فتوح الفاتح الأخرى
فتح بلاد الإغريق
لقد استولى السلطان محمد الثاني على القسطنطينية وسِنُّهُ لا تزيد على ثلاثة وعشرين عامًا، فكان أكبر من المقدوني بسنة واحدة في الوقت الذي فاز فيه بانتصاره الباهر على الفرس في موقعة جرانيكوس، وكان أصغر من القائد العظيم نابليون بونابرت بثلاث سنوات حين قاد الفرنسيين إلى النصر ضد النمسا في موقعة لودي في سهل لمبارديا بإيطاليا.
على أن السلطان الفاتح لم يهدأ له رُوع، ولم يخلَد إلى السكينة بعد ذلك الفتح العظيم؛ فهو ابن الحرب، نشأ في ميادينها ونبغ فيها، وقضى بقية حياته يستعد لها أو يخوض غمارها. وكانت الظروف السياسية في البلقان تُرغِمه على السير في فتوحاته، فكان عليه أن ينظف البلقان وشبه الجزيرة اليونانية من بقايا الدولة البيزنطية الغابرة، ومن المستبدين البيزنطيين، والمغامرين الإيطاليين. لقد كانت هناك إمارات أو دوقيات مشتَّتة مبعثرة بعيدة عن بعضها لم تحاول قَطُّ جمع قواها لمواجهة الخطر العثماني الجارف، ولم تستفِد شيئًا من الدرس القاسي الذي خبرته بيزنطة ومدينة قسطنطين الأكبر.
لقد كان البنادقة في أوائل القرن الخامس عشر يسيطرون على معظم البلوبونيز وأبيروس وعدد كبير من جزر بحر الأرخبيل وجزيرة كريت. وسقطت أجزاء من شبه جزيرة المورة في يد الفرنسيين. ولكن جمهورية البندقية كانت متمسِّكة بالأشراف على السواحل، وتركت السيطرة على جزر بحر الأرخبيل لأفراد منها مغامرين.
وكانت الفوضى في هذه الأجزاء جميعها منعدمة النظير، فقامت الحروب والثورات والمنازعات الداخلية التي لا تنقطع بين الكتلان — من الإسبان — وبين الإيطاليين والفرنسيين، وكان في آخر الأمر أن أخلى العنصر الفرنسي السبيل أمام العنصر الإيطالي، كما حل محل الكتلان الإيطاليون عن طريق الفتح أو الشراء أو إقراض المال. وتدخل الأتراك أنفسهم فيما بين هؤلاء الأمراء ينصرون فريقًا على فريق، ثم يأخذون في آخر الأمر ممتلكات الفريقين إذا وجدوا ذلك أمرًا هينًا أو إذا ضعف الفريقان أمام قوتهم.
لقد كثرت في البلقان وشبه الجزيرة اليونانية الهجرة وانتقال السكان من مكان إلى مكان، وحلَّت عناصر وجنسيات محل أخرى أو طغت عليها فظهر الألبانيون والأفلاقيون، واستقروا في جاليات قوية في معظم أجزاء البلقان، وحوصرت المدن وفُتِحت أو تُرِكت، وسُكِنت أو خربت.
ولم يكن السلطان محمد الفاتح هو أول من غزا هذه البلاد؛ فلقد غزاها من قبله عدد من السلاطين، غزاها السلطان بايزيد الأول، ثم السلطان مراد الثاني، بعث إليها من قُوَّادِهِ من استطاع اكتساحها من أقصاها إلى أقصاها، ولكن العثمانيين لم يثبتوا أقدامهم فيها نهائيًّا إلا في عهد الفاتح.
