الوطن والمواطن
(١) الأوطان الطاردة١
ظاهرة استفحل أمرها في القاهرة وربما في عواصم عربية أخرى، ظاهرة الأوطان الطاردة. الوطن يطرد أبناءه، ويُخْرِج أحشاءه؛ فيصبح الوطن طاردًا، والمواطن مطرودًا.
قبل السبعينيات كانت الهجرة خارج الأوطان مَحدُودة، لا يَقْدِر عليها إلا الكوادر العليا، كيفٌ دون كم، مع أقل قدر من الاحترام في السفارات والقنصليات الأجنبية. كانت الفكرة الشائعة ارتباط المصري بوطنه، والفلاح بأرضه، يشكو غُربته إذا غادر قريته إلى المدينة، في حين كانت الهجرة منذ القرن التاسع عشر عادة بَرِّ الشام في سوريا ولبنان إلى أقصى بلاد الأرض، أمريكا اللاتينية، البرازيل والأرجنتين في جنوب نصف الكرة الغربي، وأبدعت أدب المهجر بكل ما فيه من سمات الرومانسية والحنين إلى الأوطان، في حين لا يوجد أدب مَهْجَر مصري.
وقد تَنوَّعَت أسباب الهجرة منذ السبعينيات حتى الآن منها البحث عن الرزق ومجال أوسع للعمل من المهنيين والكوادر العليا الذين ضاقت بهم بيروقراطية البلاد وعدم فاعليتهم كأصحاب علم وخبرة، ومنهم الآن الجراحون وعلماء الطبيعة والاقتصاديون العالميون، يَعْتَلون أعلى المناصب في الجامعات والمؤسسات ومعاهد البحث العلمي والمنظمات الدولية، ويحصلون على الجوائز العالمية، وهم مطرودون خارج الأوطان، ومنها الخلاف السياسي مع نُظُم الحكم ومطاردتهم داخل الأوطان، بل البحث عنهم أحياء أو أمواتًا، من الإخوان أو الشيوعيين، وانتهوا إلى ترك السياسة والانخراط في المجتمع الجديد، وأصبحوا من رجال الأعمال الناجحين باستثناء البعض منهم الذي استمر في نشاطه السياسي على المستوى الدولي بإمكانات أكبر وبِحُرِّيَّات بلا حدود في المجتمعات الغربية التي يعيشون فيها، وقد اتسعت وتيرة هجرة بعض أقباط مصر خاصَّةً إلى أستراليا وأمريكا وكندا بحثًا عن الرزق وإن غُلِّفَ ببواعث طائفية طلبًا لمزيد من الحرية للهويات الدينية، وأخيرًا اتسعت ظاهرة العمالة المهاجرة غير المتخصِّصة خاصَّةً في دول الخليج والسعودية وأحيانًا الأردن وليبيا؛ فالتعمير مطلوب، والتعليم واجب.
والوطن الطارد هو الوطن المفكك الذي فقد قدرته على الجذب، وغاب مشروعه الوطني، وانهارت تجارب حداثته المتعددة، والمواطنون كالأنقاض فيه تتدحرج هنا وهناك بعد أن انهار البناء؛ كي تُبنى من جديد في مكان آخر. الوطن الطارد فقد قلبه وغاب عقله، وتجمدت أطرافه، وقد تَتقطَّع أوصاله حتى يتحول كله إلى أقليات وسط عالم يتوحد مركزه، وتتفتت أطرافه باسم العولمة.
وإذا كان العمل مشروعًا، وأرض الله واسعة، وما من دابة في الأرض إلا وعلى الله رزقها، إلا أن الطريقة التي يتم بها طلب الهجرة تنال من احترام المواطن لنفسه، وتُقلل من هيبة الوطن وكرامته؛ فالطوابير أمام السفارات في القاهرة من الصباح الباكر في الشوارع وعلى الأبواب الحديدية، ووراء شرطة الأمن الخاصَّة والعامَّة، وخلف الحواجز الحديدية وكأنها زيارة الأهالي إلى الأبناء المعتقلين في السجون ودور الأمن، والانتظار وقوفًا في الشوارع، في برد الشتاء وقيظ الصيف، بلا قاعات انتظار ولا مقاعد للجلوس إلا في حالات قليلة، وحارسو السيارات يساومون على التقدم في الطوابير بثمن خاص، وبأسبقية الحجز؛ لأنهم أصدقاء الحراس أو بوابي السفارات، ووراء النوافذ موظفون مصريون، غلاظ شداد، يعقِّدون أكثر ممَّا يحلُّون، ويرفضون أكثر مما يقبلون، ويُؤجِّلُون أكثر ممَّا يُشَهِّلون؛ فالأوراق ناقصة، وغير مُصدَّقة، وشهادات البنوك غائبة، والدعوات غير واضحة، والكفيل غير معلوم، وإن كان المتقدِّم سعيد الحظ قُبِلَت أوراقه وعليه الانتظار حتى يأتي الرد أو يتحدد موعد المقابلة أو الاتصال هاتفيًّا على رقم لا يعمل أو مشغول طيلة الوقت أو يتحول بصوت آلي من رقم داخلي إلى رقم آخر حتى تدور الدائرة مرة ثانية، ولا بد من التأمين، والشركة على الناصية حتى يمكن علاج المهاجر إذا ما حدث له مكروه، والآن لا يستطيع طالب الهجرة أو التأشيرة الاقتراب من القصور الفخمة في الزمالك أو من الشقق الفاخرة في البنايات الجديدة إلا بموعد سابق قد يأتي بعد أسابيع أو أشهر حتى وإن فات موعد المؤتمر أو وقت الصفقة، وصورة المواطن المسكين في ذهن القنصليات الأجنبية التي بيدها أوراق اعتماده أنه ليس فقط مهاجرًا طالبًا الرزق بل هو إرهابي يمارس العنف، ويريد الهجرة بطرق غير شرعية، هو أولًا ثم أسرته وأقاربه وجيرانه وأهل قريته بعد ذلك. لا فرق بين هجرة ومُؤتمَر، بين عامِل وأستاذ، بين عاطِل وعالِم، والمستشار الثقافي لا يستطيع أن يفعل شيئًا إلا من خلال القنوات الرسمية، وكذلك المستشار السياسي لا يستطيع أن يفعل شيئًا أمام أمن وطنه.
وفي الوقت ذاته الذي يطرد فيه الوطن مواطنيه يجذب عمالة آسيوية خاصَّةً في الخليج حتى يأمن الخطر السياسي من العرب، قوميين أو إسلاميين أو ليبراليين، ويأتي بعمالة آسيوية، ذكورًا بلا إناث، عوائل بلا أُسر تحت رحمة الكفيل وحجز جواز سفره، يسيطرون على الأسواق والأعمال اليدوية في الزراعة، وقليلًا ما يتكلمون العربية، وقد يحدث تنافس بين المجموعات المهاجرة على فرص العمل إذ لا يجمعهم جامع إلا الرزق وليس الوطن أو الأمة.
