المقاومة الفلسطينية
(١) الثورة والدولة١
هي أزمة جيلنا الذي عاش مرحلتين متتاليتين، مرحلة التحرر من الاستعمار ومرحلة ما بعد الاستعمار، مرحلة الثورة ومرحلة الدولة، مرحلة النضال الوطني ومرحلة التنمية الشاملة، وهو يشاهد نُصْب عينيه ضياع المُكتَسَبين الرئيسين، الثورة والدولة؛ فقد تحولت الثورة إلى ثورة مضادة، من مقاومة الاستعمار إلى التحالف معه، ومن مناهضة الصهيونية إلى الاعتراف بها، وتحولت الدولة الوطنية إلى دولة أمنية، وانقلب اقتصادها من الاشتراكية إلى الرأسمالية، وتغير اقتصادها من الاعتماد على الذات إلى المعونات الأجنبية، والغريب أن يتم هذا التحول بنفس الرجال، ونفس القادة الوطنيين. تعبوا من الثورة ونَعِموا بالدولة. أرهقهم النضال الشعبي فأَغْرَتْهم السلطة والثروة، ونعى المُثقَّفون الوطنيون حظهم، وعابوا زمانهم، ورَأَوا مسار تاريخهم الحديث بين النهضة والسقوط، بين شرعية الثورة وعقل الدولة، لا فرق بين قومي وماركسي وليبرالي وإسلامي. الكل يبكي حظه، وينعي زمانه.
فهل الثورة والدولة نقيضان أم متكاملان؟ وهي القضية المطروحة ذاتها الآن في القضية الفلسطينية بين حماس وفتح. فحماس هي الثورة، وفتح هي الدولة، ويكاد أن يقع التناقض بينهما إلى درجة الصراع المسلح، وإراقة الدم الفلسطيني مرتين، مرة بيد العدو الصهيوني، ومرة بيد المناضل الفلسطيني. ما طبيعة العلاقة بين الثورة والدولة؟
هناك أربعة أنماط للعلاقة بين الثورة والدولة أفرزها التاريخ، وتحققت في الواقع الثوري في الوطن العربي وخارجه. الأول «ثورة بلا دولة»، وتمثلها التجارب الثورية قبل مرحلة التحرر الوطني مثل الثورة الجزائرية بكل فصائلها المتمثلة في جبهة التحرير الوطني، والثورة الفلسطينية، حماس وفتح معًا، والممثلة في منظمة التحرير الفلسطينية، وجميع ثورات العالم مثل الثورة الفيتنامية، والثورة الصينية، والثورة الكوبية. فلا توجد سُلطة إلا سُلطة الثورة؛ لأن الدولة كانت بين المحتل الأجنبي أو العميل الوطني، وبعد النصر تتحول بطبيعتها إلى دولة، وهكذا نشأت الدولة الوطنية الحديثة. فالثورة بعد أن تحقق أهدافها لا تستمر. تخبو وتبرد بطبيعة الأشياء، وتصبح جزءًا من السياق الوطني والإقليمي والدولي، ويتحول الخيال الثوري إلى ترشيد عقلي. ويتحقق المثال في الواقع، ولكل منطقه، ما ينبغي أن يكون للثورة، وما هو كائن للدولة، وقد يقع الشِّقاق بين فُرَقاء الأمس، وينتصر فريق الواقعية السياسية على فريق النقاء والطهارة الثورية، فتح من دون حماس.
حينئذٍ ينشأ النمط الثاني «دولة بلا ثورة»، واقعية سياسية بلا روح ثورية؛ ممَّا يؤدي إلى سلسلة من التنازلات السياسية من الدولة بحجة التعايش مع النظام الدولي في الخارج والاستقرار السياسي في الداخل، وتوفير لقمة العيش للمواطنين ضد شعار «تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها.» وتقمع المعارضة السياسية التي تمثل روح الثورة والبدائل السياسية، وقد ينتهي الأمر إلى شق الصف الوطني، والوقوع في حرب أهلية بين رفقاء الأمس، بين الدولة والثورة. تسفك الدماء، وتتبادل الاتهامات بالعمالة والخيانة، وهو ما يحدث بين فتح وحماس اليوم.
حينئذٍ ينشأ النمط الثالث «لا ثورة ولا دولة»؛ فتضيع مكتسبات مرحلة النضال الوطني ضد الاستعمار والصهيونية، وهي الثورة، وتضيع مكتسبات مرحلة ما بعد الاستعمار، وهي الدولة. لم يَتعوَّد الشعب على الثورة بعد احتكارها من الدولة؛ فاهتم بلقمة العيش داخل البلاد أو هاجَر لمزيد من الرزق شرقًا إلى بلاد النفط أو غربًا إلى سوق العمل أو شمالًا للبلاد المتقدمة؛ كي ينعم بالخبز والحرية في آنٍ واحد خارج البلاد، ولم يَتبقَّ من الثورة إلا أحزاب معارضة تقليدية قومية أو ليبرالية أو يسارية ضعيفة أمام الدولة الأمنية والحزب الحاكم أو إسلامية غير شرعية، جماعة محظورة تُمارِس بعض أجنحتها العنف في العمل السري بالعقلية الانقلابية، ثورة على الثورة أو دولة داخل الدولة، ولا يبقى أمام بعض المُثقَّفين الوطنيين إلا الهم والغم أو التفريج عن الكرب بالعمل الأدبي أو الفني أو الثقافي. يسبحون ضد التيار ولم يغرقوا بعد. جُزر منعزلة لم يغمرها الطوفان.
وتتحول الدولة إلى دولة قاهرة لخصومها السياسيين في الداخل، وتجد تعويضًا عنها في أحلافها الجديدة في الخارج، وهي التي كثيرًا ما قاومت الأحلاف والمحاور في عصر الثورة، وتمتلئ السجون بالمعتقلين السياسيين طبقًا لقانون الطوارئ، أو قانون الإرهاب أو قانون حماية الوحدة الوطنية أو قانون الاشتباه أو قانون العيب، وإنكار ما عُلِم من الدين بالضرورة وهو طاعة أولي الأمر درءًا للفتنة بين الناس ومنع وقوع الفساد في الأرض، وتنتهي القيادة السياسية، وتعزل نفسها عن مجريات الأحداث، وتنكفئ على نفسها تَتشبَّث بالحكم من دون أن ترى المياه الجوفية تحت العرش الذي قد يغرق في أية لحظة، ويتوقف الخيال السياسي، وتغيب البدائل. فليس في الإمكان أبدع ممَّا كان. وتلتصق الدولة بالدول الكبرى لتجد سندًا فيها، وتتنازل عن دورها الإقليمي، وتبقى مُجرَّد هيكل عظمي تنخر فيه عوامل البلى. تتفكك الدولة من الداخل، وتتحول من حامل لمشروع وطني يجمع بين الناس إلى مجموعة من الشِّلل المتناحرة. فللخاص الأولوية على العام، ولرجال الأعمال الأسبقية على رجال السياسة. تُوضَع المعارضة في السجون، وتتفكك الدولة وتتحول إلى جماعات ضغط، وشِلل سياسية، ومجموعات مصالح متضاربة. فالوطن فقد روحه باستئصال الثورة، وفقد جسده بتفكك الدولة. تخرج الدولة من حركة التاريخ ومسار الزمن؛ فتحدُث الانقلابات العسكرية من بقايا الجيوش الوطنية وأجيال جديدة من الضباط الأحرار، بالرغم من استئناس الجيوش وتحويلها إلى مؤسسات اقتصادية، وجعلها درعًا حامية للسلام، الخيار الاستراتيجي الأوحد، بعد أن أصبحت حرب أكتوبر آخر الحروب، والأراضي العربية في فلسطين وسوريا ولبنان وفي أم الرشراش في مصر ما زالت محتلة. وقد تحدث هَبَّات شعبية عارمة من جماهير الفقراء ضد الأغنياء، كما حدث في الهبة الشعبية في يناير ١٩٧٧م، وفي هبة قوات الأمن المركزي في ١٩٨٦م، وإن استعصى ذا وذاك فقد تقع حوادث اغتيالات سياسية كما حدث في أكتوبر ١٩٨١م.
