الوحدة الوطنية
(١) الطائفية أم المواطَنة؟١
وقَعَت في مصر حوادث مُزعِجة ودالَّة في الإسكندرية خلال الشهر الكريم، شهر رمضان، غضب المسلمون على مسرحية في كنيسة بالإسكندرية وفَهِموا منها أنها تُعرِّض بالإسلام، وتُنَدِّد به، وازدادت الحَمِيَّة، وبلغت القلوبُ الحناجر، ووقع القتلى والجرحى، وحُطِّمَت المحلات والسيارات، وكأنه غضب من أجل استكانة العرب وقبولهم الضيم في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير، ومصر تعاني من السلبية السياسية ولامبالاة الجماهير لما يحدث في الداخل والخارج، ومن غياب الشارع قبل صحوته الأخيرة كفاعل مُؤثِّر في مجرى الأحداث.
ويشتد المشهد مأساوية عندما يوضع في سلسلة من الحوادث المشابهة والمخاطر المحدقة بدول الجوار؛ إذ بدأ المشهد ذاته في العراق وصياغة دستور يمهد لقسمته إلى ثلاث دول، كردية في الشمال، وسُنية في الوسط، وشيعية في الجنوب، ثم قسمة الخليج إلى دويلات، سُنية وشيعية، وقسمة شبه الجزيرة العربية إلى دويلات، نجدية وحجازية وحضرموتية، وقسمة اليمن إلى دولتين، زيدية وشافعية، وتجزئة سوريا إلى دولتين، علوية وسُنية، ثم العودة إلى لبنان وتقسمته إلى دويلات سُنية وشيعية ومارونية، ثم الالتفاف حول مصر من الجنوب وقسمة السودان إلى دولة عربية مسلمة في الشمال، وأخرى زنجية مسيحية في الجنوب، وقسمة المغرب العربي كله إلى دولتين، عربية وبربرية. تُحاصَر مصر في الشمال والجنوب والشرق والغرب من أجل تقسيمها إلى دولتين، مسلمة في الشمال وقبطية في الجنوب، ويتحول الوطن العربي كله إلى فسيفساء عرقي طائفي تصبح فيه إسرائيل أقوى دولة عرقية طائفية في المنطقة، مركز تحيط به الأطراف، وتأخذ شرعية جديدة من طبيعة الجغرافيا السياسية للمنطقة، بدلًا من الأساطير المؤسسة للكيان الصهيوني التي أعطاها لها هرتزل في «الدولة اليهودية» في أواخر القرن التاسع عشر، أساطير شعب الله المختار وأرض الميعاد، وتحل إسرائيل محل مصر مركزًا للتحديث، ونموذجًا له في المنطقة العربية، وتنتهي كل الحركات الوحدوية فيه، وحدة الأوطان، وحدة وادي النيل، وحدة المغرب العربي، وحدة مصر والشام، وحدة اليمن، وحدة دول الخليج، الوحدة العربية، الوحدة الإسلامية … إلخ.
ويتم الصراع بين الطوائف والأعراق؛ نظرًا إلى غياب الحوار الوطني العام في البلاد، واستئثار كل طائفة أو عِرق أو طبقة أو فئة أو جماعة ضغط أو مجموعة من رجال الأعمال أو من رجال الرئيس بالتفرد بالرأي والتَّسلُّط والدفاع عن مصالحه الشخصية وغياب الصالح العام، كما غاب الحوار السياسي بين الحاكم والمحكوم لصالح تَسلُّط الحاكم ومَلَل المحكوم؛ فاشتدَّ الاحتقان السياسي والتَّوتُّر بين الطوائف والقوى السياسية المختلفة. وعمَّ الرأي الواحد واستبعاد الرأي الآخر؛ فالحق لدى الفرقة الناجية، فرقة الحكومة، وكل فِرَق المعارضة هالكة، الأولى ناجية، والثانية في النار.
وتتحول دور العبادة إلى معسكرات، تقف الشرطة والعربات المصفحة على أبواب المساجد والكنائس، كما تقف أمام مقارِّ الأحزاب، وهو التعامل الأمني مع قضايا التعددية الفكرية والسياسية في البلاد، وعلى الناحية الأخرى، تمتد موائد الوحدة الوطنية بين رجال الدين، وتُلقى الكلمات النمطية السطحية والتي يكتنفها الرياء، وتتخللها قُبلات يهوذا، وتُطْلَق التصريحات الإنشائية الخطابية والمواعظ والخُطب المدرسية، والواقع مختلف تمامًا. فما أسهل القول! وما أصعب العمل! وتُوضَع الحراسة على رجال الدولة والمؤسسات الحكومية والسفارات الأجنبية؛ فالاحتقان الديني والسياسي احتقان واحد.
ولا تظهر هذه النزعات الطائفية والعرقية إلا في حالة ضعف الدولة الوطنية وغياب المشروع القومي. لم تظهر هذه النزاعات إبان ثورة ١٩١٩م، وكان الشعار وحدة الهلال والصليب، واختفت كليةً في الجمهورية الأولى في الثورة المصرية، وكان الشعار وحدة عُنْصُرَي الأمة، النسيج الوطني الواحد، فلما ضعفت الدولة الوطنية، وانهار المشروع القومي، بدأ الناس يبحثون عن هويات بديلة في الطائفة أو العِرْق أو العشيرة أو حتى المنطقة الجغرافية، مسلم وقبطي، عربي وافد أو مصري فرعوني، بدوي حضري، صعيدي بحراوي، زيدي وشافعي، أشعري وحنبلي، سلفي وعلماني … إلخ، ويتحول التحزب الطبيعي إلى الكرة، أهلاوي وزملكاوي، يتصادم أنصار كل نادٍ، ويعتدون على الحكام، ويُخربون الملاعب، وقد يسقط القتلى والجرحى. هو جنون واحد في غياب العقل، وحمية واحدة في غياب الرشد، وتطرف وتعصب وعنف في غياب الحوار والعقلانية والرأي والرأي الآخر، وهو التعصب ذاته للفن في السينما والمسرح، اللمبي، لهاليبو، بُوحة، والأغاني الشعبية الهابطة أو السياسية الرخيصة «باحب عمرو موسى وبكره إسرائيل.»
وقد تتدخل الدولة في إشعال الفتنة كما فعلت في حوادث الزاوية الحمراء في أواخر السبعينيات في الجمهورية الثانية، وكانت ذريعة من أجل إلقاء القبض على المعارَضة السياسية بجميع طوائفها في مذبحة سبتمبر ١٩٨١م، ووضع الآلاف في السجون من الدعاة المعارضين أو السياسيين أو الفصل من الجامعات والمؤسسات الصحفية أو العزل من البطريركية، وكانت ذريعة من أجل فرض الأحكام العرفية، وحالة الطوارئ وإصدار القوانين الاستثنائية بحجة الدفاع عن الوحدة الوطنية. قد يكون الأمر مدبرًا هذه المرة بعد عجز النظام السياسي عن التحكم في حركة الشارع المتزايدة، واشتداد المعارضة السياسية، ويكون الهدف تقييد الحريات العامَّة، والاستمرار في فرض الأحكام العرفية.
تحزب الناس من أجل مسرحية تَعْرِض تَحَوُّل قبطي إلى الإسلام ثم عودته إلى المسيحية من جديد بعد اكتشاف أن دينه القديم الذي كان عليه أفضل من الدين الجديد الذي تَحوَّل إليه، وهو موضوع ساذج خطابي دعائي؛ فالأديان واحدة، والخلاف بين الطوائف خلاف اجتماعي وسياسي؛ فلا المسيحية بأفضل من الإسلام، ولا الإسلام بأفضل من المسيحية. فإبراهيم أبو الأنبياء، والدين واحد، التوجه إلى الله والعمل الصالح لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، والمؤمنون جميعًا سواء قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ. أما التَّحوُّل السياسي فلا يثير أحدًا ولا يُحَرِّك جماهير؛ فقد تَحوَّلت الاختيارات السياسة في مصر بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣م، وانقلبت من النقيض إلى النقيض، من الاشتراكية إلى الرأسمالية، ومن القطاع العام إلى القطاع الخاص، ومن التخطيط إلى الاقتصاد الحر، ومن القومية إلى القُطْرِية، ومن مناهضة الاستعمار والصهيونية إلى التَّحالُف معهما والاعتراف بهما، ومن الاستقلال الوطني إلى التبعية السياسية، ولم يَتحرَّك أحد، ولم تَقُم مُظاهَرة، وغاب الصراع الاجتماعي. فهل التَّحوُّل من دين إلى دين، وهو أمر شخصي لا يتعلق بمصير الدول، أهم من التحول من سياسة إلى سياسة، وهو أمر عامٌّ يتعلق بمصير الأوطان؟
الأخطر من ذلك كله تدخل القوى الخارجية وسيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على مجلس الأمن في شئون الأوطان بدعوى حماية الأقليات، وتنشط الجماعات القبطية المهاجرة لإشعال الفتيل، وتضخيم أمثال هذه الحوادث، وجعلها سياسات رسمية متبعة، وتخلق ظواهر أخرى من صنع الخيال: إجبار المسيحيات على التحول إلى الإسلام بعد إجبارهن على الزواج من مسلمين، اغتصاب المسيحيات في غُرَف قياس الملابس في المحلات العامَّة، واضطهاد الأقباط وعدم توليهم الوظائف العامَّة، وكلها أمور تتعلق بالجنس والدين والسياسة وهي المحرمات الثلاثة في الثقافة الشعبية، وتنشط البحوث بفضل التمويل الأجنبي عن الأقليات وليس عن الاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية، والوحدة الوطنية، والتنمية المستقلة، والمشاركة السياسية.
