الإسلام في آسيا
(١) ضمير الأمة١
استيقظت الأمة في الآونة الأخيرة على صوت ضميرها، محو إسرائيل من على الخارطة، نَقْلها إلى أوروبا سبب مصائبها، وهاج الغرب أكثر ممَّا هاجت إسرائيل: اطردوا هذا الصوت من الأمم المتحدة، أَخرِسوه إلى الأبد بتدمير سلاحه النووي؛ كيف يتجرأ على المقدَّسات والمُسلَّمات والبدهيات؟
كان من الطبيعي أن يصحو ضمير الأمة بصوت أحد قادتها بعد أن تَمَّ التنازل يومًا بعد يوم في حقوق شعب فلسطين، من تحرير فلسطين إلى فتح مَعبَر في غزة؛ فقد تربَّى هذا الجيل الذي أوشك على الانقراض منذ النكبة الأولى في ١٩٤٨م على تحرير فلسطين، من النهر إلى البحر، واسترداد حقوق شعب فلسطين كاملة غير منقوصة بعد أن تمَّ العدوان عليه، وأخذ أكثر من نصف الأرض في ١٩٤٨م عام النكبة، ثم الاستيلاء على النصف الآخر في ١٩٦٧م عام النكسة أو النكبة الثانية، ثم بدأ التنازل التدريجي من تحرير كل فلسطين إلى إزالة آثار العدوان، والقبول بمشروع روجرز؛ فقد ضاع النصف الأول من فلسطين إلى غير رجعة. يكفي إنقاذ النصف الثاني من فلسطين بعد ١٩٦٧م. اعترف العالم كله بإسرائيل منذ ١٥ مايو ١٩٤٨م وأصبحت عضوًا في الأمم المتحدة وتقع المسئولية على العرب برفضهم التقسيم. فضاع منهم ما رفضوه، مع أنهم لو قبلوا التقسيم لاعتدت إسرائيل على دولة فلسطين كما اعتدت على الضفة الغربية، وما كان العرب نفسيًّا يقبلون نصف الوطن بعد أن كان الوطن كله لهم.
ثم تحوَّل شعار إزالة آثار العدوان والانسحاب من الأراضي المحتلة في ١٩٦٧م إلى خارطة الطريق التي تَقبَل بوجود المستوطنات والجدار العازل، والقدس والمياه واللاجئين في يد إسرائيل، ثم تَحوَّلت خارطة الطريق إلى الانسحاب من غزة، ثم من غزة إلى فتح معبر في رفح بحضور طرف ثالث الاتحاد الأوروبي لمنع مرور المطلوبين من المقاوَمة، يُغلق أو يُفتح طبقًا لمزاج إسرائيل وأمنها، أما الممر الآمن بين الضفة والقطاع الذي تم الاتفاق عليه ولم يُفتَح حتى الآن إمعانًا في إذلال الفلسطينيين.
واعترفت ثلاث دول بإسرائيل، مصر والأردن وموريتانيا، قبل أن تنسحب إسرائيل من الأراضي المحتلة وقبل استرداد الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، وسيناء منزوعة السلاح، وفي بعض دول الخليج والمغرب العربي مَكاتب اتصال أو مكاتب تجارية لإسرائيل؛ تمهيدًا لإقامة العلاقات الدبلوماسية الكاملة مع أن إسرائيل قد رفضت المبادرة العربية: انسحاب كامل في مقابِل اعتراف كامل وتطبيع شامل، وما زالت لدى إسرائيل أربعة عشر تحفُّظًا على خارطة الطريق وأولها رفض العودة إلى حدود ٤ يونيو (حزيران) ١٩٦٧م، ورفض الانسحاب من القدس، ورفض تفكيك المستوطنات، ورفض عودة اللاجئين، وأصبحت اللاءات أكثر من ثلاثة، لاءات الخرطوم: لا صلح ولا اعتراف ولا مفاوضة مع إسرائيل.
وتم تغيير الميثاق الوطني الفلسطيني الذي كان ينص على إقامة دولة واحدة في فلسطين مُتعدِّدة الأعراق والطوائف، يتعايش فيها الجميع، ويحكمها نظام ديمقراطي، وقُبل التقسيم الذي كان قد رُفِض من قبل لإقامة دولتين، إسرائيل على ٧٨٪ من أراضي فلسطين، وفلسطين على ٢٢٪ منها، وقُبل وجود المستوطنات في الدولة الفلسطينية، والقدس مدينة مفتوحة، والسيادة المشترَكة على القدس والمسجد الأقصى، السيادة الإسرائيلية تحته حيث يقبع هيكل سليمان والفلسطينية فوقه، وعودة اللاجئين اختيارًا لضم الأسر وبنسبة مُحدَّدة إلى أراضي ١٩٦٧م وليس إلى فلسطين ١٩٤٨م حتى لا تتغيَّر الطبيعة السكانية لإسرائيل، والأغلبية اليهودية فيها، والمستوطنات قائمة مع توسيعها رأسيًّا وليس أفقيًّا، والجدار العازل قائم يلتهم قرى فلسطينية بأكملها داخل إسرائيل بحجة الأمن والهدف الاستيطان.
وتم الصلح مع إسرائيل من الشقيقة الكبرى مصر أولًا التي قادَت الحرب، وبادرَت بالسلام، وتم التطبيع علنًا أو سرًّا قبل الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة. وقَبِل العرب بكل اتفاقيات السلام؛ كامب ديفيد، أوسلو، وادي عربة، وقَبِلت فصائل المقاوَمة التهدئة مع العدو الصهيوني، والكف عن العمليات الاستشهادية، وإطلاق صواريخ قسام على المدن الإسرائيلية طبقًا لتفاهمات القاهرة بين فصائل المقاومة والسُّلطة الوطنية، وفي الوقت ذاته لم تتوقف حركة الاغتيالات لزعماء المقاوَمة وقادة الفصائل، وتشترط الآن إسرائيل والولايات المتحدة بل الاتحاد الأوروبي؛ عدم دخول حماس الانتخابات التشريعية، ويتذرعون بالديمقراطية، وينقدون النظم التسلطية في الوطن العربي، ويقع التناقض بين السُّلطة والمقاوَمة والتي قد تصل أحيانًا إلى درجة النزاع المسلَّح وهو الخط الأحمر الذي لا تتعداه السُّلطة أو المقاوَمة.
في هذا الجو العام من التنازلات المُستمِرَّة والإحباط المتزايد، والعجز المُطلَق ينطلق صوت الضمير من داخل الأمة الإسلامية بالتشكك في المحرقة التي يستعطف بها الكيانُ الصهيوني شعوبَ العالم، ويتَّخِذها ذريعة للعدوان الصهيوني على فلسطين وتأسيس دولة إسرائيل دون الحديث عن مذابح الشعب الفلسطيني على مدى أكثر من نصف قرن، فلا تقبل إسرائيل التشكك من أي شخص كان، أوروبيًّا أو غير أوروبي، أمريكيًّا أو غير أمريكي، في عقائدها وأساطيرها المؤسِّسة لدولتها؛ مثل الميثاق والوعد والأرض والاختيار والمدينة المقدَّسة والمعبد والهيكل، ولا في المحرقة التي راح ضحيتها خمسة ملايين من اليهود على أيدي النازية، وقد سبق من قبل محاكمة جارودي، والقبض على إرفين في النمسا للسبب ذاته. والغرب يدعي حرية البحث العلمي، نزاهته وموضوعيته وحياده، ويصرخ صوت الضمير بتحرير كل فلسطين من النهر إلى البحر، واسترداد حقوق الشعب الفلسطيني كاملة، وإذا كان الغرب معها إلى هذا الحد فلينشئها على أرضه، وإذا كانت المحرقة قد تمت في ألمانيا النازية فلتزرعها على أرضها، وليس في أراضي الغير، وقد كانت مثل هذه البدائل مطروحة من قبل: الأرجنتين في أمريكا اللاتينية، أو توجو في أفريقيا.
ليست القضية سياسة دولة وقنوات دبلوماسية وعلاقات دولية بل هي قضية ضمير. يصرخ في ماليزيا وفي إيران ولدى الشعوب في باكستان وأفغانستان ومسلمي الهند وإندونيسيا. السياسة مبادئ، والسياسات استراتيجيات ومصالح، قد تكلف صحوة الضمير العدوان عليه والتحرش به، والذرائع موجودة تلك التي سمحت من قبل بالعدوان على العراق؛ الأسلحة النووية، تخصيب اليورانيوم في حالة إيران، العداء للسامية في حالة ماليزيا، والتعصب الإسلامي لدى الشعوب الإسلامية، وقد يكون العقاب الطرد من الأمم المتحدة ومن باقي المنظَّمات الدولية والتي تسيطر عليها الأمم المتحدة وباقي القوى الكبرى، والأسد سيأكل الحَمَل على أية حال لتعكيره صفو الماء عليه.
صحوة الضمير تعبير عن الثورة وإن لم يكن تعبيرًا عن الدولة، تعبير عن المبادئ وليس مراعاة للمصالح. قد يكون المحافظون في الداخل ثوريين في الخارج، وقد يكون الإصلاحيون ثوريين في الداخل مهادنين للخارج، وفي هذه الحالة ما أحوج الأمة إلى قادة مصلحين في الداخل ثوريين في الخارج، أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ.
صوت الضمير، هو صوت الأجيال القادمة في حالة تَغيُّر موازين القوى، هو الذي يحافظ على استمرار الأمة في التاريخ ويحميها من الذوبان، يحافظ على هويتها، ويدافع عن كرامتها، يُعبِّر عن المسكوت عنه ضد المنطوق به، هو الأمل الذي لا يضيع، والنار التي لا تخبو، والمبدأ الذي لا يساوم، والروح التي لا تموت.
(٢) الجاسوسية بين الجريمة والاتهام٢
لا توجد علاقات دولية دائمًا؛ إذ تتغير التحالفات طبقًا لتغيُّر المصالح، فعداوات القرن التاسع عشر في الغرب بين فرنسا وإنجلترا، وعداوات القرن العشرين بين فرنسا وألمانيا، والحرب الباردة بين الغرب والشرق، والصراع التقليدي بين حلف شمال الأطلنطي وحلف وارسو، كل ذلك انتهى إلى نوع جديد من العلاقات الدولية، أشهره الاتحاد الأوروبي، والعالم ذو القطب الواحد، وهناك علاقات دولية أخرى ما زالت ثابتة في نصف القرن الأخير بين الوطن العربي من ناحية، والولايات المتحدة وإسرائيل من ناحية أخرى.
ويلعب الإعلام دورًا رئيسًا في تحويل أنماط هذه العلاقات الدولية من أَجْل أن تَتحوَّل الاختيارات والتقلبات السياسية لنظم الحكم إلى رأي عام، وحتى لا تبدو مجرد قرارات فردية أو مملاة من الخارج، وهو جزء من عملية تزييف الوعي السياسي سواء فيما يتعلق بالسياسات الداخلية أو السياسات الخارجية؛ فالإعلام هو الذي يصنع التاريخ المعاصر، تتحكم النُّظم السياسية من خلاله أكثر ممَّا تحكم بواسطة الجيش والشرطة وأجهزة الأمن.