حينئذٍ يحدث النمط الرابع «ثورة ودولة» عودًا على بدء إلى عصر النضال الوطني؛ من أجل القيام بحركة تحرر وطني ثانية لتصحيح حركة النضال الوطني الأولى واسترجاع مكتسباتها، الدولة الوطنية المستقلة، والتنمية البشرية المستدامة. هكذا استقلت فيتنام بعد حروب تحرير طويلة ضد الاحتلال الياباني أولًا، والاستعمار الفرنسي ثانيًا، والعدوان الأمريكي ثالثًا، واستمرت المفاوضات خمس سنوات في باريس، والقتال على أشده في فيتنام. ثورة في الداخل، ودولة في الخارج. ثورة تُقاوِم، ودولة تُفاوِض. وهو ما يحدث في إيران حاليًّا، ثورة إسلامية وطنية في الداخل يُمثِّلها الحرس الثوري والمرشد الروحي، ومفاوضات في الخارج تمثلها الدولة والرياسة دفاعًا عن حق الثورة والدولة في امتلاك الطاقة النووية في عالم مُدجَّج بالسلاح النووي على المستويين الإقليمي والدولي، وهناك تجارب أخرى عديدة للثورة والدولة في الاتحاد السوفييتي السابق، وفي الصين والهند وكوبا، ومر الوطن العربي بها في مصر والجزائر تحت شعار «يد تبني، ويد تحمل السلاح».
والحقيقة هناك نمط خامس هو التكامل بين الثورة والدولة، بين الهجوم والدفاع، بين الرُّمح والدرع، بين المقاومة والمفاوضة، بين حماس وفتح؛ بناءً على تقسيم العمل بين الداخل والخارج. الثورة قلب، والدولة عقل. الثورة روح، والدولة بدن. الثورة ما ينبغي أن يكون، والدولة ما هو كائن. الثورة مثال وخيال وشهادة، والدولة واقع وسياسة وبقاء، ولا تعارض بين الوظيفتين. كلتاهما سُلطة، سُلطة الشعب وسُلطة النظام، سُلطة من أدنى وسُلطة من أعلى، سُلطة تشريعية وسُلطة تنفيذية. هذا ليس توفيقًا أو تلفيقًا بين متعارِضَين أو انتهازية سياسية لاحتواء الاثنين، بل هو حرص على مبدأ سابق على الثورة والدولة وهو الوطن، وهدف تالٍ للثورة والدولة وهو الوحدة الوطنية.
ما يعوق هذا النمط المتكامل بين الثورة والدولة هو بعض جوانب الموروث الثقافي الحديث والقديم، مثل المدخل الأيديولوجي للواقع العربي الراهن، وإعطاء الأولوية للعقيدة على الشريعة، وللنص على الواقع، وللقول على الفعل، وللفرقة الناجية على الفرقة الهالكة، وهو تعبير عن العجز عن مواجهة الواقع، الاحتلال في الداخل، والحصار في الخارج.
السُّلطة ليست بالضرورة في القصر، بل في العقل، وقد رفض عمر الخلافة لابنه عبد الله حتى لا يَتحمَّل وزرها الأب والابن، مسئولية «والله لو عثرت بغلة في العراق؛ لسُئلتَ عنها يا عمر لماذا لم تُسوِّ لها الطريق؟»
ليست حكومة الوحدة الوطنية بصعبة المنال، دولة من فتح، وثورة من حماس، دولة في القصر، وثورة في الشعب، أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ.
(٢) التطبيع جهارًا٢
كانت النظم العربية التي عقدت معاهدات سلام مع الكيان الصهيوني تُطبِّع العلاقات معه سرًّا، ومن وراء ستار، في الزراعة، والصناعة، وحديد التسليح والأسمنت والنفط والغاز، وكانت جرائد المُعارَضة تفضح هذا التطبيع السِّرِّي، ولكن عقل الدولة شيء وعقل الثورة شيء آخر. أما الشعوب ممثلة في مؤسَّساتها الثقافية والعلمية فإنها كانت ترفض التطبيع، وكانت لجان مقاومة التطبيع مع العدو الصهيوني من أنشط اللجان على مستوى العمل الأهلي، والقلة التي طبَّعت كانت موضع استهجان وإدانة، بل فصل من المؤسسات الثقافية والجمعيات الأهلية، وكانت الحجة أن التطبيع لا يُفرض بالقوة على الناس حتى لو كان جزءًا من استحقاقات معاهدات السلام بالنسبة إلى بعض الدول وفي مقدمتها الشقيقة الكبرى مصر، والشقيقة الصغرى الأردن.
وكانت دولة أخرى في أقصى المغرب العربي وعلى المحيط الأطلسي وليست من دول البحر الأبيض المتوسط قد عقدت معاهدة سلام مع العدو الصهيوني، مع أنها بعيدة عن قلب المعركة وليست من دول الجوار مع فلسطين. إلا أنها رأت في ذلك تدعيمًا للنظام السياسي القائم من أمريكا وإسرائيل وإعلانًا عن التوجه الغربي المطلوب في عصر العولمة. هذا بالإضافة إلى أنه من الناحية الاقتصادية ليس لدى هذا البلد ما يصدره ليستفيد من التطبيع، ولكن لديه ما يستورده وفتح أسواقه ومراكز أبحاثه وخيمه الثقافية وصحرائه موطن الشعر العربي للتطبيع الثقافي: المنح للطلاب، الإعارات للأساتذة، النشر للمبدعين ولِلْحدِّ من التيار السلفي المتنامي، وكطريق إلى أفريقيا بعد صهينة الثقافة الزنجية، وفي أقصى الشرق وفي منطقة الخليج تسعى بعض الأنظمة إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني بطريق غير رسمي، مكاتب اتصال أو تجارة، تبادُل للمنافع في استثمار رءوس الأموال وعوائد النفط بفوائد بنكية أكبر، خطوة نحو تصديره إلى المتوسط عبر الكيان الصهيوني، وكذلك يتم نصف سرًّا ونصف جهرًا. فالشعوب غاضبة من الدماء التي تسيل كل يوم في فلسطين والعراق وأفغانستان، وهناك بقايا حياء في أنظمة الحكم، والأعمال بالنيات، واستعينوا على قضاء حاجتكم بالكتمان حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا، ولله في خلقه شئون.
والواقع غير ذلك. فأجزاء من تحديث المصانع لدى العدو الصهيوني، والتصدير للأسواق العالمية بما في ذلك السوق الأمريكي مشروط بملفات حقوق الإنسان والمرأة والأقليات وتحقيق بنود مشروع الشرق الأوسط الكبير، ومن كان يدري قبل القبض على عزام عزام أنه جاسوس لإسرائيل، كان يعمل في مصنع الغزل والنسيج في المحلة الكبرى؟ والقطاع الخاص هو الذي سيقوم بالشراكة بكل ما فيه من فساد وتهريب للأموال، وإن وُجد ربح فلرجال الأعمال وليس لجموع الشعب وتوفير حاجاته الأساسية للبقاء. النتيجة هي السيطرة على الاقتصاد، وتحويل الاقتصاد الوطني إلى اقتصاد خدمات تابع وليس إلى اقتصاد إنتاج ومبادرة، وتنفيذ السيطرة إلى قلب الاقتصاد المصري الوطني منذ طلعت حرب والقطاع العام منذ عبد الناصر، وهي صناعة الغزل والنسيج فخر الصناعة المصرية وعمودها التقليدي الأول من قطن مصر وعمالة وإبداع، ومن ثم يزدهر التطبيع ويكثر عدد المُطبعين ما دامت الجيوب عامرة للقِلَّة حتى لو كانت المَعِدَة خاوية للكثرة.
والأخطر من الاقتصاد والسياسة هي الثقافة. التطبيع جهارًا، والاعتراف بالصهيونية علنًا؛ من أجل صهينة العقل العربي، والاستسلام لمنطق القوة، إسرائيل في الداخل وأمريكا في الخارج، وتنتهي القصص القديمة التي سادت في الخمسينيات والستينيات عن التنمية المستقلة، والاعتماد على الذات، والسوق العربية المشتركة، والتكامل العربي، والوحدة الاقتصادية؛ العربية والقومية العربية؛ فقد أدَّى كل ذلك إلى هزيمة يونيو (حزيران) ١٩٦٧م. الخطورة على الثقافة أن تتحول الأقلية المطبعة إلى أكثرية، وأن ما يتم سرًّا يتم علنًا، وأن ما يُستحيا من الناس يصبح لا حياء فيه، و«إن لم تستحِ فاصنع ما شئتَ.» الخطورة أن تهتز اقتناعات، وتحل محلها اقتناعات أخرى، فتهتز النفس، ويضطرب الوجدان بعد أن تتحول الثوابت إلى متغيرات، والمتغيرات إلى ثوابت.