ويتحقق أحد أهداف العولمة، توحيد المركز وتجزئة الأطراف، ووضع نهاية للدولة الوطنية المستقلة التي تم الحصول عليها نتيجة حركات التحرر الوطني في الخمسينيات والستينيات، وتصبح فرنسا حامية للكاثوليك، وإنجلترا حامية للإنجليكان، وألمانيا راعية للبروتستانت، وإسرائيل حامية ليهود العالم من الاضطهاد والمحارق، وأمريكا حامية للجميع باسم حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية وقيم العالم الحر.
ليس الغزو من الخارج هو الطريق الوحيد لتفتيت الأوطان حتى لا يتكرر مستنقع العراق للقوات الأمريكية، بل يمكن التفتيت من الداخل عن طريق إشعال النزاعات الطائفية والعرقية، وهو المخطط المُعَد الآن لتفتيت لبنان وسوريا وإيران والخليج وشبه الجزيرة العربية والسودان والمغرب العربي في الأطراف ثم لف الحبل حول عنق مصر وتفتيتها، ومن ثم يُقضى على كل إمكانية في المستقبل لقيام قطب ثانٍ في مواجهة القطب الأول، قد يخرج من المنطقة العربية الإسلامية، من تجمُّع شعوب أفريقيا وآسيا حتى يضمن القطب الأول بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية السيطرة على العالم كله.
(٢) الطائفة والعِرْق أم الوطن؟٢
كانت الانتخابات العراقية الأخيرة ولادة عسيرة؛ لأنها تَمَّت تحت الاحتلال ولم يكن ضمن برامج مرشحيها وأحزابهم المُطالبة بانسحاب قوات الاحتلال من أراضي العراق وتأكيد وحدة العراق الوطن وليس تمثيل العراق الطائفة والعرق؛ لذلك كان من الطبيعي أن يقاطع السُّنة الانتخابات؛ فلا انتخاب في وطن مُحتَل، كما رفضوا الاشتراك في حكومة تتشكل تحت الاحتلال، ووزير الدفاع الأمريكي يُملي شروطه، يُنَبِّه ويُحذِّر من أن تكون المطالَبة بانسحاب قوات التحالف من بين برنامج الحكومة المُرتقَبة، وطالت المدة، واختلفت الطوائف والأعراق على توزيع الحقائب الوزارية، ومن ضمنها الوزارات السيادية، الخارجية والدفاع والنفط والداخلية التي بيدها أمن الوطن السياسي والاقتصادي في الخارج والداخل، ووضع مبدأ التقسيم، وتم تنفيذه بالفعل بين الشيعة والأكراد والسُّنة، وسمع الناس لأول مرة عن التُّركمان والأشوريين، واختلفوا في معايير التوزيع طبقًا للواقع أي نتائج الانتخابات أو طبقًا للتوازنات بين الطوائف والأعراق، ومن ثم ضرورة تمثيل السُّنة بالرغم من عدم اشتراك أغلبيتهم في الانتخابات، ولم يسمع أحد عن الوطن العراقي والمواطن العراقي بصرف النظر عن طائفته أو عرقه والمواطنة العراقية التي يتساوى فيها كل العراقيين، والاتفاق على الحد الأدنى من البرنامج الوطني.
تحول العراق إلى لبنان آخر الذي أدت الطائفية فيه إلى حرب أهلية دامت خمسة عشر عامًا، دمرت الوطن، وما زال أحد بنود اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب لم يتحقق بعد وهو التخلي عن الهوية الطائفية إلى الهوية الوطنية، وكما تم الإجماع الوطني على إخراج القوات الأجنبية من لبنان، السورية أولًا، فلماذا نسيان القوات الإسرائيلية في مزارع شبعا؟ ولماذا لا يوجد إجماع وطني على تنفيذ بند المواطنة الذي تحقق في الشارع اللبناني باختفاء الأعلام الطائفية ولكنه لم يختفِ بعدُ من الدستور ومن الممارسات السياسية. لبنان أولًا، والعراق ثانيًا في مخطط تقسيم الوطن العربي إلى فسيفساء عرقي طائفي، سُنة وشيعة، مسلمين وأقباط ودروز، عرب وبربر وزنوج حتى تصبح إسرائيل هي أكبر دولة طائفية عرقية في المنطقة، تأخذ شرعية جديدة من طبيعة الجغرافيا السياسية فيها، وليس من الأساطير القديمة التي أعطاها لها هرتزل في «الدولة اليهودية»، أساطير العودة والميعاد وشعب الله المختار التي لم يَعُد يصدقها أحد.
والطبيعي ألَّا يشارك السُّنة في الانتخابات ولا في تشكيل الحكومة تحت الاحتلال. وفي فقه الأولويات مقاوَمة المحتل لها الأولوية المطلقة على المغانم السياسية للأحزاب السياسية أو للطوائف والأعراق، وكثيرًا ما قاوم الأكراد السلطة المركزية في بغداد مطالبين بالاستقلال الذاتي كخطوة نحو الاستقلال التام، ولم يسمع أحد عن مقاومتهم للاحتلال، ورئيس الجمهورية منهم، وكان صلاح الدين منهم أيضًا، ولولا رفض تركيا السماح للقوات الأمريكية بالمرور من أراضيها لمرت من خلال شمال العراق حيث يوجد الأكراد نحو بغداد، وتاريخ مقاومة الشيعة في العراق مشهود له منذ انتفاضة الجنوب في ١٩٩١م بعد إخراج القوات العراقية من الكويت وقمع النظام العراقي لها من دون أن يساعدهم أحد، واستشهاد علمائهم وقادتهم يعرفه الجميع، وأخيرًا تحرك الصدر، وأصبح رمزًا للمقاومة الوطنية لولا الحسابات السياسية، وما زال السُّنة هم الذين يتحملون عبء التحرير كله ليس فقط في المثلث السُّني حول بغداد بل في أنحاء العراق كافَّة.
إن المقاومة العراقية هي الحكومة الشرعية في العراق التي تعطي الأولوية لتحرير الوطن من الاحتلال الأجنبي على الإسهام في انتخابات ليس من برامجها انسحاب قوات الاحتلال وقسمة الحقائب الوزارية طبقًا للطوائف والأعراق؛ فتحرير الأرض سابق على الحكم في القصر. الحكومة الشرعية هي قيادة المقاومة السرية تحت الأرض ضد الاحتلال، هكذا فعلت المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي لفرنسا، وهو منطق المقاومة في كل مكان.
إن الحل الوحيد لإيقاف نهر الدم في العراق من دماء العراقيين هو تشكيل حكومة وطنية لها برنامج وطني، تقاوم بيد وتفاوض باليد الأخرى، يد تفاوض ويد تحمل السلاح، وتطالب بوضع جدول زمني للانسحاب في موعد أقصاه نهاية هذا العام، ويقوم على تعددية سياسية تمثل التيارات السياسية كافة في البلاد كما هي الحال في حركات التحرر الوطني كافة في الجزائر والمغرب وكوبا وفيتنام والهند، وكما هي الحال في حركة المقاومة الفلسطينية حاليًّا.
ويحدد البرنامج السياسي إذا كانت دولة العراق تابعة لقوًى خارجية غربية أو أمريكية مثل كثير من الأنظمة العربية أو وطنية مستقلة؛ مثل إيران وماليزيا، كما يحدد النظام السياسي، هل يقوم على نظام الحزب الواحد والتسلط الفردي أم على التعددية السياسية والانتخابات الحرة واختيار الشعب؟ ويختار النظام الاقتصادي، السوق والنشاط الاقتصادي الحر والخصوصية والدخول في العولمة؛ فرأس المال ليس لها وطن أو النظام الاقتصادي الموجه والملكية العامَّة لوسائل الإنتاج، والقطاع العام، والتصنيع، وتدعيم المواد الغذائية، وتقريب الفوارق بين الطبقات وهي بعض التوجهات الاشتراكية التي عرفها العرب في الستينيات، ويحدد انتماء الدولة القُطْري، العراق أولًا، أو القومي، فالعراق جزء من الأمة العربية، كما تعيد النظر في علاقتها بدول الجوار خاصَّةً إيران وتركيا حماية للبوابة الشرقية للوطن العربي بدلًا من التناقض المفتعل بين القومية العربية والقومية التركية أو الثورة الإسلامية، وعليه أن يختار بين التحالف مع الاستعمار والصهيونية أم يظل وفيًّا للثوابت في السياسات العربية، مناهضة الاستعمار والصهيونية، وعدم الصلح معها أو الاعتراف بها قبل الانسحاب الكامل من الأراضي المحتلة والعودة إلى حدود الخامس من يونيو (حزيران) ١٩٦٧م، وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، وتحدد أيضًا موقعها بالنسبة إلى الهجمة الاستعمارية الجديدة على الوطن العربي ودول الجوار، واحتلال أفغانستان والشيشان وكشمير وسبتة ومليلة المدينتين المغربيتين من بقايا الاستعمار الأوروبي في بداياته، وعلى هذا البرنامج الوطني يتكون الائتلاف الوطني أو الجبهة الوطنية أو جبهة الإنقاذ.
لن تتوقف إراقة دم العراقيين، ولن يعرف العراق الاستقرار إلا بانسحاب قوات الاحتلال من أراضيه كافة، والتحول من جيوب المقاومة إلى مقاومة المدن، ومن مقاومة المدن إلى الثورة الشعبية العامَّة، انتفاضة الوطن بأكمله حتى يبني العراقيون وطنهم، ويعود كما كان وطنًا واحدًا لشعب واحد.
