ما بعد الاستعمار
(١) مستقبل الدولة الوطنية١
الدولة الوطنية هي وريث الإمبراطوريات الكبرى القديمة؛ الفارسية والرومانية واليونانية والمسيحية والنمساوية والفرنسية والبريطانية وربما الأمريكية عن قريب عندما ينحسر المحافظون الجدد، وتعود أمريكا إلى حدودها الطبيعية محاصَرة بين المحيطين الأطلسي والهادي، قارة وسط البحار مثل أستراليا. خرجت الدولة الوطنية خارج حدودها بل خارج مُدُنها في لحظات المد؛ فقد كانت الدولة هي المدينة؛ مثل أثينا وروما، ثم عادت إليها من جديد في لحظات الجَزْر؛ مثل فرنسا بعد هزيمة نابليون في واترلو. وأصبحت النزعات العرقية وأحيانًا الطائفية أسسًا للدولة الوطنية الوليدة، بالإضافة إلى مفهوم الحدود الطبيعية الجغرافية؛ مثل نهر الراين بين فرنسا وألمانيا، وجبال البرانس بين فرنسا وإسبانيا، وسهل اللومباردي بين إيطاليا وألمانيا، وفي هذا الإطار السياسي نشأت الصهيونية على النمط ذاته كأيديولوجية سياسية عرقية طائفية تبحث عن موطن جغرافي لها أي مكان على الأرض، في أفريقيا أو في أمريكا اللاتينية أو في فلسطين.
وكما نشأت الحروب بين الإمبراطوريات من أجل التوسع الإقليمي وضم التكوينات العرقية والطائفية واللغوية والجغرافية في كيان سياسي واحد اسْتُؤْنِفت الحروب بين الدول الوطنية للسيطرة على المصالح ولبقايا تكوينات عرقية وطائفية من العصر الإمبراطوري القديم أو الحديث. فنشأت النازية كنزعة عرقية لتكوين دولة وطنية كبرى في ألمانيا والنمسا وكل المناطق الناطقة بالألمانية، ونشأت الفاشية لتكوين إمبراطورية إيطالية كبرى تضم الناطقين بالإيطالية وبالمستعمَرات الرومانية القديمة في ليبيا وامتداداتها الجديدة في إريتريا والصومال والحبشة.
وفي أثناء الإمبراطورية العثمانية بعد هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى ١٩١٤–١٩١٨م وقبل إلغاء الخلافة في ١٩٢٤م، احتلَّت الدولُ الوطنية الاستعمارية فرنسا وإنجلترا خاصَّةً ممتلَكات الرجل المريض، المغرب العربي لفرنسا، والمشرق العربي لفرنسا وإنجلترا، ومن أجل مساعدة الحلفاء في الحرب ضد دول المحور؛ وعدت بريطانيا بتكوين تجمُّع عربي بديل بعد معاهدة سايكس بيكو؛ المملكة العربية في الحجاز والشام، ثم الجامعة العربية لتجميع الدول العربية في إطار منظمة إقليمية عام ١٩٤٥م، وُلِدَت في رأي البعض مَيِّتة؛ تنفيذًا لإرادة الدول الكبرى ورغبات الملوك.
وقامت الدولة الوطنية بتجديد شبابها بتجديد زعاماتها الوطنية التي استطاعت تجميع الشعوب في الداخل من أجل الحصول على الحرية والاستقلال من الدول الاستعمارية، وأدَّت دورها بنجاح في الحصول على الاستقلال الوطني، وتحوَّل زعماء حركة التحرر الوطني إلى أول رؤساء للدول، وتحوَّل النجاح على الصعيد الخارجي إلى نجاح آخر على الصعيد الداخلي، وكانت أكبر مكسب في مرحلة ما بعد الاستعمار؛ أعطت الشعوب الإحساس بالعزة والكرامة، وساعدت الدول الوطنية التي تَحرَّرت أولًا مثل مصر باقي الدول الوطنية التي ما زالت تُناضِل من أجل الاستقلال في المغرب العربي؛ ليبيا وتونس والمغرب وأخيرًا الجزائر، ودول المشرق العربي خاصَّةً في اليمن، وقد خرج معظمها من الحركة الإصلاحية في المغرب والمشرق؛ في المغرب عمر المختار، السنوسية، جمعية علماء الجزائر، البشير الإبراهيمي، عبد الحميد بن باديس، علَّال الفاسي، وفي المشرق عند الكواكبي والزبيري والأفغاني ومحمد عبده وسعد زغلول وحسن البنا والمهدية.
وقامت الدول الوطنية بإنجازات كبرى في الخمسينيات والستينيات بفضل الضباط الأحرار، وثورات الجيوش الوطنية التي استأنفت النضال الوطني للأحزاب السياسية بعد أن ضَعُفَت ولم يكتمل الاستقلال بعدُ؛ نظرًا إلى وجود القواعد العسكرية الأجنبية على الأراضي الوطنية. وكان أهمها بناء الدولة الاشتراكي، والإصلاح الزراعي، والتصنيع، وحقوق العمال، وإنهاء الإقطاع وحُكم أحزاب الأقَلِّيَّة المتعاونة مع الإنجليز والقصر، ومجَّانية التعليم، وظهور القومية العربية كحركة تحرُّر وطني وفَرْضها نفسها كحياد إيجابي بين القُوَّتَين العظميين في ذلك الوقت، والتوسع في إنشاء المدارس من أجل القضاء على الأمية.
ثم تَعثَّرت الدولة الوطنية؛ فكل مد له جَزْر، وكل قيام يعقبه انهيار؛ فقد همشت الحركة الإسلامية التي خرجَت حركاتُ التحرر الوطني منها، واعتبرَتْها منافسًا لها على السُّلطة مثل كل القوى السياسية التي كانت جزءًا من الجبهة الوطنية؛ مثل الماركسيين والليبراليين، واصطدمت معها، وحَلَّتها، وأدخَلَتها السجون، وحكَمَت بمفردها بنظام الحزب الواحد من دون تداوُل للسُّلطة حتى ضاعت التعددية السياسية، وسادت نُظُم القهر والتَّسلُّط والطغيان، وتَغيَّرت الحركة الإسلامية في السجون تحت أهوال التعذيب، وتَحوَّلت إلى حركات تكفيرية للمجتمَع الجاهلي كله، كما حدث لسيد قطب في «معالم في الطريق» بعد أن كتب قبل السجن «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، و«معركة الإسلام والرأسمالية» و«المستقبل لهذا الدين»، وأصبحت الدولة مركزية تقوم على حكم الفرد الواحد، مركزية التخطيط، ومركزية التنمية، ومركزية الإدارة، وقَلَّدَت النموذج الشرقي بالرغم من التمييز بين الاشتراكية العلمية والاشتراكية العربية، بين الاشتراكية الدولية والتطبيق العربي للاشتراكية؛ ونظرًا إلى تَضخُّم جهاز الدولة بعد نشأة القطاع العام، زادت البيروقراطية، وعمَّت المحسوبية والواسطة ومراكز القوى والشللية، وزاد نفوذ الضباط، ورُفِعَت الشعارات: الحرية والاشتراكية والوحدة، والواقع على النقيض.
