ هي صياغة جيدة لقرار الأمم المتحدة ٢٤٢ وقرار ٣٣٨، ومبادرة روجرز، واتفاقيات مدريد وأوسلو: الأرض في مقابل السلام ماتت في مهدها؛ فقد أتت في موضع ضعف وليس من موضع قوة؛ استجداء للحق من الغير، وبقوى دولية وليس بقوى ذاتية، ويعرف العدو أنه لا بديل عنها؛ فماتت في مهدها، فمتى يستعيد العرب زمام المبادرة لتحريك الزمن وتغيير مسار التاريخ؟
(٤) وحدة القاعدة وتَفرُّق القمة٤
أحد أسباب الأزمة العربية الراهنة وحدة الشعوب وتفرُّق الحكومات، وحدة القاعدة وتفرُّق القمة. النضال يوحِّد، والسياسة تُفرِّق كما هو حادث في فلسطين، وحدة النضال الوطني في أثناء المقاومة وتفرُّق السلطة الوطنية الفلسطينية بين رئاسة السلطة ورئاسة الوزارة بين فتح وحماس في مرحلة السلام، والمعارك توحِّد وقسمة الغنائم تُفرِّق كما حدث بعد حرب أكتوبر؛ فقد وحَّدَت الحرب بين مصر وسوريا، ووقف العرب سندًا لهما وقادت السعودية حركة حظر النفط، ثم لعبت السياسة بالنصر فتفرق العرب بعد كامب ديفيد بين معسكر السلام ومعسكر الحرب، بين أنصار كامب ديفيد وجبهة الصمود والتصدي، الدم يوحِّد والسياسة تُفرِّق كما حدث في الحرب العربية الإسرائيلية السادسة بين المقاوَمة اللبنانية بقيادة حزب الله، والجيش الإسرائيلي بقيادة عامير وحالوتس. انتصرت المقاوَمة ووحَّدَت لبنان بكل طوائفه والآن يُسْلَب النصر منها بخلافات السياسيين حتى أصبح لبنان على شفا حرب أهلية لو اشتعل الفتيل وسرت النار في الحطب الجافِّ بفعل عميل داخلي أو خارجي. العمل يوحِّد والنظر يُفرق؛ فالعمل له أولوية على النظر وَقُلِ اعْمَلُوا، يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ. أما النظر فبطبيعته مُتعدِّد، النظر منظور، وتتعدد المناظير طبقًا للرؤية؛ فالعين لا ترى إلا جانبًا واحدًا من المنظر. تَتوحَّد القاعدة على أن الإصلاح الزراعي ضرورة يُحتمها ضيق المساحة المزروعة ثم تختلف القيادة السياسية على تملكها للدولة أم للجمعيات التعاونية أم للأفراد. الغاية تُوحِّد، والوسيلة تُفرِّق، فلا خلاف على الاستقلال الوطني عند القاعدة ولكن الخلاف لدى النخبة السياسية في كيفية الحصول عليه بالإرادة الوطنية المستقلة أم بالأحلاف الإقليمية أم بالحماية الدولية والدخول في مَحاور الدول الكبرى. المآسي تُوحِّد، والأفراح تُفرِّق. المآسي تُهدِّد الحياة، والحياة بطبيعتها بها غريزة حب البقاء، أما الأفراح فهي من الكماليات، والخلاف عليها على مستوى الرفاهية، وذلك مثل تضامن الفقراء ومساندة بعضهم لبعض في الرزق، واختلاف الأغنياء على نهب الأموال العامَّة، وطبقًا للمثل العامي المصري «ما شافوهمش وهما بيسرقوا، شافوهم وهما بيتحاسبوا.»
إن وحدة القاعدة هي حركة التاريخ، وهي التي تحافظ على استمرار الأمة بالرغم من تَغيُّر النُّظم السياسية، فمصر باقية منذ آلاف السنين بالرغم ممَّا تتوالى عليها من نظم فرعونية ويونانية ورومانية وعربية، أُموِيين وعباسيين وفاطميين وطولونيين وإخشيديين ومماليك، وفرنسيين وبريطانيين وأخيرًا مصريين، اشتراكيين قوميين أولًا، ورأسماليين غربيين ثانيًا، وعَوْلَميين تابِعِين ثالثًا.