إن المقاومة حسب آخر التقارير حتى الأمريكية وعلى لسان وزير الدفاع الأمريكي تنتظم حوالي نصف مليون، نصف جيش العراق الذي اختفى بسلاحه في أثناء الغزو قبل سقوط بغداد، وتحوَّل إلى عصب شعب يناضل؛ فهو جيش الشعب، وشعب الجيش كما كانت الحال في الجزائر وفيتنام، ولا غرابة أن تلقى قوات الاحتلال المصير ذاته، وهناك عشرات العمليات يوميًّا، ومئات الخسائر من قوات الاحتلال، ولا تعلن البيانات الرسمية إلا جزءًا منها لرفع الروح المعنوية للجنود وللاستمرار في خطأ السياسة الأمريكية بتبرير العدوان بصرف النظر عن الذريعة؛ فهو عدوان يبحث عن سبب من دون أن يكون هناك سبب للعدوان.
هذا هو اختصار الطريق، واللحاق بما فات، وسرعة اللحاق بالزمن، ولا خروج من المُستنْقَع العراقي إلا بتجفيفه أو جريان الماء فيه.
(٣) الحرب الأهلية أَمْ حرب التحرير؟٣
منذ عدة أشهر لم تَعُد المقاومة العراقية في مواجهة قوات الاحتلال، وتراجعت الخسائر الأمريكية كثيرًا من جنود وعتاد، وفي مقابل ذلك زادت خسائر المدنيين العراقيين العُزل، واكتشفت مذابح جماعية للعراقيين، عشرات الجثث المقتولة رميًا بالرصاص أو شنقًا مع توثيق اليدين والرجلين مع التعذيب البدني، فمن العدو؟ هل هم المواطنون العراقيون الأبرياء الذين لا حول لهم ولا قوة، لا مع قوات الاحتلال ولا مع المقاومة الوطنية؟ وإذا جاز اعتبار المتعاون مع المُحتَل من قوات الأمن والجيش محتلًّا تجب مقاومته، فهل يجوز اعتبار مجموع الشعب العراقي كذلك؟ وهل يجوز خطف الصحفيين الأجانب ووكالات الإغاثة وجماعات حقوق الإنسان وكلهم ضد الغزو الأمريكي البريطاني للعراق، أصدقاء وليسوا أعداء؟ فالإنسان بفعله وليس بجنسيته.
وإذا كانت المقاومة مُركَّزَة خاصَّةً في المثلث السُّني فإن ما يدعو إلى الدهشة انعدام المقاومة الكردية في الشمال، والشيعية في الجنوب، وكلاهما، الأكراد والشيعة، أهل نضال ومقاوَمة، نضال الأكراد في المنطقة الكردية، ونضال الشيعة في الجنوب، وثورتهم ضد النظام العراقي السابق، بل إن رئيس العراق كردي، ورئيس المجلس الشيعي الأعلى صاحب كلمة مسموعة، وآية الله السيستاني له قدره واحترامه، وكان هو الوحيد القادر على إيقاف المعارك بين جيش الصدر وقوات الاحتلال، مع أن الفريقين نشيطان في الانتخابات، وتوزيع الحقائب الوزارية، وقسمة العراق طائفيًّا، وضياع الهوية العراقية الوطنية لصالح الهويات العرقية والطائفية. مَن يُقاوِم المحتل مثل العرب السُّنة لا يهتمون بالمناصب الوزارية، ومن لا يقاوم المحتل؛ مثل الشيعة والأكراد مهتمون بالمناصب الوزارية، رئاسة الدولة، ورئاسة الوزراء، ورئاسة البرلمان، ويتركز الخلاف كله حول تَقلُّد المناصب، والحصول على أكبر قدر من السلطة تحت الاحتلال، وتغليب التناقض الثانوي على التناقض الرئيس.
ثم تفاقم الوضع بالتفجيرات المتبادَلة للمساجد والأضرحة والمقامات والأسواق والمَحال العامَّة بين السُّنة والشيعة؛ مثل تفجير ضريحَي الإمام الهادي والإمام العسكري، وليس للسُّنة ولا للشيعة مصلحة في ذلك، ولا في عقائد السُّنة أو الشيعة هذا التقتيل المتبادَل بين الفريقين بعد جهد دام عدة قرون للتقريب بين المذاهب، ولا تصل الخلافات المذهبية إلى حد إراقة الدماء والتصفيات الجسدية كما تم من قبل في ذكرى استشهاد الحسين، وهو إمام مُعظَّم عند السُّنة والشيعة على حد سواء، هو سيد الشهداء. إنما المصلحة لأمريكا وإسرائيل. مصلحة أمريكا في أن يتحول القتال بين المقاومة وقوات الاحتلال إلى اقتتال طائفي بين السُّنة والشيعة؛ فينشغل المقاتلون بالداخل وليس بالخارج، ويغلبون التناقض الثانوي على التناقض الرئيس، وكما وصف القرآن بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ، يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ، (يقتلون أنفسهم بأيديهم)، وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ، وحذر القرآن من ذلك أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ من أجل تغليب التناقض الرئيس على التناقض الثانوي، ومصلحة إسرائيل في الاستمرار في هدم العراق، وتفتيت الأمة بعد القضاء على النظام السياسي، وإذكاء العداوة بين الطوائف حتى ينشغل العراقيون واللبنانيون والجزائريون بالحروب الأهلية فيما بينهم بعيدًا عن المُواجَهة مع إسرائيل من أَجْل القدس وفلسطين. وإذا نجح تَفتِيت العراق فإنه سيتكرر في لبنان بين مسلمين ومَوارِنة، وفي سوريا بين علويين ودروز وسُنة، وفي الأردن بين بدو وحضر، أو بين فلسطينِيِّين وأردنيين، وبين زَيدية وشوافع في اليمن، والسُّنة والشيعة في الخليج، ونَجْدِيِّين وحجازيين في السعودية، وعرب وأفارقة في السودان والصومال … إلخ، والقصد أيضًا محو ذاكرة التاريخ؛ فبدلًا من الصراع بين الكوفيين والبغداديين في النحو والفقه والكلام، يقع القتال بين الشيعة والسُّنة، وبدلًا من المساجد كمدارس للعلم تصبح هدفًا للتفجيرات المُتبادَلة، وبدلًا من إحياء ذكرى الأئمة الشهداء الذين وقفوا في مواجهة الطغيان تُدمَّر مقاماتهم، ويمحون من ذاكرة التاريخ، وتصبح العراق بلا تاريخ مثل أمريكا، ويَتحوَّل العراقيون إلى نوع من الهنود الحُمر الجدد، والأمريكيون الإسرائيليون إلى المهاجرين البيض الذين يرثون الأرض ومن عليها.
والغاية النهائية تفتيت الوطن العربي إلى فسيفساء عرقي طائفي بداية من أطرافه الأربعة ونهاية بالقلب وكما وصف القرآن أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا. من الشرق تفتيت العراق وتآكل بوابة العرب الشرقية ثم الخليج كله بين سُنة وشيعة، ومن الغرب تتفتت أيضًا، كل أقطار المغرب العربي بين عرب وبربر، ومن الجنوب تنهار بوابة العرب الجنوبية بين عرب وأفارقة، وفي الشمال تتفتت الأقطار بين أكراد وعلويين ومسلمين ومارونيين في الشام الكبرى بدلًا من مشروع الهلال الخصيب الاستعماري القديم، وفي الوقت ذاته الذي ينكمش فيه الوطن العربي من جهاته الأربع من أجل ضرب القلب في مصر بالتهميش أولًا، ثم بالتفتيت ثانيًا إلى مسلمين وأقباط تتمدد إسرائيل وتتسع حدودها. فلا عودة إلى حدود ٤ من يونيو (حزيران)، ولا لدولة فلسطينية متواصلة الأطراف عاصمتها القدس الشرقية، ولا لعودة اللاجئين.
وكما لاحَظ ابن خلدون من قبل أن العرب لا يفلحون إلا بصبغة نبوة أو ولاية؛ أي بظهور زعيم أو مخلِّص أو مهدي؛ فالمهدية قاسم مشترك بين عقائد المسلمين، سُنة وشيعة، ينتظر الناسُ هذه الأيام مُخلِّصًا، ابن بلد، يعيد سيرة «الحرافيش» وفتوات نجيب محفوظ، المهلهل بن أبي ربيعة الذي بعد مقتل أخيه كليب صاح: «اليوم خمر وغدًا أمر»، اليوم أمريكا وإسرائيل والتبعية لهما وغدًا الاستقلال الوطني ولَمُّ شَمْل العرب، دفاعًا عن فلسطين والعراق، وحماية لسوريا ولبنان والسودان، ويَحِن إلى صلاح الدين الذي وحَّد مصر والشام دفاعًا عن الهجمة الاستعمارية الصليبية الأولى وأنقذ القدس، ويحن إلى الأمس حيث كان عبد الناصر حاميًا للعروبة، موحِّدًا للعرب، ومواجهًا الاستعمار والصهيونية، ومدافعًا عن ثورة اليمن حتى عمَّ نموذج الضباط الأحرار في قوات العراق واليمن وليبيا وسوريا.
