حوار الحضارات
(١) العالم الوطني والزائر الأجنبي١
العلاقات بين الحضارات علاقات تَعلُّم متبادَل؛ فلم تكن الحضارات في يوم ما دوائر منعزلة عن بعضها البعض منغلقة على نفسها، وإذا حدث فإنها تنقرض وتموت. الحضارات في تفاعُل بينها للإثراء المتبادل وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا.
والتفاعل بين الحضارات تعبير عن ميزان القوى الحضاري. فالحضارة «الأعلم» تصب في الحضارة الأقل علمًا، والحضارة «الأعقل» تنساب في الحضارة الأقل عقلًا. الحضارة الأقوى تقوم بدور المُعلِّم، والحضارة الأضعف تقوم بدور التلميذ، وكما هي الحال في الأواني المُستطرَقة؛ نظرًا إلى وجود حضارة إنسانية واحدة يتغير مركزها على مر الأيام، وتتغير علاقة المُعلِّم بالتلميذ، مرة يكون المُعلِّم مُعلِّمًا، والتلميذ تلميذًا، ومرة يصبح التلميذ مُعلِّمًا، والمُعلِّم تلميذًا. فلا يوجد معلم أبدي ولا تلميذ أبدي. إنما هو تبادل للأدوار وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ.
حدث هذا في الصين قديمًا عندما انتشرت الكونفوشيوسية على سائر ربوع آسيا، وكذلك في الهند عندما انتقلت البوذية من الهند إلى التِّبِت والصين واليابان وجنوب شرق وأواسط آسيا، وحدث الشيء ذاته في حضارة فارس عندما عَمَّت المانوية والزرادشتية والمزدكية في آسيا وامتدت غربًا حتى الوطن العربي، كما رحلت حضارات ما بين النهرين، بابل وآشور، إلى اليونان، مهد الحضارة الغربية، وذاعت حضارة مصر القديمة إلى السودان والشام واليونان، وأثرت حضارة كنعان في دين إبراهيم على مختلف مراحله. وذاعت حضارة اليونان والرومان عبر شواطئ البحر الأبيض المتوسط كله شمالًا وجنوبًا، شرقًا وغربًا، وقد ورثت الحضارة العربية الإسلامية الحضارات القديمة كلها ووحَّدتها في حضارة إنسانية واحدة، ونشرتها مع تنوعها في ربوع العالم كله شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، ثم ورثتها الحضارة الغربية الحديثة منذ سقوط الأندلس، وحتى نهاية العصور الغربية الحديثة وبداية النهضة الإسلامية المعاصرة.
كان الغرب يأتينا زمن هارون الرشيد يتعلم من أطبائنا وعلمائنا ورياضيينا وصَيادلَتِنا وصناعاتنا، ثم كنا نأتيه منذ القرن التاسع عشر وإرسال محمد علي البعثات التعليمية من أجل نقل المعارف والعلوم وتأسيس النهضة العربية الحديثة، واستمرت البعثات التعليمية في العصر الليبرالي في النصف الأول من القرن العشرين، وفي العصر الاشتراكي في النصف الثاني منه، وقد قل إيقاعها؛ نظرًا إلى تحول مسار التاريخ وانتقال المركز الحضاري من الغرب إلى الشرق، ومن الغرب إلى الإسلام. فالقرن الواحد والعشرون هو قرن الصين صناعة، وقرن الإسلام حضارة.
وطبقًا لهذا التصور «البندولي» للحضارات يزورنا الآن عديد من الباحثين والدارسين والصحفيين الغربيين لجمع المعلومات عن مصر والعرب، والإسلام والمسلمين، وينضم إليهم أحيانًا رجال السياسة والأعمال، وزراء دفاع وثقافة وشئون دينية وأصحاب شركات يريدون الاطمئنان على استثماراتهم من قبول للشعوب أو رفض لها، بصرف النظر عن موافقة الحكومات؛ فالشعب هو الأهم؛ لأنه هو الذي يعطي العمال وهو الذي يستهلك، وهو الذي يغضب ويثور، ويدمر ويحرق، وقد ينضم إليهم الجواسيس والمتآمرون وأصحاب النيات الشريرة، المثيرون للشغب الطائفي والعرقي في مسوح الرهبان.
ويبدو أن مجرد جمع المعلومات عن طريق شبكات المعلومات والملفات والتحليل الكمي لا يفيد في الإحساس بنبض الجماهير، وحركة الشارع ومسار التاريخ؛ فقد كانت عند أمريكا وإسرائيل أكبر قدر ممكن من المعلومات عن حركة الجيشين المصري والسوري ونقاط توجهاتهما، ولكن أجهزة استخباراتهما عجزت عن التنبؤ باندلاع الحرب الساعة الثانية إلا خمس دقائق ظُهر يوم السبت، السادس من أكتوبر عام ١٩٧٣م، فإرادة الشعوب، والدفاع عن الاستقلال الوطني، وكرامة الأوطان لا يمكن أن تحسب كمًّا عن طريق الحسابات الآلية بل هي كيفيات خالصة حرة لا يمكن التنبؤ بها.
لذلك يأتي الزوار الأجانب على اختلاف تخصصاتهم لمعايشة المنطقة والحديث مع مُثقَّفيها وعلمائها لمساعدتهم على تحديد رؤية لهم لحاضر شعوب المنطقة ومستقبلها؛ فالفكر الوطني أقدر على المعرفة من الزائر الأجنبي، الأول يعرف بالتجربة المعيشة، والثاني بالمعلومات الميتة.
يريد الغرب ألَّا يُؤْخَذ على غِرَّة كما حدث في إيران؛ فقد اندلعت الثورة الإسلامية في إيران في فبراير ١٩٧٩م والغرب يظنها واحة أمان، كما أُخِذَت إسرائيل على غِرَّة في الانتفاضة الأولى، وفوجئت أمريكا بعد احتلال العراق وتغيير النظام بالمقاومة الشعبية العراقية ورفض الشعب العراقي الاحتلال الأمريكي لوطنه. يستعد الغرب للمستقبل، ويستبصر مدى بقاء النظم السياسية الحالية، ويحاور القوى السياسية البديلة المؤثرة في الشارع العربي وعلى رأسها الحركة الإسلامية، والمعارَضة العلمانية، فتحييدها والتعامل معها أفضل من تجاهلها أو مُعاداتها كما تفعل النظم السياسية الحالية؛ فالغرب ليس له صديق أبدي إلا مصالحه، وقد تتغير المصالح من الحاكم إلى المحكوم، ومن الحكومة إلى المعارضة، ومن النظام السياسي إلى أوضاع الشعوب.
ويأتي الزوار الأجانب عن طريق سفاراتهم بالقاهرة؛ فالتنسيق بين العلماء والمفكرين والساسة مع وطنه ومن يمثله في الخارج؛ نظرًا لأن النظام السياسي الذي يعيش فيه يمثله. أتى بانتخاب حر. فبينه وبين مؤسساته تعاون وتفاهم، وليس كالعالم الوطني منا الذي كثيرًا ما يزور الخارج ولا يتصل بسفارته ولا تتصل به سفارته لأنه بينه وبينها عداوة أصيلة؛ فهو من المعارضة التي لا يعترف بها النظام السياسي، ولا يشعر بأن سفارته تمثله، ويعمل بالسفارات الأجنبية في القاهرة موظفون مصريون ولاؤهم لمكان عملهم وليس لوطنهم مصر؛ فالرزق يفرض سلوكه، ويطلبون من علماء مصر تكييف أوقاتهم ومواعيدهم طبقًا للوقت المحدود والمشاغل الكبرى التي لدى الزائر الأجنبي، وحمدًا لله أن العالم المصري قد وقع عليه الاختيار بأن يكون هو الند للزائر الأجنبي؛ فالأجنبي هو الأساس والوطني هو الفرع، الأجنبي صاحب الحق والوطني عليه الواجب.
ويفرح العالِم الوطني بأنه في النهاية سيكون رفيقًا للزائر الأجنبي متحدثًا بالإنجليزية مع الخواجة الأجنبي، وأحيانًا تقترح موظفة السفارة الأجنبية إحضار مترجم مع الزائر؛ لأن العالِم الوطني قد لا تصل قدراته إلى معرفة لغة الزائر الأجنبي، ومن الطبيعي ألَّا يعرف الزائر العربية، وماذا سيأخذ منها إن عرفها؟ وما هي العلوم والثقافة التي سينهل منها إذا تكلمها؟ لقد تربى لدى العالِم الوطني أحيانًا عُقدة نقص في مواجهة الخواجة الأجنبي الذي تربى لديه عقدة عظمة. فيكون الحوار ليس حوارًا بين نِدَّيْن، بل يسأل الأجنبي، وعلى الوطني أن يُجيب، ويتهم الأجنبي، وعلى الوطني أن يدافع. يسأل الأجنبي عن أسباب العنف وكراهية الآخَر والعداء للغرب. كما يسأل عن الأوضاع الداخلية ومدى شعبية نظم الحكم، ولا يسأل الوطني كي يجيب الأجنبي. لا يسأل عن العنف في أيرلندا والباسك، والجريمة المنظمة في الولايات المتحدة، وصعود اليمين المحافظ في أمريكا، واليمين النازي الجديد في أوروبا. الأجنبي هو الذات والوطني هو الموضوع. الأجنبي هو السائل والوطني هو المسئول. الأجنبي هو السيد، والوطني هو العبد، وكلنا في خدمة السيد، حكامًا ومحكومين، سياسيين وعلماء.