ونموذج ذلك ما حدث أخيرًا مع إسرائيل، بالإفراج عن الجاسوس عَزَّام عَزَّام بعد أن أدانه القضاء المصري بجريمة التجسس وثبوتها عليه برسائل الشفرة مع الموساد الإسرائيلي، ورفضت السلطات المصرية أي ضغوط عليها من إسرائيل أو الولايات المتحدة من أجل الإفراج عن الجاسوس الإسرائيلي بدعوى استقلال القضاء المصري، وعدم جواز تدخُّل السلطة التنفيذية في السلطة القضائية، واحترم العدو قبل الصديق الموقف النزيه للنظام السياسي؛ حرصًا على الاستقلال الوطني للبلاد، والناس في دهشة: هل هناك عمال إسرائيليون في مصانع الغزل والنسيج في المحلة الكبرى، قلب مصر الصناعي؟
ثم تم الإفراج عنه فجأة وبلا سابق إنذار؛ فالسياسة لا تعرف الثوابت، كل شيء يخضع للتجارة، المكسب والخسارة، بشرط أن يكونَا فعلِيَّيْن وليسا وَهمِيَّيْن، فهل كان الدافع غزَل إسرائيل ودفعها إلى قبول المفاوَضات مع الفلسطينيين بعد أن كانت إسرائيل هي التي تسعى إلى التفاوض مع العرب؟ فشارون رجل سلام، ينسحب من قطاع غزة طوعًا أو تحت ضربات المقاوَمة، لعله يقبل أن يُطبِّق خارطة الطريق، وأن يكون الانسحاب من غزة مُقدِّمة لانسحابات أخرى من الضفة الغربية، وبداية مفاوضات الحل النهائي فيما يتعلق بانسحاب إسرائيل إلى حدود ٤ يونيو (حزيران) ١٩٦٧م بما في ذلك القدس الشرقية وحق العودة، والسيطرة على المياه، وهو ما ترفضه إسرائيل بلاءاتها الثلاثة: لا للانسحاب، ولا للقدس العربية، ولا لحق العودة، وعَيْن شارون «لا تُكْسَر» بالإفراج عن جاسوس في مقابل الاستيطان في «يهودا والسامرة»، وهي طريقة إدارة الشئون السياسية الخارجية عن طريق «كَسْر العَيْن»، وإكرام اللئيم ونسيان ثقافة شعبية أخرى تحذر من إكرام اللئيم.
قد يكون الدافع هو صفقة من أجل الإفراج عن الطلبة المصريين الستة في سجون إسرائيل بتهمة المقاوَمة والإعداد لعمليات استشهادية في بئر سبع، وشتَّان ما بين الموقفين. جاسوسية تضر بمصالح البلاد، واستشهاد يدافع عن كرامة الأوطان، والجاسوس الإسرائيلي يُقبِّل علم إسرائيل بعد الإفراج عنه، ويعلن بلهجة مصرية أنه كان ميتًا فأحياه رئيس الوزراء الإسرائيلي؛ فاليهودي المصري في إسرائيل يهودي، في حين أنه كان في مصر مصريًّا، سجن الوطني شرف، وإطلاق سراح الجاسوس خسة، فكيف يتساويان؟
وقد يكون الدافع هو غزَل أمريكا عن طريق غزَل إسرائيل، مَحمِيَّتها ورَبيبتها؛ لعلها تضغط على إسرائيل لقبول التفاوض، وتطبيق خارطة الطريق، ولماذا لا يتسابق العرب في إرضاء سيد العالَم والقُطب الأوحد فيه؟ فقبول العولمة، وإسقاط إرادة الدولة الوطنية المستقلة، وإدخالها في قوانين السوق أو الاستسلام لمطالب إسرائيل هما أقصر الطرق للتقرب إلى أمريكا وأكثرها نفعًا، وهو تَصوُّر شعبي للسياسة الدولية يقوم على التشخيص والتأثير في الرؤساء؛ حتى تتغير السياسات الموضوعية التي تقوم على ميزان القوى.
ولمزيد من إرضاء إسرائيل وأمريكا وفي الوقت ذاته الذي يتم فيه الإفراج عن الجاسوس الإسرائيلي بالرغم من إدانة القضاء له بجريمة التجسس والتخابر، يتم توجيه الاتهام إلى موظَّف سابق في السفارة الإيرانية وكان ذلك منذ عام مع مواطن مصري بتهمة التجسس لصالح إيران، وإذا كان ذلك صحيحًا، فلماذا الآن وفي توقيت الإفراج ذاته عن الجاسوس الإسرائيلي؟ قد يكون ذلك لمزيد من طلب القرب من الولايات المتحدة الأمريكية؛ فأمريكا تهدد إيران كل يوم، وتتهمها بإجراء التجارب النووية واستمرار المفاعلات الإيرانية بتخصيب اليورانيوم، وها هو دليل آخَر على أن إيران ما زالت لم تدخل بيت الطاعة بعدُ، وأنها «الولد الشقي» في المنطقة، وأن النظام الثوري الإسلامي يثير القلاقل في مصر، ويسبب الانزعاج لإسرائيل بتأييده سوريا وحزب الله، ولأمريكا برفض سياساتها في فلسطين والعراق وأفغانستان، ومن ثم تعطي أمريكا دليلًا جديدًا يُبرِّر لها العدوان على إيران كما اعتدت على العراق بالتهمة ذاتها، امتلاك أسلحة الدمار الشامل، وعلى أفغانستان بالاتهام ذاته، إيواء جماعات الإرهاب.
والعجيب هو الاعتراف بأن الجمهورية الإسلامية ليست مسئولة مسئولية مباشرة عن التجسس بل فقط الحرس الثوري، وهو تنظيم مستقل يرعى الثورة وليس الدولة، والحرس الثوري يُسبِّب مشاكل للدولة وللثورة معًا، وكان يمكن حل ذلك بالطُّرق الدبلوماسية وفي صمت وليس عن طريق الإعلان؛ إبقاءً على العلاقات التاريخية بين مصر وإيران وعدم إعطاء الولايات المتحدة ذريعة إضافية للعدوان عليها، والتخابر بين الدول مُتعارَف عليه، وكل دولة لديها جهاز للمخابَرات العامَّة لجمع المعلومات عن الأعداء والأصدقاء في كل مكان؛ حماية للأمن القومي، ومصر وإيران ليستا بدعة في ذلك.
ما زالت العلاقات المصرية الإيرانية بين مَد وجَزْر، كلما اقترب المد؛ رعاية للمصالح المشتركة، وتبديدًا لسوء التفاهم بين دولتين قائدتين في المنطقة، مصر في الوطن العربي، وإيران في العالم الإسلامي، وكلما قاربت العلاقات المصرية الإيرانية على العودة بإزالة العقبات كافة؛ مثل تغيير اسم شارع في طهران، لقاء بين الرئيسين؛ أسرعَ الجَزْر لمزيد من التباعد والاتهامات لصالح إسرائيل والولايات المتحدة ولهما أصابعهما في أجهزة الإعلام أو بسبب التَّشدُّد المحافظ في إيران الذي ما زال يغلِّب منطق الثورة على مصلحة الدولة، والنص على الواقع، والماضي على الحاضر والمستقبل، وظلت العلاقات المصرية الإيرانية تسير في مكانها، تُقدِّم رِجلًا وتؤخِّر أخرى، تمضي خطوة إلى الأمام وخطوتين إلى الخلف.
إن مصر قلب الوطن العربي ودول الجوار خاصَّةً إيران وتركيا تكون رصيد الصمود في مواجهة القطب الواحد، وحولهما ماليزيا وإندونيسيا وأواسط آسيا، بل الهند بعد نجاح حزب المؤتمر التقليدي، حزب غاندي ونهرو، وسقوط اليمين المتحالف مع إسرائيل والولايات المتحدة. إن الخلاف حول جُزُر الخليج بين الإمارات وإيران، والخلاف بين النظام الثوري في إيران والنظام العربي المتحالِف مع إسرائيل والولايات المتحدة، كل ذلك يمكن أن يوضع في إطار التناقض الثانوي في مواجهة تناقُض رئيس بين الوطن العربي والعالم الإسلامي من ناحية، الولايات المتحدة من ناحية أخرى.
فكيف يتم التضحية بمصائر الشعوب ومصالحها الدائمة من أجل مكاسب وقتية؟ وهل يمكن التغافل عن الواقع في سبيل الوهم؟
(٣) الدلالة المعاصرة للحج٣
الحج هو الركن الخامس في الإسلام وأكثرها شعائرية؛ لذلك يسمى باستمرار «مناسك» أي شعائر، في حين أن أقلها شعائرية هي الشهادة ثم الزكاة ثم الصيام ثم الصلاة، وتعني «حَجَّ» أيضًا جادَل وانتصرَ على الخصوم، ومن اللفظ أيضًا الحِجَاج؛ أي الجدل، والحُجَّة؛ أي الدليل. فالحج دليل على شيء، وليس المقصود منه المناسك.
وقد ذكر لفظ «حج» بمعنى الدليل في القرآن عشرين مرة، وبمعنى المناسك ثلاث عشرة مرة. فالحج دلالة ومعنى وليس شعيرة ونسكًا، والدلالة أهم من الدَّالِّ. الدلالة فعل في العالم وجهاد فيه أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. فمساواة الشعيرة بالدلالة ظلم؛ لأنهما لا يستويان، وقد تعني الحجَّة السَّنَة؛ لأنها مرة واحدة في العام يتخلله فعل وعمل وزراعة وتجارة وإنتاج كما طَلب شيخ مَدْيَنَ من موسى أن يعمل لديه ثماني حِجَج وإن عشرًا فمن عنده؛ مهر تزويج ابنته إليه عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ. فالحج تَطوُّع وليس مشقة، لمن استطاع إليه سبيلًا وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، والاستطاعة ليست فقط المال أو الجسم، بل أيضًا القبول العقلي، وهي القدرة على إتيان الشعائر. منها عزائم ومنها رُخَص. فإن لم يستطع إتيان الشعائر كلها عزيمة وحرفيًّا فعليه ما استيسر من الهَدْي. ومن عجز عن التحليق فعليه الفداء أو الصيام أو الصدقة أو النسك فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ. فمن لم يجد الهدي في العمرة أو الحج فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة بعد الرجوع إن لم يحضر أهله المسجد الحرام فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
وفي الممارسة الاجتماعية تحول الحج عند البعض إلى غرور وجاهٍ ولَقَبٍ وزَفَّة وتجارة ومنافع ومزايدة في الدين ورغبة في الشهرة والتستر على الغش والنهب والاستغلال بالدين والمَظاهر الشكلية، مع أن المقصود من الحج طهارة النفس، وتقوى القلب فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى.
إن الحج له منافع للناس وليس مجرد شعائر وطقوس، بل إن المنافع سابقة على ذكر الله وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ. فالطواف يأتي في النهاية وليس في البداية، وإطعام الجائع والفقير يأتي في البداية وليس في النهاية.