كان من أكبر الإمارات الإغريقية إمارة أثينا، وكانت فوضى الحكم فيها على أشُدِّها، فلقد مات دوقها وخلف الحكم لزوجته وابنه، فأما زوجته فلقد جعلت من عرش الإمارة فراش غرام، فأحبت أحد الدوقات الآخرين ولم تقبل الزواج منه إلا إذا طلق زوجته الأصلية وأهلكها، وفعلًا تَمَّ لها ما أرادت، وذهب الساخطون على ذلك السلوك إلى السلطان يطلبون منه النجدة والتدخُّل، فأرسل لهم دوقًا آخر لم يفتُر حتى قتل الدوقة المولعة بالغرام، وقامت فوضى لم يرضَ معها السلطان الفاتح إلا أن يرسل قائده عمر بن طرخان لاحتلال أثينا ونشر الأمن والنظام في هذه الأرجاء وحماية هؤلاء الطغاة والمستبدين من أنفسهم.
وظهر السلطان محمد الثاني في أراضي الإغريق كالحكم القوي العادل الذي يقبله الجميع، ويخضع له الجميع راضين. لقد وصل إلى بلاد المورة في سنة ١٤٥٨م لكي يعطي الطغاة والمستبدِّين الإغريق واللاتين درسًا قاسيًا في فَنِّ السياسة والحكم، فاستولى على حصونهم، وقضى على محبي الفوضى قضاء عزيز مقتدر، وفتحت القساوسة أبواب مُدُنِهِم له، وتلقَّوه بالترحاب حتى يحظوا بحمايته، ويطمئنوا إلى رعايته. ثم زار مدينة أثينا وهاله جمال آثارها القديمة، فمكث فيها مليًّا. وفي السنتين اللتين تلتا سنة ١٤٥٨م تمكَّن من إخضاع شبه جزيرة الإغريق إخضاعًا تامًّا فأصبحت جزءًا من الإمبراطورية العثمانية إلى الربع الأول من القرن التاسع عشر.
إخضاع الصرب
أما مع أمراء البلقان — وخاصة الصرب — فكانت سياسة السلطان محمد الثاني قبل فتح القسطنطينية هي توثيق علاقات الود والصداقة بهم والعمل على كسب رضاهم حتى ينتهي من مهمته العظيمة، وحينئذٍ يستطيع إخضاعهم الواحد تلو الآخر. كان يعرف أن الصرب الشمالية بصفة خاصة الصرب التي يحكمها برانكوفتش مذبذبة بين الأتراك والمجريين، تُحالِف هذا الفريق حينًا، وتدفع عنها بالمال حينًا خطر الفريق الآخر.
ولذا نجد السلطان محمدًا يعترف بالمعاهدة التي عقدها السلطان مراد الثاني مع إمارة الصرب الشمالية، هذه المعاهدة التي لا تفرض على هذه البلاد إلا جزية سنوية تدفعها للدولة وتتمتع في نظيرها بالاستقلال التام في أمورها الداخلية، كما أرسل إحدى زوجات أبيه السلطانات وهي صربية، إلى بلادها محاطة بكل مظاهر الحفاوة والإكرام، وأجرى عليها النفقات الكثيرة.
وكان هدف السلطان من وراء ذلك منع برانكوفش الأمير الصربي من الاتفاق مع المجريين على نقض الهدنة التي عقدها السلطان معهم أثناء حصار القسطنطينية، وفعلًا تم له ما أراد.
فوفى برانكوفتش بما عاهد عليه السلطان، كما لم يقُم بأي مساعدة للقسطنطينية وقت محنتها، هذه المدينة التي اشترك بنفسه في تجديد أسوارها وتحصيناتها. بل وأرسل رسله للسلطان يهنئونه بهذا الفتح العظيم ويقدمون له الجزية. ولكن السلطان كان قد قرر إخضاع هذه البلاد نهائيًّا للحكم العثماني. فالصرب بلاد زراعية، غنية بالمعادن وخاصة الفضة وبمراعيها الجيدة ومدنها المزدهرة، ثم بعد ذلك أصبح يرى أن ضم الصرب أمر لا محيص منه لمهاجمة الأفلاق والمجر.