والأخطر من الاقتصاد والسياسة والثقافة هو التاريخ؛ إذ قد يتحول التطبيع جهارًا إلى تغيير مسار التاريخ، ابتداءً بحصار الأوطان ونفي الإرادة الوطنية المستقلة والدولة الوطنية المستقلة التي كانت حصيلة حركات التحرر الوطني، وكلفت ملايين الشهداء ثم يأتي حصار المعارَضة العربية التي تسبح ضد التيار حتى تبدو قديمة تتبع أساطير الأولين خارج العصر والزمان، تجرفها الواقعية السياسية وتذويها في أقبية التاريخ، ثم يأتي حصار ما تبقى من كرامة. فيصبح الواقع هو القاعدة والوطن هو المثال. ينتهي عصر الأيديولوجيا ليس إلى التكنولوجيا كما كان قديمًا بل إلى سوق المال، وكما تنتهي الوطنية تنتهي القومية التي أدَّت إلى ضرب الثورة الإسلامية في إيران في ظهرها بعد عامها الأول، ثم إلى احتلال الكويت ثم إلى احتلال العراق. وتُحاصر الحركة الإسلامية الباقية التي ما زالت تقاوم؛ نظرًا إلى أنها الوحيدة تقريبًا في الساحة، في فلسطين والعراق، ضد الاحتلال وفي سائر الأقطار العربية ضد القهر والفساد؛ ونظرًا إلى أنها غير شرعية في معظم الحالات تبدو وكأنها عنيفة فيتم تشويهها في الداخل والخارج لم يبقَ إلا الاستسلام التام، والتطبيع جهارًا وليس سرًّا، والتبعية علمًا بإرادة حرة وطوعًا وليس جبرًا وكرهًا، ويتم الاستسلام للنظام الدولي الجديد وإلى جدول الأعمال المفروض من الخارج: العولمة، صراع الحضارات، نهاية التاريخ، العالم قرية واحدة، قوانين السوق للغرب، وجدول أعمال آخر لنا: حقوق الإنسان من دون حقوق الشعوب، وحقوق الأقليات من دون حقوق المواطَنة، والإدارة العليا بديلًا عن الدولة الوطنية، والتعليم الخاص بدلًا من التعليم الوطني، والتأهيل بعلوم السوق وإدارة الأعمال واللغات والحاسبات الآلية، وليس بالتعليم الوطني لإعداد المواطن الصالح.
وتضعف الذاكرة العربية ويطويها النسيان، ويغيب الخيال العربي، ويختفي المتنبي والمعري، وتنسى الأجيال القادمة أحمس وصلاح الدين ومحمد علي وعبد الناصر، طاردي الغزاة، ومؤسسي الدول، وحماة الشعوب، والمحافظين على مسار التاريخ من الانكسار أو الرِّدة.
التطبيع جهارًا ولَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ، ولا يجوز الخضوع إلا لله طوعًا أو كرهًا وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا، وهو وحده الذي يأمر فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، وفي المأثور «تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها.»
(٣) من كوبنهاجن إلى القدس٣
ارتبطت عاصمة الدنمارك «كوبنهاجن» بمجموعة من المُثقَّفين العرب والإسرائيليين. وأصدرت بيانًا باسمها بغرض تسوية سلمية للقضية الفلسطينية والتطبيع مع الكيان الصهيوني من دون التزام واضح بالحد الأدنى للتسوية: الانسحاب من الأراضي المحتلة عام ١٩٦٧م بما في ذلك القدس الشرقية، وعودة اللاجئين، وإزالة المستوطنات، والسيطرة على مصادر المياه، وخشي المُثقَّفون العرب من التنازل عَمَّا لا يملكون، وأن مبادراتهم فيها عطاء أكثر ممَّا فيها أخذ، وأنهم لا يمثلون الجماهير العربية ولا مطالبهم الوطنية؛ فخجل بعضهم، ومات البيان.
كما ارتبطت أسماء عواصم أوروبية أخرى بالموضوع ذاته، القضية الفلسطينية، مثل مدريد واتفاقياتها القائمة على مبدأ الأرض في مقابل السلام، وأوسلو واتفاقياتها التي منها انبثقت السلطة الوطنية الفلسطينية من دون قيام الدولة في الموعد المحدد وحتى الآن.
وارتبطت أسماء بعض العواصم العربية بالقضية الفلسطينية، وكان تحويل إسرائيل لمجرى نهر الليطاني في جنوب لبنان هو الدافع إلى عقد مؤتمر القمة العربي الأول في القاهرة في الستينيات، كما ارتبط اسم القاهرة باتفاقيات تنظيم العلاقة بين المقاومة الفلسطينية والدولة اللبنانية، ثم بتفاهمات القاهرة بين فصائل المقاومة الفلسطينية. كما ارتبط مؤتمر القمة العربية في الخرطوم في ١٩٦٧م أعقاب الهزيمة باللاءات العربية الثلاثة الشهيرة، لا صلح ولا اعتراف ولا مفاوضة مع العدو الصهيوني، وارتبط اسم الدار البيضاء بالقمة العربية التي جعلت منظمة التحرير الفلسطينية هو الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وارتبطت القمة العربية في بيروت بالمبادرة العربية، الانسحاب الكامل في مقابل السلام الكامل؛ استئنافًا لمبادرة روجرز، ولمبدأ الأرض في مقابل السلام، وارتبطت مدينة الطائف باتفاقية إنهاء الحرب الأهلية اللبنانية.
كما ارتبطت أسماء بعض العواصم العربية بلحظات فارقة في تاريخها مثل مؤتمر القاهرة في ١٩٩٠م؛ لتشريع العدوان الأمريكي على العراق بفارق صوتين، وارتبط اسم تونس بمؤتمر القمة المؤجل للخلاف على جدول الأعمال الداخلي أم الخارجي، كما ارتبط اسم بغداد من قبل بحلف بغداد الشهير في ١٩٥٤م، وارتبط اسم الرياض بالحلف الإسلامي بين الرياض وطهران وكراتشي في ١٩٦٥م لمحاصرة القومية العربية ومضمونها الاشتراكي التقدمي.
قفز اسم «كوبنهاجن» من جديد إلى الأذهان بسبب الرسوم الساخرة التي نشرتها إحدى المجلات الدنماركية لقياس مدى حرية التعبير كما يقال في الظاهر، والقصد الحقيقي مدى إظهار سيادة المحافظة والتعصب والتخلف في العالم الإسلامي إذا ما ظهرت ردود أفعال سلبية استئنافًا لقضايا سلمان رشدي البريطاني الهندي، ونصرة تسرين من بنجلاديش، وربما أيضًا نصر حامد أبو زيد من مصر عن اضطهاد المفكرين والكُتَّاب في أوطانهم؛ وبالتالي غياب حرية التعبير. فيكسب الغرب نقطة على حساب المسلمين في حرية التعبير. والسؤال هو: لماذا التجربة على الحضارات الأخرى مثل الحضارة الإسلامية والشواهد كثيرة في الحضارتين المسيحية واليهودية؟ فعندما صدر فيلم «يسوع المسيح نجم كبير» قامت المظاهرات في إيطاليا وفي كثير من العواصم الأوروبية ضد الفيلم وتصوير المسيح في علاقة حب مع مريم المجدلية، وعندما بدأ بعض المفكرين والباحثين الأوروبيين في التشكك في الأرقام التي يعلنها الكيان الصهيوني عن المحرقة التي قام بها النازيون في ألمانيا خاصَّةً، الملايين الخمسة؛ لابتزاز أوروبا من أجل التعويضات وشرعية الهجرة ليهود العالم، أربعة عشر مليونًا، إلى إسرائيل، من الشتات إلى حق العودة، وضم الأراضي المحتلة وإقامة المستوطنات وتوسيعها لاستيعاب الهجرة، طالب الغرب بمحاكمتهم وإدانتهم بمعاداة السامية بالسجن والغرامة، وعندما تجرأ رئيس الجمهورية الإسلامية في إيران بالتعبير عمَّا يكنه كل عربي ومسلم تجاه الكيان الصهيوني، وما تربى عليه على مدى جيلين من الزمان قبل مفاوضات السلام ومعاهدات الصلح والاعتراف به من مصر والأردن وموريتانيا، وطالب الإسرائيليين بالعودة من حيث أتوا، فلماذا يتحمل الفلسطينيون وزر ما اقترفه الأوروبيون؟ ثارت ثائرة الغرب واتهموه أيضًا بالتطرف والتعصب والصبيانية واللاواقعية ومعاداة السامية وطالب بمعاقبته بالطرد من الأمم المتحدة لخرق ميثاقها الخاص باحترام استقلال الدول، مع أن ما تفوه به رئيس الجمهورية الإسلامية بالكلام قامت به الولايات المتحدة بالفعل في العراق وأفغانستان، وقامت به إسرائيل في فلسطين، وقامت به روسيا في الشيشان، والهند في كشمير، وبعد أن نجحت حماس في الانتخابات التشريعية في أكثر الانتخابات ديمقراطية في العالم من دون تزوير أو غلبة، وهو ما شهد به الأعداء قبل الأصدقاء غربًا وشرقًا، رفض الغرب نتائجها ولم يعترف بشرعية المنتخَبِين، وهددها بقطع المعونات عن الشعب الفلسطيني وعدم الاعتراف بها كممثل للشعب الفلسطيني إلا بعد الاستسلام لشروط إسرائيل من دون مطالبة إسرائيل بالمقابل بالانسحاب من الأراضي المحتلة، وحق اللاجئين في العودة؛ تنفيذًا للقرارات الدولية.