تلك هي الدلالة المعاصرة للحج والتي تتجاوز الشعائر والطقوس والأشكال الخارجية إلى المضمون في القلب وفي حياة الناس، التقوى الباطنية ومصالح الأمة.
(٤) خواطر حاج٤
دق جرس الهاتف خلال النهار قبل عيد الأضحى بأسبوع، يبلغ دعوة من وزير الإعلام والثقافة في المملكة العربية السعودية باعتباري أحد ضيوف شرف المملكة في الحج هذا العام، وكان صوتًا رفيعًا ذا جلال ووقار، من طبيعة المملكة وهيبتها. فرفضتُ على التو؛ فالوقتُ متأخر، ومثل هذه الدعوات يُخَطَّط لها من قبل بعدة أشهر حتى يتم وضعها في برنامج المدعو جيدًا بوقت كافٍ. فالمفكرون لديهم ما يشغلهم من مشاريع الإصلاح، واحترامهم واجب وضروري. هذا بالإضافة إلى أن المدعو قد قام بالعمرة من قبل، وعرف كيف يؤديها الناس، وحج جديد قد لا يزيد المعرفة به كثيرًا، وهل يملك المفكر أسبوعًا يقضيه في الحج وهو في بداية كتابة محاولته الرابعة لإعادة بناء العلوم الإسلامية القديمة، علوم التصوف، ويريد إنجازه بعد عام؟ وهذا العام يخلو من الأسفار الكثيرة؛ ممَّا يسمح بالتدوين السريع، وحدث ذلك بعد استشارة زوجته لعل لها رأيًا آخر، وكانت تخشى عليه، وهو المفكر الحر، من المجتمع المحافظ ونُظُم الحكم التقليدية، وما زال حادث اختطاف بن بركة واغتياله في الأذهان.
وفي أثناء الليل ربما هتف هاتف: هبْ أنها دعوة لندوة أو مؤتمر أو محاضرة أو حوار أتكون قد رفضت؟ ولماذا لا تعتبر الحج مثل الندوة؟ اقبل وازدد معرفة. فالعمرة الأولى مجرد «بروفة» للحج، تخلو من الملايين، وأنت لم تَزُر المدينة ولا قبر الرسول، ولا تعرف عرفات ومِنى ورمي الجمرات وكل مصطلحات الحج كالميقات والتشريق والهَدْي والتحليق، والرمية الكبرى والرمية الوسطى والرمية الصغرى، وأسررتُ إلى الزوجة الهاتف الجديد فنصحَتْ بالقبول إذا كانت الدعوة ما زالت قائمة؟
وبعد السؤال، الدعوة ما زالت قائمة، والمغادرة بعد أربعة أيام. المهم إرسال جواز السفر وصورتين للقيام بإجراءات تأشيرة الدخول وإصدار بطاقة السفر، ولما كان اليوم هو الاثنين، موعد الدراسات العليا بعد الظهر، وكانت وكالة الأنباء السعودية بجوار كوبري الجامعة أخذتُهما بنفسي قَبْل الدرس، وأرسلتُ أحد المساعدين بعد يومين لاستلام تأشيرة الدخول وبطاقة السفر، وبالفعل بدأ الاستعداد للسفر، المغادرة يوم الجمعة والعودة يوم الخميس، ستة أيام بأكملها يستطيع الباحث أن يكتب في الصباح الباكر قبل أن يغادر لتأدية المناسك، وأخذ معه آخر نص «رسالة المسترشدين» للمحاسبي لتحليلها وبعض رسائل الترمذي وأصحاب الشطحات ونصوص الحلاج لتكفي عمل ستة أيام، ونسخة من كتابه الأخير «حصار الزمن» الذي يهدف إلى إخراج الأغلبية من أسر الماضي، وانحسار الطبقة الوسطى عن الحاضر، وقفز الأقلية نحو المستقبل، وقد تصور أنه يوجد على الأقل كرسي ومنضدة ومصباح، وأنه قادر بين المناسك على أن يفكر وقت الراحة. فيعمل العقل مع عمل الجوارح.
وفي يوم الخميس مساءً ليلة السفر عرف الأهل والأصدقاء بسفر الحاج؛ فقد أبلغت إحدى الأخوات التي اتصلت مصادفة للتهنئة بالعيد القادم، وما إن علمت حتى ذاع الخبر. فالمجتمع مجتمع حكاية. يُذاع فيه الخبر أسرع من أجهزة الإعلام وثورة الاتصالات الحديثة، وانهالت المكالمات للتهنئة بالسفر إلى الحج؛ لأنها مكتوبة مع أنها قرار فردي لا دخل فيه لأحد، وكل مكالمة تطلب دعوة وتحقيق مصلحة فردية. فالأم تريد دعوة؛ كي تنجب ابنتها، والأخت تريد تذكير الرسول بما طلبته منه سابقًا وهي مجاورة في مسجده لمدة شهر، وكانت النية معقودة على ثلاثة أشهر، لولا أن المدة القصوى لتأشيرة الحج شهر واحد، وثالثة تريد أن أختار لها دعوة وظروفها معلومة، وتجمعت في ليلة حاجات المجتمع المصري وإحباطاته، وعجزه عن تحقيق ما يريد، ولم يبقَ له إلا الدعاء في الحرم المكي أو المسجد النبوي كملجأ أخير، بالرغم من وصف إقبالٍ الدعاء بأنه سؤال وشحاذة، ومن يُريد شيئًا فعليه أن يحققه بنفسه وجهده، ويستطيع عالِم الاجتماع جمع هذه الطلبات وتحليلها اجتماعيًّا لمعرفة حاجات المجتمع وكيفية تحقيقها كما فعل آخرون في تحليل النداءات على عربات النقل في «هتاف الصامتين» أو في الرسائل التي يرسلها أصحاب الحاجات إلى مسجد الإمام الشافعي في «رسائل الإمام الشافعي» وفضل بعض الأقارب الجيران الزيارة شخصيًّا، للتهنئة في المساء مع الأطفال، وعادةً ما تكون ليلة السفر لإعداد الحقائب وتَذكُّر ما يجب أخْذُه خشية النسيان، وفي الوقت ذاته، الخميس مساءً، يتحدث أحد نجوم الصحافة يحكي قصة حياته كرواية مشوقة بطلها راوي القصة والأحداث تدور حوله كلما اقتربت القصة من النهاية والأحداث المعاصرة التي هو ليس فقط شاهدًا عليها بل صانعها، واختلط نظام الأولويات بين الرد على المكالمات الهاتفية والزيارات الشخصية والواجب السياسي لمعرفة كيف تُروى أحداث العصر خاصَّةً وأن الراوي قد اقترب من مقدمات ثورة يوليو والمُفكِّر أيضًا أحد شهودها. كانت ليلة مرهقة بسبب الضغوط الاجتماعية على الأفراد، وسيطرة الدين كملجأ وملاذ.
كانت الحيرة يوم السفر بأي ملابس يسافر الحاج، باللباس العادي ثم يغيره بعد الوصول إلى ملابس الإحرام، وهو أقرب إلى التواضع وإخفاء النيات وأقرب إلى التقوى، أما لبس الإحرام منذ مغادرة المنزل فيرى الجيران الحاج ويدعون له بقبول الدعوة، وهو يزهو عليهم بالإيمان الفياض، وبالنعمة الوفيرة، وفي الأحياء الشعبية تصدح الزغاريد من النوافذ من رَبَّات البيوت، ويصاحب الأطفال العربات حتى تزداد سرعتها عن سرعتهم. وفضل الأستاذ الخيار الأول، وغادر بالملابس العادية، ووجد الناس في المطار وقد فضَّلوا الخيار الثاني، زِي الإحرام، يختالون من لحظة وزن الحقائب حتى لحظة عبور الشرطة والصعود إلى الطائرة، وتذكر العالم قول المسيح: إذا أردت أن تصلي فلا تصلِّ أمام الناس حتى لا تأخذ جزاءك منهم، بل ادخل إلى غرفة وأغلق الباب وصلِّ لله حتى لا يراك إلا أبوك الذي في السموات، والشعائر تظاهر أمام الناس، وأكثر الشعائر مظهرية، مناسك الحج، وفي الطائرة البعض يلبي بصوت مرتفع، يقود باقي الأصوات، والبعض الآخر يقرأ القرآن. يسبِّل بعينيه، ويتمتم بشفتيه، ويتراقص برأسه من عمق التدبر، والزبيبة على الجبهة، وفضلت تحليل التائية الكبرى «نظم السلوك» لابن الفارض استعدادًا لتحليلها في «من الفناء إلى البقاء» لإعادة بناء علوم التصوف.
وفي أثناء الطيران يعلن قائد الطائرة أن من أراد الإحرام الآن فليفعل. فنحن نطير الآن بالقرب من الميقات حيث يجوز بدء الإحرام، وكيف يتم ذلك في الطائرة ودورة مياهها لا تتسع لخلع الملابس العادية ولبس ملابس الإحرام؟ وهما دورتان للدرجة السياحية لا تتسع لعدد غفير، ولم يتحرك أحد. فمن نوى الإحرام فعل في منزله، ومن نوى بعد الوصول فإنه ينتظر.
كان الطيران المدني العادي قد توقف منذ يومين، وكل المسافرين ينتقلون إلى قرية الحُجَّاج حيث ينتظر الجميع ساعات وساعات للتأكد من تأشيرة الحج، وبالرغم من دعوة مجموعة من الإعلاميين والفنانين والمفكرين، حوالي خمسة عشر، والبعض مع زوجاتهم وانتظار وفد من وزارة الثقافة والإعلام في قرية الحُجَّاج، فإن إجراءات الخروج قد استغرقت حوالي ساعتين، أوراق تُعد، وأوراق تُلصق، وأوراق تُملأ، ومعلومات مكررة ومعروفة منذ ملء استمارة طلب تأشيرة الدخول، وعشرات الإجراءات بلصق كوبونات وأرقام سرية من أكثر من جهة؛ المطار، وزارة الحج، أجهزة الأمن، واختلطت الانفعالات بين السعادة للقدوم والشقاء لطول الإجراءات الإدارية، وكان آخِر الذين أنهوا إجراءات الخروج هو الوفد الرسمي المدعو دعوة رسمية لكثرة الإجراءات وضرورة الإعفاءات من رسوم الحج، وتمنى المدعو رسميًّا أن يكون ضمن عامَّة الحُجَّاج حتى تقل الإجراءات، ويسري عليه ما يسري على باقي البشر، ويتعامل الموظفون مع القادمين المُحْرِمين كوحدات بشرية أو كائنات حية، تتماثل وتتشابه، وليس كأفراد، لكل منها شخصيته المستقلة واحترامه الواجب. فلأمن النظام الأولوية المطلقة على كرامة الفرد، وتم الوصول إلى فندق «السلام هوليداي إن»، لفظ عربي يوحي بدلالات سياسية معاصرة، ولفظ وافد يوحي بصناعة أمريكية. كانت النية وضع كل شخصين في غرفة واحدة، ممَّا أثار المفكر، واعتراض الجميع. فالعادات مختلفة، والسن مُتقدِّمة، والعالِم يستيقظ قبل الفجر للكتابة؛ ممَّا يقلق شريكه في الغرفة. فتم التراجع من فورنا.