ويخاف البعض من تكرار الزعامات «الكاريزمية» الحديثة ومِن حُكْم الفرد المطلق حتى ولو كان بطلًا مغوارًا خشية من التَّفرُّد بالقرار، ويؤثر هبات شعبية وحركات جماهيرية من أجل الدفاع عن الأوطان ضد القهر في الداخل والعدوان من الخارج، وليس فقط دفاعه عن شرف الرسول ضد الرسوم الساخرة. قد يخشى البعض من تكرار تجربة الجيوش الوطنية التي تُحَقِّق المشاريع القومية، ولكن على حساب الحريات العامَّة، وبعد حركة الشارع المصري واللبناني في العامين الماضيين يرى البعض أن المُثقَّفين الوطنيين والكُتَّاب الأحرار والفنانين من أجل التغيير، والجامعيين، والقضاة، والمُستقلِّين، هم عَصَب التغيير الجديد. قد تنضم إليهم جماهير العمال وفقراء المدن وسكان المقابر في هَبَّات شعبية ضد الفساد والأغنياء ورجال الأعمال، كما حدث من قبل في «لجنة الطلبة والعمال» في الأربعينِيَّات التي على منوالها تَمَّت صياغة حركة «الضباط الأحرار»، وسواء كان هذا المخرج أو ذاك فإن المخاض قادم، ولادة يسيرة أم عسيرة، طبيعية أم بقيصرية، طفلًا سليمًا أو مشوهًا في سبعة أشهر أم في تسع؟ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا.
(٤) انفراط العقد٤
زفَّت وكالات الأنباء أخيرًا نبأ عزم الجزائر والمغرب وإسرائيل على القيام بمناورات عسكرية مشترَكة مع حلف شمال الأطلنطي في البحر الأبيض المتوسط الذي كان في يوم ما مثل البحر الأحمر بحيرة عربية، على ضفافه شمالًا في أوروبا، وجنوبًا في أفريقيا، وشرقًا في آسيا، وغربًا على حدود الأطلنطي، وكانت مصر وتونس ولبنان قد انضموا كمراسلين سياسيين إلى الحلف للتخفيف من لفظ «عضو» ألفاظ مختلفة والهدف واحد. مثلما فرَّق الغرب قديمًا بين استعمار وحماية ووصاية، والهدف واحد وهو احتلال أراضي الغير.
لم تَعُد مصر مركز جذب للعرب، ولا قلبًا يضخ الدم في الأطراف. فتوقَّف القلب أو كاد، وشُلت الأطراف، وأوشك العقد على الانفراط كما انفرط من قبلُ عقد الدول الإسلامية بعد سقوط مركز الخلافة، وانجذبت دول أواسط آسيا نحو مراكز صاعدة جديدة في موسكو سواء في العهد القيصري أو بعد الثورة البلشفية، وقد تتفتت الأقطار أيضًا بعيدًا عن عواصمها. فتنحسر بغداد لصالح كركوك أو النَّجَف، وتنحسر الخرطوم لصالح دارفور والفاشر، وتنحسر القاهرة لصالح الإسكندرية أو الصعيد حيث تتفاقم الأحداث.
وتتنازع الأقطار فيما بينها مثل كرات «البلياردو»، كل منها يضرب في الآخر عشوائيًّا أو بفعل مَن يمسك العصا ليضرب هذا بذاك مثل الولايات المتحدة الأمريكية أو إسرائيل. فالجزائر والمغرب في صراع حول البوليساريو، والسعودية تفكر في إقامة جدار عازِل بينها وبين العراق لمنع «المتسللين» منها إلى العراق، واتهامات متبادَلة بالتدخل العسكري بين السودان وتشاد، وحرب فعلية بين إريتريا والحبشة، ويعود شبح الحرب الأهلية في لبنان، وتقع حرب طائفية غير مُعلَنة في العراق، وقد يقع قتال فلسطيني فلسطيني بين فصائل المقاومة، مُتجاوِزة الخط الأحمر، وأخيرًا تقع حوادث طائفية في الإسكندرية بين المسلمين والأقباط، وما زالت آثار الحرب الأهلية وبقاياها في الجزائر بين الدولة والجماعات الإسلامية المسلحة، والعنف يضرب في المغرب والأردن والكويت والخليج والسعودية واليمن. لم يَعُد الوطن العربي آمنًا على نفسه في الداخل أو في الخارج يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ.
ما زال العدوان على فلسطين دائرًا كل يوم دون اعتراف بالسُّلطة الوطنية الفلسطينية، ولا بِمنظَّمة التحرير ولا بخارطة الطريق، ولا بأي طرف فلسطيني ولا عربي للشروع في مفاوضات سلام مع إسرائيل طبقًا لمشاريع التسوية في دولتين أو طبقًا للقرارات الدولية، وما زال العدوان على العراق قائمًا، والمقاوَمة تتزايد كل يوم، مع خطورة تَحوُّل المقاوَمة الوطنية من مواجهة قوات الاحتلال إلى ذاتها في اقتتال طائفي عرقي حول السيادة على العراق أو من أجل تفتيته، والاحتلال ما زال قائمًا، وتغليب الآجِل على العاجل، والوطني على الأجنبي على الرغم من تحذير القرآن أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ.
وتهديد سوريا ولبنان واستعمال الأمم المتحدة التي تسيطر عليها الولايات المتحدة لإصدار قرارات تبرير العدوان على سوريا وتهديد لبنان وإشعال الحرب الأهلية فيها مقدمة للعدوان المباشر، ويتمركز الأسطول الأمريكي في مياه الخليج على أهبة الاستعداد لتكرار تجربة العراق تحت ذريعة التحول الديمقراطي في الشرق الأوسط الكبير حتى لو كان على أسِنَّة الرماح وفوهات المدافع وهدير الطائرات وجنازير الدبابات والعربات المصفحة. فالاحتلال الأمريكي خير من الاستبداد العربي، ويقوم الإعلام بتهيئة الرأي العام لذلك، مآسي دارفور، الملايين التي تموت جوعًا وقحطًا في الصومال وتشاد ومالي والسودان ونيجيريا وأفريقيا الوسطى والحبشة، وظهور الغرب على أنه الحامي الأول لحقوق الإنسان والشعوب في الحياة.
والهدف من ذلك كله إحكام الحصار حول مصر وتهديد أمنها القومي واستقرارها الداخلي في الشمال في الشام، وفي الجنوب في السودان، وفي الشرق في شبه الجزيرة العربية والعراق، وفي الغرب في المغرب العربي تحت دعوى «المفاصَلة» بين المشرق والمغرب؛ فالمشرق آسيوي، والمغرب أوروبي، ثم يأتي الرمح في القلب بتفتيت مصر التي بقيت واحدة عبر التاريخ. تتميز بوحدتها الوطنية مهما توالت عليها الديانات والمذاهب. فينشأ النِّزاع بين المسلمين والأقباط، بين الأكثرية والأقلية، بين الأنا والآخَر، وكأن الوطن والمواطَنة لا وجود لهما. فلم يَعُد أحد يتكلم عن المُواطن بل عن المسلم والقبطي. في حين تظل إسرائيل إسرائيل بالرغم من وجود المذاهب والأعراق، وأمريكا هي أمريكا بالرغم من التوتر العرقي الطائفي الذي ينخر في المجتمع الأمريكي وانهيار نموذج «وعاء الانصهار».
حينئذٍ تلعب إسرائيل دور مصر في تحديث المنطقة، وتساعدها على الانتقال من التخلف إلى التقدم، ومن القدامة إلى الحداثة. تشق قناة جديدة عبر النقب لربط البحر الأبيض بالبحر الأحمر بديلًا عن قناة السويس، وتمر أنابيب النفط من الخليج إليها للتصدير إلى أوروبا وليس عبر الشام أو مصر، وتعطي فوائد أكبر على استثمار عوائد النفط في بنوكها أو في البنوك الأجنبية مع سيطرة الرأسمال اليهودي على العالم، وتنتهي الحروب، ويشع السلام.
ويطمئن الغرب الأوروبي والأمريكي معًا على مصادر الطاقة. فما زال النفط العربي الإسلامي يمثل أكثر من ثلاثة أرباع مخزون العالم، وتطمئن الولايات المتحدة بقيادة المحافظين الجدد على تحقيق حلم الإمبراطورية الأمريكية الجديد بالهيمنة على العالم عبر القفز فوق آسيا والسير فوق الجسر العربي الإسلامي إليها لحصار الاتحاد السوفييتي والصين من الجنوب، ويطمئن العالم إلى نظامه الجديد، العالم أحادي القطب بقيادة إسرائيل الكبرى والإمبراطورية الأمريكية الجديدة.
وفي الوقت ذاته يطمئن الغرب إلى إيقاف المد الإسلامي في أوروبا، سواء من خلال الهجرات من جنوب البحر الأبيض إلى شماله أو من خلال تَحوُّل الأوروبيين إلى الإسلام في أوروبا ذاتها وليس على ضفافها؛ فقد أصبح الإسلام الدين الثاني في أوروبا، ويتجاوز المسلمون أربعة عشر مليونًا، وأصبحت الهوية الإسلامية مزاحِمة للهوية الأوروبية وجاذبة للعديد من الأوروبيين بما تمثله من قيم جديدة ضد العنصرية والفردية والأنانية والنزعة الاستهلاكية والتصور «المادي» للعالم؛ لذلك يتم تشويه الإسلام واتهامه بالإرهاب والعنف وخرق حقوق الإنسان والمرأة والأقليات وكأن العنف حكر على المسلمين، وليس ضاربًا جذوره في صميم المجتمعات الغربية في أيرلندا، وإقليم الباسك في إسبانيا، والمافيا في إيطاليا، والنازية الجديدة الصاعدة في ألمانيا، واليمين الفرنسي، والجريمة المنظمة والجماعات العنصرية في الولايات المتحدة الأمريكية.
