الإسلام في الغرب
(١) رأس السنة الجديدة، أين ولمن؟١
الوقت ليس متأخرًا أن يتذكر الإنسان ما حدث في رأس السنة؛ إذ يحتار الإنسان منا أي رأس سنة جديدة يحتفل؟ فالزمان له دورته اليومية والأسبوعية والشهرية والسنوية. بل له دورته أيضًا كل سنوات خمس في الخطط الخمسية، أو عشر وهو العقد من الزمان، أو ربع القرن أو نصفه أو كله. فإذا طال الزمن تَحوَّل إلى حقبة تاريخية تقصر أو تطول لتصبح عصرًا.
وكل عام يحتفل البعض في صمت، مصريين وأجانب بعيد ميلاد السيد المسيح في ٢٤ من ديسمبر من كل عام، ولا يشعر به أحد إلا القلة. الشوارع مضاءة، والأعلام مرفوعة، والمحلات عامرة، استعدادًا لأسبوع وراءه، رأس السنة الميلادية، مع أن السيد المسيح هو الذي أحيا اليهودية، وحوَّلها من شريعة القلب، ومن الطقوس والشعائر الصورية الخارجية إلى التقوى الباطنية والإيمان الصادق والإخلاص، كما تجلَّى في «الموعظة على الجبل».
ويحتفل مجموع أقباط مصر بيوم آخر، بعد ذلك بأسبوعين في ٧ من يناير من العام التالي خلافًا في يوم ميلاد السيد المسيح بين الكنيسة الغربية والكنيسة الشرقية، بين السنة الشمسية والسنة القمرية، وربما لصراع سياسي بين الغرب والشرق تجسد في صراع على السُّلطة الدينية، وقد أصبح عيدًا وطنيًّا في مصر مثل رأس السنة الهجرية وإجازة رسمية في البلاد، ويشارك جموع المصريين في قُدَّاس منتصف الليل بحضور بابا الأقباط، وممثل رئيس الجمهورية، ورجال الدولة والجيش والشرطة والمُثقَّفين ورجال الإعلام وجماهير غفيرة من المؤمنين، ويذاع القُدَّاس على الهواء ليشارك الغائب الحاضر.
والاحتفال الأعظم ليس هو أعياد ميلاد السيد المسيح بل رأس السنة الميلادية أي يوم ٣١ من ديسمبر من كل عام، والتحول من آخر ليلة في السنة الماضية الساعة الثانية عشرة تمامًا إلى أول لحظة في العام الجديد الأول من يناير. تُطفأ الأنوار وتتلألأ، ويعلو الصراخ، وتتناثر القُبلات، ويعم الفرح، بانتهاء عام وبداية آخر وينشط الرقص، وتُفتح الزجاجات بأنواعها وألوانها وأعمارها كافة، وكلما ازداد التغريب في مجتمع، والتقليد لعادات الغرب خارجه زاد الاحتفال، وغطى كل أعياد ميلاد السيد المسيح، ورأس السنة الهجرية، ورأس السنة اليهودية (روش هاشاناه)، ورءوس السنوات الهندية والصينية، بل أعياد جلوس أباطرة اليابان على العرش. فأصبح عيد رأس السنة الميلادية هو عيد الجميع، عيد العالم. فالحضارات كلها تخضع للتحقيب الغربي الذي ساد منذ تصدر الغرب مركز الريادة في العالم.
ويحتار الإنسان أين يقضيه حتى لا يتأخر عن الركب، ويشارك في البهجة ويفرح، تعويضًا عن حزنه الدفين. فإن لم يجد دعوة خاصَّةً عند أحد الأصدقاء أو المعارف في المنازل فإنه يختار احتفال النوادي. فهو أقل تكلفة من احتفالات الفنادق، وتزدحم النوادي بالمشاركين والحاجزين مبكرًا؛ نظرًا إلى قلة الأماكن وكثرة الراغبين، بالرغم من بُعد المسافات، ووجود الجديد منها على أطراف العاصمة.
ويشتد الصخب بمكبرات الصوت، افتعالًا بالمناسبة حتى ولو كان المكان فارغًا. فالناس لا تأتي إلا قبل منتصف الليل بساعة حتى تتزين وتتهيأ وتتلقى التهاني وتتبادلها عبر الهواتف قبل الخروج، ولأن الفرح لا ينبع من الداخل فإنه يُفرض من الخارج عن طريق الصخب الخارجي الذي يتحول إلى إزعاج. فلا يستطيع صديق أن يُحدِّث صديقًا ولا حبيب يناجي حبيبة، والزجاجات الملونة ممنوعة طبقًا لقانون النوادي. والبعض يُحْضِرها سرًّا. يفتحها تحت المائدة أو يعيد تعبئتها في زجاجات الكوكاكولا. فكلا السائِلَيْن أحمر، ولا يحدُث شيء قبل منتصف الليل. فإذا ما حان الوقت وجاءت اللحظة الحاسمة من عام إلى عام لم يتحرك أحد. فالحركة نقص في الاحترام، ولم يُقبِّل أحد جارته فهو ضد التقاليد والأعراف، ولم يرقص أحد في البداية أو النهاية، فرادى أو ثنائيات أو مجموعات، رجالًا أم نساءً، شبابًا أم أطفالًا. فالرقص خلاعة وتقليد للغربيين وإثارة للغرائز، واقتراف المُحرَّمات، الرقص حرام، وفي الفرح تدمع العين، وبعد الضحك يقال: «اللهم اجعله خيرًا»، والناي آلة الحزن، وعند الصوفية مَن غَضِبَ الله عليه يجعل في قلبه مزمارًا، ثم يهرع الجميع على البوفيه المفتوح بلا نظام. يتقاتل المدعوون على الأصناف، بداية باللحوم، ويقفز كل مشارك فوق الآخر، وتستمر المعركة لمدة ساعة، وتقل الأصناف كيفًا وكمًّا بعد أن أخذ كل مشارك أكثر من طاقته، ومعظمها أطعمة شعبية رخيصة؛ فالنادي يريد الكسب حتى لو استغل، ولعلية القوم طعام خاص يأتيهم على الموائد، الوزير أو رجال الجيش والشرطة والمحافظين ومديري الأمن، وبعد أن تهدأ النفوس وتمتلئ البطون يبدأ مُغنِّي الأفراح يهيئ الناس لإطرابهم، وما من مجيب؛ فما يقدمه ليس فنًّا ولا طربًا، بل عمل في مقابل أجر ليلة رأس السنة، ويبدأ الناس في الانصراف؛ فقد تحقق الغرض، انتهى العام القديم، وبدأ العام الجديد.
وقد يُفضِّل آخَر الذهاب إلى النوادي الأجنبية، الزحام هو نفسه، والجمهور مصري أكثر منه أجنبيًّا أو مصريًّا متغربًا، يرطن بالفرنسية أو الإنجليزية أو اليونانية، جمهور من المُولَّدِين، الفرانكو آراب، صحيح أنهم يرقصون ويفرحون وينطلقون على نغمات الغناء والرقص الغربي، فإذا ما تَحوَّل النَّغَم إلى شرقي، دَبَّت فيهم الحياة إلى أقصاها. وتُغطِّي ألحان نانسي عجرم ورقصاتها على الفالس والتانجو و«التشا تشا» لا فرق بين شاب وشيخ، بين رجل وامرأة؛ فالقلب مصري والشكل غربي، الروح شرقية، والمصلحة غربية، والضجيج هو هو، والصوت المرتفع، والصخب يملأ الأجواء، أما العشاء فلا يسأل عنه أحد، ما دام الشراب مسموحًا به، والفرح بلا حدود أو قيد، وفي منتصف الليل يعلو الصراخ، وتتلألأ الأنوار، وتنهمر القبلات ابتهاجًا بعام جديد، والعشاء سيئ فالناس لم تأتِ للطعام، والاستغلال مُستمِر، أغلى الأسعار وأقل التكاليف، وما يهم النادي هو طلبات الشراب؛ لأنها لا تدخل ضمن الأسعار، والذكي من يُحضر شرابه معه، علنًا لا سرًّا، والثلج والكأس والخدمة متروكة لحُسْن التقدير.
وعند الانصراف في كلتا الحالتين في النوادي العربية أو الأجنبية يقف حارسو السيارات ورجال الأمن ينتظرون العطايا. فمن أنفق مئات الجنيهات لن يبخل هذه الليلة ببعض منها، والبرد قارس، والانتظار طويل، والجوع كافر، وأفراد الأسرة ينتظرون الأب على وجه الصباح وهو حامل لهم إفطار اليوم الأول في العام الجديد. لم يطعموا مع المصريين دون فرح، ولم يفرحوا مع المتغربين دون طعام. حزانى جياع، جمعوا الضررين من دون المنفعتين، وهذا هو المتصل الدائم، سواء كان المحتفلون برأس السنة مصريين أو مُتَمصِّرِين، وهُم فقراء الأمة ومساكينها «اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين.»