فلما ضَعُفت الدولة الوطنية، وفَشلت خُطَط التنمية، ونشأت الطبقات الجديدة من خلال الرأسمالية الوطنية غير المستغلة وتحولها إلى مُستغلة في قطاع المقاولات وتجارة الجملة، بدأ التَّحوُّل الرأسمالي بإعطاء الأولوية للقطاع الخاص ولرأسمال المال الأجنبي، وصدرت قوانين الاستثمار لتهيئة الجو لنشاطه بإعفائه من الضرائب مدة مُعيَّنة، وتوفير الأراضي اللازمة له، ومَده بالخدمات من المياه والكهرباء والصرف الصحي مجانًا، وبدأ التعليم الخاص لتلبية احتياجات السوق للغات الأجنبية والحاسبات الآلية وفنون الإدارة والإعلان والعلاقات العامَّة، وانتشر الفساد؛ لأن المجتمع الرأسمالي لم يَتمثَّل قِيَم الليبرالية في حرية المنافَسة وقوانين حماية المستهلِك، بل قامت بعقلية الإقطاع، وانتشر تهريب الأموال، وكثرت العمولات والمقايضات وغسل الأموال، وازداد الأغنياء غِنًى، والفقراء فقرًا، وتم امتصاص الدولة الوطنية داخل الرأسمالية العالمية باسم العولمة، واقتصاديات السوق والمنافَسة، والعالم قرية واحدة، وثورة الاتصالات، وإسقاط حدود الدولة الوطنية والإرادة المُستقِلَّة وحماية الصناعات الوطنية لصالح التجمُّعات الإقليمية، والشركات العابرة للقارات المتعددة الجنسيات، ومجموعة الدول الثماني الأكثر تصنيعًا، ومنظمة التجارة العالمية، والتعريفة الجمركية، ومنظمة الأمم المتحدة واقفة بالمرصاد لمن يعصي إرادة القوى الكبرى؛ كما تفعل إيران أو حماس أو كوريا الشمالية أو كوبا أو دول أمريكا اللاتينية الناهضة من جديد؛ دفاعًا عن خيارها الاشتراكي الأول ومعاداتها للهيمنة الأمريكية في الشمال على الجنوب.
وخرجت الحركة الإسلامية من السجون بعد استيفاء المدة أو لاستعمالها من أجل تصفية البؤر التقدمية القديمة، وتغذية الثأر القديم، وقامت الحركة الإسلامية بذلك خير قيام، ثم انقلبت على الدولة الوطنية الضعيفة التابعة، وقامت بلعبتها السياسية الخاصَّة كسُلطة بديلة عن الدولة القائمة في مواجَهة المعارَضة العلمانية والحزب الحاكم.
وبعد تفتيت دولة الخلافة بعد أن خسرت تركيا الحرب في ١٩١٤–١٩١٨م وإلغائها نهائيًّا في ١٩٢٤م، وبعد نهاية القومية العربية البديلة بهزيمة يونيو (حزيران) ١٩٦٧م، والعدوان العراقي على الكويت في ١٩٩٠م، والخلافات الحدودية بين المغرب والجزائر على واحة تندوف وعلى الصحراء، وبين مصر والسودان على حلايب وشلاتين، وبين اليمن والسعودية على عسير ونجران، وبين العراق والكويت على آبار النفط، تُخاطِر الدولة القُطْرِية الآن بالتفتيت إلى دويلات عرقية وطائفية بعد الغزو الأمريكي للعراق في ٢٠٠٣م، والتدخل في السودان في إقليم دارفور، والصراع المسلح بين الشمال والجنوب، ومخاطر التفتيت في الخليج ولبنان وشبه الجزيرة العربية ومصر والمغرب العربي إلى فُسَيفِساء عرقي طائفي: أكراد وسُنة وشيعة وتركمان وآشوريين وعرب وبربر وأفارقة، وزيدية وشوافع، ونجديين وحجازيين، ومارون ودروز، قاربت الدولة الوطنية على الانتهاء بين الابتلاع في الخارج والتفتيت في الداخل.
إن مستقبل الدولة الوطنية مرهون بالحنين إلى الأوطان، ليس العرق أو الطائفة، بل كما حَنَّ الرسول إلى مكة وهو يهاجرها إلى المدينة، وكما كتب أبو حيان «الحنين إلى الأوطان»، والطهطاوي في مقدمة «مناهج الألباب» أن حب الوطن من الإيمان، ومستقبلها أيضًا في التجمع الإقليمي الذي يحيط بها كالعروبة، ليس كأيديولوجية سياسية بالضرورة، بل كمصالح إقليمية وكحل لخلافات الحدود، ومستقبلها أيضًا في دول الجوار، إيران وتركيا ظهير الوطن العربي، بالإضافة إلى أفريقيا، والعروبة جزء منها، وجنوب شرق آسيا وأواسط آسيا؛ فالتراث المشترك رابط بين الجميع، وقد يكون التوجه نحو الشرق؛ الصين واليابان والهند قادرًا على الصمود في وجه الهيمنة الغربية الجديدة قفزًا فوق آسيا عبر المتوسط.
إن مستقبل الدولة في المحافَظة على هُويَّتها في الداخل وعدم التفريط في إرادتها الوطنية وتفاعلها مع الخارج من موضع الندية كما تفعل الصين واليابان والهند وماليزيا وإندونيسيا، وأخيرًا إيران.
(٢) عصر الشعوب٢
الفرد والجماعة من الموضوعات الأثيرة عند الفلاسفة في كل العصور. البعض يركز على أولوية الفرد على الجماعة، والبعض الآخر يعطي الأولية للجماعة على الفرد، ويقدم فريق ثالث الطبقة باعتبارها حلقة الوصل بين الفرد والجماعة؛ فالطبقة جماعة تتسم بسمات الفرد.
وقد ظهر ذلك في الشرق القديم؛ فقد ركزت الهندوكية على الطبقة في نظام الطبقات (الكاست)، وحدث رد فعل في البوذية بالتركيز على الفرد والسيطرة على الانفعالات. وأبرز كونفوشيوس في الصين أهمية الجماعة، الأسرة، والدولة، وعلاقة الفرد بهما، ثم ظهر بوضوح عند اليونان؛ إذ ركز سقراط على الفرد، وأفلاطون على الطبقة في محاورة «الجمهورية»، وأرسطو على الجماعة في كتاب «السياسة».
وفي تراثنا الإسلامي القديم ركز معظم الفلاسفة على الفرد، الفيلسوف أو الإمام القادر بعقله على الاتصال بالعقل الفعال؛ فهو الوحيد الملهم، كامل الأوصاف. بينما ركز الصوفية على الطبقة، الخاصَّة في مقابل العامَّة. أما ابن خلدون فهو الذي فضَّل أن تكون الجماعة بدوًا أو حضرًا، شعبًا أو أمة، هي وحدة التحليل.
وبدأ الغرب الحديث فرديًّا منذ «أنا أفكر فأنا إذن موجود» يعطي للذات الأولوية على الموضوع في المثالية الحديثة؛ فقد سئم الكنيسة والثيوقراطية كأشكال للجماعة. ثم حدث رد فعل في التيارات الاشتراكية لتعطي الأولوية للجماعة على الفرد؛ تحقيقًا للمساواة والعدالة الاجتماعية بعد أن تحققت حرية الفرد وديمقراطية الحكم، وأخيرًا ظهر كارل ماركس ليؤكد أولوية الطبقة على الفرد الذي هو أساس النظم الرأسمالية، والجماعة التي هي أساس الاشتراكيات الطوباوية.
وقامت الثورات الحديثة في الغرب باسم الجماعة أو الشعب؛ مثل الثورة الفرنسية أو الطبقة؛ مثل الثورة البلشفية، ثم بانت الآثار السلبية للجماعة في النازية والفاشية؛ ممَّا دفع كثيرًا من التيارات المعاصرة إلى العودة إلى الفرد من جديد؛ فالجماعة هي الدهماء.
والفرد هو الوعي الذاتي القادر على الصمود ضد الجماعة من دون الذوبان فيها. ظهر ذلك عند الوجوديين مثل أورتيجا إي جاسيه في «ثورة الجماهير»، و«الإنسان والشعب»، وعند ميرلوبونتي في «الإنسان والرعب»، وعند جابريل مارسل في «البشر ضد الإنسان»، وعند ماركوز في «الماركسية السوفييتية».