وبالرغم من مظاهر انفراط العقد وتناثر حَبَّاته وقُرب سقوط جوهرته الوسطى التي تحفظ اتزانه في مصر، فإن المقاومة ضد هذا التبعثر والتَّشتُّت، شلل الأطراف وضعف القلب تشتد كل يوم، سواء بالمقاومة الفعلية للاحتلال في فلسطين والعراق والشيشان وكشمير وجنوب لبنان باسم الدفاع عن الأوطان أو بالحركات الشعبية وتحرك الجماهير العربية ونزولها إلى الشارع ضد تبعية النظم السياسية للخارج وقهرها للداخل في مصر خاصَّة، وتحرك المجتمع المدني، وظهور حركات وطنية جديدة تلقائية تُحافِظ على استقلال الوطن ووحدة شعبه، كما أن نجاح الحركة الإسلامية في فلسطين، حماس، وفي مصر، الإخوان المسلمون، بادرة على أن الإسلام الذي خرجت منه معظم حركات التحرر الوطني، عائد من جديد لإنقاذ الدولة الوطنية من التفتت والتشرذم والضياع، ووصول الإسلام العقلاني المستنير في تركيا والمغرب إلى الحكم مؤشر على أن الإسلام السياسي قادر على إنقاذ البلاد بروح المسئولية والوحدة الوطنية وأولوية المصالح العليا للبلاد على المصالح الحزبية والأيديولوجيات النظرية، ويأتي تحدي الثورة الإسلامية في إيران للولايات المتحدة الأمريكية ليُعبِّر عن ضمير الأمة بالنسبة إلى فلسطين المغتَصَبة ونظم الحكم التابعة دفاعًا عن الحق باسم القوة.
ووراء هذا الإسلام الظاهر هناك العروبة المكبوتة التي توَّجت النضال العربي ضد الاستعمار والصهيونية في الخمسينيات والستينيات، وهناك الوطن الذي استشهد من أجل استقلال الملايين، ما زال قابعًا في الضمير، ويتحرك الشارع العربي غضبًا ضد انتهاك حرمة الأوطان، والدم العربي المستباح، ويتحرك الصحفيون والمحامون والجامعيون والقضاة ينبئون عن قدوم مَخاض جديد وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا.
(٥) لماذا يتأخر الإصلاح؟٥
يبدو أن النقاش الذي دار منذ فجر النهضة العربية وحتى الآن بأيهما نبدأ، الثورة أم الإصلاح؟ ما زال دائرًا حتى الآن؛ فقد اختار الأفغاني الثورة نظرًا إلى يأسه من إصلاح الدولة العثمانية؛ فقد قضى على الإسلام أُمراؤُه المستبدون وعلماؤه الجاهلون، وبعد فشل الثورة العُرابية فضَّل محمد عبده الإصلاح التدريجي للفقه واللغة العربية والنظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ ممَّا أدَّى إلى نجاح الليبرالية فيما بعد ثورة ١٩١٩م حتى انتهت عام ١٩٥٢م.
واستمر النقاش في النصف الثاني من القرن العشرين بعد اندلاع الثورة المصرية عام ١٩٥٢م. كان الضباط الأحرار يمثلون الثورة ضد الإنجليز والقصر والإقطاع، وأسرعوا بإلغاء الملكية، وانسحبت القوات البريطانية من الضفة الشرقية وقناة السويس في ١٩٥٤م، في حين أراد اليمين الإقطاعي الإصلاح عن طريق التدرُّج في التغير الاجتماعي، والحوار مع الغرب دون الصدام معه، والمفاوضات مع إنجلترا دون معاداتها، والرقابة على القصر دون إلغاء الملكية، والرأسمالية الوطنية مرحلة متوسطة للتحول من الرأسمالية الغربية إلى الاشتراكية السوفييتية، كما أراد اليسار مزيدًا من التحول الاشتراكي، من الإقطاع إلى الاشتراكية العلمية، ومن التحالف مع الغرب إلى التحالف مع الشرق.
وكما تَحوَّلَت الثورة إلى ثورة مضادَّة من الخمسينيات والستينيات إلى السبعينيات والثمانينيات في القرن الماضي وحتى الآن، كذلك توقَّف الإصلاح، وتجاوزه الواقع، وأصبح الناس يَتُوقون إلى مرحلة جديدة تتجاوز الثورة والإصلاح معًا؛ لذلك برز مفهوم النهضة، وهو من إرث القرن التاسع عشر، النهضة العربية الأولى، وتحول إلى نهضة شاملة ليُعبِّر عن متطلبات المرحلة الأولى.
وتقلَّصَت طموحات هذا الجيل، ودارت حول الإصلاح من جديد، ويتضمن حرية المواطن أولًا وديمقراطية الحكم ثانيًا في جدول الأعمال الوطني، ويتسع أكثر ليشمل حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، والإدارة العليا في جدول الأعمال الغربي، وفي كلتا الحالتين تتوارى قضايا استكمال حركة التحرر الوطني في فلسطين والعراق، وإعادة توزيع الثروة الوطنية بما يحقق أكبر قدر ممكن من العدالة الاجتماعية، ووحدة الأمة ضد مخاطر التجزئة العرقية والطائفية، والتنمية المستقلة ضد تهريب رءوس الأموال إلى الخارج وبيع الأصول والاستيراد والاعتماد على المعونات الخارجية، والدفاع عن الهوية ضد التغريب والتميع والتحالف مع الآخر والتبعية له، وحشد الناس وتجنيد الجماهير ضد اللامبالاة والفتور والاستكانة وغياب الحراك الاجتماعي.
ونتيجة لتأخُّر الإصلاح يتأزم الوضع السياسي بين الدولة الأمنية والمعارَضة الضعيفة من ناصريين وليبراليين وماركسيين، أو محظورة من إسلاميين، وينكمش دور الدولة-القاعدة، والشقيقة الكبرى؛ فقد تتآكل الأطراف أو تبحث لها عن مركز آخر تنجذب إليه، ويعطيها الحماية والإحساس بالأمان، وقد ينعزل الشعب عن النظام السياسي القهري؛ لأنه يعطي الأولوية للصراع مع قوى الهيمنة الخارجية أو الإقليمية على حساب الحريات العامَّة والتعددية السياسية والمشارَكة في الحكم، وقد ينتج أيضًا تفتيت المجتمع من الداخل ونشأة جماعات العنف المسلح لتغيير الواقع بالقوة وبحد السيف. فكثرة الضغط من الخارج تُولِّد الانفجار من الداخل، وشدة القهر من أعلى تولد جماعات العنف من أسفل. فتنشغل الدولة بسيطرة قوى الأمن، الجيش والشرطة عليها؛ حفاظًا على النظام، وقد ينتج عنه تدخل القوى الأجنبية تحت ذريعة الدفاع عن الأقليات، والتطهير العرقي والتعددية الثقافية كمقدمة لتفتيت الدولة الوطنية، وقد يكتفي الزعيم الملهَم والأخ القائد ببصيرته وحنكته، ويتفرد بقرار فوقي للإصلاح طبقًا لأهوائه المتقلبة شرقيًّا ثم غربيًّا، اشتراكيًّا ثم رأسماليًّا، مقاومًا ثم مسالمًا، عروبيًّا ثم أفريقيًّا، وحدويًّا ثم قُطريًّا، وقد يحكم تيار واحد أو حزب واحد يقصي باقي التيارات وفي مُقدِّمتِها التيار الإسلامي لما تمثله من خطورة على النظام السياسي وتحت ذريعة الفصل بين الدين والسياسية؛ دفاعًا عن الدولة المدنية ضد الدولة الدينية، وقد يؤدي إلى الحرب الأهلية بين فرقاء الأمس وشركاء الوطن الواحد، تدمر كل شيء، الأرض والشعب، الثورة والإصلاح، وإلقاء التُّهم المتبادَلة بالتكفير والتخوين. إذا ما تأخر الإصلاح يستمر حكم الفرد المطلق ملكيًّا كان أم جمهوريًّا أو حكم العائلات والعسكر، قريش والجيش، وقد يكون ذريعة لعدوان خارجي بحجة رعاية الإرهاب أو امتلاك أسلحة الدمار الشامل.
يعني تأخُّر الإصلاح توقف الحراك الاجتماعي الطبيعي، والجدل التاريخي، ويصبح الحكم والشعب خارج الزمن. فيتحول الحكم إلى هيكل عظمي يعيش على نفسه، ويتشرذم الشعب. ويُولي كل منهما ظهره للآخر، ويتصور النظام السياسي أنه باقٍ إلى الأبد، وأن كرسي الحكم خالد، والمياه الجوفية تنخر في الأساس بفعل الزمان وعوامل التعرية الطبيعية حتى ينهار، ويصبح الحاكم متماهيًا مع الله والتاريخ، والشعب شيطان مُدان خارج التاريخ. يُؤْثِر الحاكم العاجل دون الآجل في قِصَر نظر سياسي. أنا وحدي وما بعدي الطوفان. يعطي الأولوية للبقاء في السلطة على سلامة الوطن من المخاطر الخارجية أو الانقلابات الداخلية. همه بقاء حكم العائلة وليس تداوُل السلطة بناءً على اختيار الناس.
فإذا ما تَحرَّك الزمن بفعل الأفراد والجماعات وقوانين التاريخ والجدل الاجتماعي في الداخل قبل الخارج، انهار البناء كله بفعل الهزات الأرضية، وكُلَّما تأخَّر الإصلاح ظهرت جماعات العنف السياسي بحكم قانون الفعل ورد الفعل. فكل فعل له ردُّ فعل مساوٍ وفي الاتجاه المضاد، وقد تنشأ جماعات مُسلَّحة علنية فوق الأرض بدعوى الدفاع عن حقوق الأقليات، وتقع الحروب الأهلية التي يغذيها الغرب، الاستعمار والصهيونية؛ من أجل تفتيت الدول الوطنية التي أسهمتْ في القضاء على الاستعمار في عصر التحرر الوطني، وما زالت تناضل ضد الصهيونية لاسترداد حقوق شعب فلسطين. عنف بعنف، ودم بدم، وقتل بقتل، «إذا اقتتل المسلمان بسيفيهما؛ فالقاتل والمقتول في النار.»