والحكماء الذين يقضون الليلة في الفراش في «بطانية بارتي»، يشاهدون عواصم العالم وهي تفرح ليلة رأس السنة، لا يملكون ما ينفقون خارج المنزل، والقلب ثقيل، والنفس حزينة حتى الموت، تكفي القبلات بين أعضاء الأسرة أو الأقارب أو الأصدقاء الحميمين والحجة والعذر: الدفء في الداخل خير من البرد في الخارج، والحميمية خير من الانفتاح.
وفي هذه الليلة ينسى الجميع الدماء التي ما زالت تسيل في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير، ينسون الاحتلال الجاثم على الأوطان، وكأن النصر المؤزر قد تحقق، والاستقلال الوطني قد تم الحفاظ عليه. قد يهرب الإنسان إلى رأس السنة بدعوى «ساعة لقلبك وساعة لربك.» وقد يهرب آخر إلى العكوف والصلاة ضد بدع الكفار وتقاليد العاصين، طالبًا النجاة وسائلًا المغفرة والثواب، وكما دخل المحتفلون آخر ليلة في العام الماضي تاركين همومهم وراءهم، يخرجون إلى العالم في أول يوم من العام الجديد حاملين همومهم معهم.
(٢) من ريح الغرب إلى ريح الشرق٢
إن من أهم العناصر لتحديد معالم الشخصية الوطنية للشعوب هو معرفة دورها في التاريخ ورسالتها التي تحملها عبر الأجيال، وهذه هي اللحظة الفارقة في تاريخ تركيا الحديث، فمنذ الثورة الكمالية، اختارت القيادة السياسية الاتجاه نحو الغرب وتقليده. فالغرب هو نموذج التحديث الوحيد بعد أن تباطأ الإصلاح، ولم ينجز الكثير، ووصل اليونان إلى أبواب أنقرة كما وصلت الدولة العثمانية من قبل إلى أبواب فيينا، ولم يَعُد أنصار الخلافة قادرين على الصمود أمام حركة التاريخ التي تدفع نحو الجديد دون القديم، بعد أن استرعى الجديد الانتباه، ولفَتَ الأنظار، في حين عجز القديم عن حماية الأوطان، وتَكلَّس في أقبية التاريخ.
وبالرغم من تعثر هذا النموذج على مدى نصف قرن، وحدوث رد فعل عليه بالحنين إلى الماضي كما عبَّر عنه حزب رفاه بقيادة أربكان، والدخول في معارك شكلية؛ مثل الحجاب والمدارس الدينية، أو اللجوء إلى الحمية الدينية، وإحياء مشاريع الوحدة الإسلامية، وإثارة الجيش حامي الثورة الكمالية، فإنه استمر على نحو معتدل ومتوازن عند أنصار انضمام تركيا إلى الوحدة الأوروبية؛ فجزء من تركيا في أوروبا، وحضور تركيا في أوروبا واضح للعيان، وقد كان الخليفة العثماني حتى القرن الماضي في مركز ثقل سياسي واقتصادي في أوروبا، والآن يحدث رد فعل جديد على هذه الهرولة بالاندفاع نحو الغرب لدى أنصار التَّوجُّه نحو الشرق، في مقابل «ريح الغرب» ظهر رد فعل في «ريح الشرق»، ورسالة تركيا التاريخية هي التي تحدد الاختيار.
ليست تركيا فقط موقعًا جغرافيًّا يتنازع عليه أنصار ريح الغرب وأنصار ريح الشرق؛ فتركيا جغرافيًّا حلقة اتصال بين الشرق والغرب عبر مضيق الدردنيل والبوسفور، كما أن مصر حلقة اتصال بينهما أيضًا عبر قناة السويس. نصفها في آسيا سيناء، ونصفها الآخَر في أفريقيا، وادي النيل، وليست فقط كيانًا سياسيًّا يقبله الغرب بسهولة إلا امتدادًا للنفوذ الغربي من خلال حلف شمال الأطلنطي نحو الشرق، روسيا والصين، وليست فقط كيانًا اقتصاديًّا فمستوى الدخل القومي للفرد في تركيا أقل منه في أوروبا، وليست فقط كيانًا اجتماعيًّا؛ فما زال ملف حقوق الإنسان في تركيا مفتوحًا، وكذلك ملف الأقليات القبارصة اليونانيين في الجنوب، والأكراد في الشرق. إنما القضية هو الكيان الثقافي؛ فتركيا دولة إسلامية والغرب مسيحي، تَزعَّمت العالم الإسلامي، ومن الصعب أن تكون طرفًا للمركز الأوروبي، العادات والتقاليد والثقافة في تركيا غير متجانسة مع العادات والتقاليد والثقافة في الغرب، وفَرْق بين إعلان المبادئ، قبول انضمام تركيا إلى الوحدة الأوروبية بعد عقد من الزمان، والقبول الفعلي والاختلاط بين الشعوب.
إن الاندفاع نحو الغرب منذ الثورة الكمالية حتى أنصار ريح الغرب والانضمام إلى الوحدة الأوروبية تُقابِلُه صعوبات جمة. فهناك عداء تقليدي في الغرب تجاه تركيا. إذ يعتبرها الغرب دولة آسيوية تُمثِّل جزءًا من الأراضي الأوروبية، وتجعل فيها عاصمتها التاريخية وجامعها الأزرق. حوَّلَت كنيسة أياصوفيا إلى مسجد ثم إلى متحف. استولت على عاصمة الإمبراطورية الرومانية، القسطنطينية، وعاصمة المسيحية الغربية، ووصلت جيوش الإمبراطورية حتى أبواب فينيا بعد أن اجتاحت دول البلقان وأدخلت الإسلام بين شعوبها حتى أصبحت دولٌ بأكملها إسلامية؛ مثل البوسنة والهرسك وألبانيا، واستفحلت الهجرات التركية إلى الغرب خاصَّةً في ألمانيا، وكوَّنت أكبر جالية إسلامية فيها، وكانت صورة التركي في الأدب الغربي صورة المتعصب، الجاهل، زير النساء، القاتل، المتآمر، الغادر، القاسي، الحِسِّي، القاهر، ومن هنا نشأ تعبير «رأس تركي» وبتعبيرنا «الدماغ الحجر» أصبح هو الغريب والدخيل مع الفارسي كما صور مونتسكيو في «رسائل فارسية». ومشكلة أوروبا حاليًّا وقف المد الإسلامي فيها القادم من الشرق، تركيا وباقي الدولة الآسيوية مثل باكستان، والقادم من الجنوب من المغرب العربي إن لم تستطع وَقْف تَحوُّل الأوروبيين أنفسهم إلى الإسلام، بل إن أوروبا ذاتها متجهة نحو الغرب، عبر الأطلنطي، نحو الولايات المتحدة الأمريكية اعتمادًا عليها في الدفاع والحماية والأمن من خلال حلف شمال الأطلنطي، وتمنع المركزية الأوروبية والتي تقوم على أسس عرقية وحضارية من أن تمتد شرقًا وإلا ضاعت هويتها. تركيا بالنسبة إلى الغرب هي مجالها الحيوي، وامتداد لدفاعها وأمنها من حدودها الشرقية ضد اندفاع روسيا والصين نحو الغرب من خلال الامتداد الجغرافي عبر الأورال، تستعمل أوروبا تركيا لصالح أوروبا؛ لذلك قبلت تركيا بسهولة عضوًا في حلف شمال الأطلنطي، ولكن تقف أمامها العقبات للانضمام إلى الوحدة الأوروبية؛ فتركيا تعمل لصالح الغرب ولا يعمل الغرب لصالح تركيا.
وقد استيقظت تركيا أخيرًا عندما قادها الطريق الثالث الممثل في حزب العدالة والتنمية بين «الكمالية» و«الأربكانية»، بين العلمانية والسلفية، كطرفي نقيض. واستطاعت أن تقيم انتخابات برلمانية حرة، ورفضت مرور قوات التحالف الأمريكي البريطاني عَبْر حدودها لغزو العراق من الشمال اعتمادًا على رفض البرلمان وبالأسلوب الديمقراطي الذي يظن الغرب أنه قد تَفرَّد به دون غيره، واتبعت أسلوب الحوار مع دول الجوار خاصَّةً سوريا ومصر، وأدركت أن الغرب نفسه في أفول كما تنبأ بذلك فلاسفته؛ مثل اشبنجلر في «أفول الغرب» وبرجسون وهوسرل وشيلر ورسل وتوينبي ونيتشه، وأن الشرق في نهوض وكما عبَّر عن ذلك جوزيف نيدهام في «العلم والحضارة في الصين القديمة»، وأنور عبد الملك في «ريح الشرق».