ولذا قام السلطان محمد الثاني الفاتح بقوة كبيرة إلى بلغراد للقضاء نهائيًّا على الصرب، ولتهديد المجر في وقت واحد. ولكن إذا كان السلطان لم يُفلح في الاستيلاء على مدينة بلغراد إلا أن خصمه العنيد هونيادي مات بعد وقت قصير، وقُرِّر مصير برانكوفتش والصرب نهائيًّا. فلقد أُسِرَ ذلك الأمير وسُجِنَ، وترك الإمارة لزوجته إيرين وابنه فقام النزاع بينهما إلى درجة أن الابن رفض أن يفتدي أباه من الأسر، ثم ماتت إيرين، ودفع ابن برانكوفتش الجزية، ولكنه لم يكن مُخلِصًا لا لرعاياه ولا للسلطان! ثم فارق الحياة، فقام نزاع شديد على تولي الإمارة، وقرر السلطان وضع حَدٍّ لهذه الفوضى فضم الصرب إلى الدولة نهائيًّا في سنة ١٤٥٩م، فأصبحت مجرد بشاليق، تركي، وانتهى بذلك تاريخ آخر إمارة صربية في العصور الوسطى، وظلت الصرب هكذا جزءًا لا ينقسم من الدولة العثمانية إلى أوائل القرن التاسع عشر حتى أيقظتها الثورة الفرنسية وحروب نابليون إلى طلب الحكم الذاتي والاستقلال.
العلاقات العثمانية المجرية في عهد محمد الفاتح
كانت المجر مجاوِرَةً للدولة العثمانية من الجهة الشمالية الغربية، وكانت أقوى دولة مسيحية في وسط أوروبا من الناحية الحربية؛ فالشعب المجري ظل محتفظًا — كالأتراك — بحيويته ونشاطه وقوته، وكان ملوكه يعتبرون أنفسهم زعماء المسيحية، وأصبحت المسيحية تعتمد على المجر إلى حَدٍّ كبير في وقْف تقدم الأتراك إلى وسط أوروبا.
ولكن هذه الدولة القوية لم تكن متفرِّغة تمامًا لهذه المهمة الخطيرة، فلقد كانت دائمًا مهتمة بمَدِّ نفوذها على ساحل البحر الأدرياتي؛ مما دعا إلى اصطدامها بجمهورية البندقية، ثم من ناحية ثانية كانت حكومة المجر قد وجَّهت عنايتها إلى القضاء على المنقسمين على الكنيسة الكاثوليكية، فكانت تعمل جادة على فرض نفوذها على الصربيين المجاورين لها حتى تستطيع أن تُدخِلَهم في حظيرة الكثلكة وتخرجهم من الأرثوذكسية، وكرس الإمبراطور لويس حياته لخدمة ذلك الغرض ولم يقم بمساعدة الإمبراطور البيزنطي باليولوجوس؛ نظرًا للاختلاف المذهبي، فأعطى العثمانيين فرصة لوضع أقدامهم في أوروبا.
ثم انشغلت المجر بمنازعاتها مع بولونيا ونضالها ضد التتار، ولقد حاول ملوك أنجو الذي حكموا المجر على عهد العثمانيين الأوائل إدخال العادات الغربية فخبرت هذه البلاد فوق مشاكلها الخارجية نضالًا داخليًّا بين النظم المجرية الأصلية والنظم الغربية كما شغلت بمسائل النزاع على العرش، وأخيرًا اختار الديت المجري الأمير سجسمند، ولكن عهده لم يكن عهد استقرار أو اطمئنان، فقامت الثورات في أوائل عهده وأخذ الترك يُغِيرُونَ على حدود بلاده وخاصة بعد أن سقطت الصرب. كان على المجر أن تتخذ في أول الأمر ضد الأتراك خطة الدفاع ولكنها عادت فرأت أن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم، ولكن قوتها الحربية لم تكن تستطيع وحدها الوقوف أمام قوة الأتراك؛ ولذا طلبت النجدة من ألمانيا وفرنسا، ووجدت هاتان الدولتان تُعَزِّزُهُمَا البابوية ضرورة تعضيد هذه الدولة التي يقع عليها عِبْءُ المحافظة على أبواب أوروبا الوسطى، وكانت نتيجة هذا الاتِّفاق موقعة نيكوبوليس في سنة ١٣٩٦م، في هذه الموقعة قضى الأتراك على زهرة فرسان ألمانيا وفرنسا والمجر، وأصبح الترك سادة الدانوب الأدنى، وهرب سجسمند، ولولا مساعدة البندقية له على الهرب لوقع في يد الأتراك وهَلَك.
كان سجسمند من غِلاظ القلوب، عاش حزينًا محتاجًا مضطهدًا، ولم يكن محبوبًا من شعبه، فقامت ضده المؤامرات والثورات وقُبِضَ عليه وسُجِنَ ثم أُطْلِقَ سراحه فعاد إلى العرش، ولسوء حظ المجر انتخب ذلك الملك البائس في سنة ١٤١١م إمبراطورًا لألمانيا، فلم يعد للمجر كِيان مستقل كامل وأصبحت مصالحها جزءًا من مصالح العالم الألماني، وزادت مشاكلها وثارت المنازعات من جديد بين المجر وجارتها البندقية، خسرت فيها المجر دلماشيا.
ثم تعقَّدت المهزلة فاختير سجسمند ملكًا لبوهيميا فتجمعت ثلاثة تيجان على رأس شخص ينوء تحت عبء تاج واحد ولا يُحسن التصرُّف في أمور مملكة واحدة.
وزادت مشاغل سجسمند وكثر اضطراب الأمور عليه حين حاول القضاء على أتباع مذهب حنا هوس، وكانوا كثيرين في المجر لأنهم نادَوْا بالمساواة بين الناس، وبأن الملكية يجب أن تكون عامة.
وبالرغم من كل هذه المشاغل والمشاكل كانت المجر دولة قوية؛ أولًا: لأن سجسمند اهتم بتحصين الحدود الجنوبية الملاصقة للأتراك وجعل مدينة بلغراد عند ملتقى الدانوب بالسافا حصنًا منيعًا من الطراز الأول. ثانيًا: عملت النظم المجرية على وجود جيش دائم قوي يجتمع وقت الحاجة، ثالثًا: اهتمت الحكومة بإنشاء أساطيل نهرية قوية في نهر الدانوب لحماية الحدود الجنوبية. رابعًا: تجمَّع النبلاء حول هونيادي وقبلوا زعامته مخلصين له الطاعة، وأخيرًا: هاجر عدد كبير من الصربيين الأشداء إلى بلاد المجر وخدموا في الجيش المجري.
ومن أجل ذلك كانت المجر قادرة على الوقوف أمام العثمانيين مدة طويلة، في الوقت الذي لم يستطِع فيه الإغريق والصرب والبلغار تحمُّل ضربات الأتراك القوية، ولكنها بصفة عامة لم تستطِع بنجاح اتخاذ خطة الهجوم ضد الأتراك وتحمَّلت الفشل المرير، حتى في أوج عظمة زعيمها القدير جانوس هونيادي الذي سجله التاريخ كأكبر عدو للأتراك، وأعظم وأقدر خَصم قابلهم وجهًا لوجه في ميدان القتال.
تحت زعامة جانوس هونيادي ارتفعت المجر إلى مركز المُدافع عن المسيحية أمام قوة الأتراك الجارفة، لقد كان هونيادي من الشبان الافلاقيين البارزين الأرستقراطيين الذين دخلوا في خدمة سجسمند، فأعجب بمقدرته أيما إعجاب، ورقَّاه في بلاطه واقترض الأموال منه ومنحه إقطاعات على الحدود المجرية العثمانية؛ الأمر الذي جعل لذلك الرجل مصلحة دائمة في مناضلة الدولة العثمانية ودفعها عن الأراضي المَجَرِيَّة. والواقع أن الحرب التي كانت سِجالًا بين المجر والأتراك قامت على أكتاف ذلك البطل.