ويبدو أن عصر الجماهير قد عاد منذ سقوط حائط برلين، وتَحرُّك الشعوب في أوروبا الشرقية حتى وصلت إلى الاتحاد السوفييتي لإعادة التوازن إلى علاقة الجماعة بالفرد، والعدالة بالحرية، بعد أن تمت التضحية بالفرد باسم الجماعة، وبالحرية باسم العدالة. وتحركت الملايين في شوارع طهران؛ دفاعًا عن حرية الشعوب واستقلالها وحرية الفرد ضد قهر أنظمة التسلط والطغيان، ومنذ أن بدأت العولمة تقوم بدور الدولة فوق الدولة والشركات المتعددة الجنسيات ونظام العالم الجديد وقوانين السوق، تحركت الملايين في العواصم الأوروبية في براج وجنوه وسياتل وباريس ولندن وفلورنسا ضد الرأسمالية الجديدة؛ دفاعًا عن حقوق الشعوب المهدَّدة بالغزو والاستعمار الجديد في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان. تحركت الشعوب باسم الجماعة وباسم الطبقة ضد الرأسمالية والمحافظة الجديدة ورموزها في الإدارة الأمريكية، وفي اليمين الصاعد والنازية الجديدة في أرجاء أوروبا.
وفي العالم الثالث سادت نظريات الجيوش الوطنية كأداة للتغير الاجتماعي خاصَّةً في أمريكا اللاتينية وفي الوطن العربي؛ فالجيش هو القوة الوحيدة المُنظَّمة، وجنوده وضباطه يُمثِّلون الطبقات المحرومة؛ لذلك اندلعت الثورات العربية الأخيرة بفعل الضباط الأحرار أمام ضعف أحزاب الأقلية والقصر، وضعف المعارَضة المُنظَّمة؛ فجسَّد الجيش المطالب الوطنية وحماها، وعمل على تحقيقها، تَحوَّل الانقلاب إلى ثورة، وحركة الضباط إلى تَغيُّر اجتماعي، بالرغم من اصطدامها بقضية الحرية.
كما ظهرت نظرية البطل التاريخي، والزعيم الأوحد، والمُخلِّص الذي كان على موعد مع القدر لإنقاذ شعبه، وظهر قُواد عظام في العالم الثالث، يثيرون الخيال في عصر رومانسي في الخمسينيات والستينيات، وبرزت أسماء؛ مثل شوين لاي، هوشي منه، كاسترو، جيفارا، نهرو، سوكارنو، تيتو، عبد الناصر، سيكوتوري، نكروما، جومو كنياتا، موجابي، نيلسون مانديلا، كاوندا، الخميني، كأبطال للتحرر في العالم، قادوا الشعوب نحو الحرية والاستقلال والعدالة الاجتماعية.
والآن يعود عصر الشعوب من جديد؛ فقد ثار الطلبة في إندونيسيا وأسقطوا نظامًا عسكريًّا فاشيًّا تسلطيًّا، ثم تحركت الشعوب مرة أخرى في جورجيا وأوكرانيا وقرقيزيا في أواسط آسيا؛ لإنهاء ما تبقى من نظم تسلطية فردية تدعي الحكم باسم الجماعة، وفي أمريكا اللاتينية تحركت الشعوب في فنزويلا دفاعًا عن الحكم الوطني المستقل عن السيطرة الأمريكية، وكما تَوحَّدَت شعوب العالم الثالث في حركات الجيوش الوطنية، وفي الزعامات «الكاريزمية»، فإنها تستيقظ من جديد بعد أن أعطت ثقتها للجيوش والزعماء؛ فتحوَّلَت النُّظم إلى أدوات قهر وتسلط عسكري أو ملكي حتى لو كان في أشكال جمهورية.
ولم يخرج الوطن العربي عن هذه القاعدة؛ فبعد أن تَحرَّكت الجيوش وحركات الضباط الأحرار منذ أكثر من نصف قرن، وأحدث أكبر تَغيُّر اجتماعي في بنية المجتمعات العربية، وبعد أن وثق بزعمائه التاريخيين: بن بيلا، ومحمد الخامس، والسلال، وسوار الذهب، وعبد الناصر، بدأ الشعب العربي يعاني من القهر والتسلط والفساد في الداخل والتبعية والاستسلام للخارج، وبدأ يَتحرَّك في لبنان ومصر بعد أن طالت فترة الإحساس بالعجز والإحباط واليأس، بالرغم من انتهاك كرامة الشعوب في الداخل والخارج كل يوم، وسالت الدماء في لبنان والجزائر في حروب أهلية، وفي فلسطين والعراق بعدوان صهيوني أمريكي، وفي شبه الجزيرة العربية ومصر بحركات العنف التي لم تستطع النظم السياسية احتواءها والحوار معها، وآثرت تجاهلها أو قمعها، وقوة الضغط من أعلى تُحْدِث الشقوق من أسفل.
والكل يتساءل: أين مصر؟ أين شعبها وجماهيرها ودورها ومبادراتها وقيادتها لأمتها؟ مصر لم تَمُت بل هو الهدوء الذي يسبق العاصفة، والصبر الذي بدأ ينفد. لم تتوقف الجماهير في مصر عن التحرك منذ ثورة القاهرة الأولى والثانية ضد الحملة الفرنسية على مصر في أوائل القرن التاسع عشر، ثم ثورة عرابي في ١٨٨٢م ضد القصر، تلتها ثورة ١٩١٩م ضد الاحتلال الإنجليزي لمصر، ومن الحركة الوطنية، لجنة الطلبة والعمال، في الأربعينيات خرج الضباط الأحرار وثورة يوليو ١٩٥٢م، وفي الجمهورية الأولى قامت التحركات الشعبية في ١٩٥٤م دفاعًا عن الديمقراطية، وفي ١٩٦٨م ضد هزيمة يونيو (حزيران) ١٩٦٧م، وفي الجمهورية الثانية اندلعت مظاهرات ميدان التحرير في ١٩٧١م تطالب بتحرير سيناء، ثم اندلعت الانتفاضة الشعبية في يناير ١٩٧٧م ضد غلاء الأسعار، وفي الجمهورية الثالثة تكررت الحركات الشعبية في مظاهرات الأمن المركزي في يناير ١٩٨٦م، وضد العدوان الأمريكي على العراق في ١٩٩١م ثم في ١٩٩٨م، وساندت الحركات الشعبية الانتفاضتين الأولى والثانية في فلسطين، والآن تتحرك الجماهير ضد التوريث والتجديد والتمديد دفاعًا عن التعددية السياسية، وحماية للحريات العامَّة، مطالبة بالاستقلال الوطني ضد التبعية للخارج، وبالديمقراطية ضد التسلط في الداخل.
وإذا كانت الهَبَّات الشعبية الماضية من أجل الخبز، فإن الهَبَّات الحالية والقادمة من أجل الحرية. «تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها.»
(٣) الاشتراكية والإسلام٣
ازدهر موضوع «الاشتراكية والإسلام» في أدبيات الستينيات بعد قوانين يوليو الاشتراكية في ١٩٦٢م، والميثاق الوطني في ١٩٦٣م بعد الانفصال عن سوريا وانتهاء أكبر تجربة وحدوية في العصر الحديث، الجمهورية العربية المتحدة ١٩٥٨–١٩٦١م، وقد ولَّى العصر الجميل بما يَقرُب من نصف قرن، وقد نشأت الأدبيات بعد هجوم النُّظُم المحافظة في السعودية واليمن على الاشتراكية، باعتبارها شيوعية تقوم على الإلحاد والكفر والصراع الطبقي الدموي؛ فاضطر مُفكِّرو الناصرية لاستعمال السلاح ذاته الدين؛ دفاعًا عن الاشتراكية؛ فالمال مال الله، ومال الله هو مال الشعب، والعمل مصدر القيمة بدليل تحريم الربا، والقطاع العام هو الماء والكلأ والنار والملح في الحديث المشهور، ويحرم الإسلام اكتناز رأس المال؛ فالملكية استخلاف، للمالك حق الانتفاع والاستثمار والتصرف وليس له حق الاستغلال والاحتكار والاكتناز، والعدالة الاجتماعية أكثر من الزكاة، فليس مِن الأمة مَن بات شبعان وجاره طاوٍ، وعجبتُ لرجل لا يجد قُوت يومه ولا يخرج للناس شاهرًا سيفه.