فإذا كانت الثورة قد انقلبت إلى ثورة مضادة باستثناء المقاومة الوطنية في فلسطين والعراق، وإذا كان الإصلاح قد تأخر وبدأت المجتمعات في التفكك والأوطان في التحلل، وكان من الصعب العودة إلى الثورة وحلم الخمسينيات والستينيات، فعلى الأقل لماذا يتأخر الإصلاح وهو أضعف الإيمان؟ والخطوة الأولى فيه الحريات العامَّة والحقوق الطبيعية للإنسان والمواطن، حرية التعبير عن الرأي، وحرية الحركة والانتقال، وحق الاختلاف والتعددية السياسية، وحق الاختيار الحر للحاكم وللنظام السياسي، وحق المواطنة الذي يتساوى فيه الجميع بصرف النظر عن دين أو مذهب أو طائفة أو عرق أو عائلة أو عشيرة، والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع من ينتسبون إلى وطن واحد.
تأخر الإصلاح يعطي ذريعة للقوى الخارجية للتدخل في جدول أعمالها ومشاريعها للمنطقة باسم «الشرق الأوسط الكبير» أو «الشرق الأوسط الجديد» الذي يدور في الفلك الأمريكي الصهيوني أو «المتوسطي» الذي يكون فيه الشمال مصدِّرًا والجنوب مستهلِكًا، وتكون إسرائيل عنصر التحديث فيه، وإبعاد العراق وشبه الجزيرة العربية كلها، شرقها وجنوبها، وقسمة الوطن العربي إلى آسيوي وأفريقي، مشرقي ومغربي. الخليج أقرب إلى آسيا، والمغرب أقرب إلى أوروبا.
تأخُّر الإصلاح يعني تفتيت الأوطان وفك عُرى الوحدة الوطنية، والوقوع في اقتتال طائفي مذهبي عرقي من دون حوار سياسي وطني يجمع بين التيارات الفكرية والسياسية في البلاد، والاتفاق على حد أدنى من الوفاق الوطني والبرامج السياسية مع أكبر قدر ممكن من التعددية السياسية. فالحق النظري متعدد، والحق العملي واحد بتعبير الفقه القديم. المذاهب والأيديولوجيات السياسية تتعدد وتتغير بتغير المراحل التاريخية والأطر الثقافية، ولكن المصالح العامَّة ثابتة. تتغير النظم السياسية بتغير الأجيال، والدول ثابتة عبر العصور.
تأخر الإصلاح في الداخل يعطي ذريعة لفرضه من الخارج، والأفضل ألَّا يتأخر، «بيدي لا بيد عَمْرٍ.» بل من الضروري أن يتسارع للحاق بما فات من ركود في النظم واستكانة في الشعوب.
(٦) الإصلاح بين السلفية والعلمانية (١)٦
تمر الثقافة العربية الآن بحالة استقطاب شديد بين التيارين الرئيسين فيها، السلفية أو أنصار القديم، والعلمانية أي أنصار الجديد. الأول ينهل من الموروث، والثاني ينقل من الوافد. الأول تتمسك به الجماهير، والثاني تتبناه النخبة. فتضاعف الاستقطاب ليس فقط بين الجناحين الرئيسين، بل أيضًا بين القلب، وهي الدولة أو النظام السياسي وخصومها. فالتياران ليسا فقط فكريَّيْن بل هما أيضًا حركتان سياسيتان. فالتيار السلفي خرجت منه معظم حركات الاستقلال الوطني كالسنوسية والمهدية، وجمعية علماء الجزائر، وعلال الفاسي، والأمير عبد القادر الجزائري، بالإضافة إلى مؤسسه الأول الأفغاني، ومن التيار العلماني خرجت أيضًا كثير من حركات التحرر الوطني بمفردها أو متضامنة مع التيار السلفي مثل جبهة التحرير الوطني في الجزائر، ومنظمة التحرير الفلسطينية، والحزب الدستوري القديم والجديد في تونس، وثورة ١٩١٩م في مصر.
وتمتد حالة الاستقطاب إلى شتى مظاهر الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية بين أنصار الحجاب وخصومه، وأنصار الدولة الدينية وأنصار الدولة المدنية، وأنصار تطبيق الشريعة وأنصار تطبيق القانون المدني، بين الحزب الحاكم والمعارَضة، بين القطاع العام والقطاع الخاص، بين الأغنياء والفقراء، بين العِمَّة والطربوش، ويمثله في الإعلام برنامج «الاتجاه المعاكس» الذي يتم فيه دفع الحوار إلى حالة من التناقض والإقصاء المتبادَل وكأن العرب لا يتفقون على شيء، ولا يلتقون على قضية. كل طرف ينفي الطرف الآخر ويستبعده لحساب فرقته الناجية ضد فرقة خصمه الهالكة. فيغذي الخصام بدل الوفاق، وينمي التناقض بدل الحوار، وقد يؤدي ذلك كله في وقت تندلع فيه الشرارة إلى حروب أهلية بين المتخاصمين فكريًّا. فتتفتت الأوطان، وهو الخطر الماثل الآن على العراق وفلسطين والسودان والصومال ولبنان.
لقد نشأ الإصلاح الأول في القرن التاسع عشر في مواجهة الاستعمار والهيمنة في الخارج والقهر والجهل في الداخل، وكان الدين هو البداية بعد تَحوُّله إلى المكوِّن الرئيس للثقافة الوطنية عبر التاريخ. برز الإصلاح كحل ثالث لضعف الدولة العثمانية أمام الخارج، وتسلطها على الداخل ضد تيارين متعارضين، السلفية أو العثمانية التي كان يمثلها أبو الهدى الصيادي، والعلمانية التي كان يمثلها «حزب الاتحاد والترقي» أو «تركيا الفتاة» أو «القومية الطورانية» والتي اقتطفت الثمرة بعد ثورة كمال أتاتورك في ١٩٢٣م، وإلغاء الخلافة في ١٩٢٤م، وأصبح بناء الدولة الحديثة هو بداية الإصلاح بالمعنى الشامل، والتحول من الدين إلى العلم، ومن القديم إلى الجديد، وهو بداية النهضة والتغير الاجتماعي والتحول التاريخي. لم يكن هناك فرق بين الأفغاني مؤسس الحركة الإصلاحية، وشبلي شميل ممثل التيار العلمي العلماني. كان الأول يسمي الثاني «حكيم الشرق» وكان الثاني يسمي الأول «لوثر الشرق».
وقام التيار الليبرالي على يد الطهطاوي مقيمًا الجسور بين التيار السلفي والتيار العلماني، جامعًا بين القديم والجديد، بين الموروث والوافد. قرأ الطهطاوي الشريعة الإسلامية من منظور قانون نابليون «الشرطة»، وقرأ قانون نابليون مؤصلًا إياه في الشريعة الإسلامية. القرآن والدستور يقومان بالوظيفة التشريعية ذاتها، والفِرق الإسلامية هي الأحزاب السياسية، وأهل الحل والعقد هو البرلمان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة والحسبة هو الإعلام الجديد وحرية الصحافة، وقاضي القضاة هي المحكمة الدستورية العليا، والشورى هي الديمقراطية، والزكاة وحق الفقراء في أموال الأغنياء هي الاشتراكية، وشهادة أن لا إله إلا الله هي الحرية، والنظم الإسلامية أو «الأحكام السلطانية» هي النظم السياسية، ومقاصد الشريعة، الدفاع عن الحياة والعقل والقيمة والعِرْض أو الكرامة والمال أي الثروة الوطنية هي حقوق الإنسان الفردية والاجتماعية، والشريعة الإسلامية «وضعية» كما يقول الشاطبي في «الموافَقات» أي مدنية تتأسس في حياة الناس، وتدافع عن مصالحهم العامَّة. حمل مشايخ الأزهر مثل حسن العطار والطهطاوي مشعل الإصلاح والنهضة، واستمرت مدرسة محمد عبده في هذا التيار؛ مثل قاسم أمين وسعد زغلول وعلي عبد الرازق وطه حسين ومصطفى عبد الرازق والشيخ شلتوت والشيخ محمد الخفيف داخل الأزهر وخارجه. لا فرق بين سلفي وعلماني، بين إسلامي وليبرالي مثل هِيكل والعقاد وخالد محمد خالد، بين إسلامي واشتراكي كما هي الحال عند الشيخ سعاد جلال «الشيخ الأحمر».