لقد كان هونيادي رمز الفروسية المسيحية في ذلك الوقت، وبطلًا من أعظم أبطال المجر، وزعيمًا كبيرًا من زعماء المسيحية، عرف كيف ينظم الجيوش، وعظم اهتمامه بفن الحرب: مواقعها وأماكنها وحركاتها، أكثر مما اعتمد على الشجاعة وحدها أو الحماس الحربي، وهو رجل تحت المتوسط في الطول، أبيض الشعر، له ضفائر طويلة فضية ووجه ممتلئ بالدم والحيوية، وعيون سوداء قوية مبتسمة، لقد كان فارس الأفلاق الأبيض — كما كان يُطلق عليه — خصم الأتراك العنيد في ميدان الحرب وميدان السياسة.
لقد استطاع هذا الزعيم المَجَري في موقعة سمندريا أن يخلص الصرب من الحكم العثماني وهزم العثمانيين مِرارًا إلى درجة أن اضطُرَّ السلطان مراد الثاني والد الفاتح وكان كبير الميل إلى السلم، اضطر أن يطلب عقد صلح معه لمدة عشر سنوات لمصلحة المسيحيين دون ريب.
وكانت زعامة هونيادي في المجر تامة حين ورث العرش بعد سجسمند طفل لا زال في المهد صبيًّا، ولكن سلطته عادت فضعفت حين اختير فلاديسلاف ملكًا للمجر، فلم يستمع الملك الجديد لنصيحة هونيادي وحنث في عهده للأتراك، وأعفاه مندوب البابا من اتفاقه مع مراد الذي كان قد أخلد إلى حياة الراحة والهدوء فاضطُرَّ السلطان العثماني إلى معاودة الحرب من جديد وقاتل بعنف قوة المجرين في موقعة ورنه وقتل جنودُه الملكَ المجري وحملوا رأسه على رمح، ولم ينجُ هونيادي نفسه من الموقعة إلا بكل صعوبة وفي نفر قليل.
قُتِلَ ملك المجر إذن في ميدان القتال وقرر مجلس الدولة المجري قيام حكومة مؤقتة على رأسها هونيادي، وحاول هونيادي الانتقام لشرف المجر المنهار في ورنه، ولكن في مكان موقعة قوصوه حيث قضى السلطان مراد الأول على قوة الصرب، قابل مراد الثاني قوة المجريين وقضى عليها في سنة ١٤٨٨م، فلم تجرؤ المجر على اتِّخاذ خطة الهجوم ضد العثمانيين أو تُفَكِّرَ جِدِّيًّا في الانتقام مرة ثانية، وظلَّت الحال على ذلك إلى أن جاء السلطان محمد الثاني.
لم تؤثر موقعة قوصوة التي هُزِمَ فيها هونيادي في مركزه أو تعلق الشعب المجري به أو التفافه حوله، بل جعلت ذلك الشعب ينظر إليه كالشخصية الوحيدة التي تستطيع إنقاذ المجريين من الأتراك إذا حاولوا الاعتداء عليها، وشغل هونيادي بمشاغل عديدة داخلية وأخرى خارجية، أهمها صلات المجر مع النمسا وبوهميا، وهُزِمَ هونيادي أمام أعدائه الأشداء؛ ولذا قبل الزعيم المجري راضيًا الهدنةَ التي عرضها عليه السلطان محمد الثاني.
ولما سقطت القسطنطينية في يد الأتراك اجتمع الديت المجري في بودا وقرر إعداد النفقات اللازمة في حالة هجوم الأتراك العثمانيين على البلاد. واستنجد برانكوفتش الصربي بالمجر، وقامت حركة صليبية تدعو المجر إلى مقاومة العثمانيين، ولكنه لم يكُن للمجر حلفاء تستطيع الاعتماد عليهم، وكان مركز هونيادي نفسه آخِذًا في التزعزع، فله في البلاط منافسون حاقدون عليه، ولم تكُن الملكية براضية عنه، فلم تكُن الدولة المجرية إذن في مركز يسمح لها بالهجوم على الأتراك.