وتَفرُّق القمة هو الذي يُوقِف مسيرة القاعدة، ويعوق حركتها، ويُفتِّت وحدتها، ويُشتِّت شَمْلَها بل يجزِّئها إلى كيانات طائفية عِرقية حتى يبقى النظام السياسي على أشلاء الأمة. تتفرق القمة من أجل الإبقاء على المناصب الدائمة للملوك والرؤساء والسلاطين وأصحاب السعادة والسمو والمعالي والنِّيافة والغِبْطة والجلالة مدى الحياة، ما دام القلب ينبض، ويظل كل منهم حاكمًا على قُطر، وقائمًا على شريحة من الوطن حتى لو كانت صحراء قاحلة أو مدينة أو بئرًا أو منجمًا دون أرض أو شعب. ما يهم هو المصلحة الشخصية والسُّلطة الفردية والثروة الخاصَّة. قد يتنافسون على الزعامة القومية، وتلعب دولة صغرى، صوتها أعلى من حجمها دور الشقيقة الكبرى، وحجمها أكبر من صوتها. قد يكون الدافع إلى تَفتُّت القمة حب الظهور وجاه الدنيا والإحساس بالنقص الذي يتحول إلى إلهام من السماء، وقد يطبع التكوينُ الأمني للشرطي في الشرطة أو العسكري في الجيش؛ مِزاجَ القائد أو الزعيم بالرغبة في السُّلطة والتَّسلُّط، وأنَّ عصا الشرطي أو بندقية الجندي قادرة على التحكم في مسار الشعوب وفي نظام العالَم، قد يُولد الزعيم ملكًا ابن ملك، في فمه ملعقة من ذهب، ينحني أمامه رجال الدولة لتقبيل يديه أو كتفيه أو ذنَب أنفه أو حافر حصانه، وقد يكون شيخ قبيلة أو سليل عائلة أو رئيس عشيرة، يحكم باسم العصبية كما قرَّر ابن خلدون من قبلُ، نحن نحتفل بمرور ستمائة عام على وفاته بالقاهرة والإسكندرية، بالرغم من خطورة الثروة والمُلك والعمران والحداثة على العصبية والولاية والنبوة والإمامة والخلافة والمناصب الدينية كافَّة.
صحيح أن الحق النظري مُتعدِّد، والحق العملي واحد، ولكن التعددية النظرية وهي أساس التعددية السياسية لا تعني الفُرقة والتَّشتُّت؛ لأنها محكومة بالإجماع الوطني وبرنامج العمل الوطني الموحَّد الذي يمثل وحدة القاعدة. الخلاف على الوسائل وليس على الغايات، على الطُّرق والأساليب وليس على الأهداف، على أفضل السُّبل لتحقيق المصالح العليا للأمة كما هي الحال في اليابان والصين فيما يُسمَّى بالإجماع التوافقي أو الوفاق الوطني.
وحدة القاعدة هي الأساس، وفي غيابها يظهر اختلاف القمة؛ لذلك كانت الوحدة الوطنية أو الائتلاف الوطني أحد مطالب حركات الاستقلال الوطني في كوبا وفيتنام والصين وثورة ١٩١٩م في مصر، وهو حجر العثرة اليوم في النضال الوطني الفلسطيني، وصعوبة تكوين حكومة وحدة وطنية لفك الحصار عن الشعب الفلسطيني، كما تشهد بذلك تجارب المقاومة الشعبية في أثناء الاحتلال؛ مثل المقاومة الفرنسية وجبهات الائتلاف الوطني والخلاص الوطني والإنقاذ الوطني.