والحقيقة أن تركيا جغرافيًّا في الشرق أكثر منها في الغرب، وأنقرة عاصمتها في قلب الأناضول، وامتدادها في كردستان شرقًا أوسع من امتدادها في أوروبا غربًا، وأثرها جنوبًا في الوطن العربي وحضورها فيه أكثر من خمسة قرون أكثر من حضورها في الشمال في شبه جزيرة القرم وفي روسيا، ورصيدها في الوطن العربي ودفاعها عنه ضد الهجمات الاستعمارية الأولى كبير ضد تشويه الاستشراق وأحيانًا غلاة القوميين العرب بالحديث عن الاستعمار التركي والقهر التركي. قُوَّتُها في أواسط آسيا وفي إيران حتى الهند. فاللغات هناك لهجات تركية، وقامت تركيا بالدفاع عنها في أثناء المد الشيوعي الذي قضى على الممالك الإسلامية في آسيا الوسطى، بخارى وسمرقند وطشقند وغيرها. شعر المسلمون في الهند بمقدار الخسارة عندما أُلْغِيت الخلافة، وتُرِك المسلمون بمفردهم من دون حماية في صراعهم مع الهندوس حتى نشأة باكستان كحماية بديلة. ما زالت تركيا دولة إسلامية في ثقافتها وروحها وتاريخها وحاضرها وربما مستقبلها. تشهد نهضة صناعية ويفوق تصديرها استيرادها. ما زال المسلمون يَحنُّون إليها فتنشأ أحزاب جديدة للخلافة في الشرق والغرب من أجل العودة إليها سلمًا أم حربًا، بدأت تتراجع عن تعاملها الوثيق مع إسرائيل في التسليح والاقتصاد، وتقترب أكثر مع دول الجوار، وتقف مع العرب ضد الهجمة الحالية من الغرب على الشرق في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان.
فإذا كانت روح التاريخ قد انتقلت قديمًا من الشرق إلى الغرب، من الصين والهند وفارس وحضارات ما بين النهرين وكنعان ومصر القديمة إلى الغرب عبر اليونان والرومان والعرب حتى أحط أخيرًا في الغرب، أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، فإن روح التاريخ قد تعود الآن من الغرب إلى الشرق، من أوروبا إلى آسيا عَبْر العرب أيضًا؛ نظرًا إلى النهضة الآسيوية الحالية في تركيا وإيران والهند والصين وماليزيا وإندونيسيا وهونج كونج وتايوان وكوريا وتايلاند وسنغافورة؛ وبالتالي يعود حلم الأفغاني من جديد لتأسيس «الجامعة الشرقية»، وحلم السلطان جالييف في تأسيس «جامعة شعوب الشرق» في مواجهة الهيمنة الغربية وعصر الإمبراطورية الأمريكية وإسرائيل الكبرى.
لن تصمد ريح الغرب طويلًا حتى وإن نجحت على الأمد القصير بانضمام تركيا إلى الوحدة الأوربية، وستطغى عليها ريح الشرق على الأمد الطويل حتى لو تعثرت حاليًّا لنقص في الخيال السياسي، وضعف مجموعة الأربع والعشرين الأفريقية الآسيوية أمام قوة مجموعة الثماني. فما زال مؤتمر باندونج حيًّا في الذكريات مع حركة تضامن الشعوب الآسيوية والأفريقية ودول الجنوب والقارات الثلاث، وما زالت آثار قطار الشرق السريع من برلين إلى بغداد وشاعر النيل ينشد «غادة اليابان»، ولقب سيدة الغناء العربي «كوكب الشرق»، وإقبال يسأل: والآن ماذا نفعل يا أمم الشرق؟
(٣) الحديد النار٣
انقضى أكثر من شهر على ثورة المهاجرين المهمشين في ضواحي باريس، والتي استمرت ما يقرب من ثلاثة أسابيع. بدأت عنيفة وخَفَّت حدَّتها بعد ذلك بقانون الثورات والانتفاضات والهَبَّات الشعبية. دلالاتها أهم من أحداثها، والدروس المستفادة منها هي الأبقى في التاريخ بعد أن تندثر الأحداث من الذاكرة، ويطويها النسيان.
كانت أشبه بمظاهرات الشباب في مايو ١٩٦٨م، تلقائية، بدأت بفرنسا، وانتشرت خارجها وإن لم تبلغ حجمها. حرَّكَتها الدوافع ذاتها، التهميش وتسلط الكبار، وعدم المشاركة في تحديد مستقبلهم، والتلقين في التعليم، وبيروقراطية المؤسَّسات، والشعور بالقهر.
وهي ليست فريدة بالعصر الحاضر؛ فقد قامت على مسار التاريخ ثورة العبيد في روما، وثورة القرامطة، وثورة الزنج في بغداد، والهَبَّات الشعبية في تاريخنا المعاصر من أجل الخبز والحرية.
والسبب مزدوج، يرجع إلى طبيعة المجتمعات الأوروبية التي يعيش فيها المهاجرون. فهي مجتمعات عنصرية في اللاوعي الحضاري بالرغم من فلسفات التنوير وقيم الحرية والإخاء والمساواة وحقوق الإنسان والادعاء بأن الحضارة الغربية هي الحضارة العالمية، نموذج التحديث. فما زالت تتعامل في الممارسة بالمعيار المزدوج. ما ينطبق داخل أوروبا لا ينطبق خارجها، وقيم الحرية والديمقراطية والعدالة في الداخل تتحول إلى نقيضها حين ممارستها في الخارج إلى ممارسات القهر والتسلط والاستغلال، بل إنه معيار مزدوج داخل المجتمعات الأوروبية ذاتها. قيم تنطبق على الطبقات العليا والوسطى وتنحسر عن الطبقات الدنيا من المهاجرين والملونين. فالعامل الحاسم في العنصرية في اللاوعي الحضاري الأوروبي هو لون البشرة ثم لكنة اللغة ثم الأصل أو المصدر. فاللون الأبيض هو الأعلى يدنوه الأصفر ثم الأسمر، واللكنة الأوروبية في النطق أعلى من اللكنة الآسيوية والأفريقية، والهجرة الأمريكية اللاتينية أعلى من الهجرة الآسيوية ومن الهجرة الأفريقية. سماهم وزير الداخلية «الحثالة»، وهو المرشح لمنصب رئاسة الجمهورية؛ تملقًا لليمين الأوروبي الصاعد والأحزاب النازية الجديدة، والمحافظين الجدد والمسيحية الصهيونية في الولايات المتحدة.
إن علاقة المركز بالأطراف لا تنطبق فقط على علاقة المركز الأوروبي بأطرافه في آسيا وأفريقيا، بل وينطبق أيضًا داخل المجتمع الأوروبي ذاته داخل المدن. فهناك مراكز المدن في الأحياء الراقية في وسط المدينة التي بها البنوك والشركات ومؤسسات الدولة مثل الأحياء العشرة الأولى في مدينة باريس، وهناك أطرافها التي يسكنها المُلوَّنون والمهاجرون مثل الأحياء الثلاثة الأخيرة، فالأطراف كالمناطق العشوائية في مدننا العربية، أرخص سعرًا وأقل نظافة وأكثر عصيانًا للقانون. تسكنها الأجيال الثانية والثالثة من المهاجرين الذين يحملون الجنسيات الأوروبية أو على الأقل الجنسيات المزدوجة، وفي بيوتها البالية تندلع الحرائق لغياب التأمين عليها، وفي أزقتها تنتشر الجريمة والجنس والمخدرات، وبين شبابها تعم البطالة وينشأ الشعور باللاانتماء. فَهُم ثقافيًّا ما زالوا يعيشون ثقافة الوطن الأم، في اللغة، والعادات والتقاليد والقيم والهوية. أقلية تعيش وسط أغلبية، تصدر عن سلوك الأقليات، والإحساس بالاضطهاد. لا تعمل إلا بالأعمال التي لا يقترب منها الرجل الأبيض، تعبيد الشوارع، البناء، المجاري، تنظيف الطرقات. أقرب إلى العمال المُتجوِّلين، وعمال التراحيل كما هي الحال في بلادنا، وكما شق «الزنوج» في الولايات المتحدة بعد خطفهم من أفريقيا للقيام بالأعمال اليدوية التي لا يقوم بها المهاجرون البيض النازحون في أوروبا كذلك شق عمال شمال أفريقيا الأنفاق لتسيير القطارات.