وتحية للعرب والمسلمين أن هبوا هبة رجل واحد لمواجهة الرسوم الساخرة من الرسول ﷺ التي نشرت بإحدى المجلات الدنماركية، وقاموا بسحب السفراء العرب من العاصمة الدنماركية أو استدعاء سفراء الدنمارك في العواصم العربية والإسلامية للاحتجاج أو المطالبة بالاعتذار الرسمي، ليس فقط من المشرفين على المجلة بل أيضًا من الحكومة الدنماركية أو بمقاطعة البضائع الدنماركية خاصَّةً منتجات الألبان التي تمثل جزءًا كبيرًا من الصادرات الدنماركية أو القيام بالمظاهرات داخل الدنمارك وخارجها للاحتجاج على إهانة المقدسات الإسلامية ورفع لافتات «نحن فداك يا رسول الله.» كما تحركت منظمة المؤتمر الإسلامي التي تمثل مليارًا وربعًا من سكان العالم للاحتجاج، وقريبًا غطى الرسام الهولندي ماثيو فان جوخ أجساد فتيات عاريات بآيات من القرآن الكريم، وكان جزاؤه القتل تم على إثرها اتهام المسلمين بالتعصب ومعاداة حرية التعبير، وهذا كله ممَّا يثلج القلوب، ويثار لكرامة العرب والمسلمين التي لم يعد أحد في الغرب يوليها أي اعتبار.
والسؤال هو: لماذا لم يقم العرب والمسلمون قيامة رجل واحد لإنقاذ المسجد الأقصى، أولى القبلتين، وثالث الحرمين، والقدس المدينة، وفلسطين، الوقف الإسلامي؟ لماذا يتركون الحفريات تحت المسجد الأقصى؛ تمهيدًا لهدمه وإنشاء هيكل سليمان على أنقاضه؟ ولماذا لم يقفوا وقفة رجل واحد ضد تهويد القدس وإقامة الجدار العازل، وزرع المستوطنات؟ ولماذا لم تقطع الدول المتصالحة مع إسرائيل علاقاتها معها وإنهاء كل محاولات التطبيع معها وهي تقتل وتشرد وتصفي جسديًّا نشطاء المقاومة؟ ولماذا لم يسحبوا سفراءهم من واشنطن ولندن بعد عدوان أمريكا وبريطانيا على العراق وقتل الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ؟ ولماذا لم يقاطعوا البضائع الأمريكية والبريطانية بعد احتلال أفغانستان؟ ولماذا لم يقطعوا مع روسيا بعد احتلالها الشيشان وهي جمهورية إسلامية وأراضي المسلمين؟ ولماذا لم يقطعوا مع الهند حتى تنسحب من كشمير والإقرار بحق تقرير المصير للشعب الكشميري طبقًا لقرارات الأمم المتحدة؟ ولماذا لم يقاطعوا البضائع الإسبانية، وإسبانيا ما زالت تحتل مدينتين مغربيتين، سبتة ومليلة، من بقايا الاستعمار الغربي الحديث؟ وهل الرسوم الساخرة لشخص الرسول أكرم من دماء المسلمين وأراضيهم وثرواتهم وكرامتهم، ومن قتل نفسًا فكأنما قتل الناس جميعًا، ومن أحيا نفسًا فكأنما أحيا الناس جميعًا؟
إن المقدَّس في القرآن الكريم هو الله، الملك القدوس هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ، يُسَبِّحُ لِلهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ. تُقدسه الملائكة وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، والمقدَّس أيضًا هو الروح القدس الذي أيد عيسى ابن مريم وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ، إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا، وهو جبريل عليه السلام حامل الوحي للرسول قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ. وهو أيضًا الأرض المقدسة يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ قبل أن يقطعوا العهد والميثاق، والوادي المقدس إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى، إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى. أما الرسول فهو بشر، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. حرم إطراءه وتعظيمه كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، وهو على خلق عظيم.
فإذا كان للمسلمين كل هذه القدرة على التجميع والاعتراض والاحتجاج، وكان لديهم كل هذه الإمكانات في التأثير في أعدائهم وممثليهم ومغتصبي حقوقهم فأين توضع؟ أليس موقفنا أضعف في اتهامنا بأننا ضد حرية التعبير، وموقفنا أقوى في قدرتنا على مقاومة الاحتلال؟
(٤) هل من مفاوض؟٤
ما زالت إسرائيل تتحدَّى: هل مِن مفاوض؟ هل من شريك؟ فالعيب ليس في إسرائيل التي تريد السلام وإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، بل في الفلسطينيين الذين ما زالوا يحملون السلاح ويمارسون «الإرهاب» فلا يوجد شريك للسلام، وبالتالي توقفت عجلة السلام بسبب غياب المفاوض الفلسطيني، الشريك في عملية السلاح.
والسؤال هو: هل تعترف إسرائيل بالآخر، أي آخر، يكون طرفًا لها، تفاوضه ويكون شريكًا لها بصرف النظر عن درجة صلابته وليونته أم أنها أساسًا لا تعترف بالآخر مهما كان، وأنها لا تعترف إلا بنفسها، والآخر في خدمتها، والعالم كله مجال حيوي لها؟
رفضت إسرائيل التفاوض مع أبي عمار، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ورئيس السلطة الوطنية الفلسطينية لأنه يساعد «الإرهاب» من وراء ستار، وهو الشخصية التاريخية التي سيطرت على النضال الفلسطيني على مدى نصف قرن، وهو الذي اعترف بقراري الأمم المتحدة رقمي ٢٤٢، ٣٣٨ ممَّا سبب انشقاقًا في النضال الوطني الفلسطيني؛ بسبب الانسحاب من الأراضي المحتلة في ١٩٦٧م وحدها من دون ذكر لعودة اللاجئين، وبداية مسلسل التنازلات. وهو المفاوض في أوسلو والموقِّع على اتفاقياتها، وهو الذي اعترف بإسرائيل في مقابل اعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية تحت محاصرته في بيروت ثم في رام الله. وأخيرًا تم اغتياله بدس السم في طعامه، وكما قيل قديمًا «لله جنود من عسل.»
وفاوَض أبو مازن، وجلس، وصافح، ولكنه لم يحصل على شيء؛ فإنه لم يقضِ على «الإرهاب»، ولم يفكك البنية التحتية للفصائل، ولم يطهر مؤسسات السلطة من الفساد المالي والإداري، ولم يوحد أجهزة الأمن الفلسطيني، ولم ينزع سلاح المقاومة أي إنه لم يدخل المفاوضة عاريًا تمامًا حتى يتم الاستسلام.
وجاءت حماس بانتخاب حر وديمقراطي للشعب الفلسطيني، ومع ذلك هي أيضًا ليست شريكًا في السلام. فإنها تريد تدمير إسرائيل طبقًا لبرنامجها السياسي، ولا تعترف بها، وما زالت تحمل السلاح، وتؤيد العمليات «الإرهابية»، ومهما أعلنت حماس بأنها تقبل مبادرة السلام العربية، الانسحاب الكامل في مقابل السلام الكامل، وأنها تقبل إقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من يونيو (حزيران) ١٩٦٧م، وأنها تقبل بكل الاتفاقات السابقة التي وقَّعت عليها السلطة الوطنية الفلسطينية، تم حصارها وعدم الاعتراف بها، بل تجويع شعب فلسطين من أجل تركيعه.
وقررت إسرائيل الانسحاب من جانب واحد في غزة تحت وطأة المقاومة؛ لأنه لا يوجد شريك فلسطيني يفاوض، وتعد الآن خطة انسحاب ثانٍ من الضفة الغربية لتجميع المستوطنات الكبرى في حزام واحد، وترك المستوطنات النائية «غير الشرعية»، وكأن الأولى كانت مستعمرات شرعية؛ لأنه لا يوجد أيضًا شريك فلسطيني بالرغم من وجود رئيس السلطة، ورئيس الحكومة، ومنظمة التحرير الفلسطينية التي اعترفت بها إسرائيل من قبل.
