مدينة قسطنطين
عمرت مدينة القسطنطينية ألف عام بعد أن بناها الإمبراطور الروماني قسطنطين الأكبر بتوسيع بيزنطة المدينة الإغريقية القديمة، ولقد اختار قسطنطين عاصمته الجديدة في مكان منيع يصعُب الدُّنُوُّ منه ويسهُل الدفاع عنه. وأصبحت رومة الجديدة — كما كان يُطلق على القسطنطينية — حاضرة دولة عظيمة، ومركز حضارة سامية، ورمزًا لرُقِيٍّ باهر، ومصباحًا وهَّاجًا امتد نوره إلى الشرق الإسلامي والغرب المسيحي، فترك فيهما آثارًا جليلة باقية، وكانت مصدرًا لا ينضب لإلهام ولوَحي جديد في الغرب كما كانت مصدرًا للإعجاب والتقدير في الشرق.
لقد كانت هذه الحاضرة ناضرة مضيئة في وسط الظلام الحالك الذي كان يغمر العصور الوسطى في معظم أجزاء أوروبا ما عدا إسبانيا الإسلامية.
كانت القسطنطينية مركز الذَّوق والفن والجمال والتفكير في كل أنحاء أوروبا المسيحية ولم تكُن مجرد ناقلة للحضارة الإغريقية القديمة؛ فهي مدينة امتازت باتصالات مستمرَّة وثيقة بالشرق والغرب معًا، ففيها تقابلت الهلينية الإغريقية بالمسيحية الشرقية فكونت حضارة بيزنطية، تأثرت بالشرق الفارسي ثم الإسلامي وانتفعت بحضارته وتركت أثرًا واضحًا في حياته.
كانت القسطنطينية عاصمة للدولة البيزنطية، ورمز حضارتها، ومركز ثقافتها، وعنوان تَمديُنِها، وقلبها النابض، وعقلها المفكر.
كانت القسطنطينية مَحَطَّ أنظار العالم الشرقي والغربي بأجمعه لمدة ألف عام، هذه المدينة «المحروسة» الضخمة العظيمة الزاهرة، باريس العصور الوسطى وموطن العلم والفن واللذة والقداسة. هذه المدينة بجمال موقعها حيث يتقابل الشرق والغرب، البر والبحر، بجوها المعتدل الصحي، وبمينائها المحمية، هذه المدينة العظيمة بميادينها العامة المتسعة وبواباتها، وتماثيلها المبثوثة في كل مكان، وعظيمة بكنائسها الفخمة المتعددة وأسواقها التي لا تقف حركتها، وملاعبها وحماماتها، هذه المدينة الشهيرة بحصونها المنيعة ومعاقلها المشيدة وقفت أمام البرابرة من هون وأفار وبلغار وروس وصقالبة، وحالت أمام آمال الغُزاة والفاتحين من فرس وعرب وتُرك.
هذه المدينة كان يقصِدها الناس من أقصى جهات أوروبا، ويتغنَّى بها الروسي على ضفاف أنهاره، ويردِّد ذكرها الأوروبي، ويطمع في الاستحواذ عليها الشرقي.
هذه المدينة الخالدة بُنِيَتْ على تلال سبعة تُشرِف على شواطئ أوروبا وآسيا، وتنحدر بجمال وروعة إلى بحر مرمرة، وعلى انحدارات هذه التلال لمعت القصور الإمبراطورية.
أَمَّ هذه المدينة الناس من كل جانب، وسكنتها أجناس مختلفة، فوصل عدد سكانها في أوج عظمتها المسيحية إلى المليون.
ففيها الإغريق سكان المدينة الأصليين، وفيها الأجانب، فمن آسيويين بلحاهم الممتدة اللامعة وشعورهم السوداء، إلى بلغاريين برءوسهم المحلوقة وسلاسلهم التي تمنطَقوا بها، إلى روسيين بملابسهم الفِرَائية الثمينة، إلى اسكندناويين بوجوههم البيضاء وشعورهم الذهبية المتموِّجة، إلى أرمينيين وصقالبة، ازدحم فيها الناس من كل جانب وغَشِيَها التُّجَّار من كل صوب، المسيحيون منهم والمسلمون فازدحم البنادقة إلى جانب الجنويين والإسبان والفرنسيين والمسلمين من بغداد وسوريا.