وبدلًا من تحليل الأسباب الاجتماعية لثورة المُهمَّشِين في العواصم الأوروبية يتم اللجوء إلى الأسباب النمطية التي ما زالت قابعة في اللاوعي السياسي الأوروبي، وهي عنف الإسلام، والثقافة العربية المُتخَلِّفة، والأصولية الإسلامية، وجماعة أسامة بن لادن، وأبي مصعب الزرقاوي، وأيمن الظواهري، وامتداد تنظيم القاعدة داخل أوروبا للانتقام من المجتمعات الأوروبية وتدميرها. فالمهاجرون يأتون من ثقافات غير متحضرة، ويعيشون وسط العالم المتحضر، العالم الحر، ولا يستطيعون التكيف معه، ويمارسون ثقافة الخراب والتدمير. أَلَمْ يلاحظ ابن خلدون من قبل أنه إذا حل العرب بأوطان أسرع إليها الخراب؟ أليس من الأمثال العامَّة «العرب جرب»، وهنا تكشف العنصرية عن رؤيتها للعالم، وتسقط عقليتها على السلوك الإنساني، وينسى الوعي الأوروبي ما نادى به دائمًا من أنه مؤسس العلم الحديث، والمنهج التحليلي للعوامل، والمنهج الاجتماعي، والوضعية الاجتماعية ضد الخرافات والتحيزات والأحكام المسبقة؛ دفاعًا عن الموضوعية والحياد. وإذا كان الإسلام قد أصبح الدين الثاني في أوروبا بعد المسيحية وقبل اليهودية، فإنه ما زال دينًا دخيلًا من خارج الحدود الجغرافية لأوروبا، بالرغم من وجود أغلبية إسلامية في شرق أوروبا، وبالرغم من وجود مسلمين أوروبيين تحولوا إلى الإسلام ولا يمارسون العنف، فإن حبهم للسلام ناتج عن ثقافتهم الأوروبية السابقة وليس من الدين الجديد، والعنف عند البيض لا يقل قوة وانتشارًا عن العنف عند المهاجرين الملونين، وجماعات الجريمة المنظمة عند البيض أكثر تدميرًا لمظاهر المدنية الأوروبية من الجماعات المهاجرة مثل تدمير المبنى الفيدرالي في أوكلاهوما، والغرب يعلم أن الإسلام منذ بداية عصر النهضة أحد المصادر الرئيسة للحضارة الأوروبية في العصر الحديث عبر الترجمات من العربية إلى اللاتينية مباشرةً أو عبر العبرية في طليطلة وبادو وبالرمو وبيزنطة.
لم يكن العنف موجهًا ضد الأشخاص. فقيمة الحياة هي المقصد الأول من مقاصد الشريعة، ولكن ضد الممتلكات ورمزها العربة التي يطمح المهاجر أن يمتلكها. العنف ضِيق نفسي أولًا، واغتراب عن العالم الذي يعيش فيه المهاجر، ببدنه وليس بروحه. الضيق حديد الزنزانة والمعدن الذي تصنع منه العربة. فيتم مقابلة الحديد بالنار، حديد القهر الاجتماعي والمجتمع العنصري والطبقات العليا ونار الغضب والقهر والتهميش والاغتراب. كانت العربات التي تقف أمام منازل الأغنياء هي الهدف الأول، المستحيل الذي يود المهاجر الحصول عليه، ويحدث ذلك في كل الهَبَّات الشعبية مثل ثورة الأمن المركزي في مصر في يناير ١٩٨٦م؛ فهو يحرس الفنادق الكبرى، ويرى من خلال لوحات الزجاج الخارجي الموائد الفاخرة وزجاجات الخمور، وهو يحرسها من الخارج، ومرتبه يساوي ثمن زجاجة مياه معدنية. فتفجر الغضب في نفسه ودمر الواجهات الزجاجية، وهو حارس الأمن للآخرين الذي يفتقد الأمن لنفسه، والعنف في التاريخ أحد دوافعه ومساره وحركته في كثير من الأدبيات الغربية منذ هيجل حتى سوريل.
إن ما حدث في العواصم الأوروبية من ثورة المهاجرين المهمشين لهو مؤشر على ما قد يحدث بصورة أعظم في المستقبل القريب أو البعيد مع تزايد المد العنصري اليميني في الغرب، وتزايد الإحساس بالضنك لدى المهاجرين مع النمو السكاني، وما زال الاستيلاء على الباستيل، نداء «إلى الباستيل» الذي تفوهت به امرأة من العامَّة في الذاكرة الجمعية. فمن مصلحة المجتمع الأوروبي إعادة هيكلة بِنْيَته الاجتماعية بحيث يتم دمج المهاجرين في نسيجه، والحوار مع الداخل يسبق الحوار مع الخارج. تحديث روح أوروبا يسبق تنميتَها وعولمَتَها واقتصادها وأسواقها. الهجرة من الشاطئ الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط إلى شماله إضافة لا نقصٌ، وإيجاب لا سَلْب، تُعبِّر عن وحدة حضارة الحوض عبر آلاف السنين.
(٤) من فجَّر قطارات لندن؟٤
إن البحث عن علل الأشياء وأسبابها يبدو سهلًا في الظاهر ولكنه صعب في الواقع. إذ تتفاوت العلل بين العلة الفاعلة والعلة الغائِيَّة، والعلة الفاعلة مُجرَّد أداة، في حين أن العلة الغائِيَّة هي العلة الفاعلة بالفعل.
وأول ما تبادر إلى الذهن الإرهاب «الإسلامي» دون أدلة أو براهين، وإذا كان هو أحد المسلمين أو بعضًا منهم، فلماذا صفة الإسلامي، خاصَّةً وأن عنف الجيش الأيرلندي لا يُسمَّى الإرهاب الكاثوليكي؟ فالإسلام دين له تفسيرات عدة مثل كل دين، ولا يمثله سلوك واحد، وقد يخرج باسمه سُلُوكان نقيضان، الانتقام والمغفرة، العنف والرِّفق، التعصب والتسامح.
وسرعان ما تخرج إدانة المسلمين لأفعال العنف، يَتبرَّءُون من هذه الفعلة الشنعاء التي قام بها فريق ضالٌّ منهم، إرهابيون من جماعة الجهاد أو القاعدة أو من المنظمات الجهادية في أوروبا. يَتنَصَّلون من بني قومهم ومن إخوتهم في الدين؛ تجنُّبًا لردود الأفعال الغاضبة من البريطانيين، ومن المجتمع الذي يعيشون فيه بعد أن أحسن استقبالهم. فَهُم بريطانيون مسلمون يريدون أن يعيشوا في سلام مع المجتمع البريطاني ولا يُؤخَذون بجريرة السفهاء منهم، ورئيس وزراء بريطانيا يبادلهم التحية بأحسن منها ويردها. فهم بريطانيون أُصلاء وإن كانوا في الأصل من المهاجرين. يعرفون الإسلام الصحيح، ويستنكرون أفعال الفئة الضالة، وما أسهل الإدانة وما أصعب الفهم! ما أسهل الحكم وما أصعب الحيثيات!
ولماذا الذهاب إلى العلة الأيديولوجية، وهي العلة المُحرِّكة على الفعل وليس إلى العلة الجاذِبَة التي دَفعَت إلى الفعل وهي العلة الغائِيَّة؟
إن العلل الحقيقية هي الدافع على الفعل والبواعث عليها والغايات منها، وما دام هناك إنسان فضَّل الشهادة على الموت، وآثَر الآخرة على الدنيا فلا بد أن تكون هناك علة فاعلة أو غاية نبيلة دفعته إلى ذلك. فلا يوجد عاقل يؤدي بنفسه إلى التهلكة، ويأخذ معه حياة الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ وربما من بَنِي وطنه إلا إذا كان هناك دافع قوي يدعوه إلى ذلك.
ما حدث في لندن كان مخطَّطًا له أن يحدث في اسكتلندا حيث اجتماع الدول الثماني الأكثر تصنيعًا في العالم، مجمع رأس المال العالمي من أجل احتكار السوق باسم المنافَسة الحرة، وقد قامت المظاهرات من البريطانيين أنفسهم ضد رموز العولمة الحديثة دفاعًا عن فقراء العالم، ونظرًا إلى اشتداد قبضة الأمن في الشمال خفت ضبطها على الجنوب حدثت تفجيرات لندن. السبب، إذن، ليس فقط السيطرة الاقتصادية على ثروات العالم، بل على التبعية للولايات المتحدة، ومشاركتها في الغزو على العراق، وقتلها عشرات الأطفال والنساء والشيوخ من العراقيين في البصرة والفالوجة، ونهب جزء من عائدات النفط العراقي.
وتستعيد الذاكرة تاريخ بريطانيا الاستعماري في مصر والسودان: قمعها الثورة العرابية في مصر، والثورة المهدية في السودان، وقمعها الثورة في جنوب أفريقيا وعدن، واحتلالها الخليج كله، وهونج كونج وسنغافورة لربط البحار لِسَرَيان الأسطول البريطاني في موانئ عَبْر قارات العالم الخمس ومحيطاته الستة، وأخيرًا وَعْد بلفور في ١٩١٧م لإنشاء وطن قومي لليهود ومساعدة الهجرات الأولى في فلسطين.
وكل مُعتدًى عليه يكتشف مواطن قُوَّته ومواطن ضعف الخصم. قوة الخصم في العدة والعتاد والآلة العسكرية، والطائرات والمدافع والدبابات، وقوة المعتدى عليه في حبه للشهادة وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، وقد حذر الرسول من قبل من حب الحياة وكراهية الموت.