وبعد انقلاب الثورة إلى ثورة مضادة في السبعينيات، في الجمهورية الثانية انقلبت هذه الأدبيات رأسًا على عقب، من تبرير الاشتراكية والقطاع العام إلى تبرير الرأسمالية والانفتاح والقطاع الخاص؛ فالإسلام مع التجارة الشرعية، والربح الحلال، بل إن العلاقة بين الإنسان والله تم تصويرها على أنها تجارة ولكنها لا تبور، وإذا قُضِيَت الصلاة يوم الجمعة فالسعي في أرض الله، وصاحَبَ ذلك أيضًا الانقلاب على القضية الفلسطينية، من المقاوَمة إلى الاعتراف، ومن النضال إلى الصلح، ومن النزال إلى التفاوض، وفي كلتا الحالتين كانت المبادَرة من السُّلطان، هو الذي يقرر، والجوقة تبرر. وتَحوَّلت المعركة إلى صراع على السلطة في الداخل، داخل قُطر عربي، وفي الخارج بين الأنظمة العربية المختلفة، التقدمية في مواجهة المحافظة، وشاركَتْنا في ذلك أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية؛ فقد كان العرب بؤرة العالم الثالث، ورُوَّاد حركات التَّحرُّر الوطني في القارات الثلاث.
والتاريخ يعيد نفسه، وتبرز حركات تحرر اجتماعي جديد في مواجهة الموجة الثانية للاستعمار في أشكال متعددة للهيمنة؛ مثل العولمة، والسوق، والخصخصة، وحرية التجارة العالمية أو العدوان العسكري المباشر، وخرق ميثاق الأمم المتحدة في حق الدول في الاستقلال الوطني، وعدم جواز عدوان دولة على أخرى، فتمَّ احتلال العراق وأفغانستان والشيشان وفلسطين، كل فلسطين. هذا بالإضافة إلى تهديد سوريا وإيران والسودان ولبنان؛ من أجل حصار مصر في الشمال والجنوب، في الشرق وفي الغرب بالعدوان على ليبيا في ١٩٨٦م، وإجبارها على الانقلاب على خياراتها الوطنية والقومية الأولى، وساعد على ذلك نهاية عصر الاستقطاب، وبداية نظام القطب الواحد، وغياب الحليف الاشتراكي الشرقي في مواجهة العدوان الغربي، وضعف حركة عدم الانحياز وعدم تطويرها في نظام العالم الجديد، وانحسار المد القومي العربي لصالح القُطْرية والطائفية والعرقية.
ومنذ بداية سيطرة المحافظة الجديدة، والمسيحية الصهيونية على البيت الأبيض، وغرور الرأسمالية بعد سقوط النُّظم الاشتراكية الشمولية من أوروبا الشرقية حتى الاتحاد السوفييتي ذاته والجمهوريات الاشتراكية في أواسط آسيا؛ بدأ تكوين الإمبراطورية الأمريكية الجديدة، زاحفة من الغرب إلى الشرق عَبْر الأطلنطي إلى أوروبا، ومن الغرب إلى الشرق مرة ثانية عبر الأورال إلى آسيا، وكذا إمبراطورية إسرائيل الكبرى التي لم تَعُد لها حدود أرضية أو جوية إلا في إيران وباكستان وأواسط آسيا حتى الصين شرقًا، وأفريقيا جنوبًا، وأوروبا وأمريكا عبر الأطلنطي غربًا حتى أصبح مركز العالم كله. بدأ العَداء لأمريكا في الوطن العربي والعالم الإسلامي وفي أمريكا اللاتينية ليضع حدًّا لموجات الانتشار الأمريكي حول العالم ضد الهيمنة والاستغلال، ودرءًا للعدوان العسكري، ومظاهر العولمة والاستقطاب الجديد بين المركز والأطراف، وقد بدأ المد الأمريكي في الانحسار من شدة المقاوَمة، وانتخاب نُظم ديمقراطية حرة معادية للولايات المتحدة الأمريكية وغزوها وتهديداتها، وقسمتها العالم إلى الأخيار والأشرار؛ فالمتحالفون مع أمريكا هم الأخيار؛ بريطانيا وبعض الدول الأوروبية، والمُعادُون لها هم الأشرار في الوطن العربي؛ حماس في فلسطين، المقاوَمة اللبنانية والعراقية والأفغانية، وإيران وكوريا الشمالية، محور الشر، وفي العقلية الاستعمارية العنصرية القديمة ذاتها، وقِسْمة العالم إلى عالَم حر وعالَم ما وراء الستار الحديدي.
وقامت حركات التحرر الجديدة في أمريكا اللاتينية على أكتاف الاشتراكية التي ظن المدافعون عن النظام الرأسمالي أنها قد قُضِي عليها إلى الأبد، من دون تمييز بين الاشتراكية كهدف، والشمولية الهيجلية والداروينية كوسيلة؛ فقد صمد هوجو شافيز وعاد إلى الحكم في فنزويلا بعد محاولات أمريكا التآمر عليه للإطاحة به، ونجح لويس إيناسيو في البرازيل حاملًا لواء التنمية المستقلة، كما نجح إيفو موارليس على أكتاف الثقافة الوطنية وباسم السكان الأصليين الذين استأصلهم الاستعمار الغربي باسم الاستكشافات الجغرافية، ولكن ما زالت الثقافة الوطنية هي الحامية للشخصية الوطنية، والحاملة للأيديولوجيات السياسية للاستقلال الوطني، وهو ما حدث في فلسطين تمامًا بعد ذلك بخمسة قرون بالإحلال السكاني والاستيطان، شعب مكان شعب عن طريق الهجرات. ونجحت ميشيل باشيلي في تشيلي، امرأة وطنية تبطل الادعاءات عن أوضاع المرأة في العالم الثالث، وجعلت نصف أعضاء حكومتها من النساء، نساء وطنيات للحفاظ على حقوق الطفل وليس النساء العاريات، نساء الإجهاض والشذوذ. لم تَعُد كوبا وحدها، وهي ما تَبقَّى من العهد الجميل في الستينيات، بل أصبحت بؤرة تَلتفُّ حولها دول أمريكا اللاتينية لإحياء هذا العصر البطولي، ونيكارجوا في الطريق، وبُعث جيفارا الذي استشهد في ١٩٦٨م. وبعث الليندي الذي قتلته المخابرات الأمريكية وهو يدافع عن الديمقراطية في قصر الرئاسة في ١٩٧٣م.