والغريب أن العالِم الوطني يفيض بمعلوماته على الزائر الأجنبي، ويعطيه ما يعرف وما لا يعرف، ويبوح له بأخص خصائص الوطن وسراديبه الداخلية؛ فهو سعيد بما لديه من معلومات يجهلها الأجنبي، وقد يضر بالبلاد دون أن يقصد، وقد يمارس المُعارَضة السياسية في غير محلها؛ فهي في داخل الأوطان وليست في خارجها، مع الوطنيين ومع الأجانب؛ فالأجنبي لا يريد بالبلاد خيرًا حتى وإن بدا متعاطفًا مع مطالب المعارضة ومتباعدًا عن السلطة، وقد يكون أحد الأهداف اللاشعورية للعالِم الوطني هو أن ينال الحظوة لدى الأجنبي، وإشراكه في مشروع بحث أو تكليفه بكتابة مقال أو دعوته إلى ندوة أو مؤتمر. وإذا ما كان على صلة بعلماء الخارج فإنه قد ينال حظوة في الداخل في معهده أو مركزه أو جامعته.
متى يعتز العالم الوطني بنفسه، ويعرف قدره، وأنه يعيش لحظة تحول تاريخي، وأنه يتحول من التلميذ إلى المُعلِّم، وأن الأجنبي يتحول من المُعلِّم إلى التلميذ؟ متى يشعر الوطني أن مفاتيح العالم بيده، وأن مسار التاريخ مرهون بموقفه وفكره وفعله؟ متى يفرض احترامه ومواعيده وهيبته على السفارات الأجنبية حتى تُقدره، وتدرك وضعه في وطنه وفي العالم، وأن الزائر الأجنبي هو الذي يحتاج العالِم الوطني؟
(٢) كيف يفكر المُثقَّف العربي في الغرب؟٢
هو المُثقَّف المتغرِّب الذي قضى عمره في الغرب، ولا يحمل من العروبة إلا اسمه، ولا من الإسلام إلا رسمه، ارتبطت مصالحه بالغرب، وأصبح خطابه عن ثقافته العربية الإسلامية موجَّهًا إلى الغرب، يَتبنَّى مواقفه وأهدافه، وهو نموذج يتكرر في المؤتمرات الدولية التي يعقدها الغرب عن الإسلام والمسلمين، ويُدعى إليها بعض المُتغرِّبين من داخل الأوطان أو من خارجها. يتحدثون بلغة الاستشراق، يعطي الأنا العربي أقل ممَّا يستحق، ويعطي الأنا الغربي أكثر ممَّا يستحق.
يأخذ موقفًا نقديًّا من الإسلام، ثقافة وحضارة ودنيا؛ فيقع في صراع الحضارات، ويأخذ موقفًا رافضًا منه شعبًا ومجتمعًا وبشرًا؛ فيقع في العنصرية الأوروبية، ويتبنَّى المنظور الغربي؛ العلمانية باعتبارها هي الحل في مقابل «الإسلام هو الحل»، والواقع أنه لا حلول جاهزة من الموروث أو من الوافد، بل هناك تشخيص لواقع وتحليل للحظة تاريخية، وقد تتعدد الحلول؛ فلا توجد قضية لها حل سحري واحد، بل هناك حلول متعدِّدة.
يأخذ المواقف الغربية، ويتبنى المنظور الغربي؛ فيعتبر الأصولية فاشية كما صرح بذلك الرئيس الأمريكي أخيرًا مُعمِّمًا الحكم على الإسلام كله، بكل تياراته واتجاهاته ومدارسه ومذاهبه عبر أربعة عشر قرنًا، والبديل عن هذا الداء هو دواء العلمانية الناجع، والدليل على ذلك تجربة الغرب، مع أن الغرب لم يَتخلَّ عن تراثه اليهودي المسيحي بل غيَّره وأعاد تشكيله على نحو عقلاني تجريبي بدلًا من استنباطه من النصوص الدينية، وحتى يكون هناك مقياس للصدق خارج النص وعلوم التأويل، يتبنى جدولَ الأعمال الغربي ويدافع عن الأحكام الغربية، ويبعد عن نفسه شبهة أنه مفكر عربي أو إسلامي، ويضع نفسه في مكان ليس فيه، يوحي بأنه مفكر غربي؛ فالغرب حضارة خارج الزمان والمكان، والمفكر الغربي نموذج للمفكر من حيث هو كذلك، المفكر العالمي وليس المحلي كما هي الحال عند المفكرين الوطنيين العرب والهنود والأفارقة، ومن لم يكن غربيًّا فإنه ليس مفكرًا.
وعادةً ما يخلق المفكِّر العربي المُقيم في الغرب أشباحًا من وهمه، لا وجود لها في الواقع، وهي موضوعات أثيرة في الغرب، أقرب إلى الأفكار النمطية الشائعة عن الإسلام والمسلمين؛ مثل موضوع المرأة ووضعها غير المتكافئ مع الرجل في الميراث والشهادة والقوامة والرئاسة وإمامة الصلاة وتعدُّد الزوجات، والطلاق، والحجاب والنقاب؛ فالمرأة عورة تُحْجَب في المنزل، وهي الجسد ولا شيء سواه، هي الأنثى، الزوجة والأم، وليست العالِمة ولا القاضية ولا المناضلة، ويكون ذلك في الوقت الذي يَدَّعي فيه الغرب بأنه المُدافع عن المرأة وقضاياها وأوضاعها، وحقها في العري والشذوذ الجنسي والإجهاض؛ فيبدو وضع المرأة في الإسلام متخلِّفًا قديمًا في حاجة إلى تغيير جذري.
ويُقرَن بموضوع المرأة موضوع الجواري والإماء وشراء النساء في أسواق النخاسة مع أن الموضوع ذاته لم يَعُد له وجود على أرض الواقع؛ وبالتالي لم يَعُد موضوعًا فقهيًّا أو ثقافيًّا، تجاوزَه الواقع، وانقضى بفعل الزمن، ويُقرن به موضوع العبيد بالرغم من انتهاء الظاهرة، وقامت الحرب الأهلية الأمريكية في القرن التاسع عشر لتحرير العبيد. صحيح أن هذه الموضوعات ما زالت مُدوَّنة في كُتب الفقه القديم؛ لأن الفقهاء الجُدد لم يَتجرَّءُوا على حذفها لانقضاء الظاهرة؛ فالفقه بلغة المغاربة علم النوازل؛ أي الوقائع وليس الافتراضات النظرية.
وكي يتقارب المفكِّر العربي في الغرب للغربيين فإنه ينتقي من التراث القديم ما يوافق هواهم، ويضع جدول الأعمال الذي اختاروه من قبلُ والذي يَسهُل نقده وتشويه الإسلام من خلاله؛ فالأخبار السيئة هي الأخبار الصحيحة في حين أن الأخبار السارَّة ليست أخبارًا على الإطلاق، الأولى واقعية، والثانية مثالية، الأولى برهان، والثانية خطابة، الأولى علم ونقد وتحليل، والثانية دعاية ووعظ وتبشير.
ينقل المُثقَّف العربي المُتغَرِّب العِلْم الغربي بحذافيره؛ فهو لم يتغير في نمط تفكيره القديم، وهو مثل السلفي الذي ينقده، نقلًا بنقل؛ فالسلفي ينقل عن القدماء، والمُتغَرِّب ينقل عن المُحْدَثين، يستعمل منهج النقل في كلتا الحالتين وليس منهج العقل ولا التحليل الواقعي، ويعتمد على تمايز الحضارات وخصوصية الثقافات وعقليات الشعوب؛ فهناك العقلية الغربية المُتميِّزة بقدرتها على التنظير والنقد والتحليل في مقابل العقليات السحرية والبدائية والخرافية وهي كل العقليات اللاغربية بما في ذلك العقلية العربية، ويكرر النظريات العنصرية الغربية، وربط الثقافة بالعِرْق، وكما فعل فيليب بطاي في «العقلية العربية»، وهي النظريات التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر، عصر القوميات والصراعات بينها خاصَّةً بين الفرنسية والألمانية.
وقد يتخفى المفكر العربي المتغرب وراء النظريات المجرَّدة والكلام النظري الخالص ليوحي للغربيين بأنه حامل علم من نفس بضاعتهم، ويوحي للعرب الحاضرين بأنهم ما زالوا خُطباء ووعاظًا ومتديِّنِين، وهو ما يتنافَى مع العلم الرصين والبحث الدقيق، وقد تُدرَك الحقائق بأبسط السُّبل وأقصر الطرق، وقد يكون الهدف من التنظير المُفتعَل إخفاء الحقائق أكثر من كشفها، وادعاء العلم أكثر من إعطائه.
ويتبادل المفكرون العرب المتغربون مع المستشرقين الكرة فيما بينهم ويزيحون غيرهم من المُفكِّرين العرب والمُثقَّفين الوطنيين؛ فهم غير مُؤهَّلِين للدخول في هذا النقاش النظري الخالص، وتغلب عليهم الإنشائيات والماينبغيات، وقد يُغرِّد المُثقَّف المُتغرِّب بمفرده ليُوهِم نفسه والآخرين بأنه عالِم منقطع النظير، لا يُشقَّ له غبار، ولا يهم استماع الحاضرين إليه أو فَهْم شيء منه بل ما يهمه هو إثبات أنه عالِم مِغْوار أمام نفسه، وأنه يَتفوَّق على مواطنيه من المُثقَّفين الوطنيين، ولإثبات استقلاله عنهم فإنه قد يعطي إجابات مُخالِفة لإجاباتهم، ولكن الأسئلة واحدة، ونِصْف الإجابة في طريقة وضع السؤال، ويتجاهل تساؤلات مواطنيه العرب الأصلاء؛ لأنه لا يريد الذهاب إلى الأصول بدعوى الحداثة، ولا يريد أن يشك في مسلماته التي نقلها من الغرب، وقد يعلي الصوت في الإجابة غرورًا أو يخفضه تواضعًا، فالإجابة لديه نوع أدبي لإحداث أكبر أثر في السامعين.