وقد أحدثت تفجيرات قطارات لندن نتائجها، كما أحدثت تفجيرات قطارات مدريد من قبل، فقد تم الإعلان عن ضرورة البحث عن الأسباب التي تؤدي إلى العنف من دون الاكتفاء بالإجراءات الأمنية، وبدأ الإعلان عن ضرورة سحب القوات البريطانية من العراق، بل القوات الأمريكية في ظرف عام؛ فقد شُنَّ العدوان على العراق بأكذوبة أسلحة الدمار الشامل أو القضاء على الإرهاب، واتضح أنه لا وجود لأسلحة الدمار الشامل بل في إسرائيل التي لم يَغْزُها أحد، وبدلًا من القضاء على ما يُسمَّى الإرهاب زاد وتحول إلى مقاومة شعبية شاملة، كما أعلنت إيطاليا على استحياء أنها تود أيضًا سحب القوات الإيطالية من العراق بعد أن قتلت القوات الأمريكية ضابط الأمن الإيطالي وهو في صحبة الصحفية الإيطالية التي أفرج عنها الخاطفون؛ تقديرًا لدورها في تغطية أخبار المقاوَمة.
يفكر الأعداء الآن مرة ومرتين في تكرار النموذج العراقي أو نموذج آخَر على سوريا ولبنان وإيران. لم يَعُد الوطن مستباحًا كما كان لأمريكا وبريطانيا وإسرائيل يفعلون فيه ما يشاءون. أصبحت له حرمة، ليس من نُظُم الحكم التي يؤيد بعضها العدوان الأجنبي على الآخر، ولكن من الشعوب ومن مقاومتها للعدوان. العدو هو المستباح، وهو الذي يحل دمه وتجب مقاومته.
إن العدو لا يعرف إلا القوة ولا يستطيع إلا هي، وقد استعملت المقاومة لغته «لا يفل الحديد إلا الحديد.» «ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة.» ومن ثم ينتهي لوم الضحية ويبدأ التوجه إلى الجلاد.
لقد اكتسب الشعب العربي المناعة؛ فقد نجحت المقاومة في جنوب لبنان في إزالة العدوان الصهيوني من أراضيه، ونجحت المقاومة الفلسطينية في تحويل عدم توازن القوى إلى توازن الرعب؛ حيث فقد الإسرائيلي الأمن بعد أن قام الكيان كله على أسطورة ضمان الأمن، ولم ينفع الجدار العنصري العازل في إتمام عمليات الاستشهاد داخل الخط الأخضر، كما اكتسب الشعب العربي مناعة من درس المقاومة العراقية التي استطاعت النصر على أعتى قوة عسكرية في العالم من أجل تحرير الوطن.
إن وجود بروز ونتوءات في أنظمة العالم الثالث ترفض الدخول في بيت الطاعة؛ مثل المقاومة العراقية والمقاومة الفلسطينية ووجود نظم سياسية قامت بذلك بالفعل في سوريا ولبنان وإيران في مواجهة التهديد، ووجود دول تقدمت بسياسة الاستقلال الوطني مثل ماليزيا، كل ذلك يساعد باقي الدول التي آثرت دخول بيت الطاعة على الخروج منه، وبداية تكوين قطب ثانٍ في مواجهة القطب الأول ليُعاد التوازن إلى العالم، وقد شجع ذلك بعض نظم أمريكا اللاتينية على الاستمرار في المقاومة بالتحالف مع القوى الشعبية ضد هيمنة القطب الواحد، وبالتالي تعود سيرة دول عدم الانحياز من باندونج حتى بغداد بعد خمسين عامًا نموذجًا للاستقلال الوطني من عصر الاستقطاب إلى عصر القطب الواحد. ويقف مد الإمبراطورية الأمريكية الإسرائيلية الجديدة على حدود الوطن العربي والعالم الإسلامي حماية للصين الهدف الأكبر لقوى الهيمنة. فهذا القرن، قرن الصين اقتصادًا، وقرن الإسلام ثقافة.
لقد بدأت عجلة التاريخ في الدوران في الاتجاه المعاكس، ابتداءً من العراق وفلسطين، وربما سوريا ولبنان وإيران إذا ما أرادت الإمبراطورية الصهيونية الأمريكية الجديدة الاستمرار في العدوان، وكما انتصر الغرب في الحرب العالمية الثانية بدخول أمريكا الحرب فقد ينتصر العرب والمسلمون وقوى التحرر في العالم على الإمبراطورية الأمريكية والإسرائيلية الجديدة أيضًا بشن الحرب بعد ما يزيد على نصف قرن وإيقاف مد الهيمنة.
التاريخ موجات، فإذا كان العالم قد مر بموجة التحرر في الخمسينيات والستينيات ثم انخفضت الموجة في السبعينيات والثمانينيات حتى وصلت القاع في التسعينيات وبداية القرن الواحد والعشرين، فإن الموجة تصعد من جديد بفضل قوة الدفع في المقاومة العراقية والفلسطينية، وتكون نهاية الإحساس بالعجز والإحباط والتشاؤم عند العرب. وتستعيد الذاكرة العربية حطين وعين جالوت طبقًا لما تشاهد في بغداد والفالوجة، وكما شاهدت في جنوب لبنان، وما قد تشاهد في سوريا وإيران وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا.
(٥) أبانا الذي في واشنطن٥
حدث تَحوُّل جذري في النصف الثاني من عمر الثورات العربية الأخيرة في أوائل الخمسينيات، بعد هزيمة يونيو (حزيران) ١٩٦٧م بالنسبة إلى الموقف من الولايات المتحدة الأمريكية، وتطور هذا الموقف تدريجيًّا من التعامل معها وهي التي ناصرت إسرائيل ودعمتها في أثناء العدوان إلى التحالف الاستراتيجي الكامل معها، يتنافس العرب مع إسرائيل على إرضائها، ويسرقون الدور التقليدي الذي قامت به إسرائيل، حليف أمريكا في المنطقة وكما حدَّده هرتزل، وبن جوريون جسر الغرب إلى الشرق. فالعرب أقدر على رعاية المصالح الأمريكية من إسرائيل بما لديهم من إمكانات نفطية ومالية وأسواق وعمالة وموقع استراتيجي كثيرًا ما حرصت أمريكا عليه بإدخال المنطقة العربية الإسلامية في دائرة نفوذها عن طريق الأحلاف المباشرة؛ مثل حلف بغداد في أوائل الخمسينيات، حتى الحلف الإسلامي في منتصف الستينيات أو غير المباشرة، بالتدريبات العسكرية المشتركة أو قواعد عسكرية لأسطولها أو اتِّباع سياساتها العربية والإقليمية والدولية.
بدأ هذا التحول بما عُرف بعد هزيمة يونيو (حزيران) ١٩٦٧م باسم «وقفة مع الصديق» والمقصود به الاتحاد السوفييتي؛ إذ إنه لم يورد كل عقود السلاح المتفق عليه مع العرب تعويضًا لتدميره في أثناء الانسحاب من سيناء في ١٩٦٧م، كما أن نوعية السلاح أقل من نوعية السلاح التي تعطيه أمريكا لإسرائيل، ثم ازداد التحول غربًا بقبول مبادرة روجرز للسلام التي لا تخرج عن إطار قرار الأمم المتحدة ٢٤٢ بالانسحاب من الأراضي المحتلة، ثم ازداد الانحراف غربًا في الجمهورية الثانية بعد حرب أكتوبر عندما قيل إن ٩٩٪ من أوراق اللعبة في الشرق الأوسط عامَّة، والصراع العربي الإسرائيلي خاصَّةً في أيدي الولايات المتحدة الأمريكية، وإن بيدها مفاتيح الحرب والسلام، وبعد زيارة رئيس الجمهورية الثانية في مصر للقدس في نوفمبر ١٩٧٧م واتفاقيات كامب ديفيد في ١٩٧٨م، ومعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في ١٩٧٩م تأكد الدور الأمريكي كدور وحيد في الصراع العربي الإسرائيلي، وفي نهاية عصر الاستقطاب وبداية العالم ذي القطب الواحد منذ أوائل التسعينيات وبداية عصر الهيمنة الأمريكي الجديد بدت أمريكا وكأنها هي الوحيدة القادرة على صنع السلام أو شن الحرب. فبدأت محادثات مدريد، واتفاقيات أوسلو، وإقامة السلطة الوطنية الفلسطينية، وكامب ديفيد الثانية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وتمت صياغة خارطة الطريق كحل دائم للقضية الفلسطينية ولا تبتعد كثيرًا عن مبادرة السلام العربية، انسحاب كامل في مقابل التطبيع الكامل، وما زالت الولايات المتحدة هي اللاعب الرئيس في الصراع إيجابًا أم سلبًا بالنسبة إلى المستوطنات والجدار العازل والحل النهائي.
والبعض يبحث في سجل التاريخ عن الصفحات الناصعة في تاريخ العلاقات العربية الأمريكية منذ رفض أمريكا العدوان الثلاثي على مصر في ١٩٥٦م بعد تأميم قناة السويس حتى الضغط الحالي على إسرائيل لإيقاف الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة وفرض خارطة الطريق، وربما مقايضة فلسطين بالعراق.
أصبحت أمريكا عاملًا رئيسًا في كل جانب من الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الوطن العربي والعالم الإسلامي. بيدها الحل والعقد. تُقدم مشاريع الشرق الأوسط الكبير والمتوسطية، وتضع جدول أعمال لإصلاح المنطقة وفي مقدمتها الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والمجتمع المدني، والأقليات، والمرأة.
وأصبحت الحديث العلني والسري على كل لسان. فبعد سيادة المحافظة الجديدة والمسيحية الصهيونية على ذهن الإدارة الأمريكية وقع العدوان على أفغانستان ثم العراق، وأصبح التهديد ماثلًا كل يوم ضد سوريا بذريعة الإرهاب، ولبنان بحجة تطبيق قرار الأمم المتحدة ١٥١٩ لنزع سلاح حزب الله من جنوب لبنان وضمان أمن حدود إسرائيل الشمالية، وإيران بحجة احتمال امتلاك أسلحة نووية وصواريخ يصل مداها إلى مدن إسرائيل، والسودان بحجة دارفور، وليبيا بحجة مساندة الإرهاب قبل أن ترضخ ليبيا لمطالب الغرب والولايات المتحدة، ومصر لحصارها من الشمال والجنوب أو من الداخل بدعوى ملف حقوق الإنسان.
تتحالف معها النظم العربية، خوفًا منها؛ ولاتقاء شرها، ولمساعدتها في الاستمرار في دفة الحكم ضد تململ الشعوب من التمديد والتوريث وقوانين الطوارئ والأحكام العرفية، وتسرع النظم في تنفيذ توجيهات الولايات المتحدة بالاعتراف بالحكومة العراقية وإرسال الممثلين الدبلوماسيين لها، وإدانة المقاومة في فلسطين والعراق تحت مسمى الإرهاب، والاستمرار في قطع العلاقات مع إيران بالرغم من أنها ظهير العرب للدفاع عن فلسطين والعراق والاستقلال الوطني والتعاون النووي، والاستمرار في الخصخصة والدخول في سوق العولمة، والرضوخ لروشتات البنك الدولي في الإصلاح الاقتصادي، بل السماح بإقامة القواعد العسكرية أو التدريبات المشتركة أو أحلاف الدفاع. فالتحالف مع الخارج أكثر أمنًا وضمانًا لاستمرار الحكم من التحالف مع الداخل الرافض كلية لنظم الحكم، وهو وهم كبير لأن التحالف مع الخارج مشروط بمصالح الخارج، وقد تتخلى الولايات المتحدة عن حلفائها إذا ما كانوا عبئًا عليها أو إذا ما أدوا الأدوار المطلوبة منها أو إذا ما تغيرت قواعد اللعبة أو إذا ما خرجوا على بيت الطاعة.
وقد ترتبط بعض أجنحة المعارضة بها لمطالبة تأييدها ضد نظم الحكم القائمة عن طريق تَبنِّي جدول الأعمال الخارجي، والاعتماد على أجهزة الإعلام الخارجية والقنوات الفضائية والوعد بالحكم الرشيد، والإدارة الحسنة ذاتها، ولا غضاضة في مقابلة المسئولين الأمريكيين في السفارات والوزراء الأمريكيين ومستشاري الأمن القومي الأمريكي للتنسيق معهم في خطط المستقبل.
ولا يقتصر العامل الأمريكي على الحياة السياسية والاقتصادية وحدها، بل يتعداها إلى الحياة الاجتماعية والثقافية. فتنشر قيم الاستهلاك ونمط الحياة الأمريكي وبرامج التعليم الأمريكي من أجل السوق. فالتجارة والحقوق والعلوم السياسية بالإنجليزية. والأسماء والمصطلحات في الطعام والشراب واللباس والإسكان وأسماء الشركات كلها بالإنجليزية، وطلب تأشيرات الدخول إلى أمريكا تحتاج شهورًا لإصدارها من كثرة الطالبين، وتتندر المسرحيات الساخرة من «ماما أمريكا»، ومن المواطن الذي سمى طفله «بوش».
والحقيقة أن الولايات المتحدة الأمريكية ليست بهذه الصورة المتضخمة في الوطن العربي، وليست هي العامل الوحيد الحاسم في حياة الشعوب. فهناك شعوب أخرى تعيش في عصر العولمة ولها مثل مشاكلنا في التنمية والاستقلال، تعطي العامل الأمريكي نسبته الصحيحة كأحد العوامل وليس العامل الوحيد؛ إذ هناك عوامل أخرى؛ مثل الاستقلال الوطني، والإرادة الوطنية، والتنمية المستقلة، والمشاركة الشعبية، والاعتماد على الذات، وتنوع مصادر الاستثمار. فالصين وماليزيا لهما تجاربهما المستقلة، وتحققان أعلى معدل للتنمية من أمريكا ذاتها، بل إن منسوجات الصين غزت الأسواق الأمريكية من دون منافس في السعر أو في الجمال أو في الجودة، واستطاعت ماليزيا استيعاب التلاعب بالعملة، وإقامة نهضتها المستقلة، وإتباع سياسات متوازنة بين الشرق والغرب. كما استطاعت تركيا الاعتماد على الشعب وممثليه في مواجهة الضغوط الأمريكية للدخول في قوات التحالف لغزو العراق، وما زالت إيران تنتهج سياسة مستقلة تجاه محاولات أمريكا نزع سلاحها النووي تحقيقًا للأمن القومي الإسرائيلي، وما زالت سوريا صامدة ضد اتهامها بالإرهاب، وما زال الشعب اللبناني يرفض قرار ١٥١٩ دفاعًا عن استقلال لبنان والمقاومة الشعبية فيه ما دام جزء من أراضيه ما زال محتلًّا، بل إن الدول المجاورة للولايات المتحدة؛ مثل فنزويلا وكوبا ما زالا يمثلان تحدِّيًا لسياساتها اعتمادًا على الشعب ضد محاولات الانقلاب ضدهما، وما زالت أوروبا تحاول الحفاظ على استقلالها من التحالف الكلي معها.
لا توجد قوة أبدية في التاريخ، وكل قوة تخضع لقوانين القيام والسقوط، النهضة والانهيار، وقد تكون بوادر الانهيار الأمريكي قد بدأت في الظهور: الانهيار الاقتصادي، وارتفاع أسعار النفط، والحركات المعادية للولايات المتحدة الأمريكية في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، بل في أوروبا وداخل الولايات المتحدة ذاتها. أصبح اليمين المحافظ عبئًا عليها، وغزو العراق وأفغانستان والقتلى الأمريكيون كل يوم جعلها لا تعطي الأولوية لمنكوبي إعصار لويزيانا والمسيسبي الذين تجاوزوا الآلاف العشرة في لويزيانا وحدها، وأكثرهم من الأمريكيين السود الذين لم ينقذهم أحد لا قبل الإعصار ولا بعده؛ لأنهم لا يملكون ما يُحملون عليه خارج مناطق الإعصار، وقوى الطبيعة أقوى من أقوى دولة في العالم، ويلحق شهداء الإعصار الأبرياء بشهداء الفالوجة والقائم والحديثة وأطفال العراق وحصارهم أكثر من خمسة عشر عامًا حتى استشهدوا بالآلاف، «اللهم لا شماتة.»
(٦) النيات والأفعال٦
ويتكشَّف التاريخ بعد وقوع أحداثه، وتعترف أمريكا بأنها غزَت العراق ودمَّرت شعبًا؛ أخذًا بالشُّبهات، امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل بالرغم من عدم عثور المفتشين الدوليين على شيء من ذلك، ولإخفاء الجريمة تَغيَّرت الذريعة من امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل بالفِعل إلى نيته في ذلك، وأصبحت النية ذريعة للعدوان وكأن أمريكا مُطَّلِعة على النيات والسرائر وتحكم على ما في القلوب كالله تمامًا.
ويتكرَّر الشيء ذاته الآن مع إيران، التهديد بالعدوان عليها إن لم توقف تخصيب اليورانيوم، وتخضع نفسها لتفتيش وكالة الطاقة الذرية ولقرارات الأمم المتحدة؛ لأن في نيتها تحويل ذلك إلى أسلحة ذرية بالرغم من إعلان إيران أن أبحاثها لأغراض سلمية خالصة. فأصبح التفتيش في الضمائر والحكم على النيات ذريعة للعدوان على الشعوب وتدمير الدول، وقلب الأنظمة، وخرق القانون الدولي، وجعل القوة هو القانون الوحيد في العلاقات الدولية.