وقد تشارك في القاعدة أفراد وجماعات من كل البلدان لوحدة الهدف والمصير كما حدث في الحرب الأهلية الإسبانية بين الجمهوريين في الجنوب والملكيين في الشمال، وتكاتف كل الحركات الجمهورية مع الجنوبيين باسم وحدة النضال العالمي، وحدث الشيء ذاته بالنسبة إلى الحركات الأممية الاشتراكية أو الإسلامية باسم وحدة البروليتاريا العالمية أو وحدة الأمة الإسلامية، ونجاح اليسار في أمريكا اللاتينية يقوي الحركات اليسارية في أفريقيا وآسيا، في الوطن العربي والعالم الإسلامي؛ نظرًا إلى وحدة الهدف المشترَك في مقاوَمة الرأسمالية العالمية، والهيمنة الأمريكية، وقوانين السوق باسم العولمة، والعالم قرية واحدة، وثورة الاتصالات.
والحالة الراهنة في الوطن العربي هي كذلك، وحدة القاعدة وتَفرُّق القمة، وحدة الشعوب وتناقُض النُّظم، بل إن النُّظم أصبحت هي العائق الأول لتحقيق الأماني القومية في التحرر الوطني والحريات العامَّة والعدالة الاجتماعية ووحدة الأمة، والتنمية المستدامة، والهوية القومية، وحشد الناس، ويبدو ذلك في خلافات مؤتمرات القمة العربية ووقوعها بين المطرقة والسندان، بين آمال القاعدة في الحرية والاستقلال والضغوط الخارجية من أجل الهيمنة والتبعية.
وعندما يفقد الوطن العربي مركز ثقله وقلبه في مصر تفقد الأطراف أيضًا اتزانها، وتستقطبها قُوى الهيمنة؛ مثل أمريكا وإسرائيل لإدخالها في مناطق نفوذها، فبدلًا من أن يصبح الوطن العربي مركز العالم تتجاذبه قُوى الشرق والغرب، ويصبح الخليج آسيويًّا، والمغرب العربي أفريقيًّا أو غربيًّا، مستقطَبًا نحو الجنوب مثل ليبيا، أو نحو الشمال مثل تونس والجزائر والمغرب، والهجرة إلى الشمال عامل على ذلك، وربط المغرب بإسبانيا عن طريق النفق البحري يربط أفريقيا بأوروبا كما ربط النفق المائي تحت بحر المانش بين أوروبا وإنجلترا، وكما ربطت قناة السويس من قبلُ بين أفريقيا وآسيا بالإضافة إلى جسر الصداقة الجديد فوق القناة.
فهل تستطيع القمة أن تُوحِّد نفسها مثل القاعدة وأن تصبح قمة قاعدية؟ وهل تستطيع القاعدة أن تفرض وحدتها على القمة وأن تصبح قاعدة أممية؟ ألا تستطيع حرية الفرد وديمقراطية الحُكم أن تُقرِّب بين القمة والقاعدة بحيث تصبح القمة تعبيرًا عن القاعدة، وتصبح القاعدة قائدة للقمة؟
(٥) اختراق الوطن العربي٥
إن شرط مواجَهة الخطر الخارجي هو إعداد الجبهة الداخلية كما فعل صلاح الدين إزاء الغزو الصليبي عندما بدأ بالتخلص من دعاة الهزيمة في الداخل وأدعياء التصوف، وتوحيد مصر وسوريا، وأحد أسباب غزو الوطن العربي اليوم وحصاره وتهديده هو تَفتُّت الجبهة الداخلية «أُكِلتُ يوم أُكِل الثور الأبيض.»
والوطن العربي الآن مُخترَق، أشبه بالجبن السويسري، مملوء بالفراغات الداخلية بالرغم من تماسكه الخارجي، وجود ينخر فيه العدم بتعبير جان بول سارتر، تفاحة مخوخة من الداخل بتشبيهه أيضًا. الهيمنة عليه ليست بسبب القوة المُهيمِنة من الخارج بل بسبب ضعفه من الداخل؛ مثل العين والمخرز بتعبير طيب تيزيني.