وينتقل المهاجر من جحيم إلى جحيم، من جحيم الوطن الطارد إلى جحيم الغربة وغياب الوطن البديل، يعمل كأجير في غير وطنه، ويصبر على الضيم وهضم الحقوق، وسوء المعاملة، وصعوبة تسوية أوراق العمل والهجرة، يعيش مع ذويه في محميات عربية أو آسيوية، ويخلق الوطن البديل من داخله، صورة مصغرة للوطن الطارد، ما دام أن الوطن البديل لم يستوعبه ولم يقبله، وما دام أنه لم يندمج فيه فيتحول الوطن الطارد في الداخل إلى جيتو في الخارج؛ لأن الوطن البديل أيضًا وطن طارد يرفض أن يندمج الأجنبي فيه؛ فالوطن البديل في الغرب عنصري في اللون، ومركزي في الثقافة، لديه عُقدة تَفوُّق تجاه الجميع. يتحقق الهدف المادي، إشباع الحاجات الأساسية، ولكن يظل البؤس الروحي، يحن إلى الوطن الأم ومآسيه، ولا عزاء عنه في وفرة الوطن البديل.
وانتهت كل المحاولات لربط المهاجرين بالوطن الأم إما عن طريق المشاركة في نهضة الأوطان بالعلم وإما بالإنتاج، إما بالنهضة وإما بالاستثمار إلى الخطابة وكلام الندوات وإعلانات الصحف، ولم تتجاوز الجنسية المزدوجة لسهولة السفر والتنقل. لم يتحول الشتات إلى «عاليا» كما هي الحال لدى المهاجرين إلى إسرائيل، وجنسية اليهود المزدوجة بين الوطن الأم الذي هاجر منه والوطن البديل الذي هاجر إليه، ويصعب أن يتحول الولاء المزدوج إلى الولاء إلى الوطن الأصل.
لقد حاول العراق بناء مدينة العلماء، ودعا كل العلماء العرب في الأوطان الطاردة أو الأوطان البديلة إلى الحضور لبناء عراق المستقبل، وانزعجت إسرائيل، واغتالت يحيى المشد عالم الذَّرَّة المصري في العراق حتى تظل هي وحدها كعبة العلماء من المهاجرين اليهود، وما زالت حتى الآن الأوطان طاردة لمواطنيها ليس فقط إلى الخارج، بل أيضًا إلى الداخل في جماعات سرية تحت الأرض تمارس العنف بين الحين والآخر. فالهجرة إلى الخارج وإلى الداخل، إلى العالم وإلى النفس، الأولى هجرة إلى أهل الكتاب، الثانية هجرة من بلاد الكفر.
فهل تتدخل وزارات الخارجية في الوطن العربي لحماية مواطنيها من طرق طلب الهجرة وأساليبها دفاعًا عن كرامة مواطنيها؟ وهل طوابير الخبز تمتد أيضًا إلى طوابير الهجرة؟ وهل سوء معاملة جهاز الدولة للمواطنين يبرر سوء معاملة القنصليات الأجنبية لهم وكأننا عدنا إلى عهد الاستعمار القديم؟ وإن قيل قديمًا: «لا كرامة لنبي في وطنه» فهل يقال حديثًا: «لا كرامة لمواطن في وطنه»؟
(٢) الدولة الأمنية٢
عرف تراثنا الفلسفي السياسي القديم أنواعًا من المدن سماها الفارابي المدينة الفاضلة التي يحكمها العقلاء ويعيش فيها الناس سعداء، والمدينة الجاهلة عكسها، وهي على أنواع؛ المدينة الجاهلية التي لا تعي شيئًا ولا ترى شيئًا ولا تُبصر شيئًا من عواقب الأمور، والجهل ليس مصدرًا من مصادر العلم، والمدينة البدالة التي كانت مدينة فاضلة ثم انقلبت على نفسها وتحوَّلت إلى مدينة مضادَّة، ومدينة الخِسَّة التي لا يحكمها مبدأ ويتحكَّم فيها الأراذل والأشرار، والمدينة الفاسقة التي يتحكم فيها الفساد والمال والنهب والسلب وتهريب الأموال، والمدينة الضالَّة التي حادَت عن الطريق وخرجت على ثوابت الفضل، وأخيرًا مدينة التَّغلُّب التي تقوم على الغلبة والقوة وتعتمد على العسكر والشرطة في الداخل قبل الخارج، مدينة التسلط والقهر والطغيان.
كما عرف التاريخ السياسي الحديث عدة دول في الغرب وفي الشرق على السواء، منها الدولة الليبرالية التي تقوم على الحريات العامَّة للمواطنين، حرية الفرد وديمقراطية الحكم، والعقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم، والفصل بين السُّلطات، وحقوق الإنسان والمواطن، وأصبحت أشهر نموذج للدول، يقدمها الغرب لغيره من الشعوب حقًّا أو باطلًا؛ نظرًا إلى المعيار المزدوج الذي يمارسه؛ تفرقة بين الشعوب والثقافات.
وقد تَحوَّلَت الدولة الليبرالية بما تمخَّض عنها من نظام رأسمالي إلى دولة الرفاهية أو الوفرة؛ نظرًا إلى فائض الإنتاج لديها بعد إشباع الحاجات الأساسية للشعب، وهو النموذج الذي تدعيه الولايات المتحدة والدول الإسكندنافية بالرغم من وجود الفقر في الولايات المتحدة في أبالاشيا، ولدى الأمريكيين من أصل أفريقي، وجماعات المهاجرين من أصل إسباني، الشيكانو، وكثير من الأقليات، وبالرغم من سوء معاملة المهاجرين العرب خاصَّةً المَغاربة في البلاد الشمالية.
وفي مقابل ذلك أعطى الشرق نموذج الدولة الشمولية التي تعطي الأولوية فيها للنظام على الفرد، وللأيديولوجيا على الرفاهية، وللسُّلطة على الشعب، وقد انهارت هذه الدولة بانهيار النُّظُم الشمولية ابتداءً من أوروبا الشرقية حتى الاتحاد السوفييتي السابق.
أما نحن العرب فقد أعطينا نظمًا لدول أخرى، بدأناها بالدولة الوطنية التي أسسَّناها بعد حركات التحرُّر الوطني، وأحيانًا تُسمَّى الدولة الوطنية الحديثة على نموذج الدولة الوطنية في أوروبا، بعد انهيار الإمبراطوريات الأوروبية، وانهيار الإمبراطورية العثمانية، وأصبحت نموذجًا للدولة المناهِضة للاستعمار والصهيونية باعتبارها نوعًا من الاستعمار العنصري الاستيطاني في فلسطين وجنوب أفريقيا، وهي الدولة التي تقوم على التخطيط الاقتصادي، والقطاع العام، ودَعْم المواد الغذائية للطبقات الفقيرة، والتصنيع، ومجانية التعليم، وتحديد إيجار المساكن، وتوفير العمل لكل الخريجين، والتأمين الصحي والضمان الاجتماعي، وتحالف قوى الشعب العامل في حزب طليعي تقدمي واحد.