ولمَّا كان الوطن العربي والعالم الإسلامي مواكبَيْن لحركات التحرر في أمريكا اللاتينية في الستينيات، فإنهما أيضًا يواكبانه بعد ما يقرب من نصف قرن بعد أن تعود إليه روحه الوطنية ونضاله من أجل الاستقلال في حركة استقلال وطني ثانية، ومد ثوري ثانٍ. بدأ ذلك أيضًا بأسلوب ديمقراطي وليس عن طريق انقلابات عسكرية أو ثورات شعبية، وكان الحامل لذلك ليس الاشتراكية وغيرها من الأيديولوجيات العلمانية للتحديث، بل الإسلام السياسي أي الموروث الشعبي الذي أصبح الرافد الرئيس للثقافة الوطنية، حدث ذلك في مصر بنجاح الإخوان المسلمين في الانتخابات التشريعية، وفي فلسطين بنجاح حماس، وفي لبنان ممثلًا في حزب الله والقوى الوطنية الأخرى المعادية للولايات المتحدة الأمريكية، وفي المقاومة العراقية التي تسيطر على الحياة السياسية والمدنية في العراق، وفي أفغانستان التي ما زالت تقاوم العدوان الأمريكي، وفي الشارع الباكستاني المناهض للهيمنة الأمريكية والنظام المتحالف معها، وفي إيران في التيار المحافظ الذي يمثله رئيس الجمهورية والمرشد الروحي، والتمسك بالاستقلال الوطني والحق في امتلاك الطاقة النووية وإسرائيل مدججة بالسلاح التقليدي وبأسلحة الدمار الشامل كافة، بما في ذلك السلاح النووي، وفي تركيا لدى جموع الشعب ممثلًا في حزب العدالة والتنمية، وفي المغرب ممثلًا في الحركة الإسلامية في حزب الاستقلال وحزب العدالة والتنمية وجماعة العدل والإحسان. كان الإسلام والعروبة والوطن هي العناصر الرئيسة الثلاثة المكونة لحركات التحرر الوطني في ربوع الوطن العربي، فما تقوم به الاشتراكية والثقافة الوطنية في أمريكا اللاتينية، يقوم به الإسلام والعروبة في الوطن العربي والعالم الإسلامي، والوطنية هو القاسم المشترك بينهما. فهل يستطيع «لاهوت التحرير» أن يربط بين المنطقتين؛ فيُبعث من جديد، ويعود كاميلو توريز، وبوف، وجواتيرز، والأسقف روميرو، وهلدا فون كامارا رُوَّاد لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية، والأفغاني والكواكبي وعلي شريعتي واليسار الإسلامي، والإسلام التقدمي في العالم الإسلامي من جديد كحامل لموجة جديدة من التحرر الوطني في مواجهة الموجة الجديدة للهيمنة الأمريكية؟
(٤) الإسلام في الصومال بين الجوع والحرب٤
تتوارد الأنباء من الصومال، القُطر العربي الشقيق، وعضو الجامعة العربية عن تَقدُّم «اتحاد المحاكم الشرعية» على «أمراء الحرب»، استولى على العاصمة مقديشيو، ويتقدم نحو جوهر وصولًا إلى مدينة بيداوة، مقر الحكومة المؤقَّتة، وبدأ الخوف يدب في قلوب الأمريكيين، ويتساءلون: ماذا لو نجح «اتحاد المحاكم الشرعية» في الاستيلاء على السُّلطة في كل ربوع الصومال، وهم يعلنون عن قدوم نظام إسلامي؟ ألا يكون نظام طالبان آخر؟ ألا يكون امتدادًا لتنظيم القاعدة ونجاحًا له وخسارة للولايات المتحدة الأمريكية؟
وترتبك الإدارة الأمريكية: هل تؤيد أمراء الحرب الذين أعادتهم بالأمس، وصورة الجندي الأمريكي القتيل المسحول على الأرض المجرور بحبل مربوط بعربة تجوب شوارع العاصمة؟ هل تمدهم بالسلاح حتى ترجح كفتهم على قوات «اتحاد المحاكم الشرعية»؟ أم هل تَتودَّد إلى القوة الجديدة، وتساعدها على كسب الحرب، في مقابل تعهدها بعدم التحالف مع تنظيم القاعدة، وتطبيق الشريعة الإسلامية، وموالاتها لأمريكا التي ناصرتها ضد خصومها؟ وأمريكا في كلتا الحالتين لا تريد إلا مصلحتها وليست مصلحة الصومال، تريد حكمًا مواليًا لها في القرن الأفريقي، إسلاميًّا أو غير إسلامي، تسلطيًّا أو ديمقراطيًّا.
وسواء انتصر «اتحاد المحاكم الشرعية»، وهو الأكثر احتمالًا؛ نظرًا إلى اعتماده على الإسلام كثقافة شعبية وحركات جماهيرية، أو الحكومة المؤقتة من أمراء الحرب السابقين، فإن الناس جائعة في الحالتين، وتموت في الحرب بين المتقاتلين على السلطة. فما زال شعار «إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.» هو الموجه السياسي الرئيس للفكر الإسلامي، ومن ثم ضرورة الاستيلاء على السلطة لتحقيق النظام الإسلامي. أما أمراء الحرب فالنزاع على السلطة لديهم هو امتداد للسلطة القَبَلية على سلطان الدولة. فالدولة قبيلة كبيرة، والقبيلة دولة صغيرة. لا يهمهم الإسلام كأيديولوجية، بل تكفيهم السُّلطة كواقع.
ويَترحَّم البعض على نظام الحكم السابق قبل الثورة عليه واتهامه بالتسلط. فالمستبد العادل أو حتى الظالم مع الحفاظ على وحدة البلاد أفضل من الحرب الأهلية بين الأحزاب السياسية أو القبائل العرقية وتفتيت الأوطان، وتدخل القوات الأجنبية، وما حدث في العراق وفي الصومال خير دليل على ذلك.
والخوف من مد سلطة «اتحاد المحاكم الشرعية» على ربوع الصومال أن تعلن قيام دولة إسلامية تطبق الشريعة الإسلامية، خاصَّةً قانون العقوبات أي الحدود، وتفرض النقاب على النساء وإجبارهن على المكوث في المنازل، ومنع المعارضة السياسية والتعددية الفكرية باسم الطاعة لأولي الأمر، ولا أحد ضد نظام إسلامي للدول ولكن بأي معنى؟ هل الشريعة الإسلامية فقط قانون العقوبات والحدود؟ وإذا كانت الحدود عقابًا لعدم القيام بالواجبات، فأين الحقوق؟ لا يوجد واجب إلا وفي مقابله حق. لا يعني تطبيق الشريعة الإسلامية فقط الحدود وهي الواجبات، بل أيضًا الحقوق، حق المسلم في المشاركة في السلطة، وحقه في بيت المال، وحقه في الرقابة، والحسبة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ليس النظام الإسلامي فقط نظام العقوبات أي القانون الجنائي، بل هو النظام السياسي الدستوري، ودولة المؤسسات، واستقلال القضاء، وانتخاب الحاكم من الناس عن طريق البيعة. فالإمامة — كما قال الأصوليون القدماء — «عقد وبيعة واختيار»، وهو نظام اقتصادي يقوم على رعاية المصالح العامَّة، وأخذ حقوق الفقراء في أموال الأغنياء، والملكية العامَّة لوسائل الإنتاج كالماء والكلأ والنار قديمًا وهي الزراعة والصناعة حديثًا، والعمل وحده مصدر القيمة بدليل تحريم الربا، وهو نظام اجتماعي يقوم على رعاية الفقراء والمرضى وتوفير العمل والتعليم من بيت المال، والمرأة تعمل وتتعلم وتحارب وتشارك في الحياة العامَّة، والإسلام تعمير للأرض، وزراعة الصحراء، وتوظيف الحديد للصناعة. فصورة الأرض في القرآن هي الأرض الخضراء، وليست الأرض الصفراء، الهشيم الذي تذروه الرياح. هي الأرض التي ينزل عليها الماء فتهتز وتربو، وتنتج من كل زوج بهيج.
إن النظام الإسلامي في الصومال هو النظام الذي يحارب الجوع والقحط والجفاف والمجاعة التي أهلكت الأرض والزرع والحرث والنسل. فالحفاظ على الحياة مقصد الشريعة الأول، وهو الذي يحافظ على أرواح الناس؛ فدم المسلم وعرضه وماله حرام على أخيه المسلم. هو النظام الذي لا يعيش على المعونات الأجنبية في الطعام والشراب والإيواء، بل الذي يعتمد على نفسه؛ فخير الناس من أكل من عمل يده.