ولا يوجد مفاوض فلسطيني فقط، بل لا يوجد أي مفاوض عربي آخر؛ فقد رفضت إسرائيل منذ البداية مفاوضة العرب مجتمعين، مصر وسوريا وفلسطين ولبنان، وهي دول الطوق المحتلة حتى تنفرد بكل قُطْر على حدة، وهو ما فعلته مصر في اتفاقيات كامب ديفيد في ١٩٧٨م، ومعاهدة السلام في ١٩٧٩م، ثم تلتها الأردن في اتفاقيات وادي عربة، وإن كانت مصر قد استردت سيناء منزوعة السلاح، واستردت طابا بقرار من محكمة العدل الدولية، فإن الأردن لم يسترد الضفة الغربية التي كانت تحت إدارته في عام ١٩٦٧م، ولا يوجد أي مفاوض إسلامي حتى من الأنظمة المعترفة بإسرائيل رسميًّا مثل تركيا أو غير رسمي مثل باكستان. فالقدس مسئولية المسلمين، والمسجد الأقصى أمانة في عنق مليار وربع من المسلمين.
ولا يوجد مفاوض أيضًا لأولي الأمر، الرباعية أو الاتحاد الأوروبي أو روسيا أو أمريكا، يفاوض لتنفيذ القرارات الدولية وباسم العرب، والعرب أعضاء منتسبون في الاتحاد الأوروبي، وأوروبا من دول الجوار تعيش على نفط العرب، وروسيا الحليف التقليدي للعرب في الحرب والسلام، في التحرير والتنمية.
ولا يوجد مفاوض حتى لو كان الله نفسه، بالاحتكام إلى الأنبياء والكتب المُقدَّسة. فقد أعطاهم الله كل شيء، الأرض والمدينة والمعبد والهيكل بناءً على ميثاق قديم ووعد أبدي بالنصر على أعدائهم. فالله في صفهم ومعهم، ولا كان موسى مفاوضًا؛ فقد خرجوا من مصر معه، وغضب منهم لعصيانهم له، وعاشوا في التيه قبل أن يعودوا إلى فلسطين، ولا كان الشيطان مفاوضًا لهم، فهم قادرون على استخدامه لصالحهم والعمل معهم.
ليست القضية، إذن، هي غياب المفاوض والشريك، بل هي قضية عدم الاعتراف بالآخر على الإطلاق. فلا يوجد إلا طرف واحد يقرر، والآخر ينفذ. طرف يأمر، والآخر يطيع. فإسرائيل هي الشعب المختار، أبناء الله وأحباؤه. لا يعترفون بالشعوب الأخرى إلا خدمًا لهم ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ. يقتلون الأنبياء، ويمالئون الملوك، ويعتدون على باقي القبائل والشعوب.
وقد عَبَّرت الصهيونية عن هذا الموقف بوضوح. عنصرية دموية، ومركزية استعلائية، واستعمال القوة للاستيطان في أراضي الغير والتوسع، وهو ما استقر في الوعي الأوروبي كله، وكما ظهر أيضًا في المركزية الأوروبية، والعنصرية الأوروبية، والاستعلاء الحضاري الأوروبي. فأوروبا مركز العالم، وزَحْزَحت اليهوديةُ التي تنفي الآخَرَ المسيحيةَ التي تَعترِف بالآخَر بالرحمة والمغفرة «من لم يكن منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر» من الوعي الأوروبي، وربطت نفسها بالمد الاستعماري الأوروبي، والانتشار خارج أوروبا، والالتفاف حول أفريقيا وآسيا، قارات العالم القديم.
كان من الطبيعي أن ترفض إسرائيل مبادرة السلام العربية حتى قبل إعلانها في القمة العربية في بيروت. فهي لا تعترف بأي مفاوض مهما كان؛ لأنها أساسًا لا تعترف بوجود آخر غيرها، وإذا فاوضت فإنها تملي إرادتها على محيطها ومجالها الحيوي الذي ليس له حدود إلا بمقدار ما يصل إليه جيش الدفاع الإسرائيلي. لقد أسهمت في نهاية الاتحاد السوفييتي، وإسقاط المنظومة الاشتراكية المعادية لها، والصديقة للعرب، والآن تسيطر من خلال رأس المال على كبريات الشركات في الولايات المتحدة الأمريكية ومراكز اتخاذ القرار السياسي فيها، وتجدد سلاح الطيران الصيني، وتقوم بالتصنيع المشترك للشرائح الإلكترونية مع الهند، وسلاحها النووي جاهز في أي لحظة ضد العواصم العربية والدول الإسلامية مثل إيران وباكستان.
إيران وحدها هي المفاوض لأمريكا وأوروبا. فهي التي تفرض إرادتها على الآخرين، وتبين حدود قوتهم. هنا تعترف أمريكا وأوروبا وإسرائيل بالمفاوض. فالمفاوض هو الذي يملي إرادته وليس الذي يستسلم ويسلم منذ البداية، ويستجدي ويستعطف ويهيب بالضمير العالمي للمساعدات الإنسانية لشعب نصفه لاجئ ونصفه محاصَر. المقاومة وحدها في العراق هي التي تريد قوات الاحتلال مفاوضتها وليست الحكومة العراقية المشكلة تحت الاحتلال. المقاومة في فلسطين وأفغانستان والشيشان وكشمير هي القادرة على المفاوضة؛ لأنها هي التي تبين حدود إرادة الآخر باصطدامه بإرادات أخرى تقاوم وتفرض نفسها، وأمريكا اللاتينية الآن هي التي تقاوم، وتبين حدود إرادة الولايات المتحدة الأمريكية، وسيطرة الشمال على الجنوب.
لم يبقَ أمام إسرائيل إلا خياران. الأول النموذج الأندلسي، أن يعيش اليهود مع غيرهم متساوين في الحقوق والواجبات، يشاركون في القيم ذاتها، كما عاشوا عصرهم الذهبي في الأندلس، في غرناطة وقرطبة وإشبيلية وطليطلة، والثاني هدم المعبد بمن فيه على من فيه كما فعل شمشون الجبار وهو ما حدث في الأسر البابلي وفي العصر الروماني وفي نازية هتلر.
(٥) واحد بألف٥
ليست المعارك عسكرية فقط، ولا اقتصادية فقط، ولا سياسية فقط، بل هي معارك ذهنية أيضًا بين الصور النمطية التي ينسجها كل فريق من المتصارعين للآخَر. يسهم في صنعها التاريخ والثقافة والإعلام والتكرار، وقد تتهاوى إذا ما تَغيَّر الواقع الذي ينتجها والظروف التي أنشأتها، وخطورتها أنها سلاح في المعارك. تؤثر في المحاربين. هل يحارب الجندي شبحًا أمامه، أسطورة، وهمًا، رجلًا خارقًا للعادة إلى آخِر ما صورته السينما الأمريكية مثل رامبو، طرازان، الإنسان الآلي، حرب الكواكب، أم يحارب شخصًا مثله، جنديًّا عاديًّا قد ينتصر وقد ينهزم طبقًا لقدرته على حمل السلاح وتخطيط قيادته؟
ومن ضمن الصور الذهنية بيننا وبين العدو الصهيوني، الكم والكيف. فنحن كم بلا كيف، وهم كيف من دون كم. العرب ثلاثمائة وخمسون مليونًا، والإسرائيليون خمسة ملايين في فلسطين المحتلة، والمسلمون مليار وربع، واليهود على مستوى العالم أربعة عشر مليونًا، معظمهم في الولايات المتحدة الأمريكية خاصَّةً نيويورك، ومع ذلك يغلب الكيفُ الكمَّ، والقليلُ الكثيرَ، وهو ما لاحظَه الأفغاني من قبل حين صرخ في المسلمين: «والله لو كنتم ذبابًا أو جرادًا وحططتم على الجزيرة البريطانية لأغرقتموها.»
وقد تجلى ذلك في ذريعة العدوان الصهيوني على ما تبقى من فلسطين في قطاع غزة والضفة الغربية بأسر جندي إسرائيلي بعد عملية فدائية نوعية داخل الكيان الصهيوني، وتبرير العدوان الصهيوني على لبنان بذريعة أسر المقاومة اللبنانية لجنديين في معركة عسكرية بين جنود وليس خطفًا كما يفعل قطَّاع الطريق، ويرفض الكيان الصهيوني تبادُل الأسرى كما هو مُتَّبَع في كل الحروب. ففلسطين والكيان الصهيوني في حالة حرب منذ ١٩٤٨م. وفلسطين كلها محتلَّة، وأعيد احتلال القطاع بعد الانسحاب منه، ومزارع شبعا محتلة في لبنان، وفي سجون إسرائيل حوالي عشرين ألف أسير. قبض عليهم في منازلهم اختطافًا كما حدث في سجن أريحا، بل لا تريد تبادل الأسرى مع حوالي ألفين من الأطفال والنساء طبقًا للمواثيق الدولية ومعاهدات جنيف. تريد إسرائيل الجندي حيًّا وكأن الآلاف من الفلسطينيين السجناء ليسوا أحياء، وتريد الأسرى جثثًا؛ فمن دونها لا يكون له إعلام وراثة، ولا اعتراف بموت، ولا تصريح بدفن طبقًا للشريعة اليهودية. أسير إسرائيلي بألف فلسطيني أو بعشرة آلاف، كيفٌ في مقابل كمٍّ. أحياء إسرائيليون في أيدي المقاومة في مقابل أحياء أموات في السجون الإسرائيلية.