والحقيقة أن الدافع وراء كل ذلك ليس العلم ولا المنهج ولا الخلاف في وجهات النظر ولا في النتائج، بل إثبات الجدارة حتى يَتجدَّد عَقْده في جامعته أو تَعرِض عليه جامعة أخرى عقدًا أفضل، وقد يكون الدافع هو القضاء على غربته وبُعده عن وطنه بالارتماء في أحضان الغرب لإيجاد الوطن البديل والحنان الضائع، والمغلوب — كما قال ابن خلدون — مُولَع بتقليد الغالب، وهو لا يعلم أنه مهما باع نفسه ووطنه وثقافته فإن الغرب لن يشتريه؛ فهو ما زال أجنبيًّا مهما قلَّد وتَبنَّى ودافَع عن الغرب؛ فالغرب عنصري في جوهره، لا يقبل الدخلاء عليه مهما تَغرَّبوا، والثقافة الوطنية بُعْد أصيل في المُثقَّف العربي مهما تغيرت الظروف وزادت الضغوط، الروح روح، والبدن بدن، والأصل لا يكون فرعًا، ولا الفرع أصلًا، وربما في نهاية العمر، يعود المُثقَّف المُتغَرِّب إلى وطنه ليقضي الأجَل هناك؛ فالتراب الوطني مثواه إن لم تكن الثقافة الوطنية مبغاه.
(٣) كيف يتحدث المُثقَّف الغربي عن الإسلام؟٣
كثرت المؤتمرات المحلية والدولية عن الإسلام والمسلمين منذ الثورة الإسلامية في إيران في فبراير ١٩٧٩م، وتوالت بإيقاع أسرع منذ الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١م، وأصبحت المؤلَّفات عن الإسلام سريعة البيع والنفاد في طبعات متعددة، والكل يريد أن يعرف ما هذا الإسلام الذي يُهدِّد أوروبا، هويةً وشعبًا وأرضًا؟ وذاعت حوادث الحجاب بين التحريم والإباحة، وازداد التهكم على المقدَّسات الإسلامية في الصحف والإذاعات المسموعة والمرئية وفي الأفلام، وزاد المتخصصون في الإسلام، وانتشروا في كل مكان، أكاديميين وصحفيين وهواة، وزادت المكافآت في أجهزة الإعلام؛ فالحديث الإعلامي عن الإسلام أربح من البحث العلمي الرصين، دقائق معدودات في مقابل عشرات السنين من البحث العلمي الرصين.
فكيف يتحدث المُثقَّف الغربي عن الإسلام في المؤتمرات الدولية؟ الإسلام سلعة رائجة في أجهزة الإعلام ولدى الجمهور، والمتحدث عنه نجم في سماء الفكر، يعرف الحقيقة الخافية على الناس وعلى أصحاب القرار، لا يعرف العربية ويتحدث عن الإسلام وكأنه قرأ أصوله في القرآن والسُّنة وتراثه في شتَّى أنحاء العلوم الإسلامية، ويصدر الأحكام وهو غير عالِم بمظانها، وهو غير متخصص، لم يدرس في أحد أقسام الدراسات الإسلامية في الجامعات الأجنبية المحلية أو الإقليمية أو الدولية، هو صحفي، دبلوماسي، تاجر، رحالة، سائح، هاوٍ، شرطي أو جندي، وزير أو مسئول، موظف أو ملحق دبلوماسي، وفي أحسن الأحوال جامعي درس التاريخ أو الاجتماع، عاش في الوطن العربي، ملحقًا بإحدى الشركات أو السفارات، وقد يكون طالب دراسات عُليا يعد رسائله للماجستير أو الدكتوراه. فأينع قبل الأوان، له مؤلَّفاته عن الإسلام عن طريق السياحة الثقافية والمقابلات مع الكُتَّاب والمفكرين بحجة المقابلة المعمقة والتجارب المعيشة، ويأخذ العلم شفاهًا من الأفواه بعد أن عجز عن الاطلاع على المصادر والمراجع، وقضاء الساعات الطوال في المكتبات العامَّة للبحث والفحص والتحليل؛ فالصحيفة تريد منه مقالًا في أسبوع، يلتقط المعلومات من هنا وهناك، ويقتات على موائد الغير، وهو سريع الانتشار في أجهزة الإعلام، وقته مملوء بالمقابلات والأحاديث والاستشارات، وهو خبير لدى الشركات الكبرى والبنوك التي لها فروع في العالم الإسلامي ليحذرها حين الخطر وقبل فوات الأوان، كما أنه مستشار لدى الأحزاب السياسية أو البرلمانات ومجالس النواب والشيوخ أو حتى جماعات الضغط.
يطلق الأحكام المطلقة من دون برهان هنا وهناك، هو كثير الدهشة، يفتح الأعين والأفواه، يهدد ويتوعد، وينذر ويحذر من خطورة الصحوة الإسلامية بعد أن أُخذ الغرب على غرة باندلاع الثورة الإسلامية في إيران وهي واحة أمان بالنسبة إلى الغرب، ووقوع حوادث الحادي عشر من سبتمبر فجأة حتى شلت قوى أكبر دولة في العالم، ولم تستطع الدفاع عن نفسها، مع أنه يعترف أمام المشاهدين أو الحاضرين بأنه لم يدرس الموضوع، وبأنه يريد أن يسمع أولًا قبل أن يدلي بدلوه حتى يقتات على فتات الآخرين، ويفكر على تفكيرهم كالنبات المتسلق، ويفعل ذلك من أجل تثقيف ذاته، وتنمية قدراته، وتدريب نفسه على الحوار مع المسلمين، والحديث عن الإسلام.
يقول الكل ولا شيء، وينسج خطابًا يدور حول نفسه، لا يخرج إلى عالم، ولا يشير إلى شيء، ويُسْقِط من عالَمه ومن ثقافته على الإسلام الكثير بدعوى المقارَنة ومعرفة الآخر عن طريق الإحالة إلى الذات، ويُسْقِط كثيرًا من تربيته وثقافته وأحكامه الشائعة وصوره النمطية على الإسلام. فيُخْرِج إسلامًا مشوهًا لا صلة له بالإسلام الفعلي، إسلامًا من صنعه وتركيبه وخياله وليس من واقع المسلمين ولا أصول الإسلام، وكما بيَّن باقتدار إدوارد سعيد في كتابه الشهير «الاستشراق» يثير مسائل وهمية من ذهنه لا وجود لها في أرض الواقع؛ مثل الصلة بين الدين والسياسة، بين السُّلطة الدينية والسلطة السياسية، بين الدين والدولة، بين الدين والعلمانية، بين الدين والتقدم، وهو لا يعلم أن ذلك من تاريخ المسيحية الغربية وليس من الإسلام في شيء؛ فلا يوجد في الإسلام فصل بين الدين والسياسة، ولا توجد سلطة دينية أساسًا كالكنيسة بل السلطة مدنية مختارة من الناس عن طريق البيعة؛ أي الانتخاب الطبيعي الحر، والشريعة تقوم على تحقيق المصالح العامَّة وهي الضروريات الخمس: الحياة، والعقل، والدِّين، والعِرض، والمال، وهي أمور فيها الدين والعلمانية في آنٍ واحد، والناس أعلم بشئون دنياها، وخيرهم للناس أنفعهم للناس، والإسلام أتى لإعمار الأرض، وإذا أتى أحدًا ملكُ الموت وفي يده فسيلة فليغرسها حتى يترك الأرض خضراء وليست صفراء قاحلة، فالمسائل من داخل ذهن المستشرق المبتدئ، ومن تاريخ المسيحية في الغرب، والإجابة عنها إسقاطٌ بعد أن يَعْرِض الإسلام على مرآته وفي إطاره المرجعي، وهو غير قادر على الخروج من حضارته وبنية ثقافته ليضع نفسه في منظور الآخَر، ولفهم البدائل الحضارية المختلفة عن اختياره الحضاري، ومن ثَم لا يقدر على فَهْم سؤال يوضع له؛ لأنه لا يمتلك الموضوع الذي يجيب منه بل يقيس الإجابة على ما يعرفه من حضارته من قبل، والنموذج واحد وهو النموذج الغربي، ما اتفق معه كان صحيحًا، وما خالفه كان خاطئًا، وتتحول الإجابة إلى توزيع الاتهامات في حالة المخالفة، والحكم بالتخلف والخلط على الحضارة الإسلامية؛ مثل تخلف الحضارات الشرقية وخلطها بين الحياة الروحية والحياة المادية، بين الحياة الأبدية والحياة الزمنية، بين الآخرة والدنيا. فالمستشرق المبتدئ تعوَّد على نموذج واحد هو «أعطِ ما لقيصر لقيصر، وما لله لله.» وهو الشعار الذي تحوَّل في الممارسة إلى «أعطِ ما لقيصر لقيصر، وما لله لقيصر».