لعل محاولات الحوار بين الإخوة الأعداء في مقديشيو، وفي بيداوة، التي تقوم بها القبائل تكون بداية الحوار الوطني بين الفرقاء المتحاربين حقنًا للدماء، ومنعًا لتدخل القوات الأجنبية في دارفور أخرى، وهو درس من الإسلام الأول عندما آخى الرسول بين الأوس والخزرج، وبين المهاجرين والأنصار، وبين كل القبائل، كل قبيلة تمسك بطرف عباءته لوضع الحجر الأسود في مكانه، وإلا فالحرب بين القبائل، وكما وصف القرآن جماعة المسلمين أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ.
ليست القضية من يستولي على الحكم في مقديشيو، أو ينقل الحكومة إلى بيداوة، أو يتقدم نحو جوهر المدينة المتوسطة لِينقَضَّ على الآخر، بل القضية في إقامة نظام سياسي يقوم على الائتلاف الوطني والتعددية السياسية، والاتفاق على برنامج إنقاذ وطني ليعيد إلى البلاد وحدتها السياسية وبرامجها التنموية، ويواجه القضايا المصيرية، الجوع والقحط والمجاعة والجفاف، وليس الصومال كله في الحضر، بل هو في الريف أيضًا. ولا يتجاوز الحضر فيه حيث المدن الكبرى ٥٪ من مجموع أراضي الصومال.
وهنا يأتي دور الجامعة العربية بعدما انحسر عن السودان وفلسطين والعراق؛ من أجل تحقيق الوفاق بين القبائل العربية والقوى السياسية المتصارعة في الصومال، بدلًا من تربُّص الولايات المتحدة والمجتمع الدولي للتدخل فيه، ونظام وطني تعددي مستقر في الصومال قادر على الحوار بين دول الجوار، الحبشة وإريتريا، يحمي القرن الأفريقي من التدخلات الأجنبية من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية.
إن صورة العرب والمسلمين في الرأي العام الأوروبي، صورة الجوع والحرب أصبحت مألوفة، بسبب السودان والصومال وباكستان وأفغانستان ثم في فلسطين؛ بسبب الاقتتال بين فتح وحماس، والضحايا المدنيين في العراق، ما زالت هي الصورة الغالبة؛ ممَّا يجعل المجتمع الدولي ينظر إلى العرب والمسلمين نظرة دونية، ومن يعجز عن الحوار مع نفسه، فكيف يستطيع الحوار مع الآخرين؟
إن تجربة جديدة للوئام الوطني والتعددية السياسية في الصومال إضافة أخرى إلى تجارب الحكم الإسلامي في تركيا والمغرب وإيران والسودان. تعتمد على الثقافة الوطنية، والإسلام أحد مكوناتها الرئيسة، وعلى الحركات الشعبية. تجعل الحكم الإسلامي الذي تتمسك به الحركات الإسلامية والتنظيمات الشعبية مقبولًا في الداخل والخارج، وتملأ الفراغ السياسي بين النُّظم العلمانية بقيادة النُّخَب السياسية، والنُّظم السلفية بقيادة العائلات التقليدية، ومن هذه التجارب الجديدة للحكم الإسلامي تتخلق أشكال جديدة من الحكم الإسلامي أقرب إلى الحكم المدني التَّعدُّدي الديمقراطي الذي يحافظ فيه على حقوق الإنسان ومساواة المواطنين جميعًا في الحقوق والواجبات بصرف النظر عن الدين والعرق والطبقة.
متى يأتي الإسلام محمولًا على الأعناق، مُعزِّزًا الحكم الوطني، وليس على الضد منه، وكنظام ديمقراطي يراعي حقوق الإنسان ومقتضيات المجتمع المدني، وليس على أسِنَّة الرماح وفوق أعناق الجماهير حتى لو سالت الدماء؟
(٥) الدين والحياة٥
منذ عدة أشهر، غرقت عبَّارة في جيبوتي، تحمل حوالي ثلاثمائة عضو من جماعة «الدعوة والتبليغ»، وهي جماعة ذات أصول هندية تدعو إلى الإسلام بالطريقة الهندية؛ لنشر الإسلام في الهند وفي أفريقيا، وتقوم على الروحانيات، والتصفية القلبية، وخلاص الإنسان الفردي كما هي الحال في التصوف التقليدي، خلاص النفس إن استعصى تخليص العالم.
وبقدر تركيز الدعوة على الجوانب الروحية في الإسلام على الطريقة الهندية، فإنها تُركِّز أيضًا على الجوانب الشكلية المظهرية للداعية؛ الذقن الطويلة، والقَلَنْسُوة الكبيرة، والجلباب الأبيض، والقامة الطويلة، والمنكبين العريضين، والعيون الثاقبة، والحركة النبيلة؛ فلا دِين بلا رجال دين، والداعية أقرب إلى الشيخ الذي يبحث عن المريدين، شيخ طريقة في حاجة إلى حلقة حوله للذِّكْر والعبادة. رجل الدين هو مركز الدين؛ فهو الذي يَقود ويُعلِّم، وهو الذي يُرشِد ويُوجِّه، وهو ما يتفق مع الديانات في آسيا وأفريقيا التي تقوم على أهمية المعبد، وقراءة الطالع، وإجراء الكرامات، والتأثير بالسحر في حياة الناس.
كما خرجت الدعوة من التراث الشيعي الأقرب إلى الدعوة الصوفية، وطاعة الأئمة، والتأويل الباطني، ومنها خرجت الأحمدية والبابية استئنافًا للإسماعيلية القديمة. والداعية هو الإمام الحاضر، نائب الإمام الغائب، ولما كان الفقراء في أفريقيا وآسيا في حاجة إلى خلاص واستعصى خلاصهم من الفقر بأخذ حقوقهم من أموال الأغنياء أو بزيادة الموارد عن طريق التخطيط أو بنظام سياسي اشتراكي؛ فإنه يتم خلاصهم عن طريق الوَهْم والتعويض، فالكمال الروحي خير من الرخاء المادي، والنَّفْس أعز على الإنسان من البدن، والأزمة في الواقع الاجتماعي تنفرج بالسمو الروحي.
وتحرص الدعوة على الزيادة الكمية للمسلمين؛ فقد وصل المسلمون اليوم إلى مليار وربع، خُمس سكان المعمورة تقريبًا، وما زالت الدعوة الإسلامية في ازدياد، ليس فقط في أفريقيا وآسيا، بل أيضًا في قلب الدول الأوروبية وفي الغرب الأمريكي الأكثر تصنيعًا؛ فالمسلمون كتلة بشرية ولكنها صماء، كمٌ بلا كيفٍ، لا يستطيعون خلاص القدس ولا تحرير فلسطين ولا الذَّب عن البيضة بتعبير القدماء ولا الدفاع عن الأوطان بتعبير المُحْدَثِين، في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير، مع أنه في الإسلام يغلب الكيفُ الكمَّ، والقِلَّةُ الكثرةَ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ، وهُزِم المسلمون في حنين حين أعجبتهم كثرتهم وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ.
وتقوم الدعوة والتبليغ على الهُويَّات الدينية وليس على الهُويَّة الوطنية؛ فالإنسان هو المؤمن المُتديِّن، المُنتَسِب إلى دين؛ اليهودية أو المسيحية أو الإسلام أو الهندوكية أو البوذية أو الفيتشية. ينتسب إلى الروح وليس إلى الوطن، وهي ديانات عبر الأوطان، تخترق الحدود، وأقوى من المذاهب والأيديولوجيات السياسية والاجتماعية، الأمة خارج الأوطان، والإيمان الديني يتجاوز الولاء للأوطان، والداعية من جماعة الدعوة والتبليغ يجوب العالم كله، ويحط على جماعة المسلمين، ينام في المساجد، ويدعو فيها، منزل الله بيته، وجماعة المُصَلِّين أهله. وانتزاع الإنسان من هُوِّيَّته الوطنية بداية الخيانة والعمالة باسم الأممية الدينية، وكما تفعل العولمة باسم الأممية الاقتصادية والإعلامية، وتسقط الحدود بين الأوطان وتُلغَى الإرادة الوطنية المستقلة، وينسلخ الإنسان عن قومه وينتمي إلى جماعة بلا قومية، يخرج من العالم، ويعيش مع الأقطاب والأبدال كما يقول الصوفية.