ثم بدأت هذه الدولة الوطنية في الانهيار التدريجي على مدى نصف قرن، وانقلبت على نفسها، وتحوَّلَت إلى ثورة متحالفة مع الاستعمار، متصالحة مع الصهيونية ومعترفة بها، وبيع القطاع العام إلى القطاع الخاص، والاستيراد، ورفع الدعم عن الطبقات المحرومة في الغذاء والسكن والصحة والتعليم، وإنشاء المدارس والجامعات الخاصَّة، وازدياد معدل البطالة، وتَحوَّل الحزب الطليعي إلى حزب حاكم واحد يقوم بأشد أنواع القهر باسم الأغلبية بعد تزوير الانتخابات؛ فنشأت لدينا الدولة التَّسلُّطية التي تحكم باسم المَلكية أو العسكرية، باسم قريش أو الجيش، من دون بَيعة حُرَّة من الناس ومن دون اختيار حر بين مرشحين، تحكم بقانون الطوارئ والأحكام العرفية.
كما عرف العرب أخيرًا «الدولة الرخوة» التي فقدَت عصبها وصلبها، وأصبحت تابعة للخارج، حدودها مفتوحة لقوانين السوق، وإرادتها الوطنية المستقلة مفقودة بدخولها في أحلاف عسكرية تحت مسمَّيات عديدة؛ التدريب أو المناورات المُشترَكة، الأمن الإقليمي. وهي الدولة التي لم يَعُد يهابها أحد في الداخل، وأصبحت ثرواتها نهبًا للناهبِين.
وعرف العرب أيضًا «الدولة الريعية» التي يقوم اقتصادها على ريع واحد هو ريع النفط، وفي حالة الاستغناء عن النفط ببدائل أخرى للطاقة، أو في حالة انخفاض الأسعار بإغراق السوق بكميات من النفط، أو في حالة احتلال آبار النفط من دولة إقليمية أو قوة عظمى؛ حماية للاقتصاد الغربي؛ ينتهي ريع الدولة فتنتهي الدولة.
والأخطر من ذلك كله، وهو القاسم المشترَك بين الدول التي نشأت داخل النظام العربي هي «الدولة الأمنية» عصب الدولة التسلطية، وهي الدولة التي تحكمها أجهزة الأمن، والشرطة، والأمن المركزي، ومباحث أمن الدولة، والمخابرات العامَّة، باسم الأمن القومي ويعني أمن النظام. الدولة جزء منها وفي خدمتها، وليست هي جزءًا من الدولة وفي خدمتها. أجهزة الأمن أقوى من الرياسة ومؤسَّسات الدولة، والمجالس النيابية، والقضاء، والجامعات، والنقابات، والاتحادات، والجمعيات المدنية، والمُنظَّمات غير الحكومية، والصحافة القومية أو المعارِضة، والمظاهرات السلمية، وكل تعبير حر عن الرأي أو تحرُّك شعبي لمطالبة بحق؛ فالمباحث لها السلطة العليا على النيابة، ورجل المباحث له الكلمة على وكيل النيابة الذي يأمر بإخلاء سبيل المعتقَل، وينتظر الأمر النهائي من مباحث أمن الدولة، كما ابتهل أحد الشعراء «أبانَا الذي في المباحث.» ولا تستطيع الجامعة ولا وزارة التعليم العالي أن تُفرج عن الأساتذة المعتقَلين طبقًا لقانون الطوارئ، ولا يستطيع وزير، ولا مستشار للرئيس، ولا عضو في البرلمان، ولا رئيس لجنة فيه، أو عضو بارز في لجنة سياسات الحزب الحاكم، ولا صحفي مرموق في أولى الصحف القومية الإفراج عن مُعتقَل قُبض عليه قبل صلاة الجمعة بتهمة إمكانية توافُر نِيَّة التظاهر بعد الصلاة، بالرغم من أن المباحث قد أحضرت عشرات المأجورين من البلطجية لصالح التمديد بعد الصلاة.
ويعني الأمن في «الدولة الأمنية» أمن النظام وليس الأمن القومي، الأمن السياسي وليس الأمن الاقتصادي، أمن الحُكْم وليس أمن البلاد. الأمن هو الذي أجَّل عودة العلاقات بين مصر وإيران، بالرغم ممَّا يفرضه الأمن القومي في مصر بعودة العلاقات في مواجَهة الكيان الصهيوني والهجمة الجديدة من الاستعمار على الوطن العربي من القُطب الأوحد في العالم، وهو الذي فرض السلام المنفرد مع إسرائيل، والتبعية للولايات المتحدة الأمريكية، والتخفف من المسئوليات القومية تجاه فلسطين والعراق، والتحلل من التضامن الإسلامي مع أفغانستان والشيشان وكشمير، وغياب الأمن في الداخل يُذْهِب الأمن في الخارج كما صَوَّر فيلم «الكرنك» تعذيبًا في السجون بالسِّياط داخل المعتقَلات، وقصفًا لمطارات مصر بطائرات العدو الإسرائيلي يوم ٥ من يونيو (حزيران) ١٩٦٧م. هو الأمن عن طريق عصا الأمن المركزي، والقنابل المسيلة للدموع في أيدي الشرطة، وعربات الأمن المركزي التي تحصد آلاف المصلين في المساجد الكبرى قبل الصلاة وبعدها، والأخذ بالشبهات عن طريق الضربات الوقائية، وهي حجة إسرائيل في العدوان على العرب في حروبها الأخيرة.
وكان الشعار من قبل «الشرطة في خدمة الشعب» وفي الواقع أصبح «الشعب في خدمة الشرطة»، ثم تحول إلى «الشرطة والشعب في خدمة القانون» وفي الواقع أصبح «الشعب والشرطة في خدمة السلطة». الشرطة صاحبة المقام الرفيع، والمُعتقَل في قيد حديدي بمعصم الشرطي، ورجل المباحث يسلب المعتقل تليفونه المحمول وماله؛ لأنها خطر على أمن الدولة، وأهالي المعتقَلِين ينتظرون طيلة النهار لعلهم يستطيعون إلقاء نظرة على الابن أو الأخ أو الزوج أو الأب أو القريب أو الصديق من «البوكس» إلى المحكمة أو من المحكمة إلى «البوكس»، طيلة النهار على باب المحكمة، ثم تتغير المحكمة من حي إلى حي أوسع بدلًا من تجمهر الأهالي وسد الطريق واختناق المرور، ويهرع الأهالي يلحقون بالمحكمة الجديدة وكأنهم في يوم الحشر.