ويضع المُثقَّف الغربي الإسلام كله في سلة واحدة، لا تمييز فيه بين مدارسه المختلفة، بين عقلانية وإيمانية، بين نَصِّيَّة ومَصلحية، بين برهانية وصوفية، كما يضع الغرب أيضًا في سلة واحدة لا تَمايُز فيه بين الاتجاهات والمدارس والمناهج المختلفة؛ فيقارن كلًّا بكل، أو جزءًا بكل، أو كلًّا بجزء؛ فيخطئ في الأحكام، ويكون أشبه بالداعية والمُبشِّر والخطيب الذي يهمه إثارة انتباه المستمعين وجذب انتباه الحاضرين.
وهو سعيد بنفسه، مكتفٍ بذاته، يحمل العلم كله، ويعرف الحقيقة بأكملها مثل الأصولي الإسلامي الذي يتحدث عنه ويحذر منه، يتقرب إليه صغار الباحثين العرب من المهاجرين الجدد، فهو صاحب حظوة في مراكز الإعلام، وصاحب سُلطة في مراكز البحث العلمي، لعله يجد لهم عملًا في صحافته أو مراكز أبحاثه، ويستغلهم هو في جمع المادة العلمية له؛ إذ يحسنون اللغة العربية أو الفارسية أو التركية، ويمدونه بمادتها، ويسهلون له جمعها حتى يقتطف هو ثمارها، ويتباهى بها في المؤتمرات والمنتديات، وقد يستعملهم كمصادر لجمع المعلومات وإيصالها لمراكز اتخاذ القرارات فيما يسمى بالتجسس العلمي من خلال مراكز الأبحاث والعاملين بها من أصحاب البلاد ومن المهاجرين الأجانب، وهم لا يكتمون سرًّا، ويضرون وهم يحسبون أنهم ينفعون.
هذا هو العِلم الزائف، وهذه هي الشهرة المُزيَّفة لمن يَتصدَّى للإسلام من المُثقَّفين الغربيين، على الأقل بعضهم وليسوا جلهم، في المؤتمرات الدولية، يزيدون الزيف على الزيف، ويؤكدون الأفكار النمطية، ويكررون الأحكام الخاطئة؛ فلا يتقدم علم، ولا تتحاور حضارات، وتضيع الإمكانيات، وينقضي العمر، ويأتي الأجل لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ.
(٤) العلم والسياسة
أثارت الإشارات السلبية المُتحيِّزة إلى الإسلام في المحاضرة التي ألقاها بابا الفاتيكان بنيدكت السادس عشر في جامعة ريجنزبرج حفيظة المسلمين عن حق في مشارق الأرض ومغاربها، ولم تنفع محاولات التخفيف من آثارها بالطرق الدبلوماسية التقليدية وبالأعذار النمطية بأنها فُهِمَت خارج سياقها، وأنها قد أسيء فهمها، فالعيب في القارئ وليس في الكتاب، ورفض البابا الاعتذار عمَّا قاله وتأسَّف لرد الفعل السلبي عند المسلمين وكأن العيب فيهم وليس فيه؛ فزاد الطين بلة.
والحقيقة أن ما قاله البابا، وهو أستاذ جامعي سابق، يتنافى مع أبسط نتائج العلم والمعرفة بتاريخ الحضارات، وما استقرَّت عليه الأحكام، كما ينافي أبسط قواعد المنهج العلمي الذي يتباهى به الأوروبيون منذ ديكارت واضع المنهج العقلي، وبيكون واضع المنهج التجريبي وهو الحياد، وعدم البداية بأحكام مسبقة، والوضعية، وعدم اجتزاء الحقائق، والبحث العلمي المُجرَّد أي النزاهة العلمية، وعدم استعمال العلم لتبرير مواقف سياسية مسبقة.
والخطأ في هذه الإشارات في المنهج والنتائج؛ إذ يقوم المنهج على الانتقاء الجزئي، وليس على الإحصاء الشامل لعلاقات الحضارة الإسلامية بالحضارة الأوروبية، وليس الإسلام بالمسيحية؛ فكلاهما حضارة، فاختيار حوار دارَ بين البابا إمانويل الثاني مع مسلم فارسي مجهول في القرن الرابع عشر الميلادي في أتون الحروب الصليبية والعدوان على المسلمين أرضًا وثروة وحضارة وعلمًا؛ تشويهٌ مُتعَمَّد لصورتهم لتبرير العدوان عليهم كما يحدث الآن في وصفهم بالإرهاب والعنف وامتلاك أسلحة الدمار الشامل لتبرير احتلال العراق وأفغانستان والشيشان وكشمير، وهو تيار مستمر في الحضارة الأوروبية. روَّج له التبشير والاستشراق، وكما فعل الأب لامانز تبريرًا للتبشير، نَقْل المسلمين إلى دين أفضل، ولتبرير الاستعمار، نَقْل المسلمين إلى حضارة أرقى.
ومنهج الانتقاء يقوم على اصطياد أسوأ ما في حضارة، وَرَد الكل إليها إذا كانت النية سيئة أو انتقاء أفضل ما في حضارة وَرَد الكل إليها إذا كانت النية حسنة، وهو ما يوقع في الجدل البغيض، وضياع العلم في سوق السياسة، والمنهج الموضوعي الشامل مُحايد، يأخذ الكل ولا يَردُّه إلى أحد أجزائه. فهناك الفيلسوف أبيلار في القرن الثاني عشر تلميذ المسلمين الذي كتب «حوار بين يهودي ومسيحي وفيلسوف»، ويعني بالفيلسوف المسلم الذي أصبح نموذج الفلسفة؛ أي إعمال العقل في الإيمان، بل إنه بيَّن تناقُض أقوال البابوات في كتابه «نعم ولا» كما يفعل علماء الحديث في نقد الروايات وعلماء الأصول في «التعارض والتراجيح»، وهناك الجدليون أيضًا في القرن الحادي عشر الذين أثبتوا تحت تأثير المسلمين تناقض العقائد المسيحية وعدم اتفاقها مع العقل، وعند العالِمِين بالديانات المقارَنة لا يوجد برهان عقلي في المسيحية على التثليث، فالتجسد سر إلهي، كما لا يوجد برهان عقلي في اليهودية على الاختيار والعهد وأرض الميعاد، فتلك إرادة الله، اختار الله بني إسرائيل بمحض مشيئته، وليس بناءً على إيمان به أو طاعة لأنبيائه أو ممارسة للفضيلة. الإسلام وحده الذي أقر اتفاق العقل والنقل، وموافقة صحيح المنقول لصريح المعقول، ودعوة القرآن صريحة للتعقل والتفكير والتدبر والمطالبة بالبرهان قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وكتب ابن سينا وابن طفيل قصة «حي بن يقظان» لبيان اتفاق العقل والوحي، الفيلسوف والنبي على نفس الحقائق: وجود الله، وخلق العالم، وخلود النفس.
وتتعدد لحظات التاريخ، فلماذا لم يذكر البابا الرُّشْدِيَّة اللاتينية وأثر العقلانية عند ابن رشد في نشأة العقلانية في العصر الوسيط المتأخر عند سيجر البرابنتي وأنصاره من النصارى واليهود؟ لماذا لم يذكر حضارة المسلمين في الأندلس؛ غرناطة وقرطبة وأشبيلية وطليطلة، العصر الذهبي للفلسفة اليهودية، وما زالت تفخر به أوروبا عامَّة وإسبانيا خاصَّة؟ ولماذا لم يذكر ابن ميمون وإسبينوزا والعقلانية اليهودية تحت أثر المسلمين؟ ولماذا لم يذكر العلم العربي الذي تُرجم إلى اللاتينية مباشرةً أو عبر العبرية، مناظر ابن الهيثم التي وراء العلم الجديد لجاليليو، وطبيعيات الكندي التي هي وراء الكيمياء الحديثة؟ وهناك مئات الدراسات العلمية على أثر الحضارة الإسلامية على النهضة الأوروبية الحديثة؛ مثل «شمس الإسلام تشرق على الغرب» للمستشرقة الألمانية هونيكه، مواطنة البابا.
والعالِم المتخصص باللاهوت المقارن لا يقول إن مشيئة الله في الإسلام ليست مُطلَقة، فلا يوجد إله في كل الأديان إلا إذا كانت صفاته مُطلَقة، ولكن رحمته تسبق عدله، ورحمته وسعت كل شيء فيغفر لمن يشاء، كما أن العالم بعلم الكلام الإسلامي يعلم أن المعتزلة قالوا بالواجبات العقلية؛ مثل الخلق والتكليف، فالأخلاق قائمة؛ كي تسير أمور الحياة، وقوانين الطبيعة مطردة؛ حتى يعيش الإنسان في عالم موثوق به.
أما ادعاء أن الإسلام انتشر بحد السيف فهو تكرار حكم شائع وصورة نمطية، القصد منها تشويه صورة الإسلام واتهامه بالعنف والإرهاب. لقد انتشر الإسلام في مناطق سادها صراع مرير بين الفرس والروم، وأنهك الشعوب المُستعمَرة من الطرفين، فجاء الإسلام قوة جديدة لفض النزاع بين الإمبراطوريتين، وتحرير الشعوب المُستعمَرة، وإقامة السلام بين الشعوب، ولقد استدعى المقوقس حاكم مصر العرب لتخليصه من ظلم الرومان. وقد اعترف توماس أرنولد في كتابه الشهير «الدعوة إلى الإسلام» أن الإسلام انتشر في أفريقيا في القرون المتأخرة وهو في أضعف لحظاته، ويعلم المؤرخون أن الإسلام انتشر في جنوب شرق آسيا في ماليزيا والملايو والفلبين عن طريق التجارة والمصاهرة. فالإسلام لا يُفرق بين الشعوب «كلكم لآدم، وآدم من تراب.» ولا يعرف نقاء الجنس والعرق واللون الذي عرفته الحضارة الأوروبية بشقيها اليهودي والمسيحي.