وتتمثل نقاط الضعف في الوطن العربي في سيادة القُطرية، «مصر أولًا»، «الأردن أولًا»، «الكويت أولًا»؛ وهو ما أدَّى إلى الصلح المنفرد مع إسرائيل بداية بمصر في كامب ديفيد؛ فسيناء لها الأولوية على الضفة والقطاع والقدس والجولان، ثم الأردن في وادي عربة؛ فالسلام مع إسرائيل يؤدِّي إلى الرخاء ورضا الغرب، وجذب السياحة. ثم موريتانيا؛ لتضمن الحماية الغربية وتدفق رءوس الأموال الأجنبية لتنفيذ مشاريع التنمية. رفضت إسرائيل المفاوضات مع العرب مجتمعين وفي وقت واحد؛ لأنها تعلم أن الوحدة قوة، وأن الفُرقة ضعف، وأنها تستطيع أن تملي إرادتها على كل قُطر عربي بعد أن تستفرد به أكثر ممَّا تَستطيعُه والعربُ مجتمعون، ولا تريد إسرائيل ولا الغرب العودة إلى الناصرية والقومية التي لا تُفرق بين سيناء والضفة والقطاع والجولان.
ومن مظاهر الاختراق تأخُّر الإصلاح، وتفجير المجتمع العربي من الداخل بعد أن زاد الضغط عليه من الخارج، وكلما تأخر الإصلاح، وتوقف الحراك الاجتماعي الطبيعي تكونت حركات العنف المسلح من أجل التخلص من نظم القهر والفساد في الداخل والتبعية للخارج. ويهرب المواطنون إلى الخارج، ويكوِّنون حركات معارضة تستقطب القوى الأجنبية بعضها لتجنيدهم في النظم القادمة بعد انهيار النظم الحالية، وتنشط المعارضة في الخارج، ويصبح المجتمع محاصرًا إعلاميًّا من الخارج ومهددًا بالسلاح من الداخل.
ومن مظاهر الاختراق شق الصف الوطني إلى حد الحروب الأهلية بين أبناء الوطن الواحد، وانشغال التيارات السياسية بالاقتتال فيما بينها بدلًا من مقاومة الغزو ومظاهر الهيمنة في الخارج، حدث ذلك في لبنان والجزائر وما زال يحدث في السودان؛ فقد دمَّرت الحرب الأهلية لبنان أول مرة، وانتهت باتفاق الطائف، ثم انقسم بين أكثرية ومعارَضة بعد انتصار المقاوَمة بقيادة حزب الله على العدوان الإسرائيلي في الجنوب. كما اندلعت الحرب الأهلية في الجزائر، وكلَّفَت أكثر من مائة وخمسين ألف قتيل، وقد شارفت على النهاية بعد اتفاق الوئام الوطني، واشتعلت الحرب الأهلية في السودان بين الشمال والجنوب على مدى عشرين عامًا، وما زالت رحاها دائرة في دارفور، وقد اقتربت من نهايتها بالمصالَحة الوطنية في الجنوب، وهي على وشك الانتهاء في دارفور بعد اتفاق أبوجا. غاب الحوار الوطني في الداخل، واقتتلت فِرَق الأمة، وقد ضاعت الأندلس من قبل بسبب الاقتتال بين ملوك الطوائف وتحالف بعضها مع القوى الخارجية.