ولكن الأتراك لم ينتظروا هجوم المجريين بل قاموا هم بالهجوم، لقد زحف السلطان محمد الثاني الفاتح على بلغراد — مدينة الجهاد في نظر الأتراك — في سنة ١٤٥٦م بقوة كبيرة ومدفعية ضخمة، وكانت بلغراد في ذلك الوقت تُعتَبر مفتاح بلاد المجر، وبذل هونيادي كل ما يملك من قوة وحماس وصبر وحذر في سبيل الدفاع عن هذه المدن، ولقد أيدته أوروبا تأييدًا عظيمًا؛ فسقوط المجر في ذلك الوقت معناه سقوط وسط أوروبا بأجمعه في أيدي الأتراك، ولهذا هرع لنجدته ستون ألف صليبي بقيادة الراهب كابستران، وناداهم البابا فلبَّوْا نداءه، فلقد ملأ فتح القسطنطينية أوروبا بالعار والغضب والخوف.
وكانت ظروف بلغراد غير ظروف القسطنطينية، فوراء بلغراد العالم المسيحي متحفز للوقوف أمام الأتراك والدفاع عن مسيحيته وتقاليده وما يملك. ومن ناحية ثانية حارب العثمانيون أمام بلغراد في منطقة لم يملكوها هم، كلها معادية لهم، ومن ناحية ثالثة طالت خطوط المواصلات والتموين، بينما كان المجريون يحاربون في بلادهم، ويظهر أن الأتراك في هذه المرة أصابهم بعض الغرور بانتصارهم الحاسم على البوسفور، وحملوا معهم مدفعية ثقيلة عاقت سرعة حركاتهم، وانهزم أسطولهم النهري انهزامًا حاسمًا أمام أسطول المجريين.
كانت الموقعة في أول الأمر في مصلحة العثمانيين؛ فلقد تمكنت المدفعية العثمانية المتفوقة من تحطيم أسوار المدينة، وتمكنت بعض فرق الإنكشارية من دخول بلغراد، وظن العثمانيون أن الموقعة قد انتهت بينما كانت المدينة ملأى بالجنود تُوجِّهُهُم قيادة ممتازة؛ ولذا اضْطُرَّ الأتراك إلى الانسحاب من الجزء الذي احتلوه، وحاول السلطان إقناع جنوده بالثبات، وحارب في صفوفهم بنفسه، وقتَل بيده أحد زعماء الصليبيين، ولكنه اضْطُرَّ في آخر الأمرإلى الانسحاب بعد أن تمكَّن من تنظيم التقهقر. وبعد أن قتل من الإنكشارية العدد الكبير.
ولكن السلطان كان سعيد الطالع؛ فلقد تمكن من التقهقر ومن إعادة تنظيم قواته، ومن مدافعة أعدائه بعنف بحيث لم يستطيعوا تتبُّعه، ومن ناحية أخرى مات هونيادي بعد عشرين يومًا من الموقعة، كما مات زعيم الصليبيين جون كابستران الذي جاء لنجدة المجر.
وبموت هونيادي انتهى أقوى عدو للأتراك وللمسلمين، فبموته كما يقول البابا سلفيوس «ماتت آمالنا»، ولقد أبَّنَهُ معاصروه، ووصفوا شجاعته وقدرته وقيمته للمسيحية في ذلك الوقت الخطر؛ فلقد قام هذا الرجل بحماية المجر، بل وحماية ألمانيا من الفتح العثماني، كما أخر مشاريع محمد الفاتح بالنسبة لإيطاليا.
لم تكن موقعة بلغراد بعظيمة الخطر على مركز العثمانيين في أوروبا وإن كانت قد أنقذت مدينة بلغراد والمجر من أن تقع في أيديهم مدة من الزمن، ولكنها لم تمنع العثمانيين من نشر نفوذهم في بقية أجزاء البلقان في البوسنة والهرسك والصرب وألبانيا، فما كانت المجر التي ذاقت قوة العثمانيين مِرارًا تجرؤ أبدًا على اتِّخاذ خُطة الهجوم ضد السلطان الفاتح، فنشاطها استنفذ من ناحية، ومن ناحية ثانية هلك أكبر رجالها الحربيين الذي تستطيع أن تثق فيه وأن تضع مقاليد أمورها بين يديه.