والجهاد في الإسلام كما يعلم المختصون دفاع شرعي فقط وليس عدوانًا على أحد لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ المبدأ العام أي إقرار حرية العبادة لجميع الشعوب والعيش في سلام بينها، أما آيات الجهاد فإنها الاستثناء في حالة العدوان على المسلمين أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ، وهي حالة فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير، والإسلام ينتشر الآن في أوروبا وأمريكا بمبادئه وأخلاقه وليس بسيوفه وجيوشه.
وكيف يُقال إن كل ما أتى به الإسلام شرير ولا إنساني، والإسلام رسالة خُلُقية للعالم «إنما بُعثتُ لأُتمم مكارم الأخلاق»؟ الدين معامَلة، وعدم إيذاء الناس، وإماطة الأذى عن الطريق «والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.» لذلك أُعجب المسلمون بأخلاق أفلاطون وأرسطو وسقراط وجالينوس وأبوقراط، وكتب مسكويه «تهذيب الأخلاق» ودونت عدة رسائل في الشرق والغرب عن «الأخلاق في القرآن»، كما ظهر ذلك في التصوف الخلقي وفي الأساس الأخلاقي العبادات والمعامَلات، وقد انتشر الإسلام في الغرب بسبب أخلاقه، قيمه وفضائله ومعايير سلوكه كرد فعل على حضارة الانحلال والموت الحديثة في الغرب.
أما فيما يتعلق بموقف الإسلام من اليهود والنصارى وباقي الديانات فقد اعترف الإسلام بهم جميعًا، وقد خلق الله البشر شعوبًا وقبائل، ولكل منها جعل شرعة ومنهاجًا للتعارف والإثراء المتبادَل وليس للتحارب والتقاتل وعدوان بعضها على البعض الآخر، وقد أبدع الفقه القديم مصطلح «أهل الذمة»؛ أي مَن يعيشون في ذمة المسلمين وفي حمايتهم وليسوا مواطنين من الدرجة الثانية، كما أبدع الفقهاء المعاصرون فقه المواطنة، ومساواة جميع المواطنين في الحقوق والواجبات أمام القانون بصرف النظر عن دينهم وطائفتهم، الشعائر والطقوس لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وأن قانون الاستحقاق، الجزاء من جنس الأعمال، قانون عامٌّ للناس جميعًا، والحاكم الكافر العادل خير عند الله من الحاكم المسلم الظالم.
أما أن الإسلام لم يأتِ بجديد فهذه عظمته وأنه إقرار بما دعا إليه الأنبياء إبراهيم وموسى وعيسى، وما دعت إليه الشرائع الثلاث، بل ما دعت إليه الفطرة البشرية التي أقَرَّها الحكماء وشرعها حِلْف الفضول نصرة المظلوم وأخذ حقه من الظالم. شريعة موسى ومحبة عيسى كلتاهما طريقتان صحيحتان يقرهما الإسلام، والإسلام هو الاختيار الحر بينهما وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ. الإسلام تصديق لكل الأنبياء والرسل. ما ذكر منهم أو لم يذكروا مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ، والمسيح نفسه لم يأتِ بجديد «جئت لا لأنقض الناموس بل لأكمله.» إكمال الشريعة بالأخلاق.
إن الذي يريد الحوار بين الأديان لا يذكر ما يفرقها بل ما يوحدها مثل دعوة الأديان جميعًا للمحبة والأخوة والسلام، ولقد خصصت الكنيسة الكاثوليكية جزءًا من مؤسساتها واهتماماتها لذلك، وإذا كانت أول آية في إنجيل يوحنا التي يذكرها البابا «في البدء كانت الكلمة، وكانت الكلمة مع الله، وكان الله هو الكلمة.» فإنها تشبه الحديث القدسي «أول ما خلق الله خلق العقل، فقال له أَقبِل فأقبلَ، أَدبِرْ فأدَبرَ، وعزتي وجلالي ما خلقتُ أعز إليَّ منك.» ووصف الإسلام السيد المسيح بأنه كلمةُ الله ورح منه، ووصف مريم بأنها سيدة نساء العالمين يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ.
يبدو أن البابا يدفع بالكنيسة الكاثوليكية التي تُمثِّل غالبية المسيحيين إلى تيار محافِظ، مُعادٍ للإسلام والمسلمين، أسوةً بما يحدث في الولايات المتحدة لدى المحافظين الجدد وامتدادًا له، وقد ألقى البابا محاضرته في ١٢ من سبتمبر ٢٠٠٦م وكانت حوادث ١١ من سبتمبر ٢٠٠١م في الذكرى ذاتها وبالنتائج ذاتها، ويتفق ذلك مع صعود اليمين في الغرب، في أوروبا والولايات المتحدة بالرغم من نجاح يسار الوسط في السياسة الإيطالية ممَّا يدل على أن الكنيسة خارج العصر، والقصد اتخاذ الإسلام كعدو بديل عن الشيوعية، والعنف عامٌّ وشائع في المسيحية في الصراع بين البروتستانت والكاثوليك في أيرلندا الشمالية وقتل الأبرياء في تفجيرات الجيش الجمهوري الأيرلندي، وموجود بين الكاثوليك والكاثوليك في بلاد الباسك على الحدود بين فرنسا وإسبانيا، والمذابح بين البروتستانت والكاثوليك في العصور الحديثة؛ مثل مذبحة سانت بارتلمي أشهر من أن تُذْكَر، والعنف بين الهندوس والتاميل في سيريلانكا، والجريمة المنظمة في الولايات المتحدة الأمريكية؛ أي العنف المدني وليس الديني، وعنف المافيا في جنوب إيطاليا.
والقصد من ذلك كله في النهاية إثارة الاتجاه المحافِظ عند المسلمين ودفعهم إلى العنف؛ لأنه يعلم مدى تمسكهم بتراثهم وثقافتهم؛ فيظهر المسلمون على أنهم يرفضون الآخَر ويأسف لذلك وليس لنفسه، كما أن الغرض هو التغطية على قضاياهم السياسية واحتلال أوطانهم في فلسطين والعراق وأفغانستان وكشمير، وتصوير النزاع في بلادهم على أنه نزاع ديني وليس صراعًا سياسيًّا.
إن محاضرة البابا في جامعة ريجنزبرج «الإيمان والعقل والجامعة، ذكريات وتأملات» لا تتحمل التعرض لهذه الإشارات إلى الإسلام، هي خارجة على الموضوع في أي حكم لجنة علمية عليها، وتنتهي إلى مواعظ تقليدية عن أهمية الإيمان ضد العقل الوضعي، وهو ما لا يستدعي الهجوم على إيمان الآخرين، هذا ليس سجالًا دينيًّا بل هو نقد علمي من أستاذ جامعي إلى أستاذ آخَر بصرف النظر عن المناصب في المؤسسة الدينية.
(٥) المؤتمرات الدولية، ما لها وما عليها٥
منذ الثورة الإسلامية في إيران في فبراير ١٩٧٩م كثُرت المؤتمرات حول الإسلام والمسلمين خاصَّةً «الأصولية الإسلامية»، وزاد إيقاعها بعد حادث المنصة في أكتوبر ١٩٨٠م، وظهور الحركات الإسلامية على الساحة في معظم البلدان العربية والإسلامية ووصول البعض منها في الحكم ودخولها في مُعترَك الحياة السياسية كأحزاب شرعية، بل ودخولها حربًا مسلحة في الجزائر، وأصبحت تهدد وحدة الأوطان بالدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في شمال البلاد المُسلِم وعلى جنوبها غير المسلم في غالبتيه عند المحافِظِين أو من دونه عند الليبراليين.
اتسع النطاق بظهور المقاومة الإسلامية في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير، وازدياد الشارع الآسيوي اتجاهًا نحو الإسلام في باكستان والجمهوريات الإسلامية في أواسط آسيا وفي ماليزيا وإندونيسيا. فالإسلام ثقافة الجماهير، وتاريخ البلاد الوطني.
ثم وصل الأمر إلى حد مُبالغ فيه بعد حوادث سبتمبر ٢٠٠١م في واشنطن ونيويورك، وأصبح تنظيم القاعدة هو مصدر الرعب الأول، وكَثُرت المؤتمرات عن الإرهاب والعنف والقوة من ناحية، أو الدين والسلام والحوار والتعايش بين الأديان من ناحية أخرى، ودخل حلف شمال الأطلنطي في الميدان بقوة بعد أن لم يَعُد له مهمة عسكرية لزوال خطر التهديد الروسي وانتهاء حلف وارسو، وأصبحت مهمة ثقافية؛ أي دراسة أيديولوجيا الثورة والتنظيمات الإسلامية كنوع من العمل الوقائي؛ حتى لا يتكرر نموذج الثورة الإسلامية في إيران، ولا تتكرر حوادث واشنطن ونيويورك خاصَّةً بعد حوادث مدريد وتفجير القطار في ٢٠٠٤م. وزادت مُعدَّلات الهجرات من البلدان العربية والدول الإسلامية إلى أوروبا وأصبح الدين الإسلامي الدين الثاني في أوروبا، أربعة عشر مليونًا من المسلمين. فظهرت عادات وسلوكيات جديدة في أوروبا دفعت الهيئات والمنظمات ومراكز الأبحاث إلى تناول موضوعات الإسلام والغرب، الإسلام وأوروبا. بالإضافة إلى ما يروِّجه دعاة صراع الحضارات، وأنصار المحافظة الجديدة واليمين الصاعد إلى اعتبار الإسلام خطرًا على الغرب وليس إضافة حضارية كما كان في بداية العصور الحديثة.
وأُدعى إلى كثير من هذه المؤتمرات وما أكثرها، وأكون في حيرة بين الرفض والقبول. الرفض يعني الانعزال وضياع فرصة التعرف على ما يحدث في العالم الخارجي، والدفاع عن الحق العربي، والإسهام في التخفيف من حدة الاتهامات الموجَّهة إلى الثقافة العربية وتكرار الصور النمطية، وربط العرب والمسلمين بالعنف والإرهاب والتخلف من دون معرفة جذور الإرهاب في الداخل وفي الخارج، في النظم السياسية التي تقوم على القهر والتسلط، ونظام العالم الذي يقوم على القطب الواحد والعدوان على الشعوب المستقلة. والقبول يعني الإرهاق المستمر، والسفر أسبوعيًّا، وتعطيل أبحاثي العلمية والتزاماتي الوطنية داخل البلاد، وأُحسن الاختيار بالقبول بعد أن أرى نفسي العربي الوحيد، وأتصور نفسي غائبًا، ومدى الخسارة من غياب العرب، وهذا ما حدث في البيان الختامي عندما أصررتُ على حذف الفقرة الخاصَّة بإدانة الحرب العادلة والمقصود بها الجهاد؛ لأن الدفاع عن النفس حق مشروع طبقًا لمواثيق الأمم المتحدة، وأيَّدَني سفير تركيا في موسكو في حق الشعب المُحتَل في الدفاع عن نفسه ضد العدوان.
وليست أهمية هذه الندوات والمؤتمرات الدولية فقط كثرتها بل تمويلها وأهدافها. وغالبًا ما يكون التمويل أمريكيًّا مباشرًا أو غير مباشر، والغالب أن تكون أهدافها جمع المعلومات عن الموضوع، والتأثير في الرأي العام عن طريق الحضور الطاغي لأجهزة الإعلام، واختبار صحة النظريات عن طريق سماع آراء الناس فيها وأخذ الآراء المعارَضة بعين الاعتبار.
وقد عُقد في الأسبوع الماضي في موسكو ندوة دولية بعنوان «الدين والسلام، من الإرهاب إلى الأخلاق الشاملة» وكانت الدعوة مُوجَّهة من معهد الاستشراق بأكاديمية العلوم في موسكو، وهو معهد عريق تَخَرَّج فيه عديد من الأساتذة العرب، وعلماؤه مستشرقون جُدُد متعاطفون مع القضايا العربية.
ووافقت على المشاركة بورقة عن «جدل العنف واللاعنف» للبحث عن جذور العنف وتوضيح الفرق بين العنف المرئي والعنف اللامرئي، عنف الفرد وعنف الدولة. العنف كفعل والعنف كرد فعل، العنف القاهر والعنف المحرر إلى آخر هذه الفروق الموجودة في الأدبيات الشائعة في أمريكا اللاتينية.
الغطاء روسي، والتمويل أمريكي، والتنظيم تركي من إحدى الجماعات الموالية للولايات المتحدة الأمريكية. تجمع الكل مصالح واحدة وخطر واحد هو الإرهاب، في الولايات المتحدة ضد تنظيم القاعدة القائم في آسيا، وفي روسيا في المقاومة الشيشانية، وفي تركيا وما يحدث فيها أحيانًا من عنف وانفجارات بين الحين والآخر في بعض البنوك والرموز الغربية، وروسيا في حاجة إلى استضافة مثل هذه الندوات لزيادة العائدات السياحية، وتركيا تلعب على الجميع، على الغرب لقبولها عضوًا في الاتحاد الأوروبي، وعلى أمريكا باعتبارها شريكًا في مقاومة الإرهاب، وعلى روسيا باعتبار أثرها على آسيا الإسلامية وشعوبها من أصل تركي، وأكبر وفد من إندونيسيا لتفجيرات بالي، والجماعات الإسلامية المنتشرة هناك، ووفود كثيرة من أواسط آسيا، وكان هناك ممثلون من قازخستان التي تُبْنى بها أكبر قاعدة أمريكية وسط الاتحاد السوفييتي السابق وبالقرب من الصين. إنها ندوة عن الإسلام الآسيوي.
غلب على الندوة الإعلام خاصَّةً في الجلسة الافتتاحية وكلمات الوفود الرسمية وكلها حديث عن الأخوة والمحبة والتعاون والخطب الإنشائية التي لا تفيد، وألقيت كلمة من وزير عربي للأوقاف عن طريق نائبه أشبه بخطبة مسجد تعتمد على الحجج النقلية عن المحبة والإخاء، والحضور لا يفهم شيئًا وكأن المستَمِع ليس طرفًا في الخطاب، وحضرت الجوانب الاحتفالية؛ مثل الغناء والابتهالات لموسى وعيسى ومحمد، وزرع شجرة وريها بالماء من الوفود في وعاء من زجاج وطين.
والأهم من ذلك كله هو روسيا التي لم تتغير. لقد انهار النظام الشمولي في الواقع ولكنه بقي في الذهن كرؤية للعالم. لم تتحول روسيا من دولة شمولية إلى دولة ليبرالية، وتحول الخطر الخارجي، النظام الرأسمالي وحلف وارسو إلى خطر داخلي من الجماعات الإسلامية بسبب المقاومة الشيشانية. فبالرغم من إصدار تأشيرة الدخول من وزارة الخارجية ووزارة العدل قبل إصدارها في القاهرة إلا أن كل العرب والمسلمين بمن فيهم المصريون حُجِزوا ساعة في المطار قبل الدخول للتأكد من صحة التأشيرة وعدم تزويرها، ولا تعرف الشرطيات في المطار أي لغة أجنبية للتفاهم معهن.
ونظرًا إلى الفقر العام، تنافس العربات الخاصَّة عربات الأجرة في نقل السياح الأجانب إلى الفنادق بخمسين دولارًا للرحلة، وهي لا تتجاوز الدولارات الخمسة، ومرتب الموظف مثل ذلك شهريًّا، ورسوم المناطق السياحية مضاعفة للأجانب، والكل يخضع للنظام دون مبادرات فردية أو حسن تصرف أو إعمال للعقل من دون انتظار للأوامر، والفرد لا وجود له إنما هو جزء من نظام أشمل، وفي الحفلات الرسمية، تعزف الفرقة الموسيقية الصغيرة، فرقة الغرفة المكونة من السيدات أنغام الموسيقى الكلاسيكية الخفيفة، من بقايا روسيا القديمة.
لقد تعاقب على روسيا نظامان قيصريان. الأول القيصرية الكبرى التي انتهت بانتصار الثورة الاشتراكية الكبرى عام ١٩١٧م، ويمثلها بطرس الأكبر وإيفان الرهيب، والثانية القيصرية البديلة بعد ثورة ١٩١٧م والتي مَثَّلها النظام الشمولي باسم الماركسية اللينينية الداروينية والتي انتهت بنهاية النظام الماركسي باسم «البريسترويكا» و«الجلاسنوت» بداية بأوروبا الشرقية واندفاعًا شرقًا حتى موسكو في ١٩٩١م، وفي كلا النظامين يغيب الفرد لصالح الدولة، ويتوارى الفكر الحر لصالح النظام، وتمحى المبادرة الفردية لصالح القَدَر المسبق، وكل ما في موسكو من قصور وكنائس ومبانٍ وميادين وشوارع وعمران كلها من عصر القيصرين القديم والجديد، وكل ما في أذهان الناس وما يتصل بالقوت اليومي من تراكم العهدين السابقين، وقد يكون البديل الثالث هو تحريك الأذهان وتحريك منظمات المجتمع المدني؛ حتى تنعم روسيا بفترة ليبرالية تمثل قيمها؛ مثل الفردية والحرية والعقلانية، ثم تنتقل هذه القيم من الأفراد إلى الجماعات، وتعترف روسيا بحريات الشعوب المنضوية تحت سلطتها في عهد القيصرين السابقين حتى تأمن من الخوف. حينئذٍ تلحق بالغرب إبداعًا لا تقليدًا، ومن موقف الندية وليس من موقف الدونية، وفي التيارات الروحية والوطنية في الثقافة الروسية ما يساعدها على بلورة رؤية جديدة تحافظ من خلالها على أصالتها، وتحرص على إبداعها، وتأمن على نفسها من غوائل الزمان.
(٦) النزعة الإنسانية٦
يفرز الغرب بين الحين والآخر مقولة يشغل بها الناس، وتكون مركز النقاش العالمي في مراكز الأبحاث والجامعات وفي الإعلام والرأي العام؛ مثل «العولمة»، «صدام الحضارات»، «نهاية التاريخ» لتُعبر بها عن الحالة الراهنة للهيمنة الغربية، كما تصدر مقولات أخرى؛ كي تنشغل بها ثقافة العالم الثالث ومنها الثقافة العربية؛ مثل «المجتمع المدني»، «حقوق الإنسان»، «حقوق المرأة»، «الديمقراطية»، «الشرق الأوسط الكبير أو الجديد»، «الإدارة العليا» … إلخ. قد ينجح بعضها في القيام بالدور مثل «المجتمع المدني»، وقد لا ينجح البعض الآخر مثل «العولمة» نظرًا إلى أنها أحد أشكال الهيمنة السياسية والثقافية والسيطرة الاقتصادية، وقيام المظاهرات الشعبية في أرجاء العالم كافة ضدها.