في تاريخ كل شعب عصر الملوك وعصر القضاة، وفي تاريخنا الإسلامي كان الحاكم الأمير يقف أمام القاضي يستمع لحكمه الذي ينصف المحكوم من الحاكم، والمظلوم من الظالم. وكان في كل عصر وزير داخلية يمسك بالأمن الداخلي مثل «بريا» في الاتحاد السوفييتي سابقًا، والحجَّاج في أوائل دولة بني أمية، ما زالت الشرطة هي شرطة الملك أو الرئيس.
متى يسترد الشعب أمنه من «الدولة الأمنية»، ويسترد المواطن حقه من الشرطي؟ متى ينشد المصريون بصوت كوكب الشرق إحدى مقاطع «مصر تتحدَّث عن نفسها» لشاعر النيل «يا دولة الظُّلم امحِّي وبِيدي»؟
(٣) أين يذهب اللاجئ العربي؟٣
المواطن لاجئ في وطنه، في جنوب الوادي وشماله، وبدلًا من أن يربط النيل مَن على ضفافه فرَّق بينهم، ورماهم في بحر الغربة في الشمال على الضفة الأخرى للمتوسط في أوروبا، الملجأ والأمل الأخير.
ثلاثة آلاف لاجئ سوداني في القاهرة، أكثر أو أقل، فالفرد أمة بأكملها إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً. لفَظهم وطنُهم الأول، السودان الشقيق، الجمهورية السودانية أي السودان الجماهيري أي الدولة الشعبية، والنظام الذي يرعى مصالح الناس، لم يستطع إلا مؤخرًا حل قضية الجنوب في إطار من الحوار الوطني، والتعددية السياسية، وعدم التضحية بوحدة الأوطان من أجل تطبيق الشريعة الإسلامية مسلمين وغير مسلمين، وهي لا تُطبَّق إلا على المسلمين وحدهم، وليس فقط الحدود بل أيضًا الحقوق، ليس فقط قانون العقوبات بل أيضًا النظام السياسي القائم على أن الإمامة عقد وبيعة واختيار، وأن الرئيس منتخب من الشعب وليس ممثِّلًا لله، والنظام الاقتصادي القائم على الملكية العامَّة لوسائل الإنتاج، الزراعة (الماء، والكلأ)، والصناعة (النار)، والعمل فيه مصدر القيمة؛ فالمالُ لا يُولِّد المالَ بدليل تحريم الربا، وعدم تركيز المال في يد حفنة قليلة كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ، واستثماره من دون تبديده في الاستهلاك وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ، وبعد حرب أهلية كلفت السودان آلافًا من الشهداء تمت المصالحة الوطنية، ومخاطر الانفصال لم تتبدد بعد، ثم نشأت قضية دارفور وآلاف اللاجئين من الحرب الأهلية، وتدخلت القوى الكبرى في القضيتين، الجنوب ودارفور، للبحث عن حل تحت التهديد، وفرض العقوبات الدولية، وغاب العرب، وحضر الأفارقة وكأن أطراف الوطن العربي في الجنوب مع الأفارقة وفي الشرق مع الآسيويين؛ لا بد أن تتآكل تحت وطأة النعرات العرقية والطائفية، ثم حصار القلب في مصر وإجهاضه والقضاء على فاعليته ومركزيته بالتبعية للغرب وللولايات المتحدة الأمريكية خاصَّةً، وإحلال إسرائيل محلها تقوم بدورها في تحديث الوطن العربي وتجميعه وتوحيده في قطب مستقل، والأخطر هو الحكم على الثقافة العربية والإسلام في أجهزة الإعلام الدولية والقنوات الفضائية بالعنصرية والتسلط والتخلف وخرق حقوق الإنسان، الشباب والأطفال والشيوخ، واضطهاد الأقليات، ومهما حاولنا الدفاع عن الثقافة العربية وعن الإسلام المثالي بالنص إلا أن الواقع أبلغ من كل نص، خطوة إلى الأمام وخطوتان إلى الخلف.
ولجأ المواطنون السودانيون إلى شمال الوادي، إلى الأخت الشقيقة والجار الجنب طالبين الحماية والعون؛ فالشعب واحد في الشمال وفي الجنوب، ومصر للسودانيين هو الوطن الثاني بل الوطن الأول ثقافة ورحمًا، وعاشت عدة أجيال على شعار وحدة وادي النيل ووحدة مصر والسودان، وكما صرَّح أحد زعماء مصر الوطنيين «تُقْطَع اليد التي توقِّع على انفصال الجنوب والشمال.» وكانت مصر باستمرار ملجأ المهاجرين والمناضلين من أرجاء الوطن العربي كافة، بما عُرف عنها من تسامح وحُسن ضيافة وكرم مثوًى، وعلى مدى ثلاثة أشهر والأشقاء السودانيون في العراء في ميدان عامِّ معتصمين، يعيشون في ظروف لا إنسانية، نساءً وأطفالًا وشيوخًا، في برد الشتاء القارس وبلا حمامات عامَّة، يأكلون ويطبخون وينامون ويمارسون حياتهم الطبيعية تحت غطاء السماء كما يفعل المصريون على أبواب السفارات الأجنبية طلبًا لتأشيرات الدخول، لم تحاول مصر إعطاء مساكن للإيواء؛ احترامًا لحقوق الإنسان، وقيل: إن السبب هو التواطؤ بين النظامَين في الجنوب والشمال؛ فقد تعوَّدت النظم السياسية في الوطن العربي أن المواطنين بلا حقوق، وعليهم واجبات، كما تعَوَّد الغربيون على أن لهم حقوقًا وليس عليهم واجبات، ثم جاء الأمر بفض الاعتصام بالقوة بعد أن فشلت محاولات الحوار كما يقال بين المسئولين الثلاثة: جنوب الوادي وشماله والمفوضية العليا للاجئين التي تمثل العالم الحر، وتم ذلك بالعنف، بخراطيم المياه، والهِراوات، والسَّحْل والضرب للأطفال والنساء والشيوخ وبالغازات المسيلة للدموع حتى سقط حوالي الستين شهيدًا، وضِعْفهم من الجرحى، ومثلهم من الشرطة المصرية وقوات الأمن المركزي لمكافحة الشغب، خمس وعشرون كتيبة من الأمن المركزي، يرافقهم خمسمائة ضابط بدعوى النظافة، وحماية البلاد من خطر «الإيدز»، وشكوى السكان بالبنايات المجاورة، واحتمال التظاهر المضاد، وقوات الأمن المركزي قد دُرِّبت على الطاعة المطلقة باستعمال أقصى درجات العنف؛ فهي أداة النظام للبطش بالمواطنين العاصين منذ النظام الملكي حتى اليوم.