ومن مظاهر الاختراق وجود قوات أجنبية على أرض الوطن بالغزو المباشر مثل العراق، أو بوجود أساطيل وقواعد وقيادات لها في مياه الخليج. لم يعد الوطن مستقلًّا حتى بالمعنى الأول للاستقلال وهو إخراج القوات الأجنبية من الأوطان، قامت هذه القوات بغزو الوطن من داخله وبالقرب منه، وما زالت مُستعِدَّة لذلك؛ لتقفز منها على دول الجوار. أصبح الوطن العربي مستباحًا لمن يريد الغزو أو التهديد أو الحصار، وفلسطين أرض مستباحة يعبث بها العدو الصهيوني كما يشاء، قتلًا وتدميرًا وتجويعًا وحصارًا، وعادت سياسة الأحلاف منذ رفض العرب حلف بغداد في الخمسينيات والحلف الإسلامي في الستينيات، وبدأ تصنيف العرب إلى متطرفة ومعتدلة، يواجه بعضهم بعضًا، ويتم التنسيق بين الدولة المعتدلة ضد الدولة المتطرفة، وقد يُقسم الوطن مذهبيًّا وعرقيًّا من داخله على شيعة وسُنة وإلى أكراد وعرب وبربر وأفارقة. اخترقت الأحلاف والتكتلات الأوطان، وأصبحت أخطر من القواعد العسكرية الثابتة.
ومن مظاهر الاختراق استسلام بعض النظم التي كانت ترفع صوتها بالرفض وبضرورة مقاومة الاستعمار والصهيونية تمسكًا بالحلم العربي القديم وتأكيدًا على الناصرية وأمانة القومية العربية، تنفي ضلوعها في حوادث العنف ثم تثبتها وتدفع التعويضات بالملايين، وتطرد الفلسطينيين ما دام قد أصبح لهم شبه وطن، وتنصح بالاعتدال بعد أن كان يُضرب بها المثل بالتطرُّف، وتدعو إلى التَّخلِّي عن القدرات النووية بعد أن كانت تسعى إليها وتستوردها وتضعها في صناديق حتى يحين الأوان. أعادت علاقاتها بالغرب واتجهت نحوه لإقامة مشاريع مشترَكة للاستثمار بعد أن لم ينجح التعاون مع الشرق في التسليح والتصنيع وبناء النهر العظيم، وتنتقل من الساحة العربية إلى الساحة الأفريقية؛ فأفريقيا وليست آسيا فضاء طبيعي للمغرب العربي.
وقد يحدث اختراق آخَر للأطراف وإغراؤها بالدخول في العولمة لمزيد من العوائد لعائدات النفط بعد استثمارها، ومد قناة بحرية من البحر الميت عبر إسرائيل إلى البحر الأبيض المتوسط بدلًا من قناة السويس، والقوى العظمى الدولية والمحلية قادرة على حماية النفط من الطامعين فيه، وإحدى المدن مؤهلة الآن لأن تكون هونج كونج العرب، حلقة الاتصال بين الشرق والغرب، منطقة خدمات وليست منطقة إنتاج، منطقة تجارية حرة وليست منطقة صناعية مُبدعة.
ويمكن سد فراغات الوطن العربي بوحدته ولُحمته وممارسة سياسة الحماية الذاتية، وإذا كانت أوروبا قد استطاعت أن تُقيم الاتحاد الأوروبي بعد قرنين من الحروب بين أقطارها، فكيف لا يستطيع العرب أن يقيموا وحدة مصالح بين أقطارهم، على الأقل شحن عربي وسوق عربية مشتركة، ودفاع عربي مشترك، وتضامن عربي مشترك؟ لماذا يتأخر العرب في الإصلاح السياسي؛ حرية الفرد، وديمقراطية الحكم، والتعددية الثقافية والسياسية ويظل خطر القهر والاستبداد قائمًا؟ لماذا لا تنشأ محافظات التكامل على الحدود المتنازع عليها من أجل تآكُل الحدود المصطنعة من خلال الحركات الشعبية وتأكيد أن الهوية لا تأتي من الجغرافيا بل من التاريخ، لا تأتي من حدود مصطَنعة بل من تراكُم تاريخي بلا حدود؟ إن العالم العربي قادر على حماية ذاته بذاته من دون حاجة إلى إقامة قواعد عسكرية ثابتة في بحاره وعلى أرضه، وهو قادر أيضًا على التمسك بالتواصل المشترَك منذ عصر تحرُّره من الاستعمار القديم في الخمسينيات والستينيات إلى مقاوَمة أشكال الاستعمار الجديد منذ أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن، ويستطيع الوطن العربي حماية أطرافه من جذب مراكز أخرى لها خارج الوطن العربي، ومصر مركزه وقلبه حتى لا تتآكل عروبة الأطراف في الآسيوية شرقًا والأفريقية جنوبًا، والغربية شمالًا. ألا تحتاج الأمة العربية إلى وعي عربي جديد كما كتب نجيب عزوري «يقظة الأمة العربية» منذ قرن من الزمان؟
(٦) الخطر على الخليج … من أين؟٦
ما زالت العروبة تنبض في قلب كل عربي، بل إنها تنتفض هذه الأيام من اختراق الوطن العربي وتجزئته إلى كيانات طائفية ومذهبية وعرقية بداية بالعراق والسودان، مرورًا بلبنان وسوريا والخليج والمغرب العربي، ونهاية بمصر، فالأرض تنقص من أطرافها أولًا قبل الوصول إلى القلب وهو يحتضر من أجل الإجهاز عليه أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا.