والدعوة بين اليهود والمسيحيين لدخولهم إلى الإسلام لا معنى لها؛ لأن الديانات الثلاث دين واحد، دين إبراهيم مع اختلاف الصياغات وأشكال التعبير عنه طبقًا لظروف كل عصر، ونتيجة لتجربة النبي مع قومه، فلا فرق بين «الوصايا العشر» عند موسى، و«المواعظ على الجبل» للمسيح إلا في تأويلاتها الحرفية الظاهرية في اليهودية، والروحية الأخلاقية في المسيحية؛ لذلك قال المسيح: «ما جئت لألغي الناموس بل لأكمله.» والإسلام هو الاختيار الحر بين الشريعة والمغفرة، بين القانون والمحبة وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ.
وتجوز الدعوة والتبليغ لدى الفيتشية الأفريقية أو الديانات الآسيوية؛ مثل البوذية والهندوكية والشنتوية والشامانية، وتحويل المؤمنين بها إلى دين التوحيد، وهو أرقى دين من حيث التنزيه والتصور للعالم، وجود إله واحد خالق الكون، وبَعْث النفس لحسابها طبقًا للأعمال، فدين الوحي أكثر تنزيهًا من ديانات الطبيعة عند هيجل.
ومهما بلغت الدعوة والتبليغ من قوة روحانية تتجاوز حاجات الأبدان، يظل التبشير المسيحي في أفريقيا وآسيا أقوى وأنجع؛ إذ يقوم على تلبية حاجات الناس المادية، بالإضافة إلى الدعوة الرسولية، يوفر الطعام والشراب والغذاء والسكن والعلاج والتعليم للناس، ويعطي المنح الدراسية في الخارج، ويوحي للمدعوين بأنهم سينتقلون من التَّخلُّف إلى التقدُّم، ومن التقليد إلى التجديد، ومن القديم إلى الجديد، وأنهم سينتقلون إلى الحداثة وما بعد الحداثة، مُتجاوزِين المراحل بالطفرة والسَّبق، وسينتقلون من أفريقيا وآسيا إلى أوروبا وأمريكا، من الأطراف إلى المركز، من الجوع والفقر والحرمان والجهل والتهميش والقهر والفساد والمرض والحروب الأهلية إلى الشبع والغنى والكفاية والعلم والرعاية والحرية والأمانة والصحة وحقوق الإنسان، وباختصار من الجحيم إلى الفردوس، من الواقع الأليم إلى اليوتوبيا الحالمة.
وهنا يتم نزع المؤمنين خارج الأوطان، ويَتحوَّل ولاؤهم للأوطان إلى ولاء للغرب، المستعمِر القديم؛ فلا يكون الإنسان مسيحيًّا إلا إذا كان غربيًّا، والمسيح أبيض أشقر ذو عيون زرقاء، كما رسمه عصر النهضة في إيطاليا، وهو شرقي أسمر صاحب عيون دكناء وشعر أسود، فالتحوُّل إلى المسيحية ليس فقط تحولًا إلى دين، بل هو تحوُّل إلى ثقافة وحضارة ومدنية، والمسيحية دين عالمي يتجاوز الأوطان؛ لذلك ردت المسيحية الوطنية على ذلك بحركة «المسيح الأسود»، و«موسى الأسود»، و«اللاهوت الأسود»، فالأسود جميل، والأبيض قبيح، والشيطان أبيض، وأبو جهل وأبو لهب بيض، وقد حدث رد الفعل هذا وعلى حد سواء في المسيحية الوطنية وفي الإسلام الوطني، ويتبادل أنصار الدين العالمي، وأنصار الدين الوطني الاتهامات، يتهم أنصارُ الدين العالمي أنصارَ الدين الوطني بالشيوعية والمادية والإلحاد، ويتَّهم أنصارُ الدين الوطني أنصارَ الدين العالمي بالخيانة والعمالة للقوى العالمية.
لا يهم المؤمن أن يظل على دينه القديم أو أن يتحوَّل إلى دين جديد إذا كان سيظل يمارس دين الشعائر والطقوس بعيدًا عن زراعة الأرض، وتصنيع المنتجات، وتعمير الصحراء. إن المؤمن حقًّا هو الذي يحارب المجاعة والقحط والجفاف والتصحر، ولا يقتل أخاه؛ صراعًا على السُّلطة، المؤمن حقًّا هو الذي يُسهِم في عمليات التغيُّر الاجتماعي والتنمية البشرية، ووثني يزرع أو يحطب ويأكل من عمل يده خير من مسلم يقوم ويقعد في المسجد وهيئات القُوت الدولية تطعمه وتسقيه.
إذا اتجهت الدعوة والتبليغ في أفريقيا خاصَّةً إلى الدخول في التحديات الكبرى في أفريقيا؛ مثل الإيدز والمجاعة والتصحر والحروب الأهلية، وساعدت الناس على الشفاء من الأمراض وعلى زراعة الأرض وتوفير الغذاء وعدم سفك الدماء التي حرمها الله لكانت أكثر خدمة للدعوة الإسلامية بصرف النظر عن إيمان الناس، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه. إن المسلم النافع خير من المسلم العابد، والدعوة إلى الإسلام هي دعوة إلى العمل وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ، والعمل رفع لمكانة الإنسان يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ.
لو هؤلاء الغرقى الثلاثمائة من جماعة الدعوة والتبليغ كانوا من العلماء العامِلِين؛ لشَعر الناس بفَقْدِهم وبخسارة العالم بموتهم، إلا أنهم غرقوا ظانِّين أن لهم الفردوس، ودخول الفردوس مشروط بالعمل في الدنيا أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ. الحياة كد وكفاح وسعي يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ، متى يَتحوَّل المسلمون من كمٍّ إلى كيف، ومن إيمان لا يفيد إلى إيمان نافع؟ أَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ.
(٦) اليأس والأمل٦
يتجاذب العربَ انفعالان: اليأس والأمل، وهما حالتان نفسيتان يسميهما الصوفية اليأس والرجاء، اليأس من التقدم الروحي وبلوغ الغاية، والرجاء في استكمال الشوط والوصول إلى النهاية.
ينتاب العربَ إحساسٌ باليأس من أنظمتهم السياسية التي لا تحرك ساكنًا بالنسبة إلى الدماء التي تسيل في العراق، والتي بلغَت منذ الغزو الأمريكي البريطاني أكثر من خمسين ألف شهيد من الأبرياء، وتركت الانتفاضة الفلسطينية الأولى، انتفاضة الحجارة، والثانية انتفاضة الأقصى، والثالثة انتفاضة التحرير، تحت رحمة جيش الاحتلال الإسرائيلي، يصفي قادة المقاومة يوميًّا، ويقتل المدنيين، ويهدم المنازل على مدى عشرين عامًا من ١٩٨٧م وحتى الآن، وربما هي أطول انتفاضة لشعب في التاريخ، من أجل التحرر والاستقلال، والجيوش العربية قامت بالثورات العربية منذ نصف قرن، منذ نهاية الأربعينيات وأوائل الخمسينيات ومنتصفها، حتى الستينيات. تحول ضباطها الأحرار إلى حكام، ومن ضباط إلى رؤساء، والآن تدين بالولاء للنظام، وتحول بعض الضباط إلى الحياة الاقتصادية في مكاتب الاستيراد والتصدير، كما عهد للقوات المسلحة بالإسهام في تأسيس الحياة المدنية، والدخول في التنمية البشرية، وبناء الخدمات للناس بعد أن عجزت الوزارات عن إقامة الكباري، ومد الجسور، وتجديد شبكات المياه والكهرباء، وأصبح من مهام وزارات الدفاع تسهيل حياة الضباط بتوفير الخدمات لهم في الإسكان والعلاج والمواصلات والمناسبات الاجتماعية، وكما تفعل الحركات الإسلامية في دور المناسبات الملحقة بالمساجد.