وبدأت مقولات أخرى في الظهور، لم تُسْتَهْلَك بعدُ، وتبدو جديدة. تعبر عن مطلب مستمر في الضمير البشري، وحاجة دائمة في الوعي الإنساني؛ مثل «النزعة الإنسانية» أو «الدراسات الإنسانية»، وهي على النقيض من المقولات العدوانية المادية الاستهلاكية السوقية السابقة؛ إذ تتوجه مراكز الأبحاث الآن لدراسة مثل هذا المفهوم وإعادة قراءة تاريخ الثقافة الغربية من خلاله؛ إذ ينعي الغرب حظه من تدهور هذه النزعة الإنسانية التي كانت سائدة خاصَّةً في القرن الثامن عشر، وهي ليست بعيدة عن مفهوم «حقوق الإنسان»؛ مثال ذلك ما كتبه جابريل مارسل «اللاإنساني ضد الإنساني»، وأورتيجا إي جاسيه «القضاء على النزعة الإنسانية في الفن»، وهيدجر في «رسالة في الإنسان»، ونيتشه في «هذا هو الإنسان»، وجان بول سارتر في محاضرته الشهيرة في جنيف التي دشن بها فلسفة الوجودية «الوجودية نزعة إنسانية».
والهدف من ذلك ليس إحياء النزعة الإنسانية داخل الغرب المعاصر، بل دفع الثقافات اللاغربية نحو هذا المفهوم الذي يُعبِّر عَمَّا تحتاجه شعوب العالم الثالث من تَحوُّل من التمركز حول الله أو الفرد المطلق أو الكون إلى التمركز حول الفرد والإنسان. الهدف هو التوجه نحو شعوب الصين والهند وإندونيسيا وإيران وأواسط آسيا للتعبير عن حاجتها إلى الفردية وتأكيد الذات، الإنسان أو المواطن، وليس الحاكم ولا السلطان، وهم عمالقة المستقبل من حيث عدد السكان والإنتاج الزراعي والصناعي والتقدم العلمي حتى يظل ذلك في يد الغرب وحده، مقصورًا على مجموعة الثماني، ويتم التخطيط لذلك من الآن، خاصَّةً وأن هذه الشعوب تعاني أيضًا من ضعف النزعة الإنسانية. فالصين مشغولة بالمجموع وليس بالفرد، والهند مشغولة بالقوة والمنافسة وليس بالفقر والفقراء أو طائفة المنبوذين.
كما تعبر النزعة الإنسانية عن الحنين إلى الماضي عند اليونان وفي القرن الثامن عشر، عصر حقوق الإنسان والمواطن إبان الثورة الفرنسية بعد أن انتهكت حقوقه داخل الغرب ذاته بصعود النزعات الطائفية والعرقية واليمين المحافظ، وسيادة السوق. والاسترقاق الجديد للشعوب، كما تعبر عن رغبة كامنة لدى شعوب العالم الثالث التي لم تخرج بعد إلى مرحلة الحداثة، وما زال الإنسان مطويًّا في الله أو في السلطان أو في الأب أو الأخ أي «سي السيد» أو في المجتمع والتقاليد والموروث الثقافي بوجه عام. «النزعة الإنسانية» كلمة حق يراد بها باطل، حق؛ لأنها تُعبِّر عن حاجة فعلية لدى الشعوب، وباطل؛ لأن المقصود منها إبعاد الشعوب خارج المركز عن مصالحهم الاقتصادية وسيطرة العولمة عليها، واحتكار الغرب لها.
وقد رُصدت ميزانيات ضخمة في الجامعات ومراكز الأبحاث لهذا الموضوع «النزعة الإنسانية» التي هي الشق البريء للعولمة. فكلاهما عالمِيَّان شمولِيَّان، يُسقِطان الحدود بين المِلَل والنِّحَل والأعراق والثقافات والدول الوطنية لصالح المشترَك بينها وهي النزعة الإنسانية التي لم تمنع من وقوع حروب أو احتلال أوطان أو اختراق حقوق أفراد وجماعات.
وتُعقد الندوات في المركز كإعلان ومؤشر. يحضر فيها المتخصصون من داخل الغرب وخارجه لتكوين الكتائب الإنسانية، والفِرَق الجديدة، ثم تعقد بعد ذلك في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وكأنها ندوات محلية بدوافع وطنية مع جامعات أو مؤسسات مشاركة، وبدلًا من الاستعمار والتبشير تبدأ المؤتمرات والندوات وحلقات البحث والحملات الإعلامية في موضوع النزعة الإنسانية.
ويشارك فيها غير الأوروبيين الذين يودون أخذ الأوروبيين وسيلة للانتقال إلى أوروبا، وجسرًا يعبرون به من الجنوب إلى الشمال. يأخذون موقفًا «عولميًّا» خارج الأوطان، ويأتي بعض المفكرين من جنوب أفريقيا الذين أسهموا في حركات التحرر فيما سبق والآن يريدون إقامة جسر التعاون بين المواطن الجديد والمستعمر القديم. ويتسابقون في التقرب إلى الغرب على حساب بعضهم البعض حتى لو كانوا رفاق نضال من قبل، وحَّدَتْهم الدماء في أثناء النضال الوطني، وفرَّقَتْهم الأقلام في عصر بناء الدولة ثم تعثرها، ويخرج رجال من «الأقليات» من دارفور وكردفان أو جنوب السودان أو من الأمازيغ في المغرب العربي من أجل إيصال صوتهم للأوروبيين المتعاطفين معهم أصلًا، ليس بدافع حقوق الأقليات، بل من أجل تفتيت الأوطان، ويقوم الغرب، من خلال هذه المؤتمرات والندوات بتدريب طلاب الدراسات العليا في البلدان خارج العرب لخلق جيل جديد مؤهَّل لقيادة الأوطان في الداخل تجاه سياسات موالية للغرب. فتعليمه وثقافته ومزاجه ومصلحته في الخارج وليس في الداخل. يُحقِّبون التاريخ مثل الغرب، ويقسمونه إلى قديم ووسيط وحديث، وتوضع الثقافة الإسلامية في الوسيط أي في العصور الوسطى الأوروبية، ويصدرون عليه أحكامًا بالعنف والإرهاب والأصولية مثل الغرب، ويؤرخون لمسار العالم ابتداءً من الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١م والكوارث عديدة، قتل مليون من البشر في رواندا، ومئات الألوف في العراق بعد احتلاله، ولا يذكرون سبتمبر قبله بعام عندما اندلعت المقاومة الفلسطينية ولا يكاد يذكرها أحد.
ويحضر هذه الندوات والمؤتمرات «كادر» عالٍ من الموظفين العموميين أو القسيسين والرهبان؛ لأنهم يوحون بالثقة. فهم أهل الله، وأصحاب الإيمان، وتشارك الجامعات الأوروبية في بودابست وفلورنسا في هذه البحوث والدعوات. فهي جامعات أوروبية أي دولية. يأتي إليها الطلاب من العالم الثالث للتمرين على البحث والتأهيل على العلم، ونقل العلم والتكنولوجيا ممن يملكون إلى من لا يملكون، وتقوم ألمانيا بهذا الدور. فهي مركز النقل في أوروبا وحلقة الاتصال بين شماله وجنوبه، ولم تكن التجربة ناجحة. ولم تمنع من اندلاع الحروب، ووقوع الانقسامات على مدى تاريخ النزعة الإنسانية في مسار الوعي الأوروبي.
لا أحد ينكر قيمة الإنسان، ولكن هل يتم ذلك بالقول أم بالفعل، بالبحث أم بالعمل، بالندوات في قاعات الفنادق الكبرى أم في الحقول والمزارع بين الفلاحين، أو في المصانع بين العمال؟ وماذا عن الخسائر، التصحر في جنوب أفريقيا، وانتشار الأمراض؛ مثل «الإيدز»، والجوع والقحط والجفاف والفقر والضنك؛ نظرًا إلى سوء عدالة التوزيع؟ وتلك مسئولية وزارة الزراعة وليس قوات الأمن ورجال الشرطة.
يفرز الغرب المقولات، والعرب يتلقفونها. يكتب الغرب النصوص، والعرب يشرحونها. «النزعة الإنسانية» مجرد نموذج لما حدث في مؤتمر حولها في «إيسن» في ألمانيا منذ شهور، وتُعد الدورة الثانية في أفريقيا، وربما في مصر، في حضن الأزهر الشريف.
(٧) المؤتمرات التجارية٧
تعرف الأوساط العلمية، الجامعات والمعاهد ومراكز الأبحاث، المؤتمرات العلمية لمناقشة الموضوعات العلمية أو القضايا السياسية أو حال العالم المضطرب للإسهام في تقدم العلم أو التحكم في الظواهر الاجتماعية، وتوجيه مسار التاريخ، وتكون فرصة للتعارف بين العلماء من مختلف الاتجاهات، وربما أيضًا تبادل الوظائف والمناصب الجامعية، وإيجاد فرص جديدة للعمل والرقي المهني. فالعلم وظيفة، والعالم موظف عام في جامعة أو معهد أو مركز للأبحاث. «إن الله لا ينزع العلم انتزاعًا ولكن ينزعه بقبض العلماء.»