وفي اليوم التالي اختار البعض الذهاب إلى مكة لطواف القدوم وسعيه، واختار فريق آخر الذهاب إلى المدينة؛ لأنه سيذهب إلى مكة لقضاء مناسك الحج في اليوم التالي في كل الأحوال، وانضم المفكر إلى فريق المدينة. استغرق الطريق حوالي أربع ساعات، وبعد الاستقرار في فندق ماريوت دقائق حتى حملت عربة الفندق المجموعة إلى المسجد النبوي، المدينة أقل ازدحامًا من مكة، وأكثر عصرية وحداثة، والمرور أمام قبر النبي يتطلب السرعة، وحرس المسجد والجنود يهيبون بالإسراع، وبين القبر والمنبر الروضة الشريفة، يصلي فيها المسلمون؛ كي يغفر الله لهم من ذنوبهم ما تقدم وما تأخر، وقد جلس المفكر بين المنبر والقبر؛ كي يشعر برياض الجنة ودون أن يتنازل عن مسئوليته عن أفعاله وعن قانون الاستحقاق.
وطريق العودة من المدينة إلى مكة استغرق ضِعف مدة القدوم من مكة إلى المدينة؛ لأن الناس تريد القيام بطواف القدوم وسعيه، والتفتيش على الطريق يوقف العربات والهاربين والقائمين إقامة لا شرعية، وقبل كمين التفتيش بأمتار تتوقف الحافلات لينزل من بطنها من أماكن العفش بعض الآسيويين الهاربين، وطوابير السيارات طويلة يستغرق المرور على نقطة التفتيش ساعات وساعات لإبراز جواز السفر أو تصريح المرور أو الدعوة للزيارة. وما أسهل من إقامة أكثر من نقطة؛ كي يمر الحجاج سريعًا بدلًا من عذاب الانتظار.
ثم يتم الوصول إلى مكة، مدينة مغلقة. لا تسير فيها العربات أو الحافلات للازدحام، وسد الطرقات بعيدًا عن منطقة الحرم المكي، ولدخول المصلين أو خروجهم من الحرم في صلاة الفجر، ولما كان المَدْعُوون مجموعة ممثلة من العالم الإسلامي كافَّة ما يقارب الستين لم تنتظم المواعيد، وكأن التأخير هو السُّنة المتبعة، في حين أن الإسلام هو دين الوقت، والمحافَظة على أداء الواجبات في أوقاتها حتى لا تتم قضاءً بل أداءً، وليس على التراخي بل مِن فَوْرِهم، وكثيرًا ما تدافعت الوفود للحاق بشيء دون نظام، والإسلام دين النظام، وإن الله لا ينظر إلى الصف الأعوج في الصلاة.
والطواف حول الكعبة تضيق دوائره بالقرب منها وتبتعد دوائره بالبعد عنها حتى تصل إلى الطوابق العليا في الحرم، ودورة منها على هذا الاتساع تُعادِل سبع دورات ضيقة حول الكعبة مباشرةً، وتتقاتل الناس في الطواف رجالًا ونساءً، شيوخًا وأطفالًا. كل رجل يحمي نساءه أمامه، ويحوط حولهن ذراعيه أو يحمل أطفاله على كتفيه. الرجال ملفوفون بالبياض والنساء يلتحفن بالسواد، والكل يرفع يديه، يُحَيِّي مَقام إبراهيم. أما الوصول إلى الحجر الأسود لتقبيله أو رؤيته من بُعْد فمن شبه المستحيلات، والكعبة بناء أسود مُغطًّى بقطيفة سوداء مُذهَّبة عالية البنيان، عريضة الحائطين. يلف الناس حولها. توحي للناظر بالوثنية القديمة في العصر الجاهلي قبل أن يطهرها الإسلام من الأصنام، وينظم الطواف حولها بلباس الإحرام، كتفٌ عارٍ وليس بالعري كله، وبالهتاف والدعاء وليس بالتصفيق والأجراس، ربط الجديد بالقديم، والمسلمين بالحنفاء، وللرسول بإبراهيم، من بقايا الوثنية القديمة وبعد تهذيبها، وحول قبة صغيرة تكاد لا ترى أمامه ضخامة الكعبة وجموع الطائفين؛ تُرْفَع الأيدي للتحية. إنه مَقام إبراهيم، وفي الشام أيضًا، المسجد الإبراهيمي في نابلس. فإبراهيم هو أول المسلمين، وأُمَّته هي أمة الإسلام. والسعي مثله سبع مرات بين الصفا والمروة مُغطًّى بسقف الحرم، أقل ازدحامًا، ويستطيع ذوو الحاجات الخاصَّة استعمال كرسي بعجلات يدفعها هو بنفسه أو من أحد الأقرباء، ويسعى وهو جالس، وأمام الحرم النبوي ساحة كبيرة يفترش الناس فيها العراء، وتقوم آليات التنظيف الحديثة بكنسها أولًا بأول، وتلم الشباشب والأغطية والأمتعة الخاصَّة ومُخلَّفات الأطعمة في أكياس كبيرة من البلاستيك ثم تنظف الرخام بالماء وتجففه ليعود إلى الاتساخ من جديد، وأمام الساحة على الجهة المقابِلة دورات المياه لقضاء الحاجات.
ويوم عرفات زحف الحجيج إلى الجبل من عشرات الطرقات والجسور مثل جيش سليمان، نمل أبيض يتحرك من كل حدب وصوب إلى أعلى، وعلى جانبي الطرقات عربات الإسعاف أو الطعام أو الشراب، وتَقْذِف عربات النقل الكبرى وعليها أسماء الملوك عُلبًا من الوجبات الجاهزة أو أكياسًا من الماء البارد، ويحمل البعض أطفالهم على الأكتاف هذه المسافات الطويلة ولعدة ساعات أو يصحبونهم لو كانوا قادرين على السير، وهناك مكاتب للحجيج الضائع مثل مكاتب الأشياء المفقودة، والكل يلبي، وبين الطرقات والهضاب تبدو الخيام مزروعة في كل مكان، قباب في قباب، لها اللون البني الفاتح ذاته، وما ليس له خيمة تحميه، الشوارع تُؤويه إما في خيم يدوية، مجرد قبة من القماش على مربع من الصلب لحمايته، وفي الغالب زرقاء اللون، وإما في العراء فوق الأرصفة أو تحتها، نساءً وأطفالًا وشيوخًا وشبابًا بجوار سِلال القمامة والقطط تسرح بينها وتطوف حولها ومن دون دورات مياه، ووسط الطرقات تسير العربات، في داخلها بشر، وفوقها بشر، وعلى جوانبها بشر. تبدو وكأنها مجموعة متحركة من البشر. لا تتوقف. تسير ببطء وتؤدة، وشمس واحدة تسطع عليها، وتتجه نحو غاية واحدة، وتبتهل إلى إله واحد، وتخلو من خطبة الوداع كما فعل الرسول في حجه الأخير على عرفات. يبين فيها حال الأمة. فالغاية من هذا التجمع الكبير هو إعلان حالة الأمة ومسارها في التاريخ، بين أصدقائها وأعدائها، بين انتصاراتها وانكساراتها، بين إنجازاتها وتحدياتها. ما زال الخوف من تسييس الحج قائمًا، ومن ثم تم تفريغه من مضمونه، بدعوى لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة. والإسلام لا يعرف هذه التفرقة بين ما يجب أن يكون، وهو الدين، وما هو كائن أي السياسة. اليهودية ملكوت الأرض، والمسيحية ملكوت السموات، والإسلام تحقيق ملكوت السموات في الأرض. هو تحقيق المثال في الواقع وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ، وخشية أن يختلف المسلمون مع أن الاختلاف رحمة، والتوحيد قادر على جمع الأمة على الحد الأدنى من الاتفاق على المصالح العامَّة، وأين تتجه هذه الملايين نحو عرفات أم نحو القدس؟ مقاوَمة سلمية تحج إلى القدس، إلى المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين كما فعل غاندي في الهند عندما جلس ملايين الهنود على الأرض في الميدان العام الذي لم تستطع سنابك الخيل البريطانية دهسه، وكما فعل المسلمون في طهران عندما وقفوا بالملايين يحيطون بالكلية الحربية الموالية للشاه.
وفي لقاء مع صاحب الدعوة، وزير الثقافة والإعلام، وبعد مفتي الجزائر ومفتي تركيا ومفتي الفلبين عَن دلالة الحج في حياتنا المعاصرة وإلقاء خُطب الوعظ والإرشاد في الحج، طُلب من المفكر الحديث. فركَّز على دلالته المعاصرة في خمس؛ الأولى: المفارَقة بين التوحيد والتجميع ولَمِّ الشتات والاجتماع في مكان واحد وزمان واحد لكل المسلمين من كل حدب وصوب ومن كل فج عميق من ناحية وفرقة الأمة في الواقع لدرجة الحروب بينها وعدوان بعضها على البعض الآخر وعمق الانتماءات القُطْرية والقومية والعرقية والطائفية والقبلية والعشائرية من ناحية أخرى، والثانية: المفارَقة بين المساواة التامة للبشر في القامة واللباس والشكل واللون بما يدل عليه الإحرام، والتفاوت الطبقي والاجتماعي والبشري بين المسلمين، أغنياء وفقراء، عظماء وبسطاء، مستكبرين ومستضعفين، حكامًا ومحكومين، مديرين ومُدارين، والثالثة: ضرورة عَقْد حلقات بحث بين علماء الأمة حول أهم موضوعات الساعة كالاحتلال والقهر والتفرق والتخلف والتبعية والاغتراب واللامبالاة حتى تعي الأمة مشاكلها وحلولها. فليس المقصود بالحج حفظ مناسكه وإلا تحول الإسلام إلى صورية وقعت فيها الشريعة اليهودية ونقدها المسيح والرسول، والرابعة: هذا المركز الواحد الذي تتجه إليه الملايين والذي يرمز إلى مليار وربع من البشر، خُمس سكان المعمورة، من الثقل بمكان بحيث لا يمكنه الانحياز إلى مركز آخر، شرقًا أم غربًا لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ. القلب لا يميل إلى أحد الجناحين. هو مركز الثقل في الجسم، كما أن المسلمين في أفريقيا وآسيا مركز الثقل في العالم، والخامسة: هذا التجمع البشري الروحي الذي يمتلك من الإمكانات المادية: الطاقة، والمعادن، والمحاصيل الزراعية، والمنتجات الصناعية، والإمكانات المعنوية؛ العقول والسواعد ما تؤهله أن يكوِّن تكتلًا اقتصاديًّا كبيرًا مثل مجموعة الثماني وغيرها من التجمعات الإقليمية، يقوم بالتصدير بدلًا من الاستيراد، ويمارس الإبداع عوضًا عن النقل. وأُعطيت بعض الأحاديث الصحفية والمقابلات الإعلامية والتعليقات الإذاعية تحمل أبعاد الاستنارة وتحمل هموم الأمة من دون خوف من المحافَظة الدينية والسياسية. فالاختيار بين العقل والعنف يكون لصالح العقل، وبين الإصلاح والانقلاب يكون لجانب الإصلاح، وبين الرأي والرأي الآخر من ناحية، والمواجهة الأمنية بين الشرطة وجماعات العنف السياسي تكون لصالح الرأي والرأي الآخر، وما كان ممنوعًا من قبل من الكتب بالرغم من تهريبها في القصور ولدى الشباب أصبح الآن مسموحًا به. فوجود الكتاب خير من تهريب السلاح.