ولما انتهى الإصلاح إلى طريق مسدود بالرغم من قيادته للحركة الوطنية المصرية منذ ثورة ١٩١٩م حتى الأربعينيات والتي أسهم فيها الإخوان والوفد ومصر الفتاة والماركسيون قامت الثورات العربية الأخيرة في منتصف القرن الماضي لتواجه بطريقة أكثر حسمًا، ووراء الضباط الأحرار جيوش نظامية، قضية الاستقلال الوطني، وجلاء القوات الأجنبية، وتحقيق وحدة وادي النيل بين مصر والسودان، وبالرغم من إنجازاتها الضخمة: الإصلاح الزراعي في ١٩٥٣م، جلاء القوات الأجنبية في ١٩٥٤م، مؤتمر باندونج وتأسيس حركة عدم الانحياز كاختيار سياسي للعالم الثالث في ١٩٥٥م، تأميم القناة في ١٩٥٦م، تمصير الشركات الأجنبية في ١٩٥٧م، قيام أول تجربة وحدوية في تاريخ العرب الحديث، الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا عام ١٩٥٨م، تأييد ثورة العراق في ١٩٥٨م، إصدار قوانين يوليو الاشتراكية، صياغة الميثاق الوطني في ١٩٦٢-١٩٦٣م، بناء السد العالي في ١٩٦٤م، مناصرة ثورة اليمن في ١٩٦٤م، الثورة الليبية في ١٩٦٩م، التصنيع، مجانية التعليم، إنشاء القطاع العام دعمًا للفقراء ومحدودي الدخل، تأييد ثورة الجزائر في ١٩٥٤م، وقيام منظمة التحرير الفلسطينية في ١٩٦٥م، فإنها عملت في فراغ سياسي لم تملأه الزعامة الوطنية في شخص الرئيس، الزعيم الخالد؛ فقد حل الأحزاب وفي مقدمتها الوفد حزب الأغلبية والممثل لثورة ١٩١٩م، وحل جماعة الإخوان المسلمين في ١٩٥٤م، ولم تنجح التنظيمات السياسية التي أنشأتها الثورة في ملء الفراغ السياسي؛ مثل هيئة التحرير، الاتحاد القومي، الاتحاد الاشتراكي، حزب مصر، الحزب الوطني، ووُضِع الإخوان في السجون في ١٩٥٤م والشيوعيون أيضًا في ١٩٥٨م.
وبعد هزيمة ١٩٦٧م بدأ المشروع القومي في الانهيار، والنظام السياسي في الضعف حتى انتهى بوفاة الزعيم الخالد في سبتمبر ١٩٧٠م، وأتى نظام سياسي آخر يستعمل الإخوان والحركة الإسلامية لتصفية الناصريين في الجمهورية الثانية، كما يبدأ الآن العلمانيون التنويريون بتصفية الإخوان في الجمهورية الثالثة حتى يضعف الجناحان الرئيسان في المعارَضة، ويقوى القلب من جديد أي الدولة المُمثَّلة في النظام السياسي. ولمَّا ضعف الأساس الشعبي للنظام بعد الهبة الشعبية في يناير ١٩٧٧م وجد أحلافًا في الخارج بالمفاوضات مع إسرائيل في كامب ديفيد في ١٩٧٨م ومعاهدة السلام في ١٩٧٩م، ولما ضعفت الدولة أكثر فأكثر، فجعلت نفسها حليفًا مطلقًا للولايات المتحدة الأمريكية، وأيدت عدوانه على أفغانستان ثم العراق ثم الصومال، والعدوان الإسرائيلي المستمر على فلسطين واجتياح فلسطين كلها، وبعد عصر الاستقطاب في النظام العالمي ونشأة عالم ذي قطب واحد بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية ثم الالتصاق بها إلى حد التبعية خضوعًا لقوانين السوق والمنافسة الحرة. فما يفقده النظام في الداخل يجد تعويضًا له في الخارج.
ومع بداية تَفسُّخ الدولة وتفكيك الوطن، وفساد النظام السياسي ينشط الجناحان الرئيسان في الحياة السياسية، السلفية والعلمانية، الإخوان والحركات الإسلامية من ناحية، والشيوعيون أو مجموع قوى اليسار من ناحية أخرى لوراثة الدولة التابعة والحليفة للخارج، والقاهرة والفاسدة في الداخل؛ صراعًا على السلطة، ويشتد الصراع كلما ظن كل فريق أن الدولة على وشك الانهيار، وأن النظام السياسي يلفظ أنفاسه الأخيرة، وتحدُث حالة استقطاب شامل يغيب فيه الحوار بين قوى المعارضة السياسية، ويغيب فيه أيضًا الحوار بين الحكومة والمعارضة، بين الدولة وخصومها، والوطن هو الخاسر، وليس النظام السياسي الذي يعتمد على قوة رجال الأعمال، وليس الدولة الأمنية لاعتمادها على أجهزة الأمن والشرطة.
هل يمكن العودة إلى الإصلاح الأول في فجر النهضة العربية الأولى؛ من أجل إقامة نهضة عربية ثانية تتجاوز الاستقطاب الحالي بين السلفية والعلمانية والحرب بين الإخوة الأعداء ويقيم جسرًا بين الحكومة والمعارضة، بين الدولة وخصومها؟ كان شعار الطهطاوي الوطن للجميع. «فليكن هذا الوطن مكانًا لسعادتنا أجمعين. نبنيه بالحرية والفكر والمصنع.» والتعددية السياسية يكفلها الشرع بإثباته حق الاختلاف «كلكم راد وكلكم مردود عليه.» والمركب أوشك على الغرق، لا يستطيع ربان واحد إنقاذه. فهل يمكن تقديم مصلحة الوطن على مصلحة الحزب، ووحدة الوطن على الصراع على السلطة حتى تصل السفينة أولًا إلى بر الأمان؟
(٧) الإصلاح بين السلفية والعلمانية (٢)٧
منذ اتصال العالم الإسلامي بالغرب الحديث منذ القرن الثامن عشر نشأت ثلاثة تيارات فكرية واختيارات سياسية، ما زالت مستمرة حتى الآن وأصبحت قضية العصر الحديث كله.
الأول التيار العلماني الذي نشأ في الهند عند السيد أحمد خان بعد أن قضت بريطانيا على إمبراطورية المغول، وأصبح «النموذج الأوروبي» هو النموذج الوحيد للتحديث. والبداية بالتعليم وإنشاء المدارس الحديثة وخلق جيل جديد من اللوردات المسلمين، وتقوم ملكة بريطانيا بدور خليفة المسلمين، وهو تيار تركيا الفتاة ذاته، وجمعية الاتحاد والترقي والقومية الطورانية لإنقاذ تركيا من نظام الخلافة القاهر في الداخل والضعيف في الخارج والذي أدى إلى هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى والذي جسده مصطفى كمال بثورته في ١٩٢٣م وإلغائه نظام الخلافة في ١٩٢٤م، واستمر هذا التيار في الوطن العربي خاصَّةً عند بعض المهاجرين الشوام إلى مصر؛ مثل شبلي شميل، وفرح أنطون، ونقولا حداد، ومن المصريين سلامة موسى، وإسماعيل مظهر، وزكي نجيب محمود وما زال مستمرًّا عند فؤاد زكريا، وسياسيًّا يتبنى الليبرالية أو اللامركزية أو التعددية السياسية أو العلمانية أُسوة بالنظام السياسي الغربي.
والثاني التيار السلفي كرد فعل طبيعي على التيار العلماني. فالانبهار الجديد ينقلب إلى الدفاع عن القديم، وتقليد الغرب الحديث يؤدي إلى تقليد القدماء. فلا يصلح هذه الأمة إلا ما صلح بها أولها، ويعتبر عادة محمد بن عبد الوهاب زعيم السلفيين في القرن الثامن عشر في شبه الجزيرة العربية وكما عرض في «التوحيد الذي هو حق الله على العبيد»، وبالرغم من تعلمه على يد بعض الإصلاحيين في العراق مثل الآلوسي، فإنه اكتشف ابن تيمية الذي رده إلى أحمد بن حنبل وأصبح المصدر الأول لزعيم السلفيين المعاصرين رشيد رضا حتى الحركات الإسلامية المعاصرة، ومثله أبو الهدى الصيادي في تركيا وفي النظام الشاهنشاهي في إيران قبل الثورة في ١٩٧٩م.
والثالث التيار الإصلاحي الذي نشأ في مصر في مدرسة الأفغاني الذي هاجر إليها واستمر فيه تلاميذه من بعده محمد عبده وحسن البنا في مصر، وشكيب أرسلان والقاسمي والكواكبي في الشام، وعلال الفاسي في المغرب، وعبد الحميد بن باديس في الجزائر، والسنوسي حتى الطاهر بين عاشور في تونس، وعمر المختار في ليبيا، والمهدي في السودان، والكل ينتسب إلى الآلوسيين في العراق والشوكاني في اليمن وحركة الإصلاح المعارضة الآن في شبه الجزيرة العربية في الداخل والخارج.