ولما سادت العولمة كل شيء، وتحويل الحياة إلى سوق، والعلم إلى تجارة، نشطت المؤتمرات السياحية أخيرًا، والغاية منها تعريف الناس بعضهم ببعض، واللقاء الإنساني في مجتمعات غلبت عليها الفردية والانعزال. غاب الترابط الاجتماعي أو الأخوة الإنسانية أو الحياة المشتركة في عصر العولمة وشبكات المعلومات وتحويل الحاسب الآلي إلى الرفيق الأوحد للإنسان يجعل العالم كله بين يديه، الواقع والممكن، كما نظمت المؤتمرات الطبية ليس لمناقشة موضوعات الطب بل للاستشفاء البدني والنفسي وملء الفراغ الروحي في المجتمعات الأوروبية والذي تحاوله «الكوميونات»؛ أي جماعات العيش المشتركة الدينية أو الاجتماعية أو السياسية أو الأدبية والفنية، وكما بدأت جماعات السان سيمونيين في فرنسا ومصر في القرن التاسع عشر، وهي الجماعات السائدة بين الطلاب والعمال والمُثقَّفين بما في ذلك جماعات الجنس، وهناك مؤتمرات لتسويق الوظائف وتبادل المناصب بدعوى دراسة العمالة، وتقسيم العمل، والهجرة، والشباب، والبطالة، والحراك الاجتماعي، وهناك مؤتمرات للترفيه والتعارف الاجتماعي وإيجاد فرص للحياة خارج المجال الوظيفي، والعودة إلى إنسانية الإنسان، وليس الإنسان المنتج المطحون بالآلة وأدوات الإنتاج في المجتمع الرأسمالي. فيعود الناس إلى الحياة البدائية، ويعيشون وجهًا لوجه، بدلًا من الحياة الحديثة التي أدار فيها كل إنسان ظهره للآخر، ووجهه للحاسب الآلي.
ومن هذه المؤتمرات الجديدة ما تم في تونس في يوليو الماضي من جماعات مجهولة تحت عنوان «التأويل والعلوم الإنسانية» وهو موضوع علمي دقيق، له أهله من المتخصصين. ووضع برنامج تفصيلي من مئات الأوراق على مدى ثلاثة أيام في جلسات موازية، وموجود في موقع على شبكة المعلومات. أسماء مشهورة، وأوراق ذات عناوين براقة، مهرجان للتأويل. ووُضِع اسمي كمتحدث رسمي في جلسة اليوم التالي، ومع الجلسات الافتتاحية هناك ورش عمل تفصيلية لنقاشات حول موائد مستديرة لتعميق موضوعات الجلسات العامَّة، وهو على الورق تنظيم جيد، وبصيرة علمية نافذة، والمكان، فندق أبي نواس للإقامة، ومكان الاجتماع معهد العلوم والتكنولوجيا التابع لجامعة تونس، والافتتاح بحضور وزير التعليم العالي ووزير الثقافة، وبعد إيقافي في مطار قرطاج الدولي عشر ساعات بالرغم من حصولي على تأشيرة دخول؛ فقد كان اليوم الأحد، عطلة رسمية، ولا يوجد مسئول كبير، سُمِح لي أخيرًا بالدخول بأمر من الرئيس لمكانتي العلمية وأستاذيتي المشهود لها بالرغم من أثري على الحركة الإسلامية في تونس.
وامتلأ المؤتمر بالعموميات وإطلاق الأحكام والتطرق إلى العلوم الإنسانية بوجه عام. فالإنسانيات هي كلمة السر في المؤتمرات الدولية الآن للتغطية على العولمة بعد أن خلقت تيارًا مُعاديًا لها، ترث كلمة الإدارة العليا التي تمهد للعولمة، الإدارة كبديل عن الدولة الوطنية. فالدول كالشركات، تدار بموظفين دوليين من الأمم المتحدة أو البنك الدولي أو صندوق النقد.
ويحضر مثل هذه المؤتمرات المئات من الجامعيين والباحثين؛ لأنها جزء من النشاط العلمي الذي يدخل في خبرة الأساتذة، وأحد مسوغات ترقياتهم. فالخبرة أهم من الشهادة، والاشتراك في المؤتمرات العلمية عرض للعلم على المستوى الدولي، ولا يقل أهمية عن الجلوس بالساعات الطويلة في المكتبات وأمام الحاسبات الآلية. تُمولها الجامعة كلها أو على الأقل نسبة كبيرة منها. فالنشاط العلمي لا يقل أهمية عن البحث العلمي والتبادل العلمي، والعمل العلمي المشترك خير من العمل العلمي المنفرد؛ لذلك كانت البحوث المشتركة أهم من البحوث الفردية. فالعلم نشاط جماعي وليس فقط إبداعًا فرديًّا، ويحضر مثل هذه المؤتمرات الأمريكيون والأستراليون أكثر من الأوروبيين. ونادرًا ما يحضر الأفارقة والآسيويون، أمريكا من أجل السيطرة على العالم وتجنيد العلماء للعمل لحسابها، وأستراليا لبُعْدِها القاري في جنوب شرق آسيا، ولتبعيتها لأمريكا أكثر من إنجلترا التي هي الأخرى تابعة لأمريكا لإخراج الأستراليين من عزلتهم الجغرافية بعيدًا عن جنوب شرق آسيا.
ويتم دعوة مشاهير المفكرين والعلماء من أجل إلقاء الكلمات الافتتاحية في الجلسات العلنية المشتركة وكأنهم نجوم الغناء والفن. يريد المشاركون رؤيتهم والاستماع إليهم وإن أمكن حوارهم ووضع ذلك في السيرة الذاتية لزيادة حجمها ووزنها وأهميتها وأثرها على أماكن طلب الوظائف، ولا ضير من إقامة الموائد الفاخرة في أمسيات العشاء في الضواحي السياحية العامرة وعلى شواطئ البحر مثل سي بوسعيد؛ فالسياحة في تونس الدخل الرئيس، ليس فقط لزيارة الآثار في قرطاج والقيروان وسوسة، بل للتمتع بدفئها ومياهها وجمالها المعماري وتراثها العربي في الغناء والصناعات التقليدية والأطعمة الشرقية.
والبرنامج ضخم لتسويق المؤتمر والدعوة إليه. يتناول كل الموضوعات، والحديث في أي موضوع من دون تحديد مسبق، سوق عكاظ، ولا يتعرض للقضايا الكبرى التي ما زال يعيشها ثلاثة أرباع سكان العالم في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية؛ مثل استكمال التحرر الوطني، ومقاومة أشكال الهيمنة الجديدة؛ مثل العولمة، وقضايا العدالة الاجتماعية، والوحدة والتجزئة، والتنمية المستدامة، والهوية ضد التغريب؛ فقد انتهى عصر الروايات الكبرى ولم تبقَ إلا النُّتَف الصغيرة المتشظاة باسم ما بعد الحداثة والتفكيك.
وتقوم عائلة بتنظيم المؤتمر وكأنه تنظيم عائلي شخصي لتقليل المصروفات. فالخصخصة لا حدود لها، والرأسمالية تقوم على العائلات الكبرى، والغاية ليست فقط ما يُعلن منها من موضوعات علمية ولقاءات إنسانية بل الاستثمار، ووضع رأسمال في عمل من أجل استثماره. فالاستثمار في كل مجال حتى في المؤتمرات العلمية والشركات المنظمة له. كل عمل تجارة، وكل تجارة ربح وتجنب الخسارة، وتدار الأموال السائلة بلا إيصالات أو تحويلات رسمية. فالعملية في بيتها، ويبدو القلق في تصرفات إدارة المؤتمر للتفاوت بين الظاهر والباطن، بين ما يُعلن عنه على الملأ وما يخفى في الصدور.
المهم وجود المنظم المشارك في الوطن العربي، المغفل الشريك الذي يود أن يرتبط اسمه أيضًا بالمؤتمرات الدولية للخروج من عزلته، وتحويل عقدة النقص إلى عقد عظمة، والخروج من المحلية إلى الدولية، ومن العزلة إلى المشاركة. هدف مثل هذه المؤتمرات إبعاد المؤسسات العلمية والتعليمية العربية عن الروايات الكبرى وأحلام الخمسينيات والستينيات في العالم الثالث لإعادة تشكيل العالم من مرحلة الاستعمار إلى مرحلة ما بعد الاستعمار، وتحويل الوعي القومي في العالم الثالث إلى صغريات الأمور والروايات الصغرى لما بعد الحداثة والتفكيك والتشظي والتفتيت والبؤر الصغيرة، ولهذا التيار أبطاله من مفكري كل عصر، توم وبين وبول، المروِّجون لروح العصر مثل فقهاء السلطان عندنا. هم موظفو نظم العالم المتجددة باستمرار، هانتنجتون لصراع الحضارات، وفوكو ياما لنهاية التاريخ، والمحافظون الجدد للهيمنة على العالم. هم أنبياء كل عصر، يعبرون عن روحه ويدعون له، ويصاب المُثقَّف الوطني بالغثيان؛ لأنه حتى في الغرب هناك مُثقَّفو السلطان، وقد يفرح بينه وبين نفسه؛ لأنه في الوطن العربي خاصَّةً والعالم الثالث عامَّةً ما زال المُثقَّف الوطني واعيًا بتحولات العالم ومسار الحضارات. يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.