وفي الوقت ذاته تترك الأفعال؛ فإسرائيل تعلن أنها تمتلك سلاحًا نوويًّا، وأنها ترفض تفتيش المنظَّمة الدولية للطاقة الذرية، وأنها لن تُوقِّع على اتفاقية منع انتشار الأسلحة النووية، وهي الدولة الوحيدة في الوطن العربي التي تمتلك أسلحة الدمار الشامل، وهي المحتلة لفلسطين وسوريا ولبنان، وتهدد دائمًا بالتوسُّع والعدوان؛ فهي دولة بلا حدود دولية مُعترَف بها، حدودها هو مدى ما يستطيع أن يصل إليه جيش الدفاع الإسرائيلي.
وتمتلك الهند السلاح النووي والصواريخ بعيدة المدى ولا تُحرِّك أمريكا ساكنًا، بل إنها تؤيدها، وتنكر على باكستان سلاحها النووي وصواريخها خشية أن يقع في أيدي المنظمات «الإرهابية»، والهند تحتل كشمير، وتتعاون مع إسرائيل، وتمتلك كوريا الشمالية السلاح النووي، والصواريخ العابرة للقارات ولا تهددها أمريكا خشية من الصين وروسيا، تفتش أمريكا في نِيَّات الضعفاء وتترك أفعال الأقوياء، تأخذ بالشك، وتترك اليقين.
ولم تكتفِ أمريكا بالهيمنة على العالم، بل أرادت أيضًا الدخول في أعماق النفس البشرية والحكم على نِيَّات أنظمة الحكم، والمحاسبة ليس فقط على الأفعال، بل أيضًا على خاطرات النفس وهمسات القلوب، لا تحاسب فقط على الأفعال، بل أيضًا على الأفكار، وهو يناقض القانون؛ فالقانون لا يحاسب إلا على الأفعال لا على النِّيَّات، وإذا تَحقَّقت النِّيَّات في الأفعال «مع سبق الإصرار والترصد» فإنها تخضع لطائلة القانون؛ لأنها أفعال قَصْدِية وليست مُجرَّد أفعال بالمصادَفة عن غير قصد.
والحكم على النِّيَّات تشديد على الناس ترفضه الشريعة، فلما نزلت آية وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ ضجَّ عمر، وهرع إلى الرسول مُصرِّحًا بأن الإنسان كثيرًا ما تُحدِّثه نفسه بما قد يؤدي إلى الهلاك؛ فنزلت آية أخرى تنسخ الأولى وأرحم بالناس وهي لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ.
تترك أمريكا الحاضر وتحكم على المستقبل، وتصمت عمَّن يمتلكون أسلحة الدمار الشامل كإسرائيل، وتهدد بالعدوان من لديه شبهات نيات على أن يمتلكها في المستقبل، أما عمَّن امتلكها في الماضي كأمريكا وروسيا ومعظم الدول الغربية فقد أصبح حقًّا مكتسبًا لا غبار عليه، البعض له هذا الحق والبعض الآخر يمنع عنه هذا الحق، تُصادِر أمريكا على حق الآخَرين، وتريد إيقاف التاريخ، فما حدث في الماضي لا يتكرر في الحاضر أو المستقبل.
وعلى هذا النحو يتوقف الزمن على الغرب، أوروبا وأمريكا. من امتلك أسلحة الدمار الشامل في الماضي فهذا حقه، ومن يمتلكها في الحاضر فقد لحق بالفريق الأول، ومن يحاول امتلاكها في المستقبل فهو عُرضة للعدوان؛ لأن المستقبل مِلك لمن امتلك الماضي والحاضر، يسير الغرب الأوروبي الأمريكي مع الزمن من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل، ويحاصر الباقي في الزمن بين الماضي الذي كان مُستعمَرًا فيه، والحاضر الذي ما زال يتحرك فيه، والمستقبل المحرَّم عليه.
والذئب آكلٌ الشاة لا محالةَ متحملةً جريرة أبيها، وهو تعكير صفو الماء وقد وُلِدَت بعدَ الذئب، والمياه تتدفق من أعلى إلى أدنى، من الذئب إلى الشاة، ومهما صَحَّت الأعذار أو بطلت، ومهما صدقت الحجج أم كذبت، فإن الذئب آكلٌ للشاة وفي كل الأحوال.
إنه عالم تسوده القوة وليس العدل، وكما انهارت الإمبراطورية الرومانية قديمًا، فقد تنهار الإمبراطورية الأمريكية حديثًا وفي المستقبل الذي ليس ببعيد. هذا هو قانون التاريخ منذ قصص الأنبياء حتى فلسفات التاريخ. القوة بلا عدل تُدمِّر نفسها بنفسها، والعدل بلا قوة ينتصر حين يتمكن من وسائل القوة، قد تدور الدائرة على المحافظين الجدد الذين دمَّروا العالم باسم الله، وأسالوا دماء الشعوب باسم العناية الإلهية، قد ينقلب السِّحر على الساحر بموجة المعاداة للولايات المتحدة التي تعم العالم كله في أوروبا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، وكما سقط الاتحاد السوفييتي طبقًا لنبوءة كثير من المحلِّلِين السياسيين منذ عدة عقود قد تسقط الولايات المتحدة في عقدين من الزمان طبقًا لتحليلات فلاسفة السياسة والتاريخ، وقد تَنبَّأ فرضُ ولاس محمد، زعيم أمة الإسلام من قبل ﺑ «سقوط أمريكا» على أُسس أخلاقية؛ فالقوة لها حدود، والمقاوَمة لا حدود لها، وقد سقطت الفاشية والنازية بعد اجتياحهما لأوروبا، وقد تسقط إسرائيل بعدها، فإذا ما سقط الحامل سقط المحمول.
هناك قوى اشتراكية جديدة صاعدة في العالم خاصَّةً في أمريكا اللاتينية، وهناك قوى إسلامية أخرى صاعدة في العالم في إيران وتركيا وماليزيا وإندونيسيا، وهناك قوى آسيوية اقتصادية أخرى صاعدة في العالم؛ الصين واليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة والهند، قادرة على أن تكوِّن قطبًا ثانيًا في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية؛ وبالتالي يتحول المحاصِر إلى محاصَر، والقفز إلى آسيا عبر أوروبا يتحول إلى القفز إلى أمريكا عبر أوروبا، ويقظة أوروبا قادرة على أن تجعل نفسها ميزان الثقل بين الشرق والغرب في صد الهيمنة الأمريكية على الشرق قفزًا على أوروبا والوطن العربي في ضفتها الجنوبية والشرقية، وبين الشمال والجنوب كجسر بين الأغنياء والفقراء.
إن الحكم على النيات من دون الأفعال هو السبب في شن كثير من الحروب الوقائية أو الاستباقية؛ لإجهاض نية الخصم بتوجيه ضربة إليه، وقد لا يكون عند الخصم مثل هذه النيات. العدوان هو أول إطلاق للرصاص بالفعل وليس بالقول، وفي العدوان الثلاثي على مصر عام ١٩٥٦م كانت الذريعة تأميم قناة السويس وتهديد حرية الملاحة، والعدوان الإسرائيلي على مصر والأردن وسوريا في ١٩٦٧م كان بحجة غلق مضيق شرم الشيخ وطلب سحب قوات الطوارئ الدولية، والأفضل غداء المعتَدِي بالعدو بدلًا من أن يتعشَّى المعتَدى عليه بالعدو.
الأعمال بالنِّيَّات، ولا تكفي النِّيَّات وحدها أن تكون أعمالًا، ويُحاسَب البشر على أعمالهم وليس على نِيَّاتهم، والولايات المتحدة تحكم على النِّيَّات بما لديها من قدرة على قراءة الضمير ومعرفة أسرار النفس؛ فأجهزة التنصت والمراقبة في كل مكان، وكل شيء لديها مكتوب في اللوح المحفوظ.
(٧) الإرهاب … الإرهاب … الإرهاب٧
ما زالت المؤتمرات والندوات وحلقات البحث المحلية والدولية تُعقد منذ عشرات السنوات عن الإرهاب، وقد كُتب حتى الآن ١٤٠٠٠ مقال عن الموضوع، وما زال الغرب لم يفهم الإرهاب، وأُنْفِقَت ملايين الدولارات على البحوث وما زال الموضوع مستمرًّا. لا تخلو جامعة أو مركز بحث خاصَّةً في أمريكا وأوروبا من مشروع حول الإرهاب، ومع الجامعات ومراكز الأبحاث تدخل الأحلاف العسكرية القديمة؛ مثل حلف شمال الأطلنطي، والمخابرات العامَّة، ووزارات الدفاع والخارجية ومجالس الأمن القومي، وهيئات أركان الحرب، والكنائس، والأحزاب، والاتحادات، والنقابات.