ويشتد اليأس بالناس عندما يشاهدون باستمرار قوى الهيمنة في السيطرة على الوطن العربي، الإطباق على السودان باسم الجنوب ودارفور، والإطباق على الصومال باسم القضاء على أمراء الحرب أولًا، ثم باسم تعاطف اتحاد المحاكم الإسلامية، السلطة الجديدة البازغة مع القاعدة. فكل مسلم أصولي، وكل إسلام إرهاب، وكل مد إسلامي هو امتداد لتنظيم القاعدة، كما يشتد اليأس عندما يرى الناس عقد حلف عسكري بين ليبيا وبريطانيا، وقد كانت ليبيا عدوة الغرب الأولى والخارجة على القانون الدولي، والراعية للإرهاب والتي تُنمِّي قدراتها النووية، وقد كان الوطن العربي منذ الثورات العربية مناهضًا للأحلاف؛ حلف بغداد، والحلف الإسلامي، ولديه اتفاقية الدفاع العربي المشترك؛ فالعرب قادرون على حماية بعضهم بعضًا قبل أن ينفرط العقد، وتغيب مصر عن الساحة، ويتم تهميشها وإخراجها من قلب العرب، وقامت دول عربية بما في ذلك مصر والجزائر، وأحيانًا إسرائيل بتدريبات عسكرية مشتركة مع الولايات المتحدة، ليس للدفاع عن الأوطان بل للدفاع عن النظم الحاكمة وطاعة لأمر السيد، وتكتشف خلية لبنانية للتجسس لحساب إسرائيل التي ربما أسهمت في كثير من عمليات الاغتيال الأخيرة للقادة والنواب والصحفيين اللبنانيين.
ويزداد اليأس كلما تَجبَّرت النظم السياسية وقهرت شعوبها، وأذلَّت مواطنيها في الداخل؛ فقد مر قانون السلطة القضائية من دون عرضه على القضاة أصحاب الشأن، ووافق عليه المجلسان النيابيان، الشعب والشورى، وصدَّق عليه الرئيس بالرغم من معارضة القضاة وحولهم المعارضة السياسية بأطيافها كافَّة، ويمر الآن قانون الشائعات لحبس الصحفيين على جرائم لم يرتكبوها، وخرقًا لحقوق سرية مصادر المعلومات، وما زالت قضية الحريات مطروحة في كل أرجاء الوطن العربي مع اختلاف درجاتها، حتى لو كانت صالونات أدبية أو منتديات فكرية أو مجتمعات ثقافية، والعواصم العربية على التوالي تحتفل بأنها عواصم الثقافة العربية الإسلامية من اليونسكو أو المؤتمر الإسلامي.
وطال انتظار العرب وفرغ صبرهم، ولم يَعُد «الصبر مفتاح الفرج» مثلًا يجدي في شيء. فالإناء يغلي، والكرامة مُهانة كل يوم. لم يَعُد أحد يعترف بهم في نظام العالم الجديد الذي تضعه الدول الكبرى، أو الإرادات الوطنية المستقلة التي ما زالت في العالم الثالث؛ مثل إيران وماليزيا وفنزويلا وجنوب أفريقيا، ومن طول الانتظار ترهَّل الجسد العربي، وتعوَّد عليه، وانشغل بهموم الدنيا وأمور المعاش، وإن تحرك فلمشاهدة مباريات المونديال أو لسماع صوت مغنية شابة جديدة أو لصغائر الأمور، يملأ بها فراغه، ويفرِّغ فيها طاقاته ما دام الطريق العام مسدودًا أمامه.
وكلما استمرت حالة اليأس هذه، ازداد الوطن العربي تفككًا وتشرذمًا، وتمزقت أوصاله أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، ثم يصعب التجميع بعد ذلك من أجل استعادة حلم الستينيات، عندما كان للعرب مشروعٌ قومي تَقدُّمي اشتراكي وحدوي أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ.
ومع ذلك تتراءى أمام العرب بعض مظاهر الأمل. فيتعلقون بها كما يتعلق الغريق بطوق النجاة؛ فالمقاومة في العراق مستمرة، والقوات الأمريكية موحولة في طمي العراق مهما دمرت مساجده ومآذنه وتمثال بانيها أبي جعفر المنصور، ومحو ذاكرتها التاريخية في اللغة والشعر والفلسفة والفن، وتتكرر مأساة فيتنام، وينتصر شعب فيتنام على أعتى آلة جهنمية للحرب؛ فالاحتلال مداه قصير، والاستقلال الوطني هو المدى الطويل.
والمقاومة الفلسطينية ما زالت ترفض الاستسلام الكامل والتنازل عن الأرض والقضية، وبالرغم من صعوبة الحوار بين فتح وحماس، وبين فصائل المقاومة والسلطة الوطنية، فإن العملية النوعية الأخيرة بهجوم فصيل من فصائل المقاومة على موقع عسكري إسرائيلي، بالرغم من الحائط العازل، ومراكز الإنذار الإلكتروني، والعربات المصفحة، والدبابات، رفعت الروح المعنوية للفلسطينيين الذين كانوا على مشارف الاقتتال فيما بينهم، وتجاوز الخط الأحمر، وأصبحت المقاومة الفلسطينية في موقف قوة وليست في موقف ضعف. تقتل جنود الاحتلال المحصنين لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ، وترفض إسرائيل أن تقوم بتبادل الأسرى الفلسطينيين من النساء والأطفال مع الأسير الإسرائيلي، وتتزايد أعداد الأسرى يومًا بعد يوم بأسر جندي آخر في الضفة الغربية، بعد أن بدأت إسرائيل بشن حملتها العسكرية الواسعة لاحتلال القطاع. والمقاومة تنتظره بالسواتر الترابية والحفر والصواريخ في الأزقة والشوارع. ويستعيدون حرب أكتوبر، الجندي في مواجهة الدبابة، وكما عجزت آلة الحرب الجهنمية الأمريكية عن البقاء في فيتنام والعراق؛ فإن حليفتها إسرائيل بما لديها من أعلى نوعيات السلاح الأرضي والجوي والبحري ستغرق أيضًا في رمال غزة.
وتشتد المقاومة الأفغانية وتتجمع قواتها من جديد؛ من أجل طرد المحتل الأمريكي. وقد كان جيفارا يطالب بخلق أكثر من بؤرة ثورية تقاوم قوات الغزو الأمريكي؛ حتى تتبعثر وتتشتت أمام ضربات المقاومة في كل مكان، ويتحرك الشارع العربي في لبنان ومصر والأردن والكويت بهذا الخيط الضئيل من الأمل؛ ليسترد عافيته وينفض عنه غبار السكون والقعود على مدى نصف قرن، يأخذ مصيره بيده ويدافع عن كرامته ويتصدى بنفسه لأعدائه في الداخل والخارج.
سيظل هذا الجدل العاطفي قائمًا عند العرب، جدل اليأس والأمل؛ حتى يتقلص اليأس ويزداد الأمل، ويخرج الشعب العربي من قبو التاريخ ويعود إلى مساره من جديد. عجلة التاريخ تدور بقانونه الخاص وتفاعل إرادات الشعوب معه، ولا يتوقف مساره، بل يبطؤ فقط إذا وقفت الشعوب متفرجة عليه من دون أن تتفاعل معه وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا.