التنوير الأوروبي
(١) أوروبا، جغرافيا أَمْ حضارة؟١
يَتصوَّر البعض في أوروبا وخارجها أن أوروبا قارة من قارات العالم الخمس مع أفريقيا وأمريكا وآسيا وأستراليا، وأنها منطقة جغرافية. حدودها في الشمال في جرينلاند، وفي الجنوب الشاطئ الشمالي للبحر الأبيض المتوسط، اليونان وإيطاليا وفرنسا، وفي الغرب الشاطئ الغربي له، إسبانيا؛ ممَّا خلق هوية غامضة للبرتغال التي تطل على الأطلنطي من الغرب كما تطل عليه أمريكا من الشرق فازدوجت الهوية بين المتوسطية والأطلنطية، وفي الشرق جبال الأورال، آسيا الممتدة من أوروبا الشرقية حتى روسيا والصين.
وقد تمتد المساحة الجغرافية أكثر من ذلك. فأوروبا في الشمال ملتقى آسيا وأمريكا في القطب الشمالي، وفي الجنوب تمتد إلى أفريقيا من الشاطئ الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط، وفي الغرب شبه الجزيرة الأيبيرية التي تقع فيها الأندلس والتي عاش فيها المسلمون واليهود والمسيحيون أمة واحدة ما زالت تضرب المثل في التعايش بين الأمم. وكان يمثل العصر الذهبي لليهود وللمسيحيين على حد سواء، وما زالت مآثر غرناطة وإشبيلية وقرطبة وطليطلة ماثلة للعيان، يفخر بها الجميع، وقصر الحمراء يطل على العالم بأكمله، وفي الشرق في فلسطين تقع أكبر مأساة عرفها العالَم بعد وعد بلفور في ١٩١٧م، وسقوط دولة الخلافة في ١٩٢٤م، وتقسيمها بين العرب واليهود في ١٩٤٨م، ثم العدوان المستمر على العرب في ١٩٥٦م، وابتلاعها كلها في ١٩٦٧م، وما زالت ترزح تحت أبشع أنواع الاحتلال الاستيطاني.
ومع ذلك هناك تحديد عنصري مُعْلَن أم غير معلن لأوروبا، وهي أوروبا البيضاء المسيحية، نهاية التاريخ، ومركز العالم، وهي التي تمنع من انضمام تركيا إليها تحت دعاوى كثيرة: ملف حقوق الإنسان في تركيا، القصاص، وضع المرأة، الحريات العامَّة، المعتقلون السياسيون، القضية الكردية، المستوى الاقتصادي، والحقيقة أن تركيا بلد مسلم، صاحب ثقافة مغايرة، وبانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي يكثر عدد المسلمين بالإضافة إلى أوروبا الشرقية، البوسنة والهرسك وألبانيا والأقليات المسلمة في كل دول البلقان، وهنا يحدث انحراف عن الهوية الأوروبية المسيحية العنصرية البيضاء. ويبرز التراكم التاريخي القديم عندما سيطرت دولة الخلافة على أوروبا الشرقية حتى حدود فيينا من الشرق، وحين اتسعت رقعة المد الإسلامي حتى تور في فرنسا عبر الأندلس من الغرب، ثم سقطت القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية وسُميت إسلامبول؛ أي «مدينة الإسلام».
والحقيقة أن أوروبا ليست رقعة جغرافية، وليست قوة سياسية واقتصادية بل هي ثقافة عَبْر التاريخ؛ فقد ربط طريق الحرير بين الشرق والغرب، من الصين إلى البندقية، وامتدت الثقافات والعلوم والحضارات الآسيوية عبر الهند وفارس وبابل وكنعان ومصر القديمة إلى الحضارة الأوروبية. فلغات أوروبا هندية أوروبية، والفلك البابلي داخل في الفلك اليوناني، وأساطير جلجامش وكنعان دخلت في العهد القديم، ومَن تنبأ بولادة السيد المسيح ثلاثة من مجوس الشرق، والمسيحية نفسها شرقية المنبع، وأساطير وعلوم مصر القديمة داخلة في الأساطير اليونانية وعلوم اليونان، والمنطق الصوري عند أرسطو له ما يشابهه في منطق نيايا في الهند، وكانت في بلخ في أفغانستان ثقافة يونانية، وأثر مزدك وماني وزرادشت والغُنُوصِيَّة الشرقية في كل الفلسفات القديمة اليونانية والهللينستية والمسيحية الأولى. كانت أوروبا وأفريقيا وآسيا وحدة حضارية واحدة منذ فجر التاريخ بالرغم من تَنوُّعها، وقبل المركزية الأوروبية في العصور الحديثة.
وكان البحر الأبيض المتوسط بؤرة هذا اللقاء الحضاري في القارات الثلاث خاصَّةً بين شاطئيه الشمالي والجنوب، الأوروبي والأفريقي. فعندما يكون الشمال قويًّا سياسيًّا ومبدعًا حضاريًّا تنتقل الثقافة من الشمال إلى الجنوب كما كانت الحال في العصر اليوناني الروماني عندما تَرْجَم العرب علوم اليونان وثقافتهم إلى العربية مباشرة أو عبر السوريانية وشرحوها ولَخَّصوها وعرضوها وأكملوها وأبدعوا فيها وتجاوزوها، وحدث ذلك مرة ثانية في العصور الحديثة الغربية عندما ترجم العرب في مصر والشام فلسفة التنوير والعلوم السياسية والاجتماعية الأوروبية، وأقاموا على أساسها النهضة العربية الحديثة، واستنبطوا منها نموذجًا للتحديث يقوم على الحرية والتعددية السياسية والبرلمان والانتخابات وحرية الصحافة والتعليم وإنشاء المدارس والجامعات، وإذا كان الجنوب قويًّا سياسيًّا ومبدعًا حضاريًّا انتقلت الثقافة والعلوم من الجنوب إلى الشمال كما كانت الحال في العصر الإسلامي حين انتشرت الثقافة والعلوم الإسلامية عبر الترجمات في طليطلة إلى كل ربوع أوروبا، وكانت وراء نهضة الغرب الحديث، وانتشرت أفكار العقل والطبيعة والعلم والقانون ومفاهيم العدل والشجاعة في بدايات العصور الحديثة وسُميت فيما بعدُ فلسفة التنوير، والآن يحدث مرة ثانية بانتشار الإسلام في ربوع أوروبا بحيث أصبح الدين الثاني فيها بعد المسيحية خاصَّةً بعد أن اشتدت أزمة الغرب كما يشهد بذلك فلاسفة التاريخ الأوروبيون أنفسهم مثل اشبنجلر في «سقوط الغرب» وهوسرل في «أزمة العلوم الأوروبية» وماكس شيلر في «قلب القيم»، ونيتشه في انتهائه إلى العدمية المطلقة. لعبت أوروبا دور الأستاذ وقمنا نحن بدور التلميذ مَرَّتَين في العصر اليوناني الروماني وفي العصور الحديثة، وقمنا نحن بدور الأستاذ وأوروبا بدور التلميذ مرتين في العصر الإسلامي الأول وفي النهضة الحالية للمسلمين، وفي المرة الثانية ما زلنا في بدايتها.
فأوروبا ثقافة وحضارة، تأخذ وتعطي ولو أنها تُثْبِت العطاء وتُنْكِر الأخذ بالرغم من بيان بعض الباحثين المنصفين له؛ مثل مارتن برنال في «أوروبا السوداء» في كشف الجذور الأفريقية والآسيوية للحضارة الأوروبية، وجيمس ستون في «التراث المسروق».
إن مأساة الحوار العربي الأوروبي في العقدين الأخيرين هو تَصوُّر أوروبا للعرب على أنهم مصدر للطاقة، وفوائض أموال من عوائد النفط، وأسواق ضخمة للاستهلاك. فتقدم أوروبا الاقتصاد على السياسة، ونحن العرب نريد حل مأساتنا في فلسطين ثم في العراق، ونريد حوارًا سياسيًّا أولًا. فالسياسة قبل الاقتصاد. فكل طرف يعزف لحنه، وكل منهما يمارس دور السيد على الآخر.
والآن وبعد تكوين الاتحاد الأوروبي، أصبح الشاطئ الجنوبي الأفريقي ممثلًا في دول المغرب العربي مجرد مراسلين وليسوا أعضاء. ينالهم حُسن الجوار، والدول التي لها الأولوية في الرعاية، وقد يصل الأمر إلى تدريبات عسكرية مشتركة مع قوات حلف شمال الأطلنطي دون أن يكونوا أعضاء كاملين في الاتحاد.
والحقيقة أن الشاطئين الشمالي والجنوبي للبحر الأبيض المتوسط يمثلان تكاملًا طبيعيًّا، وثقلًا تاريخيًّا وثقافيًّا بل مركز التوازن بين الشرق الآسيوي والغرب الأمريكي، ويمكن أن يمثل الشاطئان كومنولث واحدًا. فَهُما أقرب من الحلف بين أوروبا وأمريكا عَبْر الأطلنطي في حلف شمال الأطلنطي.
وفي ذلك أعظم الفائدة لأوروبا نفسها بالتخلي عن هويتها العنصرية البيضاء ومركزيتها، ورغبتها الدفينة في التوسع العسكري والهيمنة الاقتصادية والسياسية، وهو حماية لها من السيطرة الأمريكية وتغلغل النفوذ الإسرائيلي، وهو في الوقت ذاته أحد عوامل الإسراع في التحول الديمقراطي والتنمية المستدامة دون الوقوع في المتوسطية أو الشرق أوسطية كبدائل للوحدة العربية أو العرب باعتبارهم بؤرة للعالم الإسلامي الذي أصبح يشمل الآن مساحة القارات الخمس.
(٢) نهاية التنوير الأوروبي٢
إن أعظم ما أنتجه الغرب من إبداع فكري هو فلسفة «التنوير» أو «الأنوار» والتي بلغت الذروة في القرن الثامن عشر عند فلاسفة التنوير في فرنسا، فولتير وروسو ومونتسكيو وفلاسفة «دائرة المعارف الفلسفية» وكانط في ألمانيا. تسترجع عصر بركليس عند اليونان، وتقوم على أفكار العقل والحرية والمساواة والإخاء، والطبيعة والتقدم. وبفضلها قامت الثورة الفرنسية، والثورة الأمريكية، وتجسدت في قوانينها، إعلان الاستقلال، والدستور، وتمثال الحرية، ونظام الحياة الأمريكي، كما قامت الثورات الروسية العديدة ضد القيصر على مثل هذه الأفكار التي تبناها المناصرون للثقافة الفرنسية في روسيا، وحاول اليسار الهيجلي في ألمانيا القيام بالثورة ذاتها عام ١٨٤٨م إلا أنها فشلت كثورة وبقيت كمُثل عُليا في الحرية والمساواة.
وقامت النهضة العربية الأولى في القرن التاسع عشر على مُثُل التنوير التي روَّج لها الطهطاوي بعد أن عرَفها في أثناء وجوده إمامًا للبعثة التعليمية في باريس خمس سنوات. ورآها تقوم على قاعدة الحُسْن والقُبْح العقليين عند المعتزلة القدماء وعلى قاعدة جلب المنافع ودفع المضار عند الأصوليين. فلا فرق بين الشريعة الإسلامية و«شرطة» نابليون، ولا بين «روح القوانين» عند مونتسكيو و«مقدمة ابن خلدون»، فمونتسكيو هو ابن خلدون فرنسا، وابن خلدون هو مونتسكيو العرب.
مُثُل التنوير قيم إسلامية عرفها تراثنا القديم. فالعقل أساس النقل، ومن قدح في العقل فقد قدح في النقل، ويطالب القرآن بالبرهان وبإعمال العقل، والحرية قيمة إسلامية؛ فقد خلق الله الناس أحرارًا، والتوحيد توحيد للوجدان الإنساني من كل صنوف القهر، والمساواة فضيلة إسلامية؛ فالناس سواسية كأسنان المشط، والإخاء مبدأ إسلامي. والنبي شاهد على أن عباد الله إخوان، والطبيعة آية من آيات الله، دليل على وجوده. وللناس فيها جمال حين يريحون وحين يسرحون، والتقدم سُنة الحياة وقانون التاريخ، وهو لفظ قرآني، لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ، وقصص الأنبياء دليل على ذلك، وقام العصر الليبرالي في النصف الأول من القرن العشرين على مُثُل التنوير خاصَّةً العقل والحرية، وما أكثر جماعات «التنوير» الآن، بل تتبناه الدولة ضد الحركات الإسلامية المتهمة بالتخلف والأسطورة والخرافة والتعصب.
والآن، بدأ الغرب ينقلب على نفسه، ويقطع أنفه بيديه. يدمر ما بناه، ويهدم ما حارَب من أجله. بدأ نقد العقل وتحطيمه لصالح اللامعقول والعبث والاشتباه باسم الوجود الإنساني أو تناقضات الحياة. فالعالم بلا نسق، والعقل لا يقدر على استيعابه أو ضبطه، كما سادت الاتجاهات التَّسلُّطية ممثلة في الفاشية والنازية، والشمولية ممثلة في النُّظُم الشيوعية التي قهرت الحريات الفردية باسم أمن النظام ومصلحة الجماعة، وظهر التفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء؛ نظرًا إلى تراكُم رأس المال من المستعمرات الخارجية ومن التصنيع الداخلي، واستغلال العمال والمهاجرين الأفارقة والآسيويين وفقراء أوروبا الشرقية، وعمت الفردية والأنانية ضد مبدأ المساواة بين البشر، وأصبح للفرد الأولوية على الجماعة، والأنانية على الغيرية، والأثرة على الإيثار. أما الطبيعة فقد تلوثت، وماتت الأسماك في الأنهار تحت شعار «الإنسان سيد الطبيعة». وأصبحت مادة صرفة لا حياة فيها، وليست دليلًا على شيء، وانهار التقدم، وبدأ النكوص. وقاربت الحضارة الغربية في العصور الحديثة على الانتهاء بعد أن اكتملت الدورة التاريخية.
وشاعت العدمية منذ أعلن نيتشه في نهاية القرن التاسع عشر «موت الإله» وحياة الإنسان، ثم أعلن بارت في منتصف القرن العشرين موت المؤلف، والكتابة في درجة الصفر. فلم يعد يحيا أحد وبدأ نقد الحداثة باسم ما بعد الحداثة، وتفتيت الرؤى الكلية للعالم باسم التفكيك، وغابت القيم المطلقة لصالح النسبية والشك واللاأدرية. وتَحدَّث الفلاسفة عن أزمة الضمير الأوروبي، عند هوسرل فقدان الإحساس بالحياة، وعند ماكس شيلر قلب القيم، وعند برجسون تحويل الآلة إلى إله، وعند اشبنجلر «أفول الغرب»، وتكشفت أزمة الحضارة الغربية، وتَفَسَّخ مشرعها، أكبر كم ممكن من الإنتاج، لأكبر قَدْر ممكن من الاستهلاك لأكبر قسط ممكن من السعادة. تعثر الإنتاج بسبب أزمة الطاقة، وسيادة الشعوب على المواد الأولية، وتأزم الاستهلاك؛ نظرًا إلى وجود مراكز صناعية أخرى في آسيا، خاصَّةً الصين واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وهونج كونج، وزاد معدل الانتحار في أكثر الدول الأوروبية تقدمًا، وهي البلدان الشمالية، وثار الشباب في مايو ١٩٦٨م رافضين مادية الغرب واستغلاله وكذبه ونفاقه وتسلطه، وانتشرت الثقافات المضادة، ثقافة الشباب والمرأة وجماعات المعارضة.
وصعد اليمين الأوروبي، وعادت النازية الجديدة، وانتشرت النزعات العرقية والطائفية، وبان العداء للمهاجرين، ووصفت ثقافات الشعوب اللاأوروبية مثل الإسلام بالإرهاب والعنف وخرق حقوق الإنسان والمرأة والطفل والشيخ، والتسلط والطغيان، وكان آخرها الرسوم الساخرة من الرسول الكريم باسم حرية التعبير المطلقة دون مسئولية أو احترام حريات الآخرين، وعاد إلى أوروبا عنفوانها الاستعماري في موجة ثانية من الهيمنة باسم العولمة أو صراع الحضارات أو نهاية التاريخ اعتمادًا على القوة العسكرية حتى تقضي على ما تبقى من حركات التحرر الوطني وهي الدولة الوطنية المستقلة بعد أن وقعت في التبعية للخارج والفساد والقهر في الداخل، وظهر ذلك في العدوان العسكري المباشر على الشعوب المستقلة، العدوان الصهيوني على كل فلسطين، والعدوان الأمريكي على العراق وأفغانستان، والعدوان الروسي على الشيشان دون مراعاة لميثاق الأمم المتحدة الذي ينص على احترام استقلال الشعوب، وعدم جواز الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة.
بل إن أوروبا فقدت استقلالها بتبعيتها للولايات المتحدة، ولم تَعُد ميزانَ التعادل بين الشرق والغرب، وجسر الحوار بين الشمال والجنوب، وسادت المحافظة الجديدة الإدارة الأمريكية، وتخلت عن أفكار الثورة الفرنسية التي تبناها المؤسسون الأوائل، وظهرت المسيحية الصهيونية التي تؤمن بظهور المخلص، دولة إسرائيل؛ من أجل تأسيس إسرائيل الكبرى، والإمبراطورية الأمريكية التي عهد إليها الرب بإصلاح العالم، ونشر الديمقراطية والحرية في سائر ربوع العالم، وظهر المعيار المزدوج في المناداة بالديمقراطية ورفض نتائج الانتخابات الفلسطينية وفوز حماس، وتحريم تخصيب اليورانيوم على إيران، والسماح بأسلحة الدمار الشامل في إسرائيل، وتأييد الهند في سلاحها النووي والتخوف من سلاح باكستان أن يقع في أيدي «الإرهابيين»؛ أي المُعادين للولايات المتحدة وإسرائيل، وكما صرخ هوسرل في نهاية «أزمة العلوم الأوروبية»: خطر، أوروبا، خطر. عليك أن تختاري بين طريقين: إما أن تنتهي إلى العدم وإما أن تبعثي نفسك من خلال الرماد.
قد يكون الأمل في الحركات المُعادية للولايات المتحدة الأمريكية التي عَمَّت العالم كله حتى داخل أمريكا ذاتها ضد العدوان الأمريكي على الشعوب. قد يكون الأمل في عودة الحركات اليسارية الاشتراكية في أمريكا اللاتينية المناهضة للاستعمار والهيمنة الأمريكية. فجيفارا لم يمت بعد. قد يكون الأمل في صعود آسيا، الصين خاصَّةً من أجل تحدي العالم الأحادي القطب. قد تستطيع إيران بلورة اتجاه دولي معادٍ للهيمنة الأمريكية دفاعًا عن استقلال الشعوب. قد تكون حركات التحرر الوطني الجديدة في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير ميلاد روح جديدة تُغير مسار العالم. وكما انتقلت الحضارة من الشرق إلى الغرب فإنها قد تعود من جديد في اتجاه معاكس، من الغرب إلى الشرق.
لا يكاد يخلو تاريخ العالم من حضارة قائدة كما كانت الصين والهند وفارس ومصر وكنعان وبابل وآشور قديمًا، ثم اليونان والرومان والعرب وأوروبا بعد ذلك. إن العالم الآن على مفترق الطرق بين «أفول الغرب» وبزوغ الشرق.
(٣) صدام الحضارات، مرة أخرى٣
نظم جناح الشباب في الحزب الليبرالي الديمقراطي في هولندا في مدينة لاهاي في المسرح الكبير ندوة ليوم واحد بين أربعة من المفكرين، هولندي وبريطاني وأمريكي وأنا عن صِدام الحضارات لتثقيف الشباب وتعويدهم على الحوار. فالحزب ليست مهمته فقط الوصول إلى السلطة إلا عند شيوخ الحزب، بل مهمة شبابه التعلم والتثقيف والتربية السياسية والوعي بروح العصر.
بدأ الهولندي، عجوز من أهل البلد أرستقراطي النزعة «بولكشتاين» من أصل ألماني وأستاذ في الجامعة التكنولوجية في ليدن، يبحث عن «الأصولية المستنيرة»، يدافع عن الاتجاه المحافظ التقليدي في الغرب، وينفي عنه تهمة التعصب والعدوان كما هي الحال في المحافظة الجديدة السائدة في البيت الأبيض وفي الإدارة الأمريكية الآن والتي كانت وراء العدوان على العراق وأفغانستان، وما زالت تهدد إيران وسوريا ولبنان. يشعر بدونية أمام الغرب الكبير، جعل بحثه كله شرحًا لبحث البريطاني، ويزهو بأن الغرب هو صاحب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام ١٩٤٥م، وينسى الإعلان العالمي لحقوق الشعوب الذي أعلن في الجزائر في سبعينيات القرن الماضي تتويجًا لحركات التحرر الوطني واستقلال الشعوب، كما لم يعرف «الإعلان العالمي لواجبات الإنسان» الذي صدر منذ عدة سنوات وشاركتُ في صياغته مع هانز كنج اللاهوتي السويسري الحر ويورسوكيم الكوري مع هلمولت شميت مستشار ألمانيا السابق، وأصبح وثيقة من وثائق الأمم المتحدة، كما يدافع عن القيم الغربية التي ذاعت في أذهان الناس مثل الديمقراطية دون أي نقد لها كما يفعل الليبراليون الجدد. فالديمقراطية تَصوُّر كَمِّي وليستْ تصورًا كيفيًّا. تقوم على تداوُل السُّلطة بين الأغلبية والأقلية، وفي المصالح العليا يتفق كلاهما كما هي الحال في الغزو الأمريكي للعراق وأفغانستان. فلا فرق بين الجمهوريين والديمقراطيين، أو بين محافظين وعمال في بريطانيا، وفي العدوان على فلسطين لا فرق بين عمال وليكود. فالديمقراطية ليست غاية في ذاتها بل هي وسيلة لتحقيق منظومة من القيم، وليس لها شكل واحد، الديمقراطية التمثيلية طبقًا لمبدأ صوت واحد لرجل واحد بل لها عدة أشكال؛ مثل الديمقراطية التوافقية التي تقوم على إجماع الأمة كما يحدث في اليابان الحديث أو في الإجماع في تراثنا القديم، وتتمثل قيمة الحرية في السوق والمنافسة أي الحرية الاقتصادية، وأعطى الغرب للعالم مفهوم التقدم دون تحديد لمستواه، المادي أو المعنوي، لطبقة خاصَّة أو لمجموع الناس، هل هو دائم أم يحمل الفناء فيه، والسلام قيمة جديدة بعد ملايين من البشر قضوا نحبهم في الحروب الأوروبية على مدى تاريخ أوروبا منذ نشأتها حتى الحرب العالمية الثانية، والآن تُصَدِّر أوروبا الحروب خارج حدودها باستئناف موجة جديدة من العدوان باسم العولمة وصراع الحضارات لتبتلع الدول الوطنية الحديثة التي تكونت إثر حروب الاستقلال.
والثاني بريطاني «جون جراي» أستاذ الفكر الأوروبي في كلية الاقتصاد بجامعة لندن، مغرور للغاية، يتكلم وكأنه معلم الجميع، أنفه إلى أعلى ولا ينظر إلى أحد. يتكلم كثيرًا، ويسهب في الكلام دون تركيز على قضية. بغيته الانتشار وامتلاك المنصة وملء الفراغ. له بعض وجهات النظر النقدية، ومع ذلك الفكر الغربي لديه فكر شامل مع أنه أحادي النظرة، يُعبر عن البيئة الأوروبية وحدها وليس عن الإنسانية جمعاء. يرد الشيء إلى ما هو أعلى منه؛ فيقع في الصورية والتجريد، أو إلى ما هو أقل منه؛ فيقع في التجريبية والوضعية. ينقصه التوازن والتركيز على الثورة، ينتقل من الفعل إلى رد الفعل ثم يجمع بينهما من طرف ثالث، وينتهي إلى النِّسْبِية والشك ثم إلى اللاأدرية والعدمية. يبدو أنه من الليبرالية الجديدة أو اليسار الليبرالي، ولكنه بريطاني أساسًا ما زال يعتبر نفسه سيد البحار.
والثالث أمريكي «يان بوروما» من كلية بارد بنيويورك، واضح عليه التأدب والتواضع، ولكنه إسرائيلي الاتجاه. يتكلم باسم مصالح إسرائيل. اشترك مع إسرائيلي في تأليف كتاب «الاستغراب، الغرب في عيون أعدائه»، يؤرخ فيه للاتجاهات المعادية للغرب في آسيا وأفريقيا ويخص الحضارة الإسلامية بنصيب وافر. يرى أن ميزة الغرب الفصل بين الدين والدولة، والحقيقة أن الفصل هو بين السُّلطة الدينية والسُّلطة السياسية لفض الصراع بينهما على السلطة مرة باسم البابا، ومرة أخرى باسم الإمبراطور، وكثيرًا ما تسقط المشكلة على الحضارة الإسلامية، كما يتميز الغرب بالتعددية السياسية والاعتراف بحرية الفرد والتأكيد على ديمقراطية الحكم على عكس الحضارات الأخرى التي ما زالت ترزح تحت الرأي الواحد والحزب الواحد ونظم القهر والتسلط، والحقيقة أن ذلك يرجع إلى أن الغرب واللاغرب، كل منهما يعيش لحظة تاريخية مختلفة عن الأخرى. فالغرب بدأ عصوره الحديثة منذ خمسة قرون ضد السلطتين الدينية والسياسية، وسجن وحرق وعذَّب المفكرين الأحرار بعد إدانتهم في محاكم التفتيش. فكل ما فيه الغرب الآن من مكاسب إنما أتى بعد نضال طويل من أجل الحرية والتعددية السياسية والعقد الاجتماعي والمجتمع المدني والدولة الوطنية التي بدأ الغرب يتخلى عنها وبصعوبة لصالح تجمعات أكبر مثل الاتحاد الأوروبي، ولم يلاحظ أن الغرب يعاني من المعيار المزدوج واللغة المزدوجة والقيم المزدوجة عندما ينتقل من داخل أوروبا إلى خارجها فينقلب إلى القيم المضادة من تدعيم للتسلط والقهر ونهب للثروات وتعميم للجهل والمرض، وهي بعض آثاره في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وربما طغت الوثنية الأوروبية التي كانت سائدة قبل انتشار المصدرين اليوناني الروماني، واليهودي المسيحي على ربوعها؛ لذلك ظلت أوروبا رومانية الطابع، يهودية المزاج، وابتعدت عن منطق العقل اليوناني وروح الأخلاق المسيحية كما تجلت في الموعظة على الجبل.
واستعرضَتْ ورقَتِي مفهوم أوروبا وأنه أكثر من مُجرَّد مفهوم جغرافي، بل هو مفهوم حضاري. فأوروبا منطقة مفتوحة لآثار متبادلة بينها وبين جنوب البحر الأبيض المتوسط. أوروبا لها شاطئان أو ثلاثة، شاطئ أوروبي شمال البحر الأبيض، وشاطئ عربي أفريقي جنوب البحر الأبيض، وشاطئ آسيوي شرق البحر الأبيض في الشام وفلسطين ولبنان، وشاطئ شمالي شرقي في تركيا. فأوروبا فقط هي أحد شواطئ البحر الأبيض المتوسط؛ لذلك كثر التفاعل الحضاري بين شمال البحر الأبيض وجنوبه، من الشمال إلى الجنوب في العصر اليوناني الروماني، ومن الجنوب إلى الشمال في العصر الإسلامي، ومن الشمال إلى الجنوب في العصور الحديثة الأوروبية، والآن من الجنوب إلى الشمال من جديد في عصر الهجرات العربية الإسلامية وانتشار الإسلام في الغرب حتى إنه أصبح الدين الثاني في أوروبا.
وكشفت الردود عليَّ عن الموقف الغربي تجاه العرب والمسلمين. فالحرب على العراق من أجل الديمقراطية وكأن العالم قد نصب الغرب حاميًا للديمقراطية وجعله شرطي العالم. وهو أول من أيد النظم الديكتاتورية ضد الشعوب، رعاية عن مصالح الغرب، وكأن الديمقراطية تُنْشَر على أسنة الرماح وفوهات المدافع ونيران الدبابات والمصفحات. وترفض الحركة الإسلامية الدولة الوطنية؛ لأنها تتبنى مفهوم الأمة التي تأتي هويتها من فكرها وقيمها وليس من الأرض أو القوم، بالإضافة إلى قهر الدولة الوطنية وفسادها وتبعيتها، ونقص حب الاستطلاع عند العرب والمسلمين إنما راجع نسبيًّا إلى وجود معارف مسبقة تحدد تصوراتهم للعالم وتحدد معاييرهم للسلوك، وإذا كانت الحضارة العربية الإسلامية قد انتهت بعد ابن رشد بسبب سطوة الغزالي وهيمنته على الثقافة العربية وتنميطها في أحادية عقائدية وتشريعية مع استبعاد الرأي الآخر والمعارضة للسلطان فإنها قد قامت في الغرب على يد المفكرين الأحرار والرشديين اللاتين، وكثيرًا ما يسأل الغرب عن الحدود الإسلامية من دون أن يعرف أنها ليست على الإطلاق إنما تتحقق إذا ما توافرت شروطها أولًا، وللمسلم حقوق كما أن عليه واجبات، ولا واجبات بلا حقوق. أما الإرهاب «الإسلامي» فإنه ظاهرة اجتماعية سياسية لها ظروفها مثل الإحساس بالعجز والإحباط أمام عجز الحكومات وسلبيات الشعوب وهيمنة القوى الأجنبية، والعالم العربي الإسلامي ما زال يغلق عصوره الوسطى ويعد نفسه لبداية عصوره الحديثة ولا تجوز المقارنة بين حضارة غربية تنتهي وحضارة عربية إسلامية تبدأ.
تشاؤم أم تفاؤل وبالنسبة لمن؟ تشاؤم بالنسبة إلى الغرب، وتفاؤل بالنسبة إلى العرب والمسلمين على الأمد الطويل لمن يرسمون استراتيجيات المستقبل.
(٤) الدين والدولة٤
إذا كانت المعارك العاجلة للتأثير في مجرى الأحداث في مصر ومنها الانتخابات الرئاسية الشهر الماضي والانتخابات التشريعية الشهر القادم تحتاج إلى التحليل المباشر للواقع السياسي، وإذا كانت السنتان القادمتان هي مرحلة انتقال في تاريخ مصر بعد أن دَبَّت الحياة السياسية في الشارع المصري خلال هذا العام خاصَّةً الشهور الأخيرة، فقد آنَ الأوان كي يَتَّجه التحليل السياسي إلى التفكير في السياسات بعيدة المدى وفي الاستراتيجيات الطويلة من أَجْل إرساء قواعد الدولة الحديثة التي تُعِيد صياغة الدولة الوطنية؛ حصيلة حركات الاستقلال الوطني، بعد تعثرها وضعفها ومخاطر تفتيتها، وتبعيتها للخارج وقهرها للداخل.
ومن ضمن الإشكالات علاقة الدين بالدولة، والنزاع الحاصل بين السلفيين والعلمانيين حولها، الربط عند السلفيين، والفصل عند العلمانيين، وهو الإشكال المطروح ذاته على كل الدساتير العربية مثل الدستور العراقي، وهو التحدي الذي تواجهنا به النُّظم الغربية والنظام العالمي الجديد وجدول أعماله الخاص بالتحول الديمقراطي وحقوق الإنسان والأقليات وفرض النموذج الغربي القائم على الفصل بين الدين والدولة تحت شعار «الدين لله والوطن للجميع»، وكثيرًا ما ينقل المفكرون والمحللون السياسيون الإشكال الغربي، الصلة بين الكنيسة والدولة، أو بين السُّلطة الدينية والسُّلطة السياسية بعد أن جَرَّب الغرب التوحيد بينهما فحدثت المذابح باسم الدين مرة وباسم الدولة مرة أخرى. فآثر الاختيار الثاني، وهو الفصل بينهما وإن استحال ذلك من الناحية العملية، في ممارسات الكنيسة والدولة على حد سواء، بالتعاون مرة، وبالتعارض مرة أخرى، وتم إسقاط هذا التاريخ الأوروبي الخاص على باقي الثقافات والتجارب الحضارية فثارت مشكلة مزيفة. ففي التجربة الإسلامية ليست في الإسلام كنيسة ولا سلطة دينية، والدولة تحكم بالمصالح العامَّة للأمة وهي مقاصد الشريعة؛ الحفاظ على الحياة، والعقل، والمعيار الأخلاقي الشامل، والعِرض أي الكرامة، والمال أي الثروة الوطنية.
والأخطر من ذلك هو وقوع الدولة في الممارسات الحالية في المعيار المزدوج، الجمع بين الدين والدولة في ممارستها الخاصَّة دفاعًا عن سلطتها، والدعوة إلى الفصل بينهما عندما تَتوجَّه إلى المعارضة السياسية. فتقيس بمِقْيَاسَين، وتَكيل بمكيالين.
فخطاب الدولة للمعارَضة خاصَّةً الإخوان المسلمين أنه لا يمكن إقامة حزب سياسي على أساس ديني وإلا أدَّى ذلك إلى الوقوع في الطائفية ممَّا يُهدِّد الوحدة الوطنية إذا ما طالَب الأقباط بإقامة حزب قبطي، وهو ما لم يمنع الإخوان من تقديم أنفسهم كمستقلين في الانتخابات التشريعية أو مُتحالفِين مع حزب الوفد مرة أو مع حزب العمل مرة أخرى، وهي تحالفات سياسية وقتية؛ إذ سرعان ما يتمسك الوفد بعلمانيته، كما تترصد الدولة لحزب العمل وتُوقِعُه في شِبَاك الأخطاء حتى تجد ذريعة لإيقافه عن العمل وتعليق جريدته. أما المُستقِلُّون فإنهم يوصفون بالإخوان علنًا، ويسلط عليهم دائمًا سيف الحل إذا ما غضبت عليهم الدولة. هذا بالإضافة إلى تناقض وجود ممثلي جماعة محظورة في المجالس النيابية والاتحادات والنقابات والجمعيات الأهلية والنوادي المهنية، كما حدَث تناقض آخَر بين وجود الإخوان في الشارع السياسي كأكبر قوة سياسية مُؤثِّرة من قوى المعارَضة السياسية وفي حوار مستمر مع النظام السياسي من أجل حل وسط بين السُّلطة والمعارَضة لتفتيت قوى المعارضة ولاطمئنان السلطة على التخفيف من حِدَّة المعارضة مقابل مكاسب موعودة على المستوى السياسي فيما يخص الوجود الشرعي والإفراج عن المعتقلين، وترفع الدولة شعار «لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة» من أجل الحد من نشاط الجماعات الإسلامية في الجامعات. فالدولة هنا تقوم بدور الحامي للعلمانية. فإذا ما صدقتها بعض الأجنحة الليبرالية في حركة الإخوان الأم وتقدمت بإنشاء أحزاب سياسية مدنية استطاعت أن تحول الإسلام إلى برامج سياسية اجتماعية مثل «حزب الوسط» في مصر أو حزب «النهضة» في تونس رفضت الدولة أو عَلَّقَت الطلب بين القبول والرفض، وأصبح الحزب فقط «تحت التأسيس» أي تحت المراقبة. إذا انضم إلى الدولة يُوافَق عليه، وإذا استمر في المعارَضة السياسية يُرفض. فتنهار حجة ضرورة الفصل بين الدين والدولة في تأسيس أحزاب المعارضة.
أما الدولة ذاتها من أجل تدعيم سلطتها، فإنها دولة دينية بالأصالة تستعمل الدين من أجل تدعيم نظامها السياسي. فدين الدولة هو الإسلام، ومن تَحرَّج من ذلك بسبب وجود الأقباط اتُّهِم بالكفر والعلمانية والتغريب، والشريعة الإسلامية أحد مصادر التشريع مع أن المصالح العامَّة هي أساس التشريع، وهي المشكلة ذاتها في صياغة الدستور العراقي. وفي بطاقة الهوية، هناك «خانة» للدين وفي كثير من الأوراق الرسمية حتى في بعض طلبات التأشيرات من السفارات الأجنبية، والدين مادة في المدارس ولكن لا يدخل في المجموع؛ ممَّا يعطي التلاميذ إحساسًا بأنه لا أهمية له، ويُفْصَل المسلمون عن الأقباط في تعليم الدين ممَّا يرسخ منذ البداية الطائفية ويخاطر بالوحدة الوطنية، ويعظم حضور الدين في أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة. فيؤذن على الصلاة خمس مرات يوميًّا بالإضافة إلى قُدَّاس يوم الأحد على إحدى القنوات وليس القناة الأولى، والاحتفال بالمناسبات الدينية؛ العيدين، وصلاة الجمعة، والمولد النبوي، ورأس السنة الهجرية، وليلة القدر، وتُعْرَض الأفلام الدينية فيها مثل «الشيماء»، «ظهور الإسلام»، وتصاغ البرامج الدينية؛ مثل «حديث الروح» كل يوم، و«نور على نور»، و«العلم والإيمان»، ويوضع الدين في برامج الأحزاب، حكومة ومعارَضة، وفي كل حزب قسم أو مكتب للشئون الدينية وله صحف دينية مثل «عقيدتي» مهمتها تكفير المعارَضة السياسية باسم الدين، وتتولَّى الدولة شئون بناء المساجد، وتعيين الخطباء، وتحديد موضوعات خُطب الجمعة، وتفرز الدولة بين الحين والآخر دعاتها ووعاظها الذين يشغلون الناس بما لا ينفع، بعيدًا عن حقوقهم السياسية والاجتماعية؛ مثل تفسير القرآن بروح ابن البلد، والعلم في القرآن لتخدير الناس بأنهم أسبقُ من الغرب في الاكتشافات العلمية، ومخاطبة الشباب وحل أزماتهم النفسية، وقد تغضب على بعض مشايخ السلطان ودعاة النظام إذا استفحل الأمر وخرج على قواعد اللعبة واستقطب الناس بعيدًا عن طاعة النظام، بل وفي الدولة وزارة للأوقاف وللشئون الدينية، والطرق الصوفية جزء من رياسة الجمهورية، وشيخ مشايخها يُعَيِّنه الرئيس مثل تعيين شيخ الأزهر، ومفتي الديار المصرية، ورئيس جامعة الأزهر، بل إن الدولة تسمح بالتعليم الديني الخاص منذ الحضانة حتى الجامعة، ويسلم الرئيس جوائز تحفيظ القرآن للمسلمين من كافة أرجاء العالم الإسلامي، ويتم التهادي في فرق الجيش بالقرآن المذهَّب المغلف بالقطيفة الحمراء. ينحني عليه الرئيس لتقبيله، وتنظم الدولة صندوق الزكاة، وتمتلئ الأغاني الشعبية والأناشيد الوطنية بالرموز الدينية مثل «الله أكبر فوق كيد المعتدي.» «والله زمان يا سلاحي.» وحرب أكتوبر هي حرب رمضان، ومن المدن الجديدة مدينة العاشر من رمضان، وتؤسس الدولة لجانًا لتقنين الشريعة الإسلامية وإصلاح قوانين الأحوال الشخصية، ويذهب الرئيس إلى العمرة والحج بملابس الإحرام، وبعض الرؤساء أخذ لقب «الرئيس المؤمن» ورفع شعار «من لا دين له لا أمان له» ضد خصومه من الناصريين والشيوعيين، ويفضل البعض أن يدفن في المساجد أو بجوار مسجد حتى يسكنه الله فسيح جناته، بل لقد تَحوَّل البعض منهم بعد مماته إلى ولي من أولياء الله الصالحين.
فمتى يتم الكف عن هذا اللعب بالدين والسياسة واستعمال المعيار المزدوج: التوحيد بينهما دفاعًا عن النظام، والفصل بينهما للقضاء على شرعية المعارَضة. أليس الدين — كما قيل من قبل — «أفيون الشعب» كما تفعل الدولة، و«زَفْرَة المضطهدين» كما تفعل المعارَضة؟
(٥) الدين بين الحرب والسلام٥
كانت قضية الحرب والسلام هي قضية رئيسة في القرن العشرين وما زالت مستمرة بعد أن شَهِد حربين عالميتين في النصف الأول منه، والحرب الباردة في النصف الثاني منه. وبالرغم من نهاية عصر الاستقطاب والحرب الباردة، فإنه ظهر استقطاب جديد خاصَّةً بعد حوادث سبتمبر في واشنطن ونيويورك وما تلاها من عدوان على أفغانستان والعراق والشيشان، وتهديد سوريا وإيران وحصار لبنان والسودان، وقد زاد من اشتعالها سيطرة اليمين المحافظ على الإدارة الأمريكية ودعاة الإمبراطورية الأمريكية الجديدة، وسيطرة اليمين الإسرائيلي على الحكم، دعاة إسرائيل الكبرى.
لذلك توجهت الجمعيات الدينية المدنية نحو هذه القضية، تدعو للسلام، وتخفف من غلواء الحرب، وتدعو إلى التعايش المشترك بين الشعوب. ترتبط بالمؤسسة الدينية وبالمؤسسة السياسية على حدٍّ سواء، وتتعاون مع الكنيسة والدولة في آنٍ واحد بدلًا من الاستقطاب التقليدي في أوروبا بين الدين والدولة والذي امتد لدينا في صورة الاستقطاب الحالي بين السلفية والعلمانية.
ومن أمثال هذه الجمعيات «سانت إيجديو» التي أسَّسها المُثقَّف الإيطالي «ريكاردي» منذ عدة سنوات والتي أصبحت أكبر جمعية مدنية أهلية في العالم، مركزها إيطاليا. تتعاون مع الفاتيكان والدولة في البلدان الكاثوليكية، وتقوم على العمل الحر التطوعي لأعضائها وربما على جزء من تمويلها.
وقد عقدت الجمعية الشهر الماضي اجتماعها السنوي في مدينة ليون بفرنسا مركز الأسقفية الكاثوليكية بحضور الآلاف من الأعضاء والقادة من رجال الدين والعلماء والمفكرين والمُثقَّفين والمسئولين الحكوميين تحت عنوان «شجاعة إنسانية من أجل السلام» حضرها ممثلون عن كل أديان العالم، رسميون وغير رسميين، بالزي الديني الرسمي لكل دين أو بالملابس المدنية التي تكشف عن إيمان علماني. فالإيمان ما زال متجذرًا في الوعي الأوروبي على غير ما يبدو في الظاهر من مادية وإلحاد، وكانت تظاهرة كبرى خاصَّةً في الافتتاح وفي النهاية، ومسيرة السلام بالشموع في المسرح الروماني للإعلان عن عالم واحد تعيش فيه كل الشعوب في سلام وتعاون مشترك.
وعقدت ما يقرب من أربع وعشرين مائدة مستديرة على مدى ثلاثة أيام، صباحًا ومساءً حول خمسة محاور رئيسة.
الأول: أزمات العالم ومناطق التوتر فيه في القارات الخمس. في أمريكا حوادث سبتمبر في واشنطن ونيويورك ودوافعها الدينية والسياسية، وكيفية الحوار بين الأديان والتفاهم المتبادَل بينها، وفي آسيا بعد زلزال تسونامي كيف يمكن السيطرة على الطبيعة وتفادي مخاطرها وحماية الآلاف من تدمير الطبيعة، ولم يكن إعصارَا كاترينا وريتا قد هبَّا بعدُ على جنوب الولايات المتحدة الأمريكية ولا زلزال باكستان والهند قد وقع وحصد عشرات الألوف من المواطنين الأبرياء، وفي أفريقيا عشرات الملايين من الأفارقة مصابون بالإيدز، وآخرون حصدتهم الحروب الأهلية والنزاعات الحدودية، وتعود ذاكرة الغرب إلى محرقة اليهود بعد أن انقضت ستون عامًا على أوشفتز من أجل عقد حوار جديد بين المسيحيين واليهود، ولا تذكر المحارق الأخرى في فلسطين وجنوب أفريقيا ورواندا، ومذابح الفرنسيين في الجزائر، والأمريكيين في العراق وأفغانستان، والروس في الشيشان، والإسرائيليين في فلسطين، وما أكثر المحارق والاستئصال العرقي في العالم. وفي اليابان انقضت ستون عامًا أيضًا على هيروشيما التي قضت فيها أمريكا على مدينة بأكملها ثم أشفعتها بناجازاكي، وفي أوروبا ما مستقبلها ومسئوليتها عمَّا حدث من مآسٍ في العالم إبان الحقبة الاستعمارية في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية؟ وهل تستطيع أن تصمد أمام الولايات المتحدة واستقطابها لها وأن تكون ميزان الثقل في العالم بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب؟ وماذا عن أطفال العالم الذين يموتون جوعًا وقحطًا وتصحرًا؟ وماذا عن اقتصاد العالم في عصر العولمة وإمكانية التضامن بين الشعوب من أجل المشاركة المتساوية في ثروات العالم بدلًا من أن يستهلك ٥٪ من سكان العالم ٧٥٪ من ثرواته؟
والمحور الثاني: هو الحوار كطريق لحل الأزمات والتوترات في العالم، وهو الحوار بين الكاثوليك والبروتستانت بعد تاريخ طويل من الصراع الدموي والخلاف العقائدي. فما متطلبات الوحدة بين المسيحيين؟ وكَمْ ميلًا لم تُقطع بعد من أجل الوصول إلى الوحدة بين المسيحيين؟ والصراع ما زال موجودًا بين البروتستانت والكاثوليك في أيرلندا الشمالية، وبين الكاثوليك والكاثوليك في إقليم الباسك؟ وهو الحوار الإسلامي المسيحي اليوم وغدًا في مواجهة ما يسمى بحقوق الأقليات في العالم الإسلامي. فالمسيحيون العرب جزء من الأمة العربية، والطوائف جزء من نظام المِلَّة في الإسلام القائم على المساواة بين المِلَل في الحقوق والواجبات في إطار الأمة الإسلامية الواحدة التي تتكون من عديد من الطوائف والمِلَل المختلفة، وهو الحوار بين الشرق والغرب، حوار الديانات والثقافات في عصر الإمبراطورية الأمريكية الجديدة التي تزحف نحو الشرق بعد غزو العراق وأفغانستان، وتهديد إيران، وإقامة القواعد العسكرية في قازخستان من أجل محاصرة الصين، والقضاء على النهضة في جنوب شرق آسيا، وهو الحوار بين الشمال والجنوب، بين أوروبا وأفريقيا، بين المستعمِر القديم والمُتحرِّر الحديث. فأوروبا ما زالت مسئولة عن بعض مآسي أفريقيا في التصحر والفقر إثر نهب الثروات المعدنية، والحروب الأهلية والنزاعات العرقية نتيجة الحدود الاستعمارية المُصطنَعة، وقسمة الشعوب والقبائل بين دول مُتجاوِرة لا تعرف مفهوم الحدود السياسية، والقضاء على إمكانية وجود لغة أفريقية واحدة بدلًا من الفرانكفونية أو الأنجلوفونية. فأفريقيا لها كيانها المستقل وليست مُجرَّد امتداد لخاصرة أوروبا الجنوبية عبر البحر الأبيض المتوسط.
والمحور الثالث: قيمة الحياة وعقوبة الموت نظرًا إلى حملة جمعيات حقوق الإنسان على الحكم بالإعدام، ونظرًا إلى مشاكل الأخلاق البيولوجية المعاصرة؛ مثل الموت السريري، والموت الدماغي، وزراعة الأعضاء، والموت الرحيم، وشهادة الإيمان بالقول والفعل خاصَّةً وأن الشاهد والشهيد مشتقان من اللفظ ذاته. فالشهيد يتنازل عن الحياة الدنيوية في سبيل الحصول على الحياة الأبدية، ولم يتعرض أحد للعمليات الاستشهادية في فلسطين والعراق والشيشان، وهو موضوع خلافي يُخشى منه التفرقة بين المجتمعين وليس وحدتهم.
والمحور الرابع: النزعة الإنسانية التي توحِّد بين الشعوب، وهي رسالة الأديان جميعًا، وهي إنسانية روحية وليست عولمة اقتصادية. تقوم على حرية الضمير وعلمانية الدولة وثقافة العيش المشترك.
والمحور الخامس: السلام وهو المقصد الأسنى من الحوار بين الشعوب، ويتطلب شجاعة أدبية فائقة واعترافًا مبدئيًّا بالآخر وتقديس الحياة والتضامن والعيش المشترك.
يهتم المؤتمر برجال الدين والمسئولين الرسميين وبالشخصيات العامَّة خاصَّةً بأزيائهم المميزة، ويغيب أصحاب القضية الذين يعانون من ويلات الحروب، الفلسطينيون والعراقيون والأفغان والشيشان، وكثيرًا ما يغلب على التحليلات الوعظ الديني أو الخطاب الأخلاقي، وتغيب البرامج العملية التنفيذية لتحقيق السلام عن طريق نزع جذور الحرب وهي العدوان والهيمنة والتسلط من القوي على الضعيف، ومن الغني على الفقير.
كانت فرصة للعرب والمسلمين من مصر والمغرب وتونس ولبنان خاصَّةً أن يعرضوا الإسلام المستنير، وأن يحاوروا ديانات العالم وحضاراته. فالإسلام قادر على الحوار كما هو قادر على النضال، وهو دعوة إلى السلام بقدر ما هو دعوة إلى الجهاد في حالة العدوان على الشعوب. فالدفاع عن النفس حق مشروع في طبائع البشر وفي الديانات السماوية وفي الشرائع الوضعية، وكانت إسهامًا لتبديد الصور النمطية التي تراكمت في الوعي الأوروبي عن الإسلام وربطه بالعنف والتخلف والتعصب، وهي ظواهر سياسية واجتماعية طارئة. ليت العالم الإسلامي يعرف كيف تنشط جمعياته الأهلية مستقلة عن الحكومات والمؤسسات الدينية الرسمية حتى ينشط الفكر الإسلامي في مواجهة تحديات العصر ويكون طرفًا متكافئًا مع الجمعيات الأهلية المماثلة في الغرب والشرق.
(٦) حقوق الإنسان … مرة أخرى٦
عُقدت الشهر الماضي في مدينة لوجانو بسويسرا نَدوة دولية نظمتها كلية اللاهوت (أصول الدين) بعنوان «حقوق الإنسان بين الثقافات المحلية والشرائع السماوية»، وهو موضوع مشترك بين القانونيين واللاهوتيين؛ إجابةً عن سؤال: إلى أي حد تتضمن الشرائع الدينية حقوق الإنسان؟ فلم يعد اللاهوت حديثًا في الإلهيات أو النبوات، عقليات أو سمعيات، بل معالجة لقضايا العصر؛ مثل حقوق الإنسان، والمجتمع المدني، والتعددية، والأخلاق البيولوجية، والمجتمع التقني … إلخ، وكانت أغلبية المدعوين من الكاثوليك ثم الإنجليكانيين ثم البروتستانت ثم اليهود، ومسلم عربي واحد، ومسيحي عربي واحد. والسؤال الأهم بطبيعة الحال يتعلق بالشريعة الإسلامية خاصَّةً قانون العقوبات؛ أي الحدود وإلى أي حد تتفق مع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، خاصَّةً حد القتل وحد السرقة وحد الزنا؟ فحق الحياة حق من حقوق الإنسان ولا يمكن تصحيح خطأ بخطأ في القصاص، وحق امتلاك البدن حق طبيعي من حقوق الإنسان، لا يمكن بتر أحد أطرافه، وإلا تحول المجتمع الإنساني كله إلى مجتمع من المُعوَّقين.
وعقدت أربع جلسات؛ الأولى عن التراث اليهودي المسيحي الإنجليكاني والعبراني والمسيحي الفلسطيني؛ فالإنجليكانية جماعة وسط بين الكاثوليكية والبروتستانتية، منتشرة في إنجلترا وأمريكا خاصَّةً، ولها فروعها في الوطن العربي، والعبراني وليس اليهودي إشارة إلى الدين اليهودي القديم، والمسيحي الفلسطيني؛ أي المسيحية العربية وخرق حقوق الإنسان الفلسطيني في الأراضي المحتلة، والجلسة الثانية عن القانون العام والتراث الديني القانوني، الكاثوليكي والعبراني والإسلامي. هنا تتميز الكاثوليكية عن غيرها من الطوائف، وتبقى الشريعة اليهودية باعتبارها مصدر الشريعة المسيحية. ويتفرد الإسلام بالإجابة على السؤال المطروح عن حقوق الإنسان في الإسلام، والجلسة الثالثة عن الحرية الدينية كحق عام؛ فالحرية حق طبيعي للإنسان؛ مثل الإيمان من أجل الاعتراف بالآخر، والحوار بين الأديان. أما الجلسة الرابعة فكانت عن القانون الإنساني وبناء السلام من وجهة نظر الكاثوليكية والعبرانية والإسلامية، وهنا تمثل الكاثوليكية المسيحية، وتتكرر العبرانية للمرة الثالثة، والإسلامية للمرة الثانية. وقضية الحرب والسلام تشغل بال العالم بالرغم من نهاية الاستقطاب والحرب الباردة. وتعددت لغات الندوة بين الإيطالية والفرنسية والألمانية وهي اللغات الرسمية الثلاث في سويسرا بالإضافة إلى الإنجليزية.
طالت الأوراق وقلَّت المداخَلات، كل لاهوتي أو قانوني يعرض مادته العلمية قراءة وليس ارتجالًا، يعلن عن إيمانه المسبق دون ما رغبة في الحوار مع الآخَر؛ فكبار رجال الدين على رأس الحضور، ورؤساء الجامعات وكبار الأساتذة مشاركون، غاب الفكر الحر، كما عز التأويل والقراءة والاجتهادات الجديدة، وقد استرعت الورقة الفلسطينية والورقة الإسلامية الانتباه؛ فقد عرضت الأولى خرق حقوق الإنسان لشعب فلسطين في الأراضي المحتلة قدَّمَها عربي ومسيحي من أصول أرمنية، وعرضت الثانية تأصيل حقوق الإنسان في الإسلام في نظريات الإنسان الكامل في التصوف، والإنسان العامل في الفقه، والإنسان الحكيم في الفلسفة، وبينت أن مقاصد الشريعة التي من أَجْلها وُضِعَت الشريعة ابتداء هي العناصر المكوِّنة لحقوق الإنسان؛ وهي الحفاظ على الحياة؛ أي النفس، والعقل؛ أي العلم والمعرفة، والدين؛ أي القيمة والمعيار، والعِرض؛ أي الكرامة، والمال؛ أي الثروة الوطنية، وقد عز الحوار بين المشاركين؛ نظرًا لغياب مدرسة الحق الطبيعي السابق على مفهوم حقوق الإنسان لدى القانونيين واللاهوتيين، الحق الطبيعي هو الحق الفطري الذي يشارك فيه البشر جميعًا بصرف النظر عن شرائعهم ودياناتهم.
ما زال الغرب منشغلًا وشاغلًا نفسه بموضوع حقوق الإنسان لأسباب خاصَّة بثقافته وأخرى تتعلق بثقافة الآخرين، فهو يزهو بأن ثقافته هي ثقافة الإنسان والتاريخ، في حين أن ثقافات الشعوب الأخرى مثل الثقافات الشرقية ثقافات الله والخلود، وهو الذي صاغ مفهوم حقوق الإنسان مَرَّتَين، الأولى في أثناء الثورة الفرنسية في «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن»، والثانية بعد الحرب العالمية الثانية «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» وهو الأشهر والأكثر ذيوعًا بعد أن صادقت عليه الأمم المتحدة وأصبح ميثاقًا من مواثيقها الدولية، مُلزِمًا لكل دول العالم التي وقَّعَت عليه. ومن ثم يسجل الغرب لنفسه نقطة لصالحه على باقي الشعوب التي تمتلئ سجونها بآلاف المعتقَلِين السياسيين، وتذهب آلاف أخرى ضحايا الحروب الأهلية والنزاعات الطائفية والعرقية فاقَت المليون شهيد في رواندا بين قبيلتين: الهوتو والتوتسي، وينسى الغرب أنه أيضًا ضحَّى بآلاف من البشر في عدوانه على باقي الشعوب منذ الحقبة الاستعمارية في القرن التاسع عشر عندما استعمرت أوروبا كل العالم القديم في أفريقيا وآسيا بالإضافة إلى العالم الجديد منذ بداية العصور الحديثة في نصف الكرة الغربي، وما زالت تحصد جيوشه الآلاف في العراق وأفغانستان والشيشان، ولا يتحرك لخرق حقوق الإنسان في فلسطين أو في الدول التي تحكمها نظم سياسية موالية له، ويكثر الآن الحديث عن حقوق الإنسان في إطار صراع الحضارات حتى يُعطي الغرب خاصَّةً الولايات المتحدة الأمريكية لنفسه شرعية التدخل في الدول المستقِلَّة وتغيير أنظمتها غير الموالية بدعوى خرق حقوق الإنسان؛ فأصبحت مثل ذريعة امتلاك أسلحة الدمار الشامل، والإرهاب، وتهديد الأمن الدولي، وعدم الانصياع لقيم العالم الحر وفي مقدمتها الديمقراطية والتعددية السياسية، وهو موضوع حيوي داخل الغرب تثيره التَّجمُّعات اليسارية المناهضة للعولمة كأحد أشكال الهيمنة الجديدة، ودفاعًا عن الأقليات في الغرب وحقوق المهاجرين في العمل والإقامة، والمساواة في الحقوق والواجبات مع الأغلبية. تكشف عن المعيار المزدوج في الغرب، تطبيق حقوق الإنسان عند البيض الأمريكيين ذوي الأصول الإنجيلية البروتستانتية (الواسب) وخرقها في الأقليات الأمريكية من أصول أفريقية أو إسبانية أو عربية؛ فهناك فرق بين النظر والعمل، بين المبدأ والواقع، بين الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كوثيقة، وأوضاع حقوق الإنسان في الغرب كممارسة.
وهو موضوع مهم بالنسبة إلينا أيضًا؛ فأوضاع حقوق الإنسان لدينا مُخترَقة، وتُتهم ثقافتنا بأنها لم تعرف مفهوم حقوق الإنسان، وتعيش شعوبنا في القهر والتسلط والطغيان؛ لذلك نجد أنفسنا في موقف الدفاع باستمرار عن ثقافاتنا، وأنها عرفت أيضًا مفاهيم عدة لحقوق الإنسان، فليس هناك مفهوم واحد، هو المفهوم الغربي، القائم على التصور الفردي للإنسان وحريته المطلقة بما في ذلك حق الإجهاض والشذوذ الجنسي والعري. في حين يوجد مفهوم جماعي لحقوق الإنسان يقوم على الاعتراف بالآخر وبأنساق القيم كما يُقرِّرها الحق الطبيعي أو الفطرة الإنسانية؛ لذلك أصدرنا «الإعلان العالمي لحقوق الشعوب» لتأكيد حق كل شعب في تقرير المصير، وفي حريته واستقلاله؛ تعبيرًا عن نضال الشعوب وحركات التحرر الوطني في الخمسينيات والستينيات، وقد صدر هذا الإعلان في الجزائر عام ١٩٧١م. ما زال الغرب يفرض علينا موضوع حقوق الإنسان ويدعم ماليًّا ومعنويًّا عشرات الجمعيات الأهلية النشطة في هذا المجال؛ تقوية للفرد على حساب الجماعة، وفرضًا لجدول الأعمال الغربي على باقي الموضوعات؛ مثل المجتمع المدني، والمرأة، والأقليات، والإدارة، والتحول الديمقراطي كأساس للخصخصة والنشاط الاقتصادي للقطاع الخاص وغيرها من العناصر التي تكون مشروع «الشرق الأوسط الكبير»، والعولمة ليست فقط اقتصادية وقوانين السوق، بل أيضًا خضوع العالم كله إلى منظومة ثقافية واحدة، هي المنظومة الغربية. أما جدول أعمالنا الخاص باستكمال تحرير الأرض والدفاع عن الاستقلال الوطني، ومقاومة الهجمة الاستعمارية الجديدة، والعدالة الاجتماعية، والتنمية المستقلة، والدفاع عن الهوية، وحشد الجماهير فهي أساطير قديمة عانت منها الشعوب، وانقلبت إلى ضدها بعد إفلاس الدولة الوطنية وتحولها إلى دولة قهر وفساد، وتبعية واستغلال. ما زال الغرب يهاجم ونحن في موقف الدفاع، نحاول أن نبين «حقوق الإنسان في الإسلام» والهجوم أقوى من الدفاع؛ الغرب يقف في موضع قوة، ونحن في موقف ضعف، وتتجلَّى عقدة العظمة لديه في نقاط قُوَّته، وعقدة النقص لدينا في نقاط ضعفنا، الغرب هو الذي يضع اللحن، ويضبط الإيقاع وما علينا إلا الرقص والدوران.