وبعد أن فَرَّ المواطن السوداني من وطنه الأول الذي لم يُراعِه إلى وطنه الثاني الذي لم يَحمِه، لجأ إلى الوطن الثالث المأمول إلى المفوضية العليا للاجئين، والأمم المتحدة، ونظام العالم لحمايته بعد أن تخلَّى عنه وطنه في الجنوب وأولاد العمومة في الشمال، تأخَّر صرف الإعانات للاجئين، كما تأخَّر الرد على طلبات الهجرة إلى أستراليا وكندا، والمهانون في أوطانهم وفي عروبتهم لماذا لا يُهانون أيضًا في المنظمات الدولية التي ما زال يحكمها تصور الرجل الأبيض للملونين، بقايا الرق من أفريقيا الذي أُحضر عنوة إلى العالم الجديد وإلى أوروبا للبناء والتعمير، وأوروبا تُعاني من الهجرة، من جنوب المتوسط إلى شماله، ويريد الاتحاد الأوروبي الحد منها في حين تم تسهيل هجرة «الفلاشة»، يهود إثيوبيا إلى إسرائيل بسهولة ويُسر، وتهجير آلاف اليهود من روسيا والدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية إلى إسرائيل، والذي وصل في العقد الأخير إلى المليون، بل إن أمريكا كلها الآن والتي يزيد مقدارها على المائتي مليون شعب من المهاجرين، وتدعي أوروبا رعاية حقوق الإنسان، وتنقد غيرها لخَرْق حقوق الإنسان، وفي الممارسة الفعلية لا فرق بين أوروبا وغيرها ما دام الأمر يتعلق بالمُلوَّنِين؛ فحقوق الإنسان تراعى فقط داخل حدود أوروبا الجغرافية، وتنتهي خارجها.
وكلٌّ من الأوطان الوهمية الثلاثة تلقي المسئولية على الآخر؛ فالسودان تلقي المسئولية على مصر، تترك المُقدِّمات وتأخذ النتائج. المشكلة في الجنوب وفي دارفور وتُرحَّل إلى مصر، ومصر تلقي اللوم على المفوضية الدولية للاجئين، أنها لم تَقُم بدورها في حل قضايا اللاجئين السودانيين، والمفوضية الدولية صامتة، لا تعليق؛ فأزمة الأوطان داخلية لا تحلها المنظمات الدولية، وما دام السلام قد حَلَّ في ربوع السودان في الجنوب وفي الغرب، فعلى اللاجئين العودة إلى وطنهم الأصلي، والأوطان تدفع بمواطنيها إلى الهجرة كالقبور التي تلفظ أجسادها يوم الحشر، وانهارت حُجَّة العرب ضد معاملة إسرائيل للفلسطينيين، وقوات الاحتلال الأمريكي في الفالوجة والقائم للعراقيين؛ فالعرب يفعلون الشيء ذاته بأنفسهم. تفعل مصر بالسودانيين الشيء ذاته. ويُعذب أسرى جوانتانامو في الوطن العربي الذي تمارس سجونه التعذيب وليس في سجون الغرب؛ حرصًا على الشكل، وخوفًا من تسريب الإعلام.
لم يبقَ للاجئين إلا الوطن الرابع، بعد السودان ومصر والمفوضية الدولية لشئون اللاجئين، وهي الراحة في السماء بعد الاستشهاد؛ ففي السماء مُتَّسَع للجميع، وللشهداء الرَّوْح والريحان؛ فنعيم السماء خير بديل عن شقاء الأرض.
وإذا كان هذا هو الحل للشهداء، فما زال الأحياء يفترشون الأرض، ويستمرون في المقاومة، يساندهم المصريون. إن مجرد الإدانة من أحزاب المعارضة لا تكفي، بل النزول إلى الشارع والاعتصام المشترك في المكان ذاته، والوقوف أمام أجهزة الأمن. لقد قام الشعب باسترداد حقوقه من المحتل الغاصب في أثناء حركات التحرر الوطني، ثم بدأت الدولة الوطنية التابعة في التَّفسُّخ والانحلال. فدور الشعب الآن استئناف مرحلة ثانية من التحرر الوطني ضد الهيمنة الجديدة والعدوان العسكري المباشر في العراق وأفغانستان، وتهديد سوريا ولبنان وإيران، وضد التَّسلُّط والطُّغيان والقهر والاستبداد في الداخل.
متى يجد اللاجئ العربي وطنًا له؟
(٤) أين العرب؟٤
لم يصل العرب إلى أسوأ فترة في تاريخهم الحديث كما وصلوا إليه الآن من عدم اعتراف أحد بهم أو أخْذِهم في الحسبان في مجريات الأحداث المحلية والدولية؛ فالوطن العربي فارغ من شعوبه وحكوماته، كما قيل عن فلسطين من قبلُ بِنِيَّة الاستيطان الصهيوني فيها في أوائل القرن الماضي: مُقايَضة شعبٍ بلا أرض، بأرضٍ بلا شعب، منذ وعْد بلفور، والآن تتم مقايضة ثانية، وطن بلا أمة، وهو الوطن العربي، بأمة خارج الأوطان، إسرائيل الكبرى، أو الإمبراطورية الجديدة الولايات المتحدة الأمريكية واللتين تعم إرادتهما فوق كل الأوطان.
وقد بدت مظاهر غياب العرب في هذه الأيام بصورة فاضحة عندما طلبت الولايات المتحدة الأمريكية الدخول في مفاوَضات مع عدوِّها اللدود إيران بشأن مستقبل العراق! والعراق — كما يُقال في أدبياتنا السياسية والتي ثبتت لنا من عصر الخطابة — «البوابة الشرقية» للوطن العربي، وبانهيارها ينهار المشرق العربي كله في سوريا ولبنان والأردن وفي الخليج، وتبقى مصر عارية في جناحها الشرقي بلا دفاع، خاصَّةً وأنها أصبحت خالية من صلاح الدين، والظاهر بيبرس، ومحمد علي، وعبد الناصر، وعلى هذا الأساس تم تدعيم العراق بالسلاح في حربه ضد إيران؛ خوفًا من المد الشيعي في الوطن العربي السُّني، ومن امتداد الثورة الإسلامية من إيران إلى باقي الأقطار العربية.
لم تطلب الولايات المتحدة الأمريكية من الأنظمة العربية الصديقة التعاون معها بشأن انسحاب مُشرِّف لقواتها من العراق، خاصَّةً وأنها لا ترفض شيئًا تطلبه أمريكا. لم تطلب من الخليج الصديق، وقواتها فيه منذ العدوان على العراق، وقيادة أسطولها وقواعدها على أرضه، ولم تطلب ذلك من السعودية الحليفة بالرغم من الخلاف الأخير بينهما حول التحوُّل الديمقراطي وإيقاع الإصلاح، ولم تطلب ذلك أيضًا من الأردن الصديق صاحب الحدود المشترَكة مع العراق، وكثير من المهاجرين العراقيين فيه، بل لم تطلب ذلك من مصر الشقيقة الكبرى، بما لها من إرث تاريخي في العمل العربي، ومقر الجامعة العربية والتي قامت بتسليح العراق ومساعدته على تحرير الأغوار وجزيرة الفاو عندما بدأت الدائرة تدور على العراق، وتقدمت القوات الإيرانية نحو البصرة.