وقد خلقت هذه الصورة النمطية على مدى الحروب العربية الإسرائيلية منذ ١٩٤٨م حتى الآن. ففي ١٩٤٨م هزمت العصابات الصهيونية الجيوش العربية مجتمعة بما في ذلك جيوش مصر وسوريا والأردن ولبنان من دول المواجهة، والسعودية والعراق من دول الجوار، واستمَرَّت الصورة في هزيمة ١٩٥٦م واحتلال سيناء وعدد القتلى الإسرائيليين بالمئات في مقابل عدد الشهداء المصريين بالآلاف، واستمر الأمر ذاته في هزيمة ١٩٦٧م عندما كان قتلى الإسرائيليين بالمئات أيضًا والشهداء المصريون بالآلاف، وصورة حزن الكنيست على قتلاهم، وصورة رقص فيها أحد أعضاء مجلس الشعب المصري في المجلس فرحًا بعد تراجع الرئيس عن الاستقالة، وتغير الأمر في نصر أكتوبر ١٩٧٣م عندما زاد عدد قتلى العدو الصهيوني، وقلَّ شهداؤنا، والصور النمطية القديمة في حاجة إلى وقت حتى تنقشع أمام الوقائع الجديدة وتتكون صور نمطية أخرى. لا تكفي واقعة واحدة بل عدة وقائع حتى يحدث التراكم النفسي والذهني الضروري لنشأة صورة ذهنية جديدة.
والآن تنقلب الآية، وينشأ واقع جديد على الأرض. فتتغير الصور النمطية القديمة، الكم العربي في مقابل الكيف الإسرائيلي إلى صور جديدة، الكيف العربي في مقابل الكم الإسرائيلي، المقاومة الشعبية في مواجهة جيش مُنظَّم، حزب في مواجهة دولة، رجل أمام دبابة، صاروخ يطلق على مدينة، خندق يصد قذائف طائرة، مقاومة في مواجهة فرقة، مقاوم يتحصن في المقابر، ويقاتل بمفرده من يحاصرونه من جنود العدو الصهيوني واستدعاء أمه لإقناعه بالتسليم وهو يقاوم كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ، ومن يصبر أكثر هو الغالب، واحد باثنين إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ، وواحد بعشرة إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، والكثرة لا تنتصر بالضرورة وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ. فجيوش اثنتين وعشرين دولة عربية في مواجهة جيش واحد للعدو الصهيوني لا تعني النصر بالضرورة، ولا حتى كَم السلاح بل نوعيته.
إنما المهم هو أين المعركة، في العراق وفي إيران ضد العرب والمسلمين أم في فلسطين؟ ومَن العدو أمريكا التي تابعناها، إسرائيل التي صالحناها وعقدنا معها المعاهدات وطبَّعنا معها أم أمريكا التي تعتدي علينا وتحتل العراق وأفغانستان وتهدد سوريا والسودان وإيران؛ من أجل تأسيس الإمبراطورية الجديدة بنداء إلهي، وإسرائيل التي احتلت كل فلسطين وتدمر لبنان، وتهدد سوريا وإيران، وتقتل الجنود المصريين على الحدود من أجل إنشاء إسرائيل الكبرى باختيار إلهي؟ هل الأعداء من الماضي، الشيوعية من روسيا والتي تُنْكِر الدين وتقول بالعنف والصراع الطبقي وقد انتهى عصر الاستقطاب؟ هل العدو أوروبا التقليدية فرنسا وإنجلترا وهولندا والبرتغال وبلجيكا وإيطاليا وإسبانيا، الدول الاستعمارية التقليدية الكبرى وقد انتهت بفضل حركات التحرر الوطني، وتوحدت دولها ويجمعها حِلْف شمال الأطلنطي للهيمنة عن بُعد؟ أم أن العدو شبَح قادم من الإسلاميين شيعة أم سُنة، داخل الوطن العربي وخارجه للقضاء على أنظمة الحكم الحالية لصالح الحاكمية أو ولاية الفقيه؟ وما قيمة التكديس العربي للسلاح وهو يتقادم جيلًا وراء جيل، ويتقدم في الكيف وليس فقط في الكم؟ وما قيمة المليارات التي تصرف فيه ما دام لا يستعمل ضد العدو الفعلي، أمريكا وإسرائيل، ليس بالضرورة جيشًا في مواجهة جيش، بل تدعيمًا للمقاومة الشعبية ضد الجيوش الغازية؟
إن العدل قوة حتى لو كان المظلومون ضعفاء، والظلم ضعف حتى لو كان الظالمون أقوياء، وقوة المقاومة في رفع الظلم، وضعف الكيان الصهيوني في ممارسة العدوان. شجاعة المقاومة بالرغم من قلة حجمها أقوى من جبن العدو الصهيوني بالرغم من كثرة عتاده ورجاله، وشرعية الحق أقوى من شرعية الباطل، وتدمير فلسطين ولبنان، والاعتداء على المدنيين وشاحنات الغذاء والدواء وهدم المنازل هروب من مواجهة المقاومة على الأرض، ولا فرق بين الإفراط في استعمال القوة واستعمال القوة، وكأن الجلاد مطالَب فقط بالرفق بالضحية في ذبحها.
إن تأسيس شرعية الكيان الصهيوني على القوة والعدوان في الماضي والحاضر لا يعني استمرار ذلك في المستقبل. فما أُسِّس على باطل يبقى باطلًا إلى آخر الزمان. فالميزان هو الأساس الذي قامت عليه السموات والأرض، وهو رمز العدل في حياة البشر، وكما هُجِّر الفلسطينيون بالملايين في هزيمة ١٩٤٨م ثم في هزيمة ١٩٦٧م فإنهم عائدون، وكما أن شعب إسرائيل من المهاجرين منذ ١٩٤٨م فإلى بلادهم الأصلية يعودون. مليونان من المهجَّرين من شمال إسرائيل هربًا من صواريخ المقاومة، وآلاف من المهاجرين الروس إلى إسرائيل يعودون إلى بلادهم أو يهاجرون إلى الولايات المتحدة الأمريكية؛ احتماء بالنفوذ الصهيوني على الإدارة الأمريكية التي تسيطر عليها المسيحية الصهيونية.
إن التاريخ يعيد نفسه. فكما صرخت امرأة اغتصبها الروم في الشام: «وا معتصماه» تصرخ امرأة في لبنان أيضًا: «وا …»، ولكنها لا تدري مَن تنادي؟
(٦) رموز فلسطين٦
لم يكتفِ العدو الصهيوني باحتلال الأرض، ما يقارب من نصف فلسطين في عام ١٩٤٨م، والنصف الثاني في عام ١٩٦٧م، ضاربًا عُرض الحائط بكل قرارات الأمم المتحدة بالنسبة إلى حقوق شعب فلسطين، بل حوَّل شعبًا بأكمله منتزعًا إياه من أرضه إلى مجموعة من اللاجئين في دول الجوار أو من المهاجرين في البلد البعيد، وما تَبقَّى منه متشبثًا بالأرض فإنه تحوَّل إلى أقليات مُضطهدة، مواطنين من الدرجة العاشرة لا يحق لها بناء المنازل أو الاشتراك في نقابات العمال (الهستدروت) أو الفلاحين (الموشاف) أو الجيش أو القضاء أو الحكومة. تنقصهم الخدمات والملاجئ، وربما يُراد بهم الغدر وطردهم خارج أراضي ١٩٤٨م واللحاق بالدولة الفلسطينية؛ حفاظًا على الهوية العنصرية اليهودية.
لم يكتفِ الكيان الصهيوني فقط بالقضاء على مُكوِّنات فلسطين، الأرض والشعب بل إنه أيضًا أراد تزييف التاريخ. فالأرض منذ آلاف السنين أرض إسرائيل منذ مملكة سليمان وداود، ونجمته على العَلم الجديد، وتبرر الأساطير الدينية الاستعمار الاستيطاني، أساطير أرض الميعاد والميثاق وشعب الله المختار، ويُزيف التاريخ باستبعاد الكنعانيين العرب سكان فلسطين الأصليين، ولا يوجد استيطان أبدي؛ نظرًا إلى هجرات الشعوب بحثًا عن الأمن والرزق، وقارتان من قارات العالم الخمس قد تكوَّنت كلها من المهاجرين، أمريكا وأستراليا، واستوطن البيض في أفريقيا، والأفارقة في العالم الجديد طبقًا لقانون تقسيم العمل.
وما تَبقَّى من تاريخ شعب بعد تاريخ الأرض تم استلابه. فتحولت المدن الفلسطينية إلى مدن إسرائيلية، وحُوصِرت الأحياء العربية القديمة بأحياء يهودية جديدة، حوصرت يافا بتل أبيب، وقاومت بعض الأسماء العربية من مخاطر الاندثار مثل عكا، وحيفا، واللد والرملة، وعسقلان، وبير سبع، والمطلة، وكل البلدات التي تبدأ بلفظ «كَفر»، ولكن تُنطق بالعبرية، وتم تدمير الأحياء والمدن العربية التي خرجت منها المقاوَمة لمحو التاريخ والقضاء على ما تَبقَّى من فلسطين، ثم استُلب تراث فلسطين الشعبي ورموزه؛ الناي والجمل والخيمة، وأصبحت رموزًا يهودية، وسُرقت عادات الطعام وفنون الطهي العربية وأصبحت إسرائيلية، وتحوَّلَت الألحان العربية والدبكة الشامية إلى ألحان يهودية ورَقْص يهودي، والموالح الفلسطينية، والبرتقال اليافاوي أصبحت منتجات إسرائيل وزراعاتها المصدرة إلى الخارج. لم يبقَ في فلسطين رمز إلا تَحوَّل إلى رمز يهودي. والحياة رموز، بل إن اسم فلسطين المشتق من سكانها الأصليين تحول إلى إسرائيل أي «انتصر الله»؛ فأصبح مدلول الله هو الاستعمار الاستيطاني، وأصبحت الأرض «أرض إسرائيل».
ولم يكتفِ الكيان الصهيوني بذلك كله، استلاب الرموز المباشرة: الأرض، والشعب والتاريخ، بل استمر في القضاء على الرموز السياسية الحية مثل عدم الاعتراف بنتيجة الانتخابات الأخيرة التي شهد العالم كله بنزاهتها وحريتها؛ لأنها أفرزت «حماس» التي تمثل رمز المقاومة، وليس فتح التي تمثل رمز «الدولة» فلا اعتراف بحماس، حزبًا أو تنظيمًا أو حكومة. هو تنظيم إرهابي موالٍ لحزب الله، وسوريا وإيران والقاعدة، ومن ثَمَّ لا يوجد ممثل لشعب فلسطين ولا شريك للسلام. فأصول فتح إخوانية، وأيديولوجية حماس إسلامية، ومن ثم تعرى شعب فلسطين من أي غطاء سياسي يحميه. فلا حدود للتدمير، تدمير المخيمات مثل جنين، وهدم المنازل، وتصفية قادة المقاومة، وقتل الأطفال والنساء، والشيوخ. الوطن مستباح، والحدود مفتوحة، والسلطة تناشد العالم، والنظام العربي صامت، ومظاهرات الشعب العربي في المدن العربية وهتافاتها تضيع في الهواء.
ثم يأتي أخيرًا القضاء على الرموز السياسية واعتقال ثُلث أعضاء المجلس التشريعي، وربع مجلس الوزراء، ورئيس المجلس التشريعي، ونائب رئيس الوزراء ووزير التعليم. فالغطاء مكشوف، والرمز السياسي لم تَعُد له قيمة ولا تمثيل لشعب وراءه، والتهمة الانتساب إلى «حماس»، وهو حزب شرعي وصل إلى السلطة عن طريق الانتخابات الحرة.
والغاية من القضاء على الرموز إهانة الشعب والإيحاء له بأنه غير قادر على الحفاظ على هاماته وممثليه؛ فقد قُطِع الرأس بعد أن مُزِّق الجسد إلى أشلاء. لم يعد هناك جسم للجريمة، لا جسد ولا رأس، لا ملف ولا قضية، وإذا كانت السُّلطة الوطنية غير قادرة على حماية مؤسساتها، وإذا كانت الحكومة عاجزة عن الدفاع عن نفسها، وإذا كانت المقاوَمة قد فقدت قادتها وزعماءها فلم يَعُد يبقى شيء من فلسطين، ومصير الأرض المحتلة هو مصير الجليل الأعلى، كانتونات عربية داخل الكيان الصهيوني. يضمن لها الأمن والغذاء أسوة بفلسطين ١٩٤٨م، والعالم موافق، والنظام العربي متواطئ، والشعوب العربية مُهدَّدة بالأخطار ذاتها؛ فقد أُكلت يوم أكل الثور الأبيض.
والرمز لا يكون أسيرًا، ولا يمكن استلابه ولا ابتلاعه ولا تحويله ولا القضاء عليه. يبقى الرمز في الذهن والوجدان والخيال وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ، ويظل الرمز حاملًا للدلالة ومؤشرًا عليها «من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.» أطفال جُدد يولدون كل يوم. فلسطين مثل مصر وَلادة. جيل يذهب وجيل يأتي، وانتصارات المقاومة في العراق ولبنان تعطي الأمل للمقاومة في فلسطين على الاستمرار. فالحق لا يضيع، والوجود لا يكون شرعيًّا. الوجود شرعيته، وشرعيته وجوده. الكيان الصهيوني وجود لا شرعي، وفلسطين وجود شرعي.
ما زالت رموز الوجدان والخيال باقية لم تُسلب بعد، شِعر المقاومة، أغاني الأرض، واسم فلسطين. بها المسجد الأقصى، والقدس الشريف، قِبلة سدس سكان الأرض. أدب المقاوَمة ما زال يُبدع، وفنون المقاوَمة ما زالت تعطي، والمتنبي والنبي ما زالَا حاضرَين في وجدان الأمة، الشعر والوحي؛ فالنَّظم رمز أبدي لا يُقضى عليه؛ لأنه نابع من القلب والوجدان والخيال الحر. هو القدرة على الكلام والتعبير والتأثير، والكلام فعل وخلق كُنْ فَيَكُونُ.
أطفال فلسطين ما زالت تغني وترسم، وأجيال فلسطين ما زالت تتوارث فيما بينها مفاتيح المنازل ووثائق ملكيتها. الذاكرة الجماعية ما زالت حية لم تَمُت. «أتذكر يا أبي يافا؟» أغصان الزيتون، وأشجار البرتقال ما زالت في الخيال وإن دمرتها قوات الاحتلال، وإن كانت فلسطين في جيل مضى قد ضاعت؛ نظرًا إلى اختلال ميزان القوى بين العرب والهجرات الصهيونية فإن ميزان العالم لا يبقى على حال، ولا موج البحر يظل دائمًا في أدناه، ولا شاطئه في جَزْر مستمر. الشعوب قيام وقعود، والحياة صعود وهبوط. الديموجرافيا في صالح العرب، والتاريخ أيضًا شاهد على أن الاستيطان الصهيوني في فلسطين ليس أول غارة على العالم الإسلامي الذي تكالبت عليه الغارات من الشرق والغرب. ما زال الأطفال يذكرون حِطين، وعين جالوت كلما شاهدوا صواريخ المقاومة اللبنانية تنهمر على المستوطنات الشمالية في الكيان الصهيوني. فإذا خطفت إسرائيل الرموز فإن المرموز باقٍ، وإذا استولت على المَثل فإن الممثول شاهد.
(٧) إيران وحماس
عاملان رئيسان في الحراك السياسي في الوطن العربي والعالم الإسلامي أو فيما يسمى الشرق الأوسط. يتشابهان ويختلفان، ويثيران زوابع في الرأي العام العالمي، ومحط أنظار القوى المحلية والدولية، بينهما أوجه تشابه، وبينهما أوجه اختلاف.
وتتمثل أوجه التشابه في أن كليهما اتجاه ديني. فالدين ما زال في الشعوب التراثية في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية يقوم بدور الأيديولوجية السياسية لدى الشعوب التي قطعت مع تراثها، واستبدلت به المذاهب الاقتصادية. كلاهما نابع من قلب الثقافة الموروثة التي أصبحت الركيزة الأولى للثقافة الوطنية.