والخطر الحالي على العراق، والدائم على فلسطين، والماثل على السودان، والآتي على لبنان، والأخطر على الخليج، وتتعدد الرؤى من أين يأتي الخطر على الخليج، من محيطه الإقليمي خاصَّة من الشرق إيران، أم من الشمال الغربي إسرائيل، أم من نظام العالم الجديد في عصر الهيمنة الأمريكية بالرغم من مؤشرات تراجع الولايات المتحدة الأمريكية؟ وقد يأتي الخطر من وضعها الداخلي؛ الهجرات الآسيوية، الدولة الريعية، التردد في إثبات الهوية بين الشرق والغرب، وتحديد الرسالة، التجارة أم الأمانة، وتتعدد الآراء بتعدد الولاءات السياسية والربحية والمصالح الشخصية والفئوية. فهل يستطيع البحث العلمي الموضوعي أن يحدد من أين يأتي الخطر على الخليج؟ وهل يستطيع الحوار الهادئ والمصلحة العامَّة والهَمُّ القومي المشترك أن يحدد مصدر الخطر من دون اتهام أو تخوين؟
إن ضعف العرب لا يعني بعثرتهم أو غيابهم، بل يعني فقط لحظة عابرة في تاريخهم، قد تكون الأسوأ، وإن غياب مصر عن أن تكون مركز جذب للأطراف ومحيطها الإقليمي لا يعني السعي نحو البديل في مراكز أخرى حتى لو كانت إسرائيل أو الولايات المتحدة الأمريكية حتى لا تتكرر مأساة الجمهوريات الإسلامية في أواسط آسيا عندما ضعفت بغداد ثم انهارت الخلافة في إسطنبول فانجذبت نحو موسكو كمركز بديل، وقد حدث أيضًا ذلك في دول أوروبا الشرقية؛ مثل ألبانيا والبوسنة والهرسك بعد سقوط الخلافة عندما انفصلت عنها وأصبحت جزءًا من أوروبا الشرقية، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي انضمت إلى أوروبا الغربية.
فمن أين يأتي الخطر على الخليج؟ لا يأتي الخطر من الجنوب؛ فالخليج جزء منه ممتد من الكويت حتى عُمان، جنوبه بحر العرب، ولا يأتي الخطر من العرب، ولا يأتي من الغرب؛ فالمملكة العربية السعودية غَرْبه وهو جزء من شبه الجزيرة العربية، وعضو في «مجلس التعاون». أتى الخطر من الشمال، من غزو العراق للكويت في حرب الخليج الثانية عام ١٩٩٠م، وكان جزاء العراق تدميره بحجة تحرير الكويت ثم احتلاله بحجة القضاء على أسلحة الدمار الشامل، ثم تجزئته وتفتيته بحجة الصراع المذهبي والطائفي والعرقي. كان الهدف الحقيقي القضاء على أكبر قوة عسكرية عربية ونموذج تنموي؛ حمايةً لإسرائيل بإضعاف الجبهة الشرقية، وفصل إيران جغرافيًّا عن سوريا بقطع العراق، وانتهى الخطر بنهاية النظام العراقي، كما انتهت القومية العربية كنظام سياسي تسلطي ابتداء من هزيمة يونيو (حزيران) ١٩٦٧م، ونهاية بغزو العراق للكويت في أغسطس ١٩٩٠م.
