تداعي الدولة البيزنطية
لقد كانت الإمبراطورية البيزنطية التي عَرَفها العثمانيون واحتكوا بها جزءًا من الإمبراطورية الرومانية الشرقية السابقة، كانت دولة قد سيطر البنادقة والجُنويون على حياتها الاقتصادية، وكانت كثيرًا ما تقع فريسة لعُدوانهما وأطماعهما. وكثيرًا ما وجدت نفسها حائرة بينهما، إذا صادقت فريقًا اعتدى عليها الفريق الآخر.
عمرت الدولة البيزنطية أو الدولة الإغريقية نحو ألف عام، قاست في خلالها من المِحَن والأهوال ما لم تُقاسِه دولة أخرى، وداهمتها خطوب لو أنها داهمت دولة غيرها لقضت عليها قضاءً مبرمًا، ومرَّت في أزمات داخلية وخارجية عظيمة، وأدَّت للمسيحية ولأوروبا المسيحية خدمات جليلة تكل تحت عبئها أعظم الدول وأقواها.
ولكن الدول كالأفراد تمامًا لها صِباها ولها شبابها، ولها كهولتها وهرمها؛ ففي القرن الرابع عشر الميلادي أخذ الهرم والهُزال والسقم يدب حقيقة في جسمها، فشُلَّت قوتها، ونالها الاضمحلال فأوشكت على الانهيار، هذا في الوقت الذي كانت فيه نظم الأتراك العثمانيين تزداد كل يوم إحكامًا وقوة، وتسعى للحياة والعظمة ثابتة متفوقة …
سيطر في هذه الدولة نظام المَلَكية الإمبراطورية، وهي مَلَكية مستبدَّة مقدسة ليس لسلطتها حد، فهي مستمَدة من الله مباشرة كما كان يُعتقد في ذلك الوقت. فالإمبراطور ملك وقِسيس معًا؛ فهو إذن فوق القانون، وهو رأس الهيئة التنفيذية، وفي يده تتركَّز السلطة التشريعية، وهو يُشرف على الإدارة ويحكم الكنيسة كما يحكم الدولة.
وتمتع الإمبراطور البيزنطي في ظل مُلك ثابت الأوتاد بفخامة وعظمة لا مَزيد عليهما، ورأى من أيام المجد ما لم يُدَانِهِ إلا أيام البؤس، فكانت الثورات كثيرًا ما تقوم عليه حتى من أفراد عائلته، بل من أولاده وإخوته فتقضي على قوته وتنزع ملكه، فمات عدد كبير من الأباطرة غدرًا، أو هلكوا في ميادين القتال وهم يعملون على قمع ثورات هاجت عليهم.
في الملكية المستبِدَّة يعتمد كل شيء في الدولة على ميول الحاكم وهواه وشخصيته إن كانت ضعيفة أو قوية، خَيِّرة أو شريرة، صريحة أو ماكرة معوجَّة، وعلى خبرته في الحياة وفي الحكومة، في مثل هذه الملكية يصبح قصر الحاكم مقر الدولة الحقيقي ومركز كل شيء، ومصدر كل سلطة، وفيه تُوضَع المشاريع والخُطط، فتنشأ الدسائس وتدور المؤامرات. ففي ذلك البلاط البيزنطي الممتلئ بذوي الأطماع وذوي الأحقاد والحافل بالرقيق المجلوب من كل مكان وبالنساء والموظفين، كثرت الدسائس، وفكَّر كل شخص في نفسه قبل كل شيء، وتتابَع سقوط الوزراء ونبغ ذوو الشخصيات القوية أو من يستطيعون التقرُّب والزُّلفى والتقلُّب مع الزمن.
والواقع أن تاريخ الإمبراطورية البيزنطية مملوء بالثورات والفتن والانقلابات السياسية. وبالرغم من أن النساء حُجِزْنَ وراء الأسوار والحيطان فقد لَعِبْنَ دَوْرًا مهمًّا في حياة هذه الدولة المديدة الأجل، ومن قرأ التاريخ البيزنطي ولم يذكر اسم تيودورا أو إيرين؟!