وإلى متى تتحرك الملايين لرمي الجمرات من على الجسور أو الأنفاق، وهي على أنواع، ممتدة على ثلاث ليالٍ، الجمرة الكبرى والجمرة الوسطى والجمرة الصغرى، وللجمرات عدد محدد، سبع ثم إحدى وعشرون ثم إحدى وعشرون، ومجموعها تسع وأربعون، وموعدها بعد غروب شمس كل يوم، ومكانها من فوق الجسر إلى أسفله أو في النفق أمام الحائط المبني كالتمثال في الجاهلية. فإذا أراد بعض الحجاج المتعجلين المغادرة فعليه توكيل أحد برمي الجمرات بدلًا عنه أو التضحية بفِدًى أو إعطاء ثمنه لشركة استثمارية أو بنك إسلامي ليقوم بالفِدَى بدلًا عنه بالرغم من المآسي التي شاهدها المسلمون من شركات توظيف الأموال، وتتحمس الألوف في المكان الضيق ذاته، تصرخ وتزبد وترمي بأقصى قوة من الأمام؛ فتصيب الحائط، ومن الخلف؛ فتصيب الرءوس في الصفوف الأمامية؛ فتنزف الدماء، ويموت العشرات، وقد يتعثر أحد الحجيج فوق الجسر بسبب ما يحمله فوق كتفيه من حطام الدنيا؛ فيقع هو وحمله؛ فيتعثر المتسرعون، ويقعون على الأرض، ويقع التالون لهم، ويهرع الكل، ويدوسون بالأقدام الحجيج على الأرض، وتكون النتيجة مئات القتلى، والكل يهتف: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والشكر.» في حين أن مَن قتل نفسًا فكأنما قتل الناس جميعًا، ومن أحيا نفسًا فكأنما أحيا الناس جميعًا، وفي رمي الجمرات يصرخ الكل، ويضرب بأقصى قُوَّته الشيطان، وكأن الحرب قد قامت، والنصر قد تم، وهزم العدو وولى الدبر، وأين يكون رمي الجمرات الآن في عرفات أم في فلسطين؟ ضد الشيطان أم ضد العدو الصهيوني؟ بالحصى أم بالصواريخ؟ رمزًا أم حقيقة؟ وفي كلتا الحالتين، يسقط الشهداء.
كان من واجبات الضيافة تناول طعام الغداء مع الملك، خادم الحرمين الشريفين، وكان قصرًا باهرًا في بنائه وزخرفته واتساعه. حتى لقد تَخيَّل البعض نفسه في الجنة، وليس على الأرض، ومواد بنائه كلها مستوردة، الرخام والبلور والموائد والكراسي بعد أن تعب المَدعُوُّون من الجلوس القرفصاء في أثناء الغداء والعشاء في الأيام التالية، وسلم كل مدعو باليد فردًا فردًا، ولم ينتظر المدعوون قدوم الملك للشروع في تناول الغداء. فقد نُسِي السلام، وحضر الطعام، وكان خطاب الملك تقليديًّا دينيًّا خالصًا يخلو من موضوعات الساعة التي تشغل بال المُثقَّفين والإعلاميين والعلماء، وتمنيت حين المغادرة أن آخذ كل هذه الخراف واللحوم والأسماك والجمبري والشيش كباب معي إلى بولاق الدكرور والأباجية وقلعة الكبش لإطعام فقراء المسلمين وسكان المقابر.
وكانت البطون من قبل قد أُتخمت من كثرة ما يُقدم من خراف مرتين يوميًّا ظهرًا ومساءً في صوانٍ مستديرة وسط أكوام من الأرز (المنسف) والناس جلوس على الأرض حول المفارش المشمَّع ووسطها الصواني المستديرة، وكبار السن يتألمون من الجلوس على الأرض بعد أن صعب ثني ركبهم وضم الساقين، وانتفخت بطون الجميع، وامتلأت الأمعاء بالغازات، وظل الحجيج يسعى بين دورات المياه لإعادة الوضوء والصلاة وصواني الخراف وأداء الشعائر، وعاش الكثير منهم الصراع بين حوائج البدن ومطالب الروح، بين البيولوجيا والأيديولوجيا، بين متطلبات الأرض ونوازع السماء، وكان الأطباء في الوفد مع عميد كلية الطب ووكيلها يعطون الأدوية لتسهيل الإخراج بعد الإمساك، أو لإمساك الإخراج بعد الإسهال.
وفي النهاية يتم التحلل من الإحرام، وكان حرامًا قبلها الحلق أو التطيب أو الاستحمام بصابون ذي رائحة طيبة أو حتى عند البعض دعك الأسنان بمعجون به رائحة النعناع أو الفواكه؛ حتى لا ينعم الحاج بطيب الحياة وهو مُحْرِم، وكأن النظافة ليست من الإيمان، وكأن الإسلام ليس دين النظافة، وكأن النظافة ليست أساس الطهارة، وفي الحلق، يفضل البعض حلق شعر الرأس كليةً فيصبح الحاج أصلع، وينتقل موسى الحلاقة من رأس إلى رأس دون تطهير؛ بالرغم من مخاطر «الإيدز» الذي ينتقل عن طريق الدم. والأنوار ساطعة فوق الرءوس بدلًا من أن تخرج منها.
وفي طريق العودة، بالرغم من أن الوفد كان بدعوة رسمية من وزارة الثقافة والإعلام، وهي التي حدَّدتْ موعد السفر وموعد العودة إلا أن سلطات المطار رفضت مغادرة الوفد؛ لأن مناسك الحج لم تَنْتهِ بعد. فكيف نغادر فجر اليوم الثالث وينقصنا رمي الجمرات الوسطى في اليوم الثاني الأربعاء، والصغرى في اليوم الثالث الخميس، والمفروض أن نعود من المناسك يوم الجمعة، ويبدأ الفوج الأول للمغادَرة يوم السبت. فلا بد من إذْن من وزارة الحج بأن أداء المناسك قد اكتمل. فالدين أساس الدولة، وبعد أن وافقت السلطة الدينية على الخروج وافقت السلطة الأمنية.
وكما بدأ الحج بتهنئة الأقارب والأصدقاء انتهى أيضًا بالتهنئة بسلامة الوصول خاصَّةً بعد أنباء شهداء الحجيج الذين سقطوا فوق جسر الجمرات بالمئات بالتدافع طبقًا للرواية الرسمية، وبدفع رجال الأمن الحجيج لإفساح الجسر لمرور شخصية كبيرة مسئولة. والناس طبقات، وأصحاب البلاد لهم الأولوية في الحج على عامَّة المسلمين.
ومن ضمن المناسك الشعبية شراء الهدايا للأقارب والأصدقاء. فالحج تجارة، وأشهر شارع للهدايا شارع غزة الذي يقود إلى الحرم، وليس القطاع في فلسطين المحتلة، وهي صورة غزة أيضًا في مصر قبل احتلال إسرائيل لها في الانتفاضة الثانية بعد عسكرتها. ولا بد من إرضاء الجميع حتى لا يحزن أحد لم ينله من بركة الحج شيء. يأخذ البعض هداياه عندما يأتي للتهنئة، وتُرسل الهدايا إلى البعض الآخر الذي لا يستطيع القدوم. فقد ترامت أطراف القاهرة من مدينة السادس من أكتوبر حتى مدينة العاشر من رمضان. يبدي البعض فرحه بالهدية، ويبقى البعض الآخر على الحياد، حياء أو استصغارًا، وفي المقابل كان المهنئون قديمًا يحملون معهم أقماع السكر وزجاجات شربات الورد الأحمر تهنئة للحاج قبل عصر المعلبات والعصائر، بالإضافة إلى الذبح ووضع وشم الكف الملطخ بالدم على مدخل المنزل حماية للحسد مع كتابة العبارة الشهيرة «حج مبرور، وذنب مغفور.» وفي الأحياء الشعبية يستقبلون الحاج بالمزامير والفِرَق الموسيقية الشعبية وحملة الأعلام والمباخر وكأنه راجع من الانتصار على أعداء المسلمين.
الحج هو الركن الخامس للإسلام لمن استطاع إليه سبيلًا، ولا تعني الاستطاعة هنا فقط القدرة المالية أو الجسمية، بل أيضًا العقلية على تحمل هذا الجانب الشعائري الذي ينسى فيه الناس المرموز، ويأخذون الرمز، ينسون الدلالة، ويأخذون الحركة، وهو أثار الصوفية ضد الفقهاء؛ لذلك كتب أبو حيان التوحيدي «في الحج العقلي إذا ما ضاق الفضاء عن الحج الشرعي»، ومما خَفَّف هذا الجانب الصوري نقاش الوفد المصري بين أعضائه حول أمور الدين والدنيا؛ فقد كان متنوع الاتجاهات، بين من يحتمي بالنص، ومن يعتمد على العقل، ومن يدافع عن مصالح المسلمين، منهم الإعلاميون والموسيقيون والمسرحيون والفنانون التشكيليون ومسئولو العلاقات الثقافية في وزارة الثقافة والمفكرون. يجمعهم هَم واحد، الدين والوطن، وفي حواراته مع باقي الوفود من المغرب العربي أو إيران أو تركيا، وعادةً ما يلتقي المصريون في الخارج أكثر ممَّا يلتقون في الداخل. فالوطن يُفرِّق ولا يجمع.