طلبت الولايات المتحدة مساعدة إيران لحل ورطتها في العراق؛ بدعوى ضمان مستقبل العراق، وإيران هو العدو الذي يَقضُّ مضاجع الولايات المتحدة منذ نجاح الرئيس الحالي في الانتخابات، وإعلانه ما يدور في قلب كل عربي مسلم، وما تَربَّت عليه عدة أجيال من ضرورة عودة اليهود من حيث أتوا، وعودة فلسطين إلى أهلها، وهو ما أعلنه من قبل أيضًا رئيس وزراء ماليزيا السابق، كما تصر إيران على حقها الشرعي في تخصيب اليورانيوم، والاستمرار في بحوثها النووية السلمية، وإصرار أمريكا على أن ذلك تهديد لأمنها القومي وأمن حليفتها إسرائيل التي تمتلك ترسانة نووية تُقدَّر بما يزيد على مائتي رأس نووي، ولم توقِّع حتى الآن على معاهدة انتشار الأسلحة النووية، ولم توافق أمريكا على اقتراح العرب بجعل منطقة الشرق الأوسط خالية من السلاح النووي وأسلحة الدمار الشامل، كما ترفض إيران العدوان العسكري على العراق وتهديد سوريا، ونزع سلاح المقاوَمة في جنوب لبنان، وتعتز بقوتها العسكرية وبطول مدى صواريخ «شهاب» القادرة على أن تطول إسرائيل من دون خوف، وهي المؤثِّرة في محيطها الإقليمي الغربي عن طريق شيعة الخليج، والشمالي في باكستان وأفغانستان وأواسط آسيا وامتدادها الشرقي إلى الهند وماليزيا وإندونيسيا، وكانت مصر في العصر المَلكي تعرف قدرها وتصاهرها، وكان عبد الناصر يؤيد ثورتها منذ مصدق حتى الخُميني، ويمد مجاهدي خلق بالسلاح لإسقاط نظام الشاه التابع للولايات المتحدة والمتحالِف مع إسرائيل، ونحن الآن نخاصمها منذ اندلاع الثورة، ونوصد الأبواب في وجهها بدعوى تصدير الثورة، وهي تمتلك السلاح النووي ونحن لا نمتلكه، ونحتج في ذلك باسم شارع أو صورة، ونضحي بالمصالح الوطنية العليا من أجل شخص، والغرب لا يحترم إلا القوي، المُعْتَد بنفسه وليس الضعيف التابع، السائل للعدل، والشحاذ للسلام.
وبسبب غياب العرب أيضًا تم انقضاض إسرائيل على سجن أريحا لخطف رئيس الجبهة الشعبية «أحمد سعدات» ورفاقه بعد أن تم اغتيال رئيسها السابق بالرغم من وجود اتفاق دولي أمريكي بريطاني إسرائيلي فلسطيني على وجود مراقبين دوليين للاطمئنان على وجود الرفاق في السجن بعد محاكمتهم أمام القضاء الفلسطيني، وتم التواطؤ وانسحب المراقبون قبل الغزو الإسرائيلي؛ إحراجًا للسلطة الوطنية الفلسطينية، فهي لا تحكم، وغير قادرة على الدفاع. وإسرائيل التي لم تَحتَل أريحا كما احتلت باقي مدن فلسطين في الضفة الغربية قادرة على احتلالها واختطاف من تشاء، وهو أيضًا إحراج لحماس وللحكومة الجديدة، فماذا ستفعل أمام هذا التحدي؟ إن صمَتَت كالسلطة فقد سقطَت في أعين ناخبيها ومجموع الشعب الفلسطيني، وإن ردَّت بالقوة تم اغتيال رئيس الوزراء الجديد. وهو إحراج لمصر الشقيقة الكبرى التي دخلت أربع حروب؛ دفاعًا عن أمنها القومي في فلسطين. وهو إحراج للأمة العربية كلها التي أصبح وطنها مُستباحًا في الأرض والجو. وهي العقلية الأمريكية ذاتها عندما قامت أمريكا بخطف نرويجا رئيس وزراء بنما من قصره، وهو حليفها وتاجِر مخدراتها. وينتقل الرفاق من سجن الوطن إلى سجن العدو بلا ملابس ساترة؛ إمعانًا في الإذلال، وهو عدم اعتراف بالقضاء الفلسطيني الذي أصدر حكمه وينفذه. فكل شيء مباح في أراضي العرب وفي لعبة الانتخابات الإسرائيلية، وكسب أصوات الناخبين بالمزايَدة في سوء معاملة العرب، وإنكار وجودهم، وجرح كرامتهم، ومحو ذاكرتهم.
وتستمر الإهانات للعرب إلى درجة إنكار وجودهم كلِّيةً وإخراجهم من الحسبان في أي معادَلة، فلا يوجد شريك فلسطيني يُمثِّل الشعب الفلسطيني، ويمكن التفاوض معه، لا رئيس السلطة الوطنية السابق، ولا رئيسها الحالي، ولا الحكومة الحالية المنتخَبة ديمقراطيًّا، بل تُهدد إسرائيل بقتل رئيس وزرائها إذا ما وقعت حادثة أو فعل من أفعال المقاوَمة. لم تعترف إسرائيل بالعرب كطرف مفاوض، ثم أصرت على مفاوضة العرب، كل قطر على حدة؛ فوقع الصلح المنفرد مع مصر والأردن وموريتانيا مع وجود مكاتب اتصال أو تجارة مع هذا القُطر أو ذاك.
والآن يُتخذ قرار في الأمم المتحدة لإرسال قوات أمن دولية في دارفور بدلًا من قوات الاتحاد الأفريقي من دون موافقة حكومة السودان، وتمهيدًا للانفصال وتجزئة السودان بين شمال وغرب وشرق وجنوب، والسودان أمن مصر القومي في الجنوب، كما أن فلسطين أمنها القومي في الشمال، ولا يتحرك العرب؛ فالعرب لم يعودوا طرفًا في أي نزاع ولا أي تسوية.
أصبح الوطن العربي بلا صاحب؛ فقد غاب عنه أصحابه، وتُفرض الخطط والمشاريع عليه؛ الشرق الأوسط الكبير، المتوسطية، وبعد احتلال فلسطين والعراق، تُهَدَّد سوريا ولبنان والسودان ولا أحد يدافع عن كرامة الأوطان.
والمرة الوحيدة التي حضر فيها العرب عندما احتاجت أمريكا إلى شرعية لغزو العراق بعد أن خذلَتْها الأمم المتحدة؛ فدعت مصر إلى مؤتمر القاهرة قبل الغزو وشرَّعت للتدخل الأمريكي بأغلبية صوتين، بل دفعت مصر وسوريا ببعض قواتهما مع قوات التحالف لغزو العراق بدعوى تحرير الكويت، واستُعْمِلت البحار والخلجان العربية لضرب العراق بالصواريخ طويلة المدى، وكان الثمن إلغاء بضعة مليارات من ديون مصر، وسقط بيان دمشق في مسئولية العرب عن حماية الخليج والتصدي للعدوان على الأوطان.