وتجمَّعت مزدحمة حول الإمبراطور أرستقراطية قوية تحل في كثير من الوظائف الهامة في الدولة، وتتمتع بجانب كبير من الجاه والثروة والنفوذ، وتهتمُّ بالمأكل الغذي المتنوع والملبس المترف، وتَركَن إلى حياة الملذات والشهوات.
قامت إدارة الإمبراطورية في الأصل على أساس نُظُم حربية، فالبيزنطيون يعتبرون أن قيمة الجيش للدولة كقيمة الرأس بالنسبة للجسم؛ ولذا كان الاهتمام به دائمًا عظيمًا، وكلما كان الجيش قويًّا ومنظمًا طالت حياة الإمبراطورية ونعمت بمركز قوي في أوروبا وآسيا، واستطاعت أن ترد أعداءها على أعقابهم خاسرين.
وكانت الإمبراطورية تجند في مبدأ الأمر أهالي البلاد، وبجانب هذا لجأت إلى استخدام الجنود المرتزِقة لثقتها فيهم؛ فلقد كانوا محترفين للحرب ولهم دراية بفَنِّها، ثم هم أقوى أجسامًا وأصلب عودًا من الأهالي وأقدر على تحمُّل الصعاب والمكاره، وكان الإمبراطور عادة كريمًا في معاملتهم، لا يضن عليهم بالمال، بل ويمنحهم الأراضي الكثيرة وجعلها وراثية في أبنائهم من بعدهم.
وتبعًا لذلك النظام كان الجيش خليطًا من شعوب مختلفة عديدة، مكوَّنًا من عناصرَ غريبة لا يجمع بينها سوى حب المال والثراء والمغامرة، وفي كثير من الأحيان حب السلب والنهب والغنائم، فكانت هذه العناصر متباينة من حيث الميول والجنس واللغة والدين، ففيه الأوروبيون والآسيويون، وفيه القوط والهون والصقالبة، والترك والعرب، والإسبان والإيطاليون، والألمان ورجال الشمال من روسيا واسكنديناوه.
لقد كان لهذه الجنود أحياء خاصة في القسطنطينية تكاد تكون مستقلَّة، وكان لا بد لهم من قيادة حازمة قوية تستطيع كبح جماحهم وإيقافهم عند حَدِّهِمِ، وحين مس الدولة العجز في هاتين الناحيتين قاست الدولة من هؤلاء المرتزِقة الأَمَرَّيْن، فكانوا أخطر الناس على حياتها ونُظُمِهَا من الأعداء الخارجيين؛ إذ كانوا أدرى من غيرهم بمواطِنِ الضعف في الدولة.
أما من حيث القوة البحرية، فلقد كانت الدولة البيزنطية — بحكم موقعها الجغرافي وإرثها التاريخي — دولة بحرية ممتازة. وإلى القرن الثامن كان أسطولها من القوة بحيث استطاعت الأشراف على البحار الشرقية حينًا من الدهر طويلًا. وإلى الأسطول يرجع الفضل في إنقاذ حياة الدولة مرارًا. ثم أُهْمِلَ الأسطول نسبيًّا فترة من الزمن؛ أولًا: لأن الحرب مع الخلافة العباسية — أكبر أعداء بيزنطة — كانت حربًا بَرِّيَّة قبل كل شيء، ثانيًا: لخشية الأباطرة ازدياد قوة رجال الأسطول إلى درجة يُخاف منها على الإمبراطورية نفسها. ومن هنا كانت الدولة البيزنطية عاجزة عن المحافظة على جزر الأرخبيل اليوناني من غارات المسلمين حين سيطر هؤلاء على جزيرة كريت ثم على جزيرة صقلية.