وفي النهاية، تتفاوت أركان الإسلام الخمسة بين الواقع والرمز. أولها الشهادة، «أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.» والشهادة ضد الكتمان والخوف، وهي شهادة على العصر حتى ولو كان جزاء الشاهد أن يكون شهيدًا، فكلاهما شهادة، وتكون الشهادة بفعلين؛ فعل سلبي «لا إله» لنفي كل آلهة العصر المزيفة من مال وثروة وشهرة وجاهٍ وقوة ونساء، وهي آلهة العصر، وفعل إيجابي «إلا الله» من أجل إثبات الإله الواحد الحق الذي يتساوى أمامه الجميع. فهو أقل الأركان شعائرية وصورية. تكفيه النية بالقلب حتى دون النطق باللسان والتمتمة بالشفتين، والزكاة ثاني الأركان والخالية من الشعائرية مثل الشهادة، هو فعل مباشر للمشارَكة في الأموال والثروات، فللفقراء حقوق في أموال الأغنياء، والثالث الصيام وهو فعل يقوم على الإرادة والإمساك عن الطعام والشراب؛ إحساسًا بجوع الفقراء. فهو مثل الزكاة من حيث العدالة الاجتماعية، بالعطاء في الزكاة، وبالمِران والاستعداد في الصيام، والرابع الصلاة، وشعائرها حركات الجسد في الركوع والسجود، وهي مفيدة للجسم وليونة الأعضاء، والوضوء نظافة للبدن، والطهارة صحة، دلالتها إتيان الواجبات في أوقاتها، من فورها وليس على التراخي، أداء لا قضاء. أما الحج فهو أكثر الأركان شعائرية من طواف وسعي، وتشريق ورمي للجمرات، وحلق وفِدًى، وكلها رموز لدلالات، ثم نسي الناس الدلالات وأبقوا على الرموز؛ فوقع الحج في الصورية والشكلية والشعائرية، هدفه تجميع الأمة ومساواة أفرادها، توحيد للعرب تحت إمرة قريش حتى تجتمع لها الثروة والسلطة، التجارة والإمارة، والمسلمون اليوم بددوا ثرواتهم، وتسلطوا على الداخل، وتابعوا الخارج. فأضاعوا التجارة والإمارة. فأين علماء المسلمين اليوم الذين يعيدون التفكير في كيفية أداء المناسك؛ كي يحافظوا على أرواح المسلمين ومصالحهم ومسارهم في التاريخ في نظام دولي أحادي القطب يضع غيرهم في المركز، وهم في الأطراف؟
(٥) العدل الإلهي في جنوب شرق آسيا٥
أبدع الفلاسفة في كل العصور وفي كل الثقافات نظريات في «العدل الإلهي» يبرئون فيها الله عن فعل الشر. فالله عادل رحيم، والشرور في العالم ظلم وقسوة، وإذا كان الله هو خالق العالم فكيف يصدر الشر عن الخير، والظلم عن العدل، والقسوة عن الرحمة؟ وكما برأ الفلاسفة الله عن فعل الشر فإنهم لم يستطيعوا جعل الإنسان بإرادته الحرة أو المجبرة مسئولًا عنه. فالإرادة من خلق الله، والعقل القادر على التمييز بين الحسن والقبيح من خلق الله وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ. لم يبق لدى فريق منهم إلا نفي الشر من أساسه. فالله خير، ولا يصدر عنه إلا الخير في الإنسان وفي الطبيعة. الإنسان خيِّر بطبيعته وفطرته، ولو تُرك وحيدًا في الطبيعة لما عرف الشر، والطبيعة خيِّرة. كل شيء فيها متفق مع حاجات الإنسان: الماء للشراب، والهواء للاستنشاق، والنبات والحيوان للغذاء، والشجر والأحجار للإيواء. الشر سوء في الفهم أو خطأ في الحكم، وليس في طبائع الأشياء. الشر وجهة نظر، وليس في الموضوع، في المعرفة وليس في الوجود.
وأكبر مثالين على ذلك ليبنتز في الفلسفة الغربية، والمعتزلة في الفلسفة الإسلامية. فعند ليبنتز، هذا العالم هو أفضل العوالم الممكنة، ولا يوجد أفضل منه. ولو وجد أفضل منه لخلقه الله بالفعل، وكل شيء فيه يحدث طبقًا لقانون الانسجام والتآلف الذي قام عليه الكون. فلا تناقض فيه، ولا يند فيه شيء عن العقل والفهم. والعالم مكوَّن من ذرات روحية وليست مادية، والأرواح تتوافق ولا تتخالف، وعند المعتزلة كل ما في هذا العلم صلاح، ويتفاوت الصلاح بين الأقل صلاحًا والأكثر صلاحًا. فالشر هو صلاح أصغر في سبيل صلاح أكبر. الجراثيم لاكتشاف الدواء، والهزائم لمعرفة مقومات النصر، والموت طريق إلى إطالة الحياة، وهو معنى الآية عَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، والله لطيف بالعباد لا يفعل إلا ما فيه مصلحتهم. الشر ظاهر، والخير باطن، والإنسان في حكمه السليم يتجاوز الظاهر إلى الباطن، والشر الأصغر لخير أكبر، ويُعوض عن الآلام يوم القيامة. يُعوض للمظلوم بالاقتصاص من الظالم، ويُعوض للشاة المذبوحة بأن تكون شاة أعظم وأسمن وأجمل يوم القيامة، ويُعوض الأطفال والشهداء والأبرياء؛ فالظلم في العالم جزء صغير من نظرية أكبر في العدل الشامل.
وهناك فريق ثانٍ من الفلاسفة وهم المانويون، يرى أن الشر موجود في العالم، داخل في نسيج الوجود، ولا يمكن جعله فقط مجرد خطأ في الحكم أو مناسبة حاضرة لخير قادم. وهناك صراع فِعْلي في الكون بين الخير والشر كمبدأين متساويين في القوة، ومن هذا الصراع تنشأ الحياة، وانتشر هذا التيار في ربوع آسيا في الصين وفارس، وآخرون يرون أن الشر في النفس، في الأهواء والانفعالات والرغبات والميول واللذات البدنية. والخير هو السيطرة عليها، وتطهير النفس، والدخول في الكون في حالة من الرضا العام أو الفناء، وهو موقف البوذية في الهند، والصوفية عند المسلمين، وقد توسط بعض الفلاسفة القائلين بنظرية الفيض بين هاتين النظريتين، نفي الشر وإثباته بأن جعلوا الشر مرتبة دنيا في الوجود، وفوقها مرتبة عليا، وكلما صعدنا إلى أعلى قل الشر وزاد الخير، والذروة خير مطلق بلا شر، وكلما هبطنا إلى أسفل قل الخير وزاد الشر. والقاعدة شر مطلق بلا خير، والإنسان بين الاثنين يستطيع أن يدرك ذلك بعقله؛ حتى يصل إلى أعلى عليين أو أسفل سافلين، ويتم ذلك بالضرورة وليس بالإرادة، بالتأمل وليس بالفعل.
وجاء المعاصرون مثل جان بول سارتر، وجعلوا الشر في العالم وفي الإنسان، في الوجود وفي الإرادة وسماه «عدم»، فالوجود عدم، يقوم على لا شيء، وليس له أساس، والحرية ليس لها هدف ولا غاية، حرية عادمة، وكل ما في الكون وفي الإنسان يبعث على الغثيان والقرف. اللاوجود أساس الوجود، والإنسان دودة تنخر في تفاحة، هو تجويف في الأرض وليس بروزًا فيه.
فأي النظريات في العدل الإلهي أقرب إلى تفسير ما حدث في جنوب شرق آسيا وغضب المحيط وثورة تسونامي الذي كلف ما يقارب ربع مليون شهيد معظمهم من المسلمين؟ مَن المسئول عن ذلك؟ الله أم الطبيعة أم الإنسان؟ في نظرية العدل الإلهي الله ليس مسئولًا عن الشر في العالم والإنسان، بل عن الخير فقط. الخير من الله والشر من النفس، وإذا كانت النفس من خلق الله، فكيف يصدر الشر عن الخير؟ ولماذا هذه القسمة التي يبدو فيها الإنسان مسئولًا عن الشر وحده دون الخير، وكأن الإنسان لا يفعل إلا الشر. أما الخير فمن غيره ومن خارجه؟ ولِمَ هذه الثنائية في مصادر الفعل وهي أقرب إلى الشرك، القول بفاعلين، وليس التوحيد القول بفاعل واحد؟ هل يعاقب الله المسلمين لإهمالهم وكسلهم وتخلفهم وعدم قيام السلاطين بالدفاع عن الأوطان وبتحقيق العدل أو العلماء بواجباتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ هل يعاقب الله الأوروبيين لأنهم احتلوا بلاد غيرهم، وحولوا العالم إلى متجر، والمعبد إلى دكان، وكأن الدنيا هي البداية والنهاية؟ وماذا عن الأطفال الأبرياء غير المكلفين الذين غرقوا وطوتهم الأمواج؟
هل الخطأ في الطبيعة، والطبيعة هي المسئولة عن مآسي البشر؟ وفي نظرية العدل الإلهي العالَم مخلوق، والخير لا يخلق إلا خيرًا، ولماذا يكون الإنسان هو الخاسر إذا ما غضبت الطبيعة، وهو لا يستطيع السيطرة على قاع المحيط، وليس مسئولًا عن تكوين القشرة الأرضية، ولا عن كيفية انفصال الكرة الأرضية عن الشمس، ولا عن عدم استقرار القشرة الأرضية، ولا عن عدم برودة جوفها، ولا عن حزام السلاسل الكبرى في آسيا أو الصغرى في أفريقيا؟ وإن قدرات الإنسان في النهاية أضعف من قدرات الطبيعة، ومهما بلغ الإنسان من قدرة على السيطرة على الطبيعة، إقامة السدود والجسور لِتجنُّب غضب المحيطات والفيضانات، فإنه يظل محدود القدرة، واليابان التي بلغت الذروة في العلم والتكنولوجيا وطُرق مقاومة الزلازل الأفقية والرأسية بطرز البناء وأساليبه وأنواعه لم تنجُ من مخاطر الزلازل والبراكين، ولماذا لا تكون الطبيعة لصالح الإنسان كما تقرر نظرية العدل الإلهي؟ ولماذا لا يكون الإنسان سيد الطبيعة كما هي الحال في النموذج الغربي؟
وإذا كان الخطأ إنسانيًّا، فهل كانت إقامة محطات إنذار مبكر في قاع المحيط أو على الشاطئ كافية لتجنب كوارث تسونامي؟ ألا يتفق البناء قريبًا من الشواطئ مع مقتضيات المنتجعات السياحية؟ أليس البناء بالأخشاب يتفق مع بيئة الغابات؟ وقد سئم السيَّاح الغربيون من سكنى ناطحات السحاب ويريدون الاستجمام في الأكواخ الخشبية وسط الغابات أو على شواطئ المحيطات. هل خطأ الأوروبيين أنهم يهربون من البرد القاسي في شتاء أوروبا للاستجمام بدفء الشمس، من أقصى شمال أوروبا، البلاد الإسكندنافية إلى جنوب شرق آسيا؟ لقد فَنِيَت أُسَر بأكملها. أخذها الموت على حين غِرَّة، وإن تبقى واحد منها فالأب من دون أسرة، أو الطفل من دون عائلة. تَيتَّم الأطفال، ونشطت شركات النخاسة لشرائهم في سوق العمال الرخيصة أو من أجل متعة الشواذ جنسيًّا.
وتسابقت الدول في العطاء من أجل الغوث والمعونة. سبقت اليابان الدولة الغنية غير الإسلامية والتي تَعْرِف مآسي الكوارث الطبيعية، وتَخلَّفت أمريكا أولًا وتبرعت بعشرات الملايين من الدولارات وهي التي تنفق المليارات في الحروب والعدوان على الشعوب. وجاءت الدول العربية والإسلامية في نهاية المطاف، ليس لضيق ذات اليد. فأموال النفط تتراكم في البنوك الغربية، وحياة البذخ والترف والسَّفَه في الإنفاق شاهدة للعيان. والأخوة الإسلامية، والأمة الواحدة ورابطة الدين والتاريخ والجوار الجغرافي لم تجعل العرب والمسلمين أكثر كرمًا وسخاء من النصارى والكفار.