وقد عُقدت في مقاطعة توسكانيا بإيطاليا في منتصف الشهر الماضي ندوة دولية عن العوامل النفسية والاجتماعية في تكوين الإرهاب، والقصد كالعادة تجميع المعلومات، وتحليل العوامل، ورصد الإحصائيات، وعمل الرسوم البيانية، والاعتماد على النماذج الرياضية من أجل فَهْم ظاهرة الإرهاب، ولم يكن هناك أي بحث عن الواقع الحي والمعيشي في المخيمات، ورؤية مآسي الشعب الفلسطيني التي قد تُغني عن كل هذه المجردات التي تُعمي أكثر ممَّا تكشف، وتبعد عن الموضوع أكثر ممَّا تقرب منه؛ فالاقتراب من الواقع الحي في فلسطين أو العراق أو أفغانستان أو الشيشان قد يكشف عن العدوان الأمريكي البريطاني الإسرائيلي على الوطن العربي والعالم الإسلامي؛ فوظيفة العلم الكشف وليس التعمية، والدخول في الموضوع وليس الدوران حوله، وعيشه ومعاناته وليس تجريده والابتعاد عنه.
ودعيت إليه أسماء لامعة في البحث العلمي ما يزيد على العشرين أكثر من نصفهم من الولايات المتحدة الأمريكية ثم بريطانيا ثم إسرائيل، ثم باحث واحد من كلٍّ من إسبانيا والنمسا وروسيا والأمم المتحدة وفلسطين ومصر، وتوزَّعت الأوراق على أربعة محاور على أربعة أيام. الأول كيفية دراسة الجذور النفسية والاجتماعية للإرهاب، والثاني البواعث الفردية والجماعية للانخراط في العنف السياسي، والثالث العوامل الاجتماعية والثقافية والدينية والأعمال الاستشهادية التي يطلق عليها لفظ القنابل الانتحارية. والرابع الخطوات العملية لدى علماء النفس والاجتماع للإقلال من خطر الإرهاب.
والغريب أن كل البحوث المقدمة تبدأ من الأحكام المسبقة المعروفة المُكرَّرة آلاف المرات، ربط الإرهاب بالإسلام وبالفلسطينيين وبالعراقيين وبالأفغان، وليس بالمسيحية ولا بالنزاع الدموي بين البروتستانت والكاثوليك في أيرلندا الشمالية، ولا بالصراع في بلاد الباسك على حدود فرنسا وإسبانيا، ولا بالهندوكية وإسالة الدماء في سريلانكا، ولا بالجريمة المنظمة في الولايات المتحدة الأمريكية من اليمين، كما تم في تفجير مبنى الحكومة الاتحادية في أوكلاهوما، ولا باضطهاد المسلمين الأتراك في ألمانيا خاصَّةً، وسوء معاملة العرب والمسلمين في كل أنحاء أوروبا. فالربط جوهري بين الإسلام كدين والإرهاب كعنف، دونما ذِكْر للظروف النفسية السياسية والاجتماعية التي أدَّت إلى استعمال العنف في حالة الاضطهاد، وغياب أي أساليب أخرى للمقاومة، وتؤدي الأحكام المسبقة إلى الإدانة المسبقة؛ فالمقدِّمات هي النتائج، والأهواء هي الحقائق. المقاومة الفلسطينية إرهاب، والمقاومة العراقية إرهاب، والمقاومة الأفغانية إرهاب، وحزب الله تنظيم إرهابي، وسوريا نظام إرهابي يسمح بتسلُّل الإرهابيين العرب عبر الحدود المشترَكة مع العراق، ويؤيد حزب الله، والنظام الإيراني إرهابي؛ لأنه يرفض الدخول في بيت الطاعة الأمريكية دفاعًا عن استقلاله الوطني وحقه في امتلاك القدرات النووية، وإسرائيل مُدجَّجة بأسلحة الدمار الشامل النووية والكيميائية.
وما يُرعِب الولايات المتحدة هو أن تتسرب أسلحة الدمار الشامل إلى «الإرهابيين» وكأنها حِكْر على الدول الكبرى وحدها، ولا ترى خوف الدول الصغرى منها وهي في يد الدول التي هدَفُها العدوان وتكوين إمبراطوريات جديدة مثل أمريكا وإسرائيل، الغاية هي احتكار الإرهاب ضد مَن يقاوم هذا الاحتكار.
والخلط واضح دائمًا بين الإرهاب والمقاوَمة، بين العنف العبثي غير المسئول على أتفه الأسباب، بالرغم من وجود بدائل أخرى كالحوار والحلول السلمية، والعنف الهادف الذي هو حق شرعي للإنسان للدفاع عن النفس في حالة العدوان؛ لذلك لم توجد ورقة واحدة لتحديد معنى الإرهاب، للهروب من الموضوع برمته، وما أسهل التعليل بالجواهر الثابتة؛ مثل الإسلام أو العروبة أي بالأيديولوجيات، وليس بالظواهر الاجتماعية والسياسية طبقًا لرؤية شعوبية عنصرية تلصق الإرهاب وغيره من الظواهر؛ مثل التخلف وغياب حقوق الإنسان ومظاهر الاضطهاد والقهر والتسلط بطبائع الشعوب والثقافات!
وتغطي الأوراق كل شيء فرعي وتترك كل شيء رئيس. تتكلم عن رُدود أفعال الإرهاب عند أطفال فلسطين، وأثر تدمير المدارس في نفسيتهم، وكيفية التأقلم مع الإرهاب، ورغبتهم في العيش في سلام! ولا شيء يُذكر عن الاحتلال وإرهاب الدولة. فالإرهاب من الفلسطيني للفلسطيني، وليس من الإسرائيلي إلى الفلسطيني.
ويحضر الأمريكيون والإسرائيليون بكثافة فَهُم الضحية! ويغيب العرب والمسلمون إلا القليل فَهُم الجلادون! ويتحول المؤتمر أو الندوة إلى إرهاب الأغلبية للأقلية، وقد يحضر باحث عربي أمريكي يفكر على استحياء، ويتكلم بحساب، ويَتحوَّل العِلْم الرصين إلى سياسة فاضحة، وتتحول وجهات النظر المختلفة إلى صراع قوي، وينتقل الصراع بين العدوان والمقاومة في فلسطين والعراق وأفغانستان إلى حلقات البحث والندوات العلمية. فالباحث يدافع عن سياسات ولا يبحث عن حقائق، وهو ما يثير من جديد قضية الصلة بين المؤسسة الأكاديمية والمؤسسة السياسية، والاستقلال العلمي للجامعات، وهو السؤال ذاته المثار لدينا بين المؤسسة الدينية والإعلامية من ناحية، والنظام السياسي من ناحية أخرى.
ويشعر الباحث العربي أنه واقع تحت إرهاب العِلْم ونظام العالم والكون، ويشعر بضعفه وعجزه وغياب العرب، ويقدر الشهيد الذي يسمونه «القنبلة الانتحارية» الذي لم يَعُد له وطن ولا قريب ولا صديق، ولا يملك إلا نفسه يضحي بها طواعية واختيارًا. لا يملك أسلحة الدمار من طائرات وصواريخ ومدرعات حتى يقاوم جيشًا لجيش في معركة متساوية الأطراف. الغلبة فيها لمن يحسن القتال.
وكان السؤال في النهاية: مَن يُرهِب مَن؟ مَن يخاف مَن؟ إنه الصراع الأبدي بين القوي والضعيف، بين الغالب والمغلوب، بين من يملك كل شيء ومن لا يملك شيئًا، بين الجلاد والضحية.
وواضح أن مراكز الأبحاث في الغرب والولايات المتحدة ما زالت تفكر وكأنها ما زالت في أجواء الحرب الباردة. موضوعاتها الموضوعات القديمة ذاتها؛ مثل العنف، الإرهاب، الصراع، الحرب. ما زالت الذهنية في عصر الحرب الباردة، ولم تحاول مد النظر إلى الأمام بعد الاعتراف المتبادل بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وبعد التسليم بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس، ولقد رضي العالم كله بخارطة الطريق كدليل ومؤشِّر على طريق السلام. لم تتناول الأبحاث موضوعات مستقبلية؛ مثل آفاق السلام، طُرق السلام، شروط السلام، العيش المشترَك، التنمية المشتركة، استثمار الموارد، المياه، الطاقة، العمالة. هذا لمن ينوي السلام، ومن الواضح أن الغرب يتحدث عن السلام ويفكر في الحرب مثل إسرائيل تمامًا، ومراكز الأبحاث تعلم ذلك، وما زالت تُخطط للحرب باسم الحرب على الإرهاب، بالغزو مرة، وبمشاريع الشرق الأوسط الكبير والشرق أوسطية مرة أخرى.
فمتى يَتغيَّر الغرب ذهنيًّا؟ ومتى يعترف بالآخَر المساوي له والكفء في الحوار معه؟ وما زالت المركزية الأوروبية مصدر العنصرية الدفين هي التي تُوجِّه مراكز الأبحاث ما دام الاستقطاب قائمًا بين المركز والأطراف.