وفي نهاية القرن التاسع الميلادي عاد للدولة رُشدها فقررت إعادة تنظيم الأسطول، وبهذا أصبحت أول قوة بحرية في البحر الأبيض المتوسط، واستمر ذلك التفوُّق غير مُنازَع إلى أوائل القرن الثاني عشر ثم عاد إلى الدولة الضعفُ في هذه الناحية بصفة خاصة حين فتح الأتراك السلاجقة معظم آسيا الصغرى، فحُرِمَت بيزنطة من هذه المناطق البحرية التي كانت تجلب منها أحسن بحَّارتها؛ ولذا اعتمدت على بحريات الدول الأخرى، مثل بيزا والبندقية وجنوة، وأهملت تمامًا الإنشاء البحري، بل واعتبرت الأسطول مجرد مضيعة للوقت والمال.
ولم تعُد للملكية الإمبراطورية في العهد الأخير هيبتها ولا مقدرتها على الإدارة والحكم. ولم تكُن الأمور بمستقرة للإمبراطور البيزنطي في داخل الدولة، ولم تكن ظروفه الخارجية بأحسن حالًا؛ فلقد تعدَّدت الثورات السياسية العنيفة، وقام على العرش نِزَاع يكاد يكون مستمرًّا بين أفراد العائلة الإمبراطورية، واستعانَ كل مطالب بالعرش بالفرق والأحزاب المختلفة، بل وبالعناصر الأجنبية من الجنسيات المتبايِنة المحيطة بالدولة، واستخدم كل منهم الجنود المرتزِقة واعتصم بأعداء الدولة، وتدخَّلت الجمهوريات الإيطالية لصالحها الخاصِّ، كما تدخل الكتلان والإمارات التركية المبعثَرة في الأناضول.
تدخَّلت كل هذه العناصر تنصر فريقًا على فريق وتقوم بالسلب والنهب إذا سنحت لها الفرص؛ فتخرَّبت أراضي الدولة مما فَتَّ في عضد الإمبراطورية وألحق بها الضعف الذي أنهك قواها ولم تجِد منه برءًا.
كذلك لم يكُن استخدام الجنود المرتزقة في آخر الأمر في مصلحة الإمبراطورية، فهؤلاء جنود غرباء لا تربطهم بالوطن البيزنطي ولا بأهالي الدولة وشائج القرابة والنسب، ولم يدفعهم لخدمة الدولة سوى رغبة واحدة هي الكسب المادي؛ ولذا فهم لا يرعون إلًّا ولا ذِمَامًا، ولذا فهم مستعدُّون في كل لحظة للثورة وللانضمام إلى أعداء الدولة إذا لم تستطِع بيزنطة إجابة مطالبهم التي لم تكُن تنتهي. أصبح هؤلاء الجنود خطرًا وبيلًا على الدولة، فاستولَوْا على مدنها وخربوا قراها. لقد نهب المرتزِقة من الأتراك مرة سرادق الإمبراطور نفسه حين فكَّر في التخلُّص منهم.
ثم إن فقدان الدولة البيزنطية اهتمامها بالبحرية جعلها تحت رحمة البنادقة والجنويين الذين لم يكونوا مخلِصين لغير مصالحهم المادية، بل انتهزوا كل فرصة للنَّيل من هذه الدولة المنحلَّة وانتزاع الامتيازات منها والانتقاص من حقوقها، فأشرفت الدولة على الإفلاس المادي، ولو تمكنت الدولة من المحافظة على تفوُّقها البحري لما استطاع الأتراك العبور بسهولة إلى الشواطئ الأوروبية أو تثبيت أقدامهم فيها.
•••
ومن أهم العوامل التي زادت في ضعف الدولة البيزنطية نُمُوُّ دولتي الصرب والبلغار وتقلُّص ممتلكات الدولة في البلقان على أيديهم.