فماذا يقول الفلاسفة؟ كيف يعيدون صياغة العدل الإلهي؛ من أجل استيعاب ربع مليون شهيد في جنوب شرق آسيا، معظمهم من خير أمة أُخرجت للناس؟ أين العدل في الكوارث الطبيعية والمآسي الإنسانية التي لا يستطيع الإنسان لها دفعًا؟ فإما تبرئة الله وتخطئة الطبيعة، والطبيعة خيِّرة من صنع إله خير، وإما تبرئة الله والطبيعة وتخطئة الإنسان، وهو ما يفوق قدراته، ومن مبادئ الشريعة عدم جواز تكليف ما لا يطاق رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ، وماذا يقول الفلاسفة الجدد لمراجعة الفلاسفة القدماء؟
(٦) التشريع الجنائي الإسلامي بين الحقوق والواجبات٦
عُقد في مدينة إسلام آباد بين ٢٦–٢٨ من مايو الماضي ندوة دولية بعنوان «التشريع الجنائي الإسلامي وحقوق الإنسان» نظَّمه مجلس الأيديولوجية الإسلامية التابع لرئاسة الجمهورية الباكستانية، وافتتحه رئيس الجمهورية بنفسه، مبيِّنًا أهمية التحديث والتجديد والاجتهاد والتكيُّف مع ظروف العصر، وكان لي شرف إلقاء المحاضرة الافتتاحية بعده أمام خمسمائة من علماء باكستان، ومُمثِّلي الدول الأجنبية، وبعض أجهزة الإعلام.
وكان الدافع وراء إنشاء هذا المجلس هو تجديد العلوم الإسلامية الموروثة بما يَتَّفِق مع روح العصر، وتحقيقًا لأصل الاجتهاد، وهو أحد واجبات علماء الأمة، وكان من أهم إنجازاته إعادة النظر في قانون العقوبات في تطبيق الشريعة الإسلامية وهي المصدر الرئيس للدستور الباكستاني؛ فقد قامت دولة باكستان على أساس الإسلام بعد تقسيم الهند إثر الصراع الطائفي بين المسلمين والهندوس الذي لم تنجح حركة المقاوَمة السلمية عند غاندي ولا حزب المؤتمر القومي عند نهرو في إيقافه.
وكان الدافع لتناوُل هذا الموضوع في ندوة دولية هو الهجوم المستمر للمستشرقين وأجهزة الإعلام الغربية على الإسلام كدين وحضارة وثقافة، وعلى المسلمين كشعوب ودول وحكومات بأنَّنا ما زلنا نعيش في الماضي، ولم نَتكيَّف مع مُعطَيات العصر، وأن هناك صراع حضارات بين الإسلام والغرب، يربط الإسلام بالتخلف والقسوة والإرهاب والعنف والتسلط والقهر والتعذيب وخرق حقوق الإنسان في مقابل حضارة الغرب، نموذج التقدم والحرية والسلام والحوار والديمقراطية وموطن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ويكون هذا الصراع الحضاري مقدمة لتبرير الغزو على الشعوب الإسلامية بدعوى الإرهاب والعنف، وامتلاك أسلحة الدمار الشامل، وبمثل هذه الذرائع تم غزو أفغانستان والعراق والشيشان، ويستمر التهديد لإيران وسوريا ولبنان والسودان، وبالرغم من أن الواقع يكشف عن هذا الادعاء بعد فضائح التعذيب في سجن أبي غريب وجوانتانامو، وتعذيب بعض معتقليه في بعض النظم السياسية العربية، وتأييد الغرب لأبشع النظم التسلطية خارج حدوده، واستعماله المعيار المزدوج في حكمه على الآخرين، إلا أن تشويه الحضارات والشعوب اللاأوروبية ما زال مستمرًّا.
ومن الداخل يُوجِّه العلمانيون مثل هذا الانتقاد للتشريع الجنائي الإسلامي، خاصَّةً العقوبات البدنية ضد دفاع السلفيين والمحافظين عنها، ويُطالِبون بتطبيق القانون المدني الحديث؛ نظرًا إلى ما قد يسببه تطبيق الشريعة الإسلامية في الظروف الحالِيَّة من خطورة على وحدة الأوطان، والمساواة بين المُواطنين في الحقوق والواجبات، وقد تم تطبيق القانون المدني الحديث في كثير من البلدان العربية والإسلامية إبان تجارب التحديث في القرنين الأخيرين منذ أن عرَّب الطهطاوي قانون نابليون «الشرطة»، ومحاولات إعادة قوانين الأحوال الشخصية وإلغاء المحاكم الشرعية.
ويقف المجدِّدون موقفًا وسطًا بين السلفيين والعلمانيين؛ من أجل تحديث الشريعة إعمالًا لمبدأ الاجتهاد، وأُنْشِئت لجان متخصصة لذلك؛ لتقنين الشريعة الإسلامية بناء على ظروف العصر الحاضر؛ فقد أدى التطبيق الحَرْفي للشريعة الإسلامية إلى خطرَين عظيمين؛ الأول تهديد وحدة الأوطان في البلاد مُتعدِّدة الثقافات مثل بعض البلدان الأفريقية التي في شمالها يقطن المسلمون عربًا وأفارقة، وفي جنوبها يقطن الأفارقة، مسيحيين أو ذوي ديانات محلية؛ مثل السودان، ونيجيريا، وتشاد ومالي، أو في بعض البلدان مُتعدِّدة الطوائف؛ مثل لبنان ومصر وسوريا والأردن والعراق، والثاني الاصطدام مع حقوق الإنسان ومواثيقها التي أقرَّتْها الأمم المتحدة وفي مُقدِّمتها «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» والإعلانات الأخرى عن حقوق المرأة والطفل والشيخ والأقليات، فمن حقِّ الذِّمِّي ألَّا يُطبَّق عليه الحد، ومن حق المرأة والرجل الاحترام من دون التشهير العَلَني، والجسد حق من حقوق الفرد، لا يجوز بَتْر أعضائه أو تعذيبه أو حتى القصاص منه جزئيًّا أو كليًّا تحت أي ظرف وإلا نشأ مجتمع من المُشوَّهِين والعاطلين، وبالرغم من أن حقوق الإنسان مشروطة بالثقافات المحلية؛ مثل حق الإجهاض والشذوذ الجنسي والعري في الثقافة الغربية من دون غيرها، وحقوق الإنسان الفردي دون حقوق الشعوب في «الإعلان العالمي»، وبالرغم من الازدواجية في التطبيق بين الإنسان الأوروبي والإنسان غير الأوروبي فإنها أصبحت عالمية؛ نظرًا إلى سيادة الثقافة الغربية في إعلان مواثيقها وسيطرة القوى الغربية على المُنظَّمات الدولية في إصدار قراراتها، ومن ثم أصبحت ثقافة عالمية بفعل القوة ومن لا يلتزم بها يصبح خارجًا على الشرعية الدولية ويستحق العقاب.
وقد حاوَل ذلك من قبلُ عبد القادر عودة في «التشريع الجنائي الإسلامي، مقارنًا بالقانون الوضعي» الذي صدر في جزأين قبل أن يستشهد في ١٩٥٤م، جمعًا بين الخصوصية الإسلامية والعمومية القانونية، ووضعت في إطارها التاريخي القديم والحديث؛ فقد كان كثير من التشريعات الجنائية الإسلامية لها ما يشابهها في التشريعات الفارسية والرومانية القديمة؛ مثل الصلب، وقطع يد السارق، وكان الرجم عقابًا على الزنا في الشريعة اليهودية، وقد أتت المسيحية للتخفيف منها رحمةً بالناس، والتحول من شريعة الجوارح إلى شريعة القلوب، كما حاوَل الصوفية بعد ذلك. فالزنا زنا القلب والعين، وأتى التشريع الإسلامي تخييرًا بين الشريعتين وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ. العين بالعين والسن بالسن شريعة يهودية فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ أقرب إلى المسيحية، والتشريع الإسلامي خيار بين الاثنين.
والحدود في الإسلام جزء من كل، وتطبيق الشريعة الإسلامية لا يعني فقط تطبيق قانون العقوبات، بل يعني تطبيق النظام الإسلامي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والقانوني ككل، والحدود أصغر جزء فيها. النظام الإسلامي ككل حقوق، والحدود واجبات، ولا توجد حقوق من دون واجبات، ولا واجبات من دون حقوق، ومن حق المسلم الغِذاء والسكن والتعليم والزواج والعلاج وتوفير فرص العمل من بيت المال، فإذا استوفى حقوقه طُولِب بواجباته في عدم القتل والسرقة والزنا وشرب الخمر، ولا يمكن تطبيق حد القتل في مجتمع يقتل بعضُه بعضًا، ولا حد السرقة في نظام يسرق فيه الشريف فيُتْرَك، ويسرق فيه الضعيف فيُطَبَّق عليه الحد، أو في مجتمع كله سارق، ويقوم الحارسون عليه بنهب المال العام، ولا حد الزنا في مجتمع لا يستطيع فيه الشباب الزواج المُبكِّر، وتزخر إعلاناتُه وأغانيه و«الفيديو كليب» بالإثارات والإيحاءات الجنسية.
ليس القصد من الحد العقاب، بل التنبيه على خروج الطبيعة البشرية عن كمالها الطبيعي. «الحد» اشتقاقًا يعني ما لا يجوز الخروج عليه أو تجاوزه؛ لأنه إغراق للطبيعة، والإسلام دين الطبيعة والفطرة. تعني العقوبةُ فقط أن لكل فِعل ردَّ فعل، ولكل سببٍ نتيجةً، ولكل عمل أثرًا؛ فأعمال البشر لها آثارها الحسنة والقبيحة في الدنيا منفعةً أو مَضرَّةً، وفي الآخرة ثوابًا وعقابًا. العقوبة من «العقب»؛ أي الأثر، وما يأتي عقب شيء ما. الغرض منها الهداية والنذير وإرجاع الطبيعة إلى مسارها الصحيح، وليس الإيلام والإيذاء، وإحداث العاهات، وتشويه السمعة، الغاية منها الردع والإيحاء والتَّنبيه والتحذير وليس التطبيق الآلي. هي أشبه بجرس إنذار، ليس الغرض منها القسوة بل الردع، كما هي الحال في الأسلحة الذَّرِّيَّة والكيميائية، ليس للاستعمال بل للتخويف.
هذه هي فلسفة التشريع الجنائي الإسلامي على غير ما تُصوِّره أجهزة الإعلام الغربية وما قد يُقْصَد من استعمال المحافظين لها؛ زيادة في الحَمِيَّة وحرصًا على حقوق الله، وحقوق الإنسان أولى بالحفظ، ويظل السؤال قائمًا: إلى أي حدٍّ تتفق العقوبات البدنية مع حقوق الإنسان؟ وقد آن للمُشرِّع أن يجيب عنه.