فهل يأتي الخطر هذه المرة من الشرق، إيران؟ هل هو خطر واقع أم خطر مُتوَهَّم؟ لم يحدث أن هددت الثورة الإسلامية في إيران الخليج، وانتهى عصر تصدير الثورة بعد رحيل الخُميني وحَمِيَّة الصحوة الإسلامية، بل جعلت «إيران الثورة» اللغة العربية اللغة الأجنبية الأولى في المدارس، ورفضت مصر مدها بمئات من المدرسين، ولم تفعل مع إيران ما فَعلَتْه مع الجزائر من قبل من أجل تعريب الجزائر بعد الاستقلال في ١٩٦١م في مواجهة الفرانكفونية، وكما فعلت مع اليمن بعد الثورة اليمنية في ١٩٦٤م ضد الأُمية، وكانت فرصة لتعريب إيران بدلًا من الخلاف حول تسمية الخليج العربي أو الفارسي. لقد احْتُلَّت الجُزر الثلاث في عصر الشاه، وليس بعد الثورة الإسلامية، ويمكن إيجاد حل لها بروح الأُخوة الإسلامية التي لا تعترف بالحدود الجغرافية؛ فالمسلمون أُمة واحدة، وتَصوُّر عبد الناصر لمحافظات التكامل بين مصر والسودان وبين كل قُطرين عربيين ترك الاستعمار بينهما خلافات حدودية؛ مثل الجزائر والمغرب على واحة تندوف، ومصر وليبيا على واحة جغبوب، ومصر والسودان في حلايب وشلاتين، واليمن والسعودية على عسير ونجران، والإمارات وعُمان على واحة البريمي، والكويت والعراق على آبار النفط، وسوريا والأردن على وادي الحمة، والمغرب وموريتانيا على الصحراء، والكويت والسعودية على المنطقة الدولية منزوعة السلاح … إلخ.
لم تعتدِ إيران على الخليج كما اعتدى النظام العراقي السابق على الكويت، بل إن بعض نظم الخليج دعمت إيران في عدوان العراق عليها كما دعمت العراق، ولم تأتِ الهجرات السكانية التي تُهدد عروبة الخليج من إيران بل من باكستان والهند والفلبين وإندونيسيا ومن جنوب شرق آسيا عامَّة، ولا يمثل التشيع أي خطر على الخليج الذي نصفه شيعي، عرب شيعة يسهمون في بناء الأوطان، والدفاع عن مصالح شعوبه، والخلاف إرث قديم تصدت له محاولات «التقريب» منذ الشيخ شلتوت والإمام القمي، ولا أحد من عامَّة المسلمين يعرف هذا الخلاف أو يحمل هذا الوزر. المسلمون بطوائفهم كافَّة أمة واحدة لا تفرق بينهم الخلجان أو البحار، الأنهار أو المحيطات، تضاريس الأرض من جبال وسهول وجزر، لهم إرث ثقافي وحضاري مشترك، أسهم فيه الجميع، والعرب على ضفتي الخليج، في شبه الجزيرة العربية وفي الأهواز، والعتبات المُقدَّسة؛ كربلاء والنجف في العراق، ومصر شيعية في ثقافتها بحب آل البيت، ومالكية أو شافعية في فقهها بواقعيتها واتزانها.