وانكمشت مصر داخل حدودها واقتصر دورها على الوساطة بين الفصائل أو بين السُّلطة الوطنية وإسرائيل أو على تدريب الشرطة الفلسطينية أو على التوسُّل لفتح المعابر لإرسال الطحين لقطاع غزة حتى لا يجوع أطفاله بعد أن عمَّت طوابير الخبز في القاهرة وغزة.
وما زالت أغنية جوليا بطرس تصدح في الآذان «وين العرب وين؟»
(٥) العرب والهرب٥
سئم العرب من نَقْد ذواتهم، جَلْدها وتعذيبها، كما يفعل العاجز أو «الماسوشي» الذي يجد لذَّته في إيلام نفسه وتعذيبها؛ لأنه لم يَعُد قادرًا على الرؤية؛ فقد انفصم عن العالم، ولم يجد إلا ذاته يغرق فيها ويحتمي بها حتى لو كان بالنواح والصراخ.
لقد خرج العرب من التاريخ في العالم ذي القُطب الواحد، لم يستعدُّوا له، وظنوا أن ما قاموا به من حركات التحرُّر الوطني وما حصلوا عليه من الدول الوطنية الحديثة في عصر الاستقطاب هو أقصى إنجاز، ونهاية التاريخ. فلما تحوَّلت الدولة الوطنية إلى دولة تابعة للخارج وقاهرة للداخل، وعاد الاحتلال من جديد؛ خرج العرب صفر اليدين، واستمر التاريخ في مساره الجديد، ولم يَسْتعِد العرب له؛ فخرجوا منه، وحدَّد مساره الأقوياء؛ الإمبراطورية الأمريكية الجديدة وإسرائيل الكبرى، وطُلِب من العرب الرضوخ له، والرضا بوضعهم فيه في مشاريع الشرق الأوسط الكبير، والمتوسطية. إسرائيل في المركز بدلًا من مصر، وأقدر على تحديث دول الجوار، وأمريكا تحمي الكل من الخطر الإيراني والإرهاب الإسلامي بديلًا عن الخطر الشيوعي.
وقَبِلَ العرب ذلك بالرغم من إمكاناتهم المادية والمعنوية، موقعهم الجغرافي بين القارات الثلاث، وما لديهم من مصادر الطاقة، وعائدات النفط، وأسواق شاسعة، ومواد أولية وفيرة، وعقول تُفكر وتُخطط، وسواعد تعمل وتنتج، إلا أن الطموح ينقصهم؛ فقد انهارت الخلافة التي كانت تحميهم وتُوجِّههم في ١٩٢٤م لصالح القومية، ثم انهارت القومية العربية التي كانت تُوحِّدهم وتنهض بهم بعد هزيمة يونيو (حزيران) ١٩٦٧م لصالح القُطْرية، ثم انهارت القُطْرية بعد احتلال العراق وفلسطين لصالح الدُّوَيلات العرقية والطائفية، وضاع الاستقلال الوطني الذي قام به الآباء لصالح الهيمنة الجديدة والاحتلال الذي يرزح تحته الأبناء والأحفاد في فلسطين والعراق، والعدوان على لبنان وتهديد سوريا.
ثم وجد بعض العرب وسيلة للعودة إلى التاريخ من أضيق الأبواب بالاشتراك في العدوان الأمريكي على العراق في يناير ١٩٩١م بدعوى تحرير الكويت التي كان يمكن أن تتحرَّر بإرادة العرب الجماعية، وما زال العراق يُذبح كل يوم، ويبرِّر بعض العرب بقاء القوات الأمريكية بالعراق وإلا تحوَّل إلى حروب طائفية تنتهي بالتقسيم، وهو ما يحدث الآن بالضبط من دون مشارَكة العرب.
وترك العرب الانتفاضة تُذبح كل يوم، منذ انتفاضة الحجارة عام ١٩٨٧م، حتى انتفاضة السلاح في ٢٨ من سبتمبر ٢٠٠٠م وهو تاريخ لا يذكره أحد بعد أن غطَّى الإعلام الغربي والعربي عليه بأحداث ١١ من سبتمبر ٢٠٠١م؛ فالقوة هي التي تُبقي حوادث التاريخ في الذاكرة. فَضَّ العرب أيديهم من قضية العرب الكبرى، فلسطين، وبعد أن خاضوا خمس حروب من أجلها تُهْدَم المنازل كل يوم، والتصفيات لقادة السرايا كل ساعة.
والحجة المعلنة عدم جر العرب إلى معركة لم يحددوا هم أنفسهم زمانها ومكانها، والصُّلح العلني أو السري مع إسرائيل، وعقد اتفاقيات السلام معها بشروطها السرية والعلنية، والتبعية للولايات المتحدة الأمريكية التي بيدها مفاتيح الحرب والسلام، القوة العظمى في العالم التي لا يقع فيه شيء إلا بأمرها، والحجة شبه المعلنة أن عصر القومية قد انتهى ولم تبقَ إلا القُطْرية: «مصر أولًا»، «الأردن أولًا»، «الكويت أولًا»، ولم يعد هناك قُطْر مستعد لنجدة أخيه، والحجة غير المعلنة، الدفاع عن الكرسي، والبقاء في الحكم؛ فالقوة الكبرى الآن تغزو، وتُغيِّر الأنظمة لكل نظام يرفض الدخول في بيت الطاعة، والأمم المتحدة في يدها، والقرارات هي التي تصوغها أو تعترض على صياغات غيرها، وأوروبا خافتة الصوت، والدول الثماني الكبار لا يرفضون للقوة الكبرى طلبًا، والمحافظون الجُدد مستمرون في تبليغ رسالتهم الإلهية للعالم، رسالة الغزو والعدوان.
وبعد العدوان الإسرائيلي الأخير على فلسطين ولبنان ترك العرب الفلسطينيين واللبنانيين للقتل والتشريد كل يوم بالصمت أو بالإدانة لحماس أو لحزب الله والمغامرات غير المحسوبة وغير المسئولة الضارة بالمصالح العربية، وأين هي المصالح العربية التي لا يهتم بها أحد؟ وأين هي المغامرات والإحساس بالعجز والسكون واللامبالاة هو الموقف الثابت للأنظمة العربية؟ بل إن قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل أو حتى طرد السفراء الإسرائيليين من عواصم ثلاث دول عربية وغلق المكاتب التجارية ومكاتب الاتصال في الخليج وفي بعض دول المغرب العربي لم يتم، بل لم تَقُم المظاهرات العارمة المُنددة بالعدوان والتي تُشعر الأنظمة العربية والمقاومة الفلسطينية واللبنانية والعالم الخارجي أنها السند الشعبي للمقاومة، لم تقم إلا في دمشق وعمان والقاهرة، وساندتها بعض عواصم العالم الإسلامي في بنجلاديش وباكستان.