ويرى الناظر فيها الجنود المرتزِقة بأشكالها المخيفة وصلابتها وخشونتها تسير في الميادين والشوارع الممتدَّة، من فرنسيين وصقالبة وجرمان وإيطاليين وإسبان، فاختلطت فيها الأديان وتعدَّدت اللغات واختلفت وتباينت المشاعر والإحساسات.
عاشت هذه الأجناس الغريبة فيها جنبًا إلى جنب كجاليات أجنبية، بعضها قَوِيٌّ عديد والبعض منزوٍ قليل، عاش البعض في أحياء مستقلة، وتمتعت بعض هذه الجاليات بامتيازات كبيرة فلم تخضَع لقوانين البلاد الأصلية ولا لتقاليدها.
وكانت حياة الأرستقراطية في المدينة حياة الأبهة والترف فرفلت في ملابس الحرير يحليها الذهب، وتبخترت على جيادها الفخمة المنتقاة واشتركت في الدسائس وقامت بالثورات.
كانت القسطنطينية في أوروبا مدينة الدنيا والدين؛ فإلى جانب فخامة البلاط الإمبراطوري وقصور النبلاء الجميلة وملاهي الهبودروم والملاعب المكتظَّة باللاعبين والنظارة، كانت عظَمة الاحتفالات الدينية وأبهتها، فلله كانت كنيسة سانت صوفيا، وللدنيا وللهو كانت الملاعب، وحول هذه جميعها دارت الحياة في القسطنطينية.
في هذه المدينة الهائلة تمثَّلت حياة الدين بأجلى مظاهرها وأروعها وأرهبها، وقامت الدراسات والمجادلات الدينية بنشاط واهتمام وحماس منقطع النظير، فمن الإمبراطور إلى النبلاء إلى رجال الدين إلى التُّجَّار، أحب الناس جميعًا المناقشات الدينية وشغفوا بها. وكانت هذه المناقشات تنقلب في كثير من الأحيان إلى تنازُع شديد وقتال تسيل فيه الدماء، فلم تخلُ هذه المناقشات والمجادلات الدينية من المطامع والأحقاد الشخصية والرغبات الدنيوية والمصالح الخاصة.
وظهرت في المدينة شتى الاعتقادات من أسماها إلى أدناها، فكان فيها احترام الأولياء والاعتقاد في قدرتهم الربانية ومعارفهم الغيبية، ووثق الكثير من الناس في تنبُّؤاتهم، وبَنَوْا على توجيهها حياتهم، وانتشرت الخرافات والأساطير وصدَّقها الجَمُّ الغفير من أهالي هذه المدينة الزاخرة.
في هذه المدينة العظيمة كان الاهتمام كبيرًا بتشييد الكنائس والأديرة والوقف عليها، فكانت هذه منتشرة في أنحاء المدينة رمزًا للإحساس الديني العميق المتأصِّل في نفوس السكان، وكان رجال الدين والرهبان موضِعَ الاحترام الزائد والإكبار، ولهم تأثير كبير على عقول الناس وسلطة واسعة وقوة حقيقية؛ فلقد اعتقد الناس فيهم قوة إلهية ومواهب ربانية. وكان الأباطرة أنفسهم يُظهِرون التعلُّق بالدين ويوقِّرون رجاله توقيرًا كبيرًا ويقدِّسون أماكنه؛ ففي سانت صوفيا التي شادها الإمبراطور جستنيان كان يُتَوَّجُ الإمبراطور، وفيها يُحْتَفَلُ بالأعياد، وهي فوق صفتها الدينية كانت مركزًا كبيرًا من مراكز الحياة العامة.
كانت هذ الكنيسة من عجائب القسطنطينية؛ فقُبَّتُهَا العالية وصفها المعاصرون وكأنها «معلقة من السماء بسلسلة ذهبية»، وكان جمال زخارفها ورونقها وأعمدتها ورخامها يبهر النظر. وأما مصابيحها الوهَّاجة وبخورها العبِق، وأما الحفلات الدينية التي كانت هذه الكنيسة عامرة بها والآيات والأناشيد التي ترتل فيها والصلوات التي تُقام فكانت تبعث في النفس الروعة وتشعرها بالجلال وتملؤها بالخضوع.
وبجانب ذلك الجلال والبهاء قامت القصور الفخمة العامرة بالمَلَذَّات والترف وانتشر الفساد الخلقي والرشوة، وقامت أماكن كان يُباع فيها الشرف والعِرض وكل فضيلة إنسانية في سبيل متاع وقتي زائل.