وكلاهما اتجاه جذري. له قيادة جذرية. تسلك طبقًا للمبدأ وليس طبقًا للواقع. قيادة مبدئية تُمارس طبقًا للمبدأ وليست برجماتية تمارس السياسة الواقعية (ريال بوليتيك) التي قد تصل أحيانًا إلى حد التنازل عن المبدأ أو تَبنِّي المبدأ المضاد والمصالَحة مع العدو الصهيوني والاعتراف به والمفاوضة معه وهو ما زال يحتل الأرض ولا يعترف بحقوق الشعوب، وكلاهما يحمل السلاح الممكن أو الفعلي. كلاهما مستعد للدفاع عن الأوطان ضد التهديد بالغزو والعدوان وضرب المنشآت النووية، ورد العدوان بالعدوان على الأساطيل المتمركزة على مقربة من المياه الإقليمية أو المقاومة الفعلية للاحتلال حتى لو كانت الإمكانات غير متكافئة. طرف يملك كل الترسانة العسكرية وآلياتها وتقنياتها الحديثة وطرف لا يملك إلا البندقية وإرادة الصمود.
وكلاهما مقبول من الشعوب العربية والإسلامية التي تعي بتجاربها الطويلة أن ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة، وترى عجز النُّظُم السياسية عن استرداد حقوقها ودرء العدوان وتبعية الحكومات للعدو المشترك، الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، وترى الشعوب في إيران وحماس الأمل في خلاصها.
ولكليهما الأغلبية الشعبية. تحكم في إيران بعد انتخابات حرة نزيهة بعد أن ظن المراقبون أن الأغلبية للبرجماتية المنفتحة على الغرب، وتحكم حماس بعد انتخابات حرة نزيهة أيضًا بعد أن كانت التوقعات وتحليل الرأي العام أن الأغلبية لفتح والمقاوَمة التقليدية للشعب الفلسطيني بعدما لم تحصل السياسة الواقعية على شيء منذ مدريد ١٩٩٢م إلا على أوسلو، ولم ينتهِ مبدأ الأرض في مقابل السلام إلا إلى السلطة الوطنية الفلسطينية، وتجميع قوات الاحتلال، ثم العودة إلى احتلال الضفة والقطاع، وتحول القطاع بعد الانسحاب منه إلى سجن كبير، ويعاد احتلاله الآن من جديد.
كلاهما مُعادٍ لأمريكا وإسرائيل لمن يهدد بالعدوان ولمن يعتدي بالفعل. يحتل الأرض ويدمر المنازل ويصفي قادة المقاومة. كلاهما مُعادٍ للعدو، العين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ.
كلاهما معارض للتسويات ويريد حقه كاملًا غير منقوص، حق إيران في امتلاك الطاقة النووية للأغراض السلمية وتخصيب اليورانيوم على أرضها، بل امتلاك السلاح النووي لدرء خطر العدوان الإسرائيلي والتهديد اليومي بضرب المنشآت النووية الإيرانية كما فعلت مع العراق، وحق الفلسطينيين في استرداد ما تبقى من فلسطين وإنشاء الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، مع حق عودة اللاجئين، وفك المستوطنات، والسيطرة على مصادر المياه.
كلاهما مرفوض من الحكومات العربية التي تتبنى الواقعية السياسية التي تصل إلى حد الاستسلام للأمر الواقع من دون الأخذ في الحسبان إمكانات الوطن العربي وقدراته المالية والنفطية والتأثير على الدول الكبرى وفي العالم لصالح الحق العربي، وكلاهما مرفوض من معظم حكومات العالم الإسلامي البعيدة عن قلب المعركة والتي تراعي الضغوط الدولية عليها والتسليم بالأمر الواقع أيضًا، وكلاهما مرفوض من أوروبا والاتحاد الأوروبي الذي ما زال مترددًا بين الاستقلال عن الولايات المتحدة الأمريكية والتبعية لها من خلال حلف شمال الأطلنطي، وبطبيعة الحال كلاهما مرفوض من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل بدعوى تهديد السلام في المنطقة والإرهاب.
وبالرغم من أوجه التشابه بين إيران وحماس في المبادئ والأوضاع، فإن أوجه الاختلاف بينهما أيضًا واضحة. ليس الخلاف أن إيران شيعة وحماس سُنة. فإيران بها سُنة وشيعة وحماس سُنة ولكنها مع حزب الله في لبنان، وسوريا تُناضل أيضًا في الخندق ذاته. الخلاف السُّني الشيعي تقليدي قديم. مَحاه النضال الوطني المشترك ضد العدو المشترك والمخاطر المشتركة. إنما الخلاف في قدرة إيران على الحوار مع باقي التيارات السياسية في الداخل وحشد الشعب كله وراء سياستها الوطنية المبدئية، وقد استطاعت حماس ذلك أخيرًا بعد الموافقة على وثيقة الأسرى وعلى تشكيل حكومة وحدة وطنية وعلى الالتزام بعدم تجاوز الخط الأحمر، إراقة الدم الفلسطيني بأيدٍ فلسطينية.
إيران دولة مستقلة استطاعت أن تتحرر من الاستعمار البريطاني بعد نضال وطني طويل. كما استطاعت التخلص من التبعية للولايات المتحدة الأمريكية بعد الثورة الإسلامية في ١٩٧٩م وإسقاط النظام الملكي السابق وتحويله إلى نظام جمهوري، وحماس ما زالت تحت الاحتلال الإسرائيلي المؤيد من الولايات المتحدة الأمريكية. إيران كلها دولة مقاومة ذات سلطة واحدة، لا فرق بين الجيش والشعب، وحماس فصيل من فصائل المقاومة مع فصائل أخرى أقرب منها أو أقل قُربًا، وهي في خلاف سياسي بعد أن أتت إلى السلطة مع رئاسة الدولة في كيفية التعامل مع العدو مبدئيًّا أو برجماتيًّا. تمتلك إيران الدولة من الأسلحة ما تستطيع به رد العدوان الإسرائيلي الأمريكي، وتطور صواريخها قصيرة المدى إلى أخرى بعيدة المدى، وتقوم بدور القوة الإقليمية الكبرى. تخطب أمريكا ودها لمساعدتها في الخروج من وحل العراق، وحماس فصيل من فصائل المقاومة. لا تملك إلا سلاحًا تقليديًّا لا يستطيع رد العدوان بالطائرات والدبابات والعربات المصفحة والبوارج الحربية والصواريخ الموجهة إلا بالبندقية والأنفاق وإرادة القتال كما كانت الحال في فيتنام.
بعض المعارضة الإيرانية في الخارج ليسوا من قادة الثورة الإسلامية بل من معارضيها. هاجروا إلى الغرب خاصَّةً الولايات المتحدة، وبوجه أخص في وست وود ضاحية من لوس أنجلوس التي يطلق عليها «طهران الصغيرة»؛ يقطنها مليون إيراني مهاجر، وقادة حماس السياسية في الخارج وقادتها الميدانية في الداخل، وبعض قادة الانتفاضة في سجون العدو الصهيوني. لا تحاور إيران خصوم الثورة في الخارج، وتحاور حماس الداخل والخارج. في إيران لا حوار بين الثورة وخصومها، وفي حماس لا خصومة في وطن محتل.
الكل يحترم إيران ويقدرها بالرغم من اختلافه معها وعدائها لها بما في ذلك أعداؤها لوطنيتها وصمودها وحرصها على استقلالها الوطني في عالم لا يُحترم فيه إلا الأقوياء. وحماس، الكل ضدها في الداخل والخارج، في محيطها الإقليمي وفي النظام الدولي. تمنع عنها المرتبات والمعونات، بل حقوق الصادرات وضرائبها لدى الكيان الصهيوني، ويعترف الكل بحق إيران في امتلاك الطاقة النووية ويعرضون عليها المغريات والبدائل؛ حتى لا تَتحوَّل إلى صناعة السلاح النووي. في حين تحاصر حماس؛ لأنها منظمة إرهابية تقتل وتدمر وتريد إزالة إسرائيل من الوجود، وتحرير الأراضي المحتلة منذ ١٩٤٨م من البحر إلى النهر مثل الأراضي المحتلة عام ١٩٦٧م. الكل يطلب من إيران الحوار والرد على مُقترَحات الاتحاد الأوروبي، وإيران ليست في عجلة من أمرها. أما حماس فالكل يقاطعها، وهي ليست شريكًا للسلام. عليها أن تستسلم أولًا وتترك المقاومة وتجلس على مائدة المفاوضات وهي منزوعة السلاح، مقصقصة الريش حتى لا تأخذ شيئًا، وتفاوض على لا شيء ما دام الكيان الصهيوني يرفض العودة إلى حدود ١٩٦٧م، والانسحاب من القدس، وفك المستوطنات، وحق العودة للاجئين، وهدم الجدار العازل. مطلوب من حماس أن تعطي كل شيء ولا تأخذ شيئًا.