وأخيرًا صدر بيان وزراء الخارجية العرب ليُعَبِّر عن إرادة العرب الجماعية، واختلف الرِّفاق في تحديد مَن هو العدو؟ هل هي إيران التي يزداد نفوذها في الوطن العربي والعالم الإسلام كل يوم من خلال شيعة العراق وشيعة لبنان ممثلًا في حزب الله على نحو علني أو شيعة الخليج والمنطقة الشرقية في المملكة العربية السعودية والعلويين في سوريا؟ هل هي إسرائيل كقاعدة للعدوان على فلسطين وسوريا ولبنان والتي ما زالت تُهدد دول الجوار، تريد التوسع والاستيطان؟ البعض يريد تغليب الآجل على العاجل، والمتوهم على الفعلي، والبعض الآخر، وهم الأغلبية، يريدون تغليب العاجل على الآجل، والواقع على الافتراضي؛ ففلسطين قاربت على الضياع، والعراق ممزَّق، ولبنان يُسوَّى بالأرض، والتهديد لسوريا يؤذن بحرب شاملة، الحرب العربية الإسرائيلية السادسة، والكل يرفض التوريط، وكأن المقاومة مغامرة، وقبول العدوان أسلم وأضمن! المقاومة مُخاطَرة، والاستسلام حكمة، وكلاهما يتمسح بالقومية العربية خوفًا عليها من الثورة الإسلامية الشيعية في إيران أو تمسكًا بها للدفاع عن فلسطين ولبنان.
صدر بيان وزراء الخارجية العرب ليعلن، ليس فقط موت عملية السلام، بل هروب العرب من المُعتَرك، واستمرار خروجهم من التاريخ. إدانة العدوان الإسرائيلي على فلسطين مُجرَّد شَجْب وكلام مكرر مُعاد، وإدانة العدوان على المدنيين وتدمير البنية التحتية في فلسطين ولبنان تقليص لقضية تحرير الأرض في قضية إنسانية تنموية يستطيع العرب حلها ببعض المعونات الإنسانية، والمشاركة في إعادة الإعمار مثل العراق وهو ما زال تحت الاحتلال، وإعلان التضامن مُجرَّد قول دون فعل، لَغْو كلام كما يقول إقبال، والحرص على عدم انزلاق المنطقة إلى حرب شاملة مُجرَّد وَهْم وخداع للنفس، وَشِيك بلا رصيد؛ فلن يدخل العرب بجيوشهم في حرب، كانت حرب أكتوبر آخر الحروب، والسلام خيار استراتيجي، وهو الخوف من عُقدة الحروب العربية السابقة منذ ١٩٤٨م حتى ١٩٦٧م، ولم تستطع حرب أكتوبر ١٩٧٣م إبراء الجرح العميق والإحساس بالعجز بعد الهزيمة، وتأييد حكومة لبنان وسيطرة جيشها على مناطق الجنوب مطلب إسرائيلي أمريكي ضد المقاومة، وهل أخذت المقاومة إذنًا من الحكومة بتحرير الجنوب؟ واعتبار مجلس وزراء الخارجية في حالة انعقاد دائم لا يفيد في شيء، ولا يخيف أحدًا إذا احتجوا أو إذا انفضوا، والاعتراف بأنه لا توجد آلية لدرء العدوان وأن اتفاقية الدفاع المشترك في حاجة إلى قراءة من جديد هو تمسك بواقع لإعطاء شرعية للتخلي عن واجب الدفاع العربي المشترك، وإعلان وفاة السلام هو في الحقيقة دفن السلام وتشييع جنازته؛ فقد تُوفي من قبل بإعادة احتلال فلسطين كلها، وعدم الاعتراف بحكومة حماس أو بأي شريك فلسطيني آخر، فتح أو السلطة الوطنية الفلسطينية، فالسلام أسطورة، والدولة الفلسطينية الموعودة حقنة تخدير لا وجود لها على الأرض، لا في العاجل ولا في الآجل، وخارطة الطريق مُجرَّد وَهْم حتى في ذهن واضعيها. وتتحفظ إسرائيل على أربعة عشر بندًا فيها، وهي طوق النجاة للعجز العربي. لم يعد يبقى شيء من أرض فلسطين، واللاءات الثلاثة الإسرائيلية، لا للعودة إلى حدود ١٩٦٧م، لا للانسحاب من القدس الشرقية، لا لعودة اللاجئين، قضاء على السلام. لقد رفع العرب ورقة التوت الأخيرة، خارطة الطريق حتى يستدعوا إليها من جديد بعد أن قام العرب بعمل مجيد وهو إعلان دفن السلام.
وتبلغ ذروة الهروب العربي في إحالة الموضوع إلى مجلس الأمن! تخلى العرب عن قرارهم، وممارسة إرادتهم المستقلة، وعجزوا عن أخذ موقف فيما يخص مصيرهم ووجودهم. أحال العرب ما يمسهم إلى غيرهم، ورفعوا أمرهم إلى دول العالم؛ كي تُقرِّر لهم، فأعلنوا عجزهم، وكما أعلنوا وفاة عملية السلام فإنهم أعلنوا أيضًا وفاتهم وحدادهم على أنفسهم، وماذا يفعل مجلس الأمن وقد رفض من قبل المشروع القَطَرِي؛ لأنه غير متوازن؛ أي لا يدين المقاوَمة ولا يضمن أمن إسرائيل، والفيتو الأمريكي بالمرصاد لأي قرار يُعَبِّر عن مَطالب العرب: إيقاف القتال وقصف المدنيين، تبادُل الأسرى، العودة إلى مائدة المفاوضات، وقد صدرت من قبل مئات القرارات لصالح فلسطين منذ قرار التقسيم في ١٩٤٨م حتى قرار الانسحاب من الأراضي المحتلة بعد عدوان يونيو (حزيران) ١٩٦٧م، وما من مُجيب. وما فائدة توجيه لبنان شكوى لمجلس الأمن، والعالم كله يتبنى الشروط الإسرائيلية، ويطالب بما تبقى من استحقاقات تطبيق القرار ١٥٥٩م، والإلزام بتعويض المدنيين عن الخسائر! والحكمة في ضبط النفس؟
والأخطر من ذلك كله، تبرير العدوان على لبنان باختيار القَدَر له؛ كي يكون مرتعًا للعبث الإسرائيلي، ولماذا لم يَخْتَر القدر إسرائيل كي تكون ساحة المعركة لاسترداد الحق العربي كما يفعل حزب الله الآن عندما نقل المعركة إلى أرض إسرائيل؟ الصاروخ في مواجهة المدينة.
تحية إلى لبنان، شعبًا وجيشًا، مقاومة وحكومة. يكفي العرب شرفًا أن أصغر قُطْر عربي يواجه أكبر قوة عسكرية كما واجه شعب فيتنام من قبل آلة الغزو الأمريكي، وتحية إلى شجرة الأَرْزِ على جبال لبنان، وفي عَلم لبنان، وفي قلب كل عربي.