بقيت أسطورة الخطر النووي الإيراني التي يضخمها الإعلام، ويُؤسِّسها الغرب، وهو خطر وهمي لأسباب عملية وأيديولوجية، فكيف يُهدد النووي الإيراني الخليج، وإيران هي أول المتضررين بالإشعاع النووي؛ نظرًا إلى قُرب المسافة بين الاثنين؟ ولماذا تُهدد إيران الخليج والشيعة على ضفتي الخليج، والمسلمون سُنة وشيعة حرام دماؤهم وأعراضهم وأموالهم؟ وهل يهدد الخليج إيران حتى تنتقم إيران من الخليج؟ وتمتلك باكستان والهند السلاح النووي ولا يهددان الخليج. النووي الإيراني موجَّه ضد إسرائيل التي تهدد إيران منفردة أو بالتعاون مع الولايات المتحدة، وهو موجَّه أيضًا ضد الولايات المتحدة الأمريكية التي تهدد إيران بالعدوان كل يوم للقضاء على حقها في امتلاك الطاقة النووية كما فعلت مع العراق بغزوها وتدميرها تحت ذريعة تدمير أسلحة الدمار الشامل. إن النووي الإيراني ظهير للعرب وللمسلمين، وسند لهم، ودفاع عنهم في مواجهة الخطر النووي الإسرائيلي الذي صرَّح رئيس الوزراء الإسرائيلي بأنه يمتلك السلاح النووي، مائتي رأس نووية كما صرَّح بذلك الجاسوس الإسرائيلي فانونو. إن الخطر النووي على الخليج يأتي من إسرائيل أو من الولايات المتحدة الأمريكية أو من كليهما معًا للاستيلاء على آبار النفط في حالة ما إذا تم تهديد النظام العالمي الأحادي القُطب وأصبحت المصالح الإسرائيلية الأمريكية في المنطقة في خطر.
وقد يأتي الخطر على الخليج من الداخل من التركيبة السكانية للخليج، والهجرة الآسيوية المتزايدة والتي بلغت أكثر من ثلاثة أرباع السكان حتى كادت أن تمحو عروبة الخليج في الحياة اليومية واللغة العربية في الأسواق، وكثيرًا ما تستعمل أمريكا المنظمة الدولية لحسابها فقد تصدر قرارًا يجعل هذه الهجرات سكانًا أصليين لهم حق المواطنة فيتغير نظام الحكم لصالحهم، ويصبح الخليج العربي امتدادًا لآسيا فيه. والعمالة العربية قادرة على إحداث التوازن في التركيبة السكانية وليس طمعًا في مال ولا فرص عمل. قد يأتي الخطر من الدولة الريعية والاعتماد على مصدر واحد للثروة هو النفط، ودون تحويل عائداته إلى صناعة في حالة نفاد النفط أو مصادرة العوائد في البنوك الأجنبية حتى لا تُمول دول الخليج الإرهاب! وقد يأتي الخطر من مظاهر الحداثة المستوردة التي ليس لها رصيد في التاريخ والثقافة، وهي مؤذنة بخراب العمران كما يقول ابن خلدون وتصبح الأرض خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا والبنايات الفارهة هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ.
والأخطر من ذلك كله أن تتغير رؤية الخليجيين للعالم، التجارة قبل السياسة، والربح قبل الرسالة، ورغد العيش قبل القضية، والاستهلاك قبل الأمانة. دُبَي هونج كونج العرب، والخليج حلقة اتصال وخدمات بين الشرق والغرب، وعائدات النفط مصدر استثمار في العالم. كل ذلك من أجل الالتفاف حول قضية فلسطين، تخسرها مصر والأردن من دول الطوق سياسيًّا، وموريتانيا من دول المحيط سياسيًّا، ويخسرها الخليج اقتصاديًّا وربحيًّا، والحجة عصر العولمة.
وإذا كان إعلان دمشق لم يتم تفعيله للدفاع عن الخليج وأمنه السياسي والاقتصادي والثقافي فإن العربي عربي مهما عصفت به الأحداث، هويته العربية ما زالت صامدة ما دام المتنبي شعره، والقرآن رسالته، والعقال رمزه، وقيم البداوة خُلقه قبل الإسلام في حلف الفضول، وبعده في عروبة اللسان.