واهتم الأغنياء بإشباع البطون واقتناء الأيقونات وأدوات الزينة وبالشهوات، وقامت أماكن اللهو والملاعب يَمُرُّ فيها القُواد المنتصرون، يسير خلفهم أسرى الحرب، هذا في وقت عز القسطنطينية. وجرى في الملاعب سباق العربات ومُنازَلة الرجال ومصارعة الحيوانات وأعمال الأكروبات ومهازل المضحكين. وفي هذه الملاعب عَبَّرَ الناس عن أفكارهم، عن رضاهم واستيائهم. وفيها كانت تُوضَع بذور الثورة وتقوم الثورات التي قد تهز عروش الأباطرة البيزنطيين.
وقامت بيوت الفساد والدِّعَارة إلى جانب الكنائس والأديرة، وكما فاقت هذه المدينة المدن الأخرى في العظمة والفضيلة فاقتها في الفوضى والرذائل. فمن الميادين العظيمة تعرَّجت الأزقة المظلمة المُوحِلة وامتلأت بالكلاب واللصوص وقُطَّاع الطرق، وكثرت فيها حوادث السَّرِقة والاغتيال والغدر والقتل.
كانت القسطنطينية مدينة ثقافية ممتازة، فمركزها في شرقِيِّ أوروبا كمركز رومة في غربِيِّها، وهي في ثقافتها متأثِّرة بالقديم إلى حَدٍّ كبير، محتفظة بالتراث الإغريقي. فمكاتبها الكبيرة مملوءة بالكتب الإغريقية، مزدحمة بالقارئين والدارسين، وكان الأدب اليوناني محور الثقافة والتعليم، بجانبه دراسة الكتاب المقدس وقصص القديسين والشهداء والحساب والموسيقى والآجُرُّومِيَّة والبلاغة. لقد كانت جامعة القسطنطينية مركز الثقافة اليونانية موئل الدراسات الكلاسيكية.
ومن هذه المدينة العظيمة تعلمت إيطاليا فلسفة أفلاطون، ومنها أخذ العرب القانون وجانبًا كبيرًا من الثقافة اليونانية، وإذا كان لهذه المدينة تراث يُخَلِّدُ ذكرها في العالم فهو الأدب الإغريقي والقانون الروماني، فأباطرة القسطنطينية هم الذين جمعوا القوانين الرومانية — إرث رومة العظيم — وقننوها ونشروها.
وتمتع سكان هذه المدينة العظيمة بامتيازات لا يشاركهم فيها أحد، فكانوا معفين من الضرائب، توزع عليهم الحكومة مجانًا ما يلزمهم من الخبز والنبيذ والزيت، وذلك حين كانت ثروة الإمبراطورية عظيمة ورزقها متوفِّرًا وجانبها مهابًا.
والقسطنطينية مدينة صناعية وتِجَارية عظيمة بحكم موقعها الجغرافي المنقطع النظير في ذلك الوقت. فهي تقع في موضع ممتاز للاتصال بين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب، وبين البحر الأسود والبحر الأبيض؛ فهي من مراكز العالم المهمة في ذلك الوقت للتجارة، تأتي إليه المتاجر عن طريق البحر الأبيض والبحر الأحمر والبحر الأسود، من فارس والهند والشرق الأقصى وأواسط آسيا، من اسكنديناوه وشرقِيِّ أوروبا وغربيها، متاجر العالم المعروف في ذلك الوقت تجمعت في القسطنطينية وآوت إليها السفن من كل فَجٍّ فكانت ميناؤها في القرن الذهبي تعج بحركة دائمة، وسهلت الحكومة البيزنطية كما سهلت الحكومة العثمانية من بعدها وسائل العيش والاتِّجَار وتبادل المنافع، واشتهرت أسواقها بموادِّ الترف والزينة والمصوغات والأيقونات والعطور والمنسوجات الحريرية والكتانية الجميلة ذات الألوان الساطعة اللامعة، وإلى جانب التجار وُجِدَ الصيارفة يزاولون مهنتهم بنجاح كبير.
لقد تفوقت القسطنطينية — كما رأينا — على غيرها من المدن في مظاهر الحياة، وكان موقعها ومناعتها وغناها وثروتها ومبانيها ومباهجها ومركزها في العالم المسيحي من الأمور التي دعت الشرقيين من العرب والأتراك إلى محاولة الاستيلاء عليها وتحويلها من حاضرة للمسيحية إلى مركز مُهِمٍّ للإسلام.