ومن ثم نشأ طرفان ووسط. طرفان: العلمانية والسلفية، ووسط وهو الإصلاح، وكانت الاختيارات الثلاثة معروضة على العالم الإسلامي ووقعت أحداث حتمت هذا الاختيار أو ذاك. فلما صاغ الأفغاني الإسلام في العصر الحديث في شعار: الإسلام في مواجهة الاستعمار في الخارج والقهر في الداخل تبنى الضباط المصريون الشعار بقيادة أحمد عرابي الذي وقف في ميدان عابدين مع رفاقه مواجهًا الخديوي توفيق: «إن الله خلقنا أحرارًا ولم يخلقنا عقارًا، والله لا نُورثُ بعد اليوم.» وجاء الإنجليز واحتلوا مصر في ١٨٨٢م بعد هزيمة العُرابيين العسكرية بذريعة حماية سلطان مصر والدفاع عن نظام الخلافة. فخشي محمد عبده من عواقب الثورة السياسية ومناطحة السلطة السياسية والانقلاب عليها والخروج على الحاكم فآثر التغير الاجتماعي وإصلاح المحاكم الشرعية ونظام التعليم والقضاء على العادات الاجتماعية مثل «سفه الفلاح» فلما قامت الثورة الكمالية في تركيا بقيادة مصطفى كمال ونجح العلمانيون في الاستيلاء على الحكم خشي رشيد رضا، تلميذ محمد عبده الأثير، من أن يتكرر النموذج التركي في باقي أرجاء العالم الإسلامي فارتد سلفيًّا كرد فعل على العلمانية، وارتد الإصلاح مرة ثانية إلى الوراء. فلما أراد حسن البنا، تلميذ رشيد رضا في دار العلوم، إحياء مشروع الإصلاح من جديد، ليس فقط على مستوى الأيديولوجية الثورية كما حاول الأفغاني في «العُروة الوثقى» بل أيضًا على مستوى التنظيم الثوري الذي لم يستطع الأفغاني إنجازه؛ لأنه لم يستقر في مكان واحد، وكان مطاردًا في أفغانستان وإيران والحجاز ومصر والسودان وتركيا حتى استقر في باريس. أنشأ حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين على ضفاف القناة في الإسماعيلية عام ١٩٢٨م، وأصبحت في ظرف عقدين من الزمان وحتى الآن أكبر تنظيم سياسي إسلامي في كل أرجاء الوطن العربي والعالم الإسلامي. حاربت في فلسطين، وشاركت في معظم الثورات العربية منذ منتصف الخمسينيات، وما زالت تمثل التحدي الرئيس للنظم السياسية القائمة. فقرر القصر والإنجليز التخلص من حسن البنا فاغتيل في فبراير ١٩٤٩م، ودخلت الجماعة السجون، ولما اصطدمت بالضباط الأحرار في مصر في ١٩٥٤م؛ دخلوا السجون من جديد، وتحول سيد قطب، أكبر مفكر إصلاحي معاصر مثل أبي الأعلى المودودي في باكستان، من مفكر اشتراكي وناقد أدبي رومانسي إلى مفكر غاضب من آثار التعذيب. وانتقل من «العدالة الاجتماعية في الإسلام» و«معركة الإسلام والرأسمالية» و«السلام العالمي والإسلام» و«خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» الذي يقوم على التوازن والوسطية إلى «معالم على الطريق» الذي يقسم فيه المجتمع إلى جاهلية وإسلام، إله وطاغوت، إيمان وكفر، حق وباطل، ولا يمكن المصالحة بين الاثنين إلا بقضاء الثاني على الأول بتكوين جيل قرآني فريد تحت شعار «لا إله إلا الله» وكان سيد قطب قد تأثر في السجن بكتاب أبي الأعلى المودودي «المصطلحات الأربعة في القرآن» الألوهية، والربوبية، والحاكمية، والعبودية والتي تعبر عن الصراع بين المسلمين والهندوس في الهند، وتدعو إلى المفاصَلة التي أدت إلى انفصال باكستان عن الهند.
وما حدث من انهيار في التيار الإصلاحي حتى أصبح سلفيًّا حدث أيضًا في التيار العلماني بعد أن قوي التغريب فيه؛ فقد حرص شبلي شميل على تبرير نظرية التطور بالآيات القرآنية والتراث الإسلامي وتأسيس علم الاجتماع اعتمادًا على ابن خلدون. ثم انفصل تلميذه أحمد لطفي السيد عن الموروث واعتمد على الوافد الغربي كله، ابتداء من ترجمة كتاب «السياسة» لأرسطو حتى الليبرالية السياسية وتأسيس أحزاب الأقلية المتعاونة مع القصر. فزادت المسافة بين السلفية والعلمانية، ولم تنفع إسلاميات العقاد أو محمد حسين هيكل أو طه حسين أو خالد محمد خالد في التقريب بين التيارين المتباعدين، بل إن طه حسين في «مستقبل الثقافة في مصر» روَّج للنموذج الغربي بكامله حتى تكون مصر قطعة من أوروبا مرتبطة بالثقافة اليونانية واللاتينية، ثقافة البحر الأبيض المتوسط وليست بالثقافة الآسيوية حيث يعيش ثلاثة أرباع المسلمين؛ مثل رينيه حبشي في لبنان، وانقلب خالد محمد خالد من الليبرالية في بداية حياته في «من هنا نبدأ» إلى السلفية في «رجال حول الرسول»، وازداد الانبهار بالغرب عند سلامة موسى في «هؤلاء علموني» وكلهم من أساطين الفكر الغربي وأدبائه ولا يوجد مفكر إسلامي واحد. ولم تنفع محاولات فرح أنطون تأصيل العلمانية في فلسفة ابن رشد، بل انقلب إسماعيل مظهر من «أصل الأنواع» في أول حياته إلى «الإسلام أبدًا» في آخر حياته، وازداد التعارض إلى حد التناقص بين السلفية التي صب فيها الإصلاح، والعلمانية التي صب فيها التيار العلمي العلماني.
وإذا كان التيار العلماني الأول الذي يتبنى النموذج الغربي ضعيف النشأة، حملته الأقلية، إلا أنه اشتد أكثر فأكثر بزيادة الانبهار بالغرب في عصر القطب الواحد والعولمة والقنوات الفضائية ووسائل الاتصال الحديثة وقيم الاستهلاك واتساع رقعة الطبقات الغنية، كما اشتد التيار السلفي داخل السجون أولًا وخارجها ثانيًا لضعف الدولة الوطنية وضياع الاستقلال الوطني وتحولها إلى دولة قاهرة للداخل وتابعة للخارج. فتحولت إلى حركة سلفية جهادية لصد الهجمة الجديدة على الوطن العربي والعالم الإسلامي باحتلال كل فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان واستمرار احتلال كشمير وسبتة ومليلة في المغرب، واستطاعت حشد الجماهير وتقديم البديل كما تعبر عن ذلك شعاراتها «الإسلام هو الحل»، «الإسلام هو البديل»، «الحاكمية لله»، «تطبيق الشريعة الإسلامية»، وكلما ضعفت الدولة الوطنية اشتد الاستقطاب بين التيارين المتنازعين كسلطة بديلة، بل وصل الأمر إلى حد الحرب الأهلية في الجزائر والتي كان ضحيتها أكثر من مائة ألف شهيد، وإلى معارك مسلحة في شبه الجزيرة العربية، وما زال التوتر قائمًا بين التيارين في مصر وليبيا وسوريا، واستطاع بعضها الوصول إلى الحكم في السودان وإيران.
وإذا كان التيار العلمي العلماني قد رفع شعار «لا يتغير شيء في الواقع إلا إذا بدأنا بعلوم الطبيعة أولًا» وتم الفصل بين الدين والدولة ثانيًا، وإذا كان التيار الإصلاحي قد رفع شعار «لا يتغير شيء في الواقع إن لم نعد فهمنا للدين أولًا» فإن التيار الليبرالي السياسي الذي مثَّله الطهطاوي في مصر، وخير الدين التونسي وابن أبي ضياف في تونس، وحركة التنظيمات عند أنور باشا ومدحت باشا في تركيا قد رفع شعار «لن يتغير شيء في الواقع إن لم نبنِ الدولة الحديثة أولًا.» وهو ما فعله الطهطاوي مع محمد علي، والتونسي مع باي تونس، وأنور باشا مع السلطان عبد الحميد، ولما ضعفت الدولة تحول هذا التيار إلى تيار تبريري للسلطة القائمة وراء الدولة وليس أمامها. وجاءت الليبرالية المدنية تعطي الأولوية لحقوق الإنسان والمجتمع المدني وقضايا المرأة والأقليات على الدولة بتشجيع من الغرب ممَّا زاد الاستقطاب بين السلفية والعلمانية.
يستطيع الإصلاح أن يعاود الكَرَّة حماية للأمة من الضغوط الخارجية والمشاريع المفروضة عليها؛ مثل مشروع الشرق الأوسط الكبير، والمتوسطية والعولمة، كما يستطيع حماية الأمة من تفتيت الأوطان بعد القضاء على الخلافة أولًا، ثم على المشروع القومي العربي ثانيًا ثم على الدولة القُطْرِية ثالثًا بتفتيتها إلى فسيفساء عرقي طائفي، وهو ما يحدث حاليًّا في العراق، كما يستطيع استدعاء الحركات الإصلاحية المهاجرة لعودتها إلى الداخل واستئناف مشروعها الإصلاحي بالحوار مع التيارات الأخرى في إطار من الشرعية والحوار الوطني الشامل بين كل التيارات الفكرية والسياسية، خاصَّةً بعد انتشار الدعوات إلى الوسطية، ونبذ التطرف والحوار بين الحكومة والمعارضات، والتعددية السياسية، وتجارب الأردن والمغرب وتركيا رائدة في ذلك.
إن الإصلاح الجديد يتطلب أولًا موقفًا نقديًّا من القديم وإعادة بناء علومه بما يتفق مع تحديات العصر وأزماته، كما يتطلب ثانيًا موقفًا نقديًّا من الغرب الحديث وتحويله من مصدر للعلم؛ كي يصبح موضوعًا للعلم من أجل القضاء على أسطورة النموذج الأوحد، والثقافة العالمية، والمعلم الأبدي، كما يستدعي ثالثًا التنظير المباشر للواقع الذي نعيشه وتحويله إلى نظرية حتى لا يكتفي الإصلاح بتأويل النصوص القديمة ونقد النصوص الجديدة من دون تحويل الواقع إلى نص جديد خاصَّةً وأن الحضارة العربية الإسلامية متهمة بأنها حضارة نص كما قال محمود درويش: واحتمى أبوك بالنصوص فدخل اللصوص.
مهمة الإصلاحيين الجدد هو تقييم التجارب الإصلاحية الماضية على مدى قرنين من الزمان؛ من أجل استئنافها في حركة إصلاحية جديدة تنهي هذا الاستقطاب القاتل بين السلفية والعلمانية؛ حفاظًا على وحدة الأوطان واستقلالها.