(٧) العقوبات البدنية وحقوق الإنسان٧
وحدث شبه إجماع في المؤتمر الدولي عن «القانون الجنائي الإسلامي في عصر العولمة» الذي عُقد بإسلام آباد بباكستان في ٢٦–٢٨ من الشهر الماضي، على ضرورة إعادة النظر في العقوبات البدنية، ومدى اتفاقها أو اختلافها مع حقوق الإنسان كما حددتها المواثيق الدولية العامَّة والخاصَّة، الغربية واللاغربية، وما أكثر الأدلة على إمكانية إعادة فهم قانون العقوبات في الإسلام بحيث لا يتعارض مع حقوق الإنسان، وهي ثقافة العصر، من داخل الشريعة الإسلامية نفسها وليس من خارجها.
فالأحكام الشرعية، ومنها الحدود، ليست أحكامًا نظرية مُجرَّدة تُطبَّق في المطلق، بل هي أحكام «وضعية» بتعبير الشاطبي في «الموافقات» مغروزة في الواقع وقائمة عليه مثل السبب والشرط والمانع. فلا يُطبَّق حد إلا إذا توفرت أسبابه، وتحققت شروطه، وغابت موانعه؛ فلا تُقْطَع يد سارق إن لم تتوافر لديه أسباب الحياة الكريمة، وإشباع الحاجات الأساسية من عمل وغذاء وكساء وسكن وتعليم وعلاج، وبعد غياب الموانع من بطالة وجوع وعري وعراء وجهل ومرض، وقد عَلَّق عمر تطبيق حد السرقة عام الرمادة؛ عندما عم الجوع وتقيح جلده من تحريم السمن على نفسه حتى يطعم كل المسلمين، وقد عُرف عمر بجرأته في التشريع بتعليقه سهم المؤلَّفة قلوبهم بعد انتصار الإسلام وكثرة المسلمين، وتحريمه توزيع أرض السواد في العراق كغنيمة بين المحاربين؛ حتى لا يركنوا إلى الأرض، ويستقروا فيها، ويتركوا الفتح والجهاد في سبيل الله.
والعقوبات نوعان، النفس وما دون النفس. النفس في القصاص، وما دون النفس في العقوبات البدنية على السارق والزاني. أما فيما يتعلق بغير النفس فهذا أمره التعويض المادي، وهو ما لا يتعارض مع قيمة الحياة أو البدن كحق طبيعي للإنسان.
وقد اختلفت فلسفات القانون والتشريعات المدنية. البعض يقره وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ والبعض الآخر لا يقره؛ لأن مجموع الخطأين لا يكوِّن صوابًا، وبدلًا من قتيل يكون هناك قتيلان، وهو نوع من الإسراف في القتل، وتعتمد فلسفة القصاص على التوحيد بين الذات والصفات والأفعال كما تفعل المعتزلة في تصور الألوهية. فما دامت الأفعال إجرامية تُعبِّر عن صفات إجرامية، فإن الذات لا وجود لها ومن ثم وجب إعدامها، في حين تعتمد فلسفة منع القصاص على تصور الأفعال والصفات زائدة على الذات، كما تفعل الأشاعرة في تصور الألوهية، وأنه مهما بلغت أفعال الإجرام وصفاته فإنها زائدة على الذات، ولا يمكن مساواة الذات بها؛ ومن ثم وجب الحفاظ عليها وليس إعدامها. يمكن حماية المجتمع منها بعقوبة الحبس مدى الحياة دون إعدامها. والعجيب أننا في عقائدنا أشاعرة نختار ما يقوم على الرحمة، ونختار القصاص الذي يقوم على فلسفة الاعتزال التي تقوم على العدل.
وفي حالة قطع الطريق أو الإفساد في الأرض، فإن العقاب هو قطع اليدين والرِّجلين من خِلَاف، ثم الصَّلْب على جذوع النخل، وقطع الطريق وترويع الآمنين والإفساد في الأرض جرائم بشعة، عقوبتها الإعدام؛ ترويعًا للآخرين وردعًا لعدم تكرار ذلك، ولكن القتل شيء، والتقتيل شيء آخر، ولا يمكن الجهر بذلك الآن أو ممارسته.
بل يُفصِّل القدماء طُرق القصاص بالسيف أو من دونه، ويقيس المُحْدَثون على السيف الرمي بالرصاص أو الشنق، كما يفصِّل القدماء طرقًا أخرى؛ مثل الخنق والحرق والغرق والسم والرمي من أسطح المنازل، ويستعمل في أمريكا الآن الكرسي الكهربائي؛ ممَّا يجعل الجسد يقشعر من التقتيل، وتحدثت كتب التاريخ عن القتل عن طريق «الخازوق».
وهي القضية ذاتها في موضوع الرجم حتى الموت الذي كان شائعًا في اليهودية، وجاء السيد المسيح بتفضيل الرحمة عليه «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر.» والإسلام خيار بين الاثنين، ولا يمكن تطبيق هذه العقوبة اليوم، وهي غير معمول بها حتى في القوانين المدنية المطبقة حاليًّا في معظم الدساتير العربية، ويتساوى المواطنون في القصاص من دون تفرقة بين حر وعبد، وذكر وأنثى، ومسلم وكتابي، وشريف ووضيع.
أما الرِّدَّة والحِرابة والبغي والخروج؛ فكلها اتهامات سياسية من السُّلطان ضد خصومه، ومن الدولة ضد المعارَضة؛ فالرِّدَّة تفتيش في ضمائر المؤمنين وهو ما لا يبيحه الشرع، وسيف مسلط على رقاب المفكرين والأدباء والعلماء، يعارض الشريعة لأنه لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ، وعادةً ما لا يتحول أحد عن الإسلام إلى غيره من الديانات، بل يَتحوَّل أصحاب الديانات الأخرى إلى الإسلام. فإذا حدث استثناء واحد أو اثنان، فإنه لا يطعن في القاعدة، و«الحِرابة» أيضًا اتهام من الدولة للمعارَضة المُسلَّحة، وكل فريق سياسي يَدَّعي أنه هو مُمثِّل الله ورسوله ويُطبِّق حدَّ الحرابة على مخالفيه، والبغي أيضًا عدوان فريق من الأمة على فريق آخر، مع ادعاء كل فريق أن الطرف الآخر هو الباغي، والحقيقة أنه «إذا اقتتل المسلمان بسيفيهما؛ فالقاتل والمقتول في النار.» القاتل نعم، والمقتول؛ لأنه كان حريصًا على قتل صاحبه، والخروج اتهام أيضًا من الدولة ضد كل الخصوم السياسيين، بعد أن جرَّبوا كل الوسائل السلمية؛ مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة، واللجوء إلى قاضي القضاء، وفي الفقه القديم باب عن كيفية «الخروج على الحاكم الظالم».
أما العقوبات فيما دون النفس؛ مثل قطع اليد أو الأنف أو خزق العين «العين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص» فقد عملت القوانين المدنية على تجاوزها بِالدِّيَة والتعويض، وإلا نشأ مجتمع من المبتورين والمجدوعين ومقطوعي الآذان والألسُن ومفقئي العيون.
فأوَّلها حد السارق بقطع اليد وهو النموذج الذي يأخذه الإعلام الغربي لبيان التعارض بين الحدود وحقوق الإنسان، والحقيقة أنه لا يُطبَّق الحد في حالة العوز والبطالة والفقر، وهناك حد أدنى للمسروق لا يجوز دونه قطع اليد، وهناك السرقة في مجتمع كل مَن فيه سارق، والسرقة إحدى وسائل إعادة توزيع الدخل، كما قال عديد من الفلاسفة الاشتراكيين الطوباويين؛ مثل روسو وبرودون، ويطبق الحد على الجميع وليس «إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف طبقوا عليه الحد.» ولا حدَّ في مال غير مُحرَّز؛ أي غير محروس، ولا حدَّ فيما هو مشاع بين الناس، ملكية عامَّة؛ مثل الماء والكلأ والنار والمصحف.
ويصعب إثبات جريمة الزنا؛ شهود أربعة يرون القضيب في الفرج كالمِرْوَد في المِكْحَل! ممَّا يدل على أن المقصود هو الفعل العلني الفاضح؛ لذلك لم يُطبَّق الحد إلا في حالة الاعتراف، ولا يجوز التلصص؛ لأنه جريمة. لا يمكن إثبات جريمة بارتكاب جريمة أخرى، كما تَسلَّق عُمرُ السور ورأى قاطنه يشرب الخمر فبطلت شهادته، ونادرًا ما حدث تطبيق الحد كما تدل على ذلك حادثة الغامدية التي أتت الرسول للاعتراف بارتكابها جريمة الزنا وتطبيق الحد عليها وهي حامل؛ فقد صرفها الرسول حتى تضع حملها، فلما عادت وهي تحمل الطفل صرفها حتى تفطمه، فلما عادت للمرة الثالثة لتطبيق الحد طَبَّقه بناءً على اعترافها ثم طلبِها، وأثنى على توبتها الصادقة.
وهناك وسائل عامَّة وخاصَّة من أَجْل إيقاف الحد؛ مثل «الضرورات تُبيح المحظورات» في حالة السرقة عن جوع أو بطالة أو عَوَز أو فقر أو مرض، وأيضًا «ادِّراء الحدود بالشبهات»، وتَلمُّس الأعذار للسارق.
ومنها أيضًا قبول الدِّيَة أو التعويض. الدِّيَة في القتل من الوَلِي؛ فهو الوحيد الذي في مقدوره العفو لتجاوز الألم الشخصي لفقدان القتيل، وهناك الكفارات، تحرير رقبة وهو ما يصعب الآن لانتهاء نظام الرِّق، وإطعام ستين مسكينًا وهو ما يسهل الآن إذا كان الفرد قادرًا على تحويله من سارق إلى كريم، ومن آخِذ إلى معطٍ، وصوم شهرين متتابعين؛ تطهيرًا للنفس وتقوية للإرادة، ويكون ذلك في العبادات والمعاملات على حدٍّ سواء.
وهناك من يرى أن تطبيق الحدود مشروط بوجود الإمام؛ أي الدولة الإسلامية التي تكون فيها الحدود مساوية للحقوق، وليس خارج الدولة الإسلامية لتطبيق الحدود من دون حقوق.
إن اختلاف الفقهاء والمدارس الفقهية في الحدود يسمح بالحركة لاختيار أنسب الحلول، وأكثرها اتفاقًا مع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وإذا لم يُسعف الفقه القديم، يمكن إبداع فقه جديد، فلم يتوقف الاجتهاد، وما زال مفتوحًا إلى يوم الدين.
والأخطر الآن ليس إعادة النظر في قانون العقوبات وحقوق الإنسان، بل في الربط المتناسب بين الجريمة والعقاب، واليوم كم من جرائم تُرتكب من الأفراد والجماعات والدول الكبرى من دون عقوبات، وكم من العقوبات توقع على الأفراد والجماعات والدول الصغرى من دون جرائم.