ولم يستطع هؤلاء الصرب أو البلغار بعد أن قَضَوْا على الملك البيزنطي في البلقان أن يقِفوا متَّحدِين أمام الهجوم العثماني. وفي نفس الوقت الذي وضع فيه الأتراك العثمانيون أقدامهم في جاليبولي، كان على الدولة البيزنطية التي حاقت بها النكبات من كل جانب أن تصد هجمات إخوانها في المسيحية الصرب والبلغار ثم إغارات التتار. لقد حاولت الدولة البيزنطية محاولة اليائس أن تضم صقالبة البلقان إلى جانبها لتكون جبهة متَّحِدة متراصَّة لمقاومة العثمانيين وطردهم من الأقطار الأوروبية التي احتلوها، ولكن مساعيها ذهبت هباءً منثورًا، فما كانت رغبة صقالبة البلقان في دمار بيزنطة لتقِل عن رغبة الأتراك العثمانيين.
ويضاف إلى انحلال النُّظُم وضعف الحكومة سوء سياسة الدولة من الناحية الخارجية، فكان أمامها فرص ثمينة لو انتهزتها وساعدها الحظ لاتَّقت شر الأتراك إلى حين. ولم تستفد الدولة من انقسام الأتراك على أنفسهم في مبدأ حياتهم، بل تدخلت تنصر فريقًا على فريق، ولم تتركهم يحاربون مواقعهم بأنفسهم، لم تحاول بيزنطة الاتفاق مع التتار في الوقت الذي تداعت فيه أمامهم قوات العثمانيين، بل من الغريب حقًّا أن تتفق مع فريق من العثمانيين لتثبيت دعائم ملكه وتقوية سلطانه.
كذلك لم تعمل الدولة مخلصة على توثيق صِلَاتها بالغرب الأوروبي بتردُّدها في الاعتراف بتفوُّق رومة، فلقد كان فريق كبير من سكانها يفضل سيطرة السلطان العثماني على سيطرة البابا. كان عزيزًا على بيزنطة أن تقبل راضية سيطرة رومة. لقد قبِل الإمبراطور قسطنطين اتحاد الكنيستين في آخر الأمر، واحتفل بذلك في كنيسة سانت صوفيا، ولكن بعد فوات الوقت، وحين انتهى أجل الدولة فلم تستطِع أن تستقدم ساعة أو تستأخر.
ثم توالت الظروف السيئة على الدولة فتضرَّعت للغرب الكاثوليكي وقبِلت شروطه، ولكن الغرب لم يقدم لها المساعدة الكافية ولا التأييد الخالص في محنتها العظيمة. بل إن الجنويين تعهدوا للسلطان مراد الثاني بنقل ستين ألفًا من جنوده إلى الشاطئ الأوروبي.
وما كانت الفوضى في الإدارة والحكم لتعمل على انتشار الأمن واستتباب النظام في أجزاء الدولة الباقية، بل لقد دعتها الحروب المستمرة إلى الإمعان في فرض الضرائب الفادحة؛ ممَّا دعا السكان إلى التذمُّر وتفضيل الحكم العثماني حيث يستطيعون أن يتمتعوا في ظله بالهدوء والسكينة والعدالة.
وممَّا أنهك الدولة وامتص حيويتها كفاحها الطويل المستمر أمام أعداء أشداء غِلاظ كثيرين لا يعصون أطماعهم ما أمرتهم، فمن قبائل جرمانية إلى جموع صِقِلِّية إلى خصوم من الآلان والأفار والهون والتتار والبلغاريين، إلى غزوات العرب والصليبيين والبنادقة والجنويين إلى هجمات الأتراك التي لم تكُن تنقطع، وكل هؤلاء كانوا لا يرومون إلا دمار الدولة والقضاء عليها والاستيلاء على عاصمتها إلى أن كَلَّت نهائيًّا، وساءت حالتها المالية وفقدت معظم بلادها وخسرت قومها ورجالها وسقطت في آخر الأمر صريعة الظروف أمام الغزو العثماني العنيف المنتصر.
ولكن إذا كانت الدولة البيزنطية ضعيفة مفكَّكة، فلقد ظلت عاصمتها مدينة قسطنطين، تحتفظ بجانب كبير من رونقها وبهائها.