وبعد ذلك فملِكها كان لا يزال حديث السن لا يُحسن التصرف في أمور المُلك، ولم يوجد بين الأرستقراطية المَجرِية من يقوم مقام هونيادي، بل لقد قابل الملك أعمال الزعيم الراحل بالجحود والنكران، فلقد أمر بقتل ابنه وتشويه سمعته وتصوير خيانته وصَب عليه اللعنات.
ولكن الملك المجري لم يعِش طويلًا فمات سنة ١٤٥٨م، وشاءت الأيام أن تعترف المجر بجميل فارسها، فقرر الديت المجري تعيين ابنه وهو ماتياس كورفينوس ملكًا على المجر.
ولئن كان ماتياس ورِث عن أبيه فروسيته وقدرته على قيادة الرجال إلا أنه لم يرِث عداوته للأتراك. وكان مهتمًّا بالأمور الداخلية، مهتمًّا بالقضاء على ثورات من حاولوا منافسته، ولكنه لم يستطع أن يعمل شيئًا أمام قوة الأتراك؛ فلقد قام السلطان محمد الفاتح بالهجوم مرة ثانية فافتتح البوسنة وثبت أقدامه فيها رغم أنف المجر، وحاول ماتياس أن يضم البابا والبندقية إلى جانبه فلم يُفلِح، ولما اقترح ملك فرنسا تكوين عُصبة دول مسيحية ضد الأتراك رفض كورفينوس الانضمام؛ لأنه كان موقنًا أن الحرب ستكون على حساب المجر وحدها.
ومن الغريب أن ماتياس لم يهتم بالخطر التركي بقدر ما اهتم بالقضاء على حركة هوس في بوهيميا؛ فهو كاثوليكي متعصب قبل كل شيء وشغلته نزاعاته مع الإمبراطور الذي حاول التدخُّل في شئون المجر الداخلية، كما شغلته اختلافاته مع بوهيميا.
ولقد هاجم الأتراك فعلًا جنوب المجر، وعاونوا الثائرين على ماتياس ولكنهم أجلوا هجومهم النهائي عليها إلى عهد السلطان سليمان القانوني الذي سيقضي على قوة المجر ودولتها نهائيًّا في موقعة موهاكز في آخر الربع الأول للقرن السادس عشر.
فتح البوسنة
أما مملكة البوسنة فلم يقدر لها البقاء كإمارة مستقرة بعد اختفاء الصرب إلا أربع سنوات، فلقد قامت فيها المنازعات على العرش، وثارت الحرب الأهلية، وعَمَّ الخوف على مصير البلاد أمام قوة الأتراك المرابطة على الحدود والتي تتدخل في أمور البلاد من حين لآخر وتجبرها على دفع الجزية، واضطُرَّتِ البابوية في ذلك الوقت، وكانت ملاذًا للمسيحية وملجأها الأخير، اضطرت إلى التدخل في سبيل تثبيت العرش بعد أن زار ملك البوسنة البابا، وأخبره بأن الأتراك يعاملون سكان البلاد بالحسنى لينالوا ودهم ورضاهم وأنهم يَعِدون الفلاحين — وكانوا رقيقًا للأرض — بالحرية، وأن مطلب السلطان الفاتح ليس هو البوسنة وإنما هو المجر والبندقية، ثم الزحف بعد ذلك على إيطاليا واكتساح رومة عاصمة المسيحية الباقية. كانت هذه الزيارة في سنة ١٤٦١م.
حاولت البابوية تثبيت مركز ذلك الملك، كما حاولت معاونته لدرء الخطر العثماني الذي يهدد استقلال بلاده، وعلِم السلطان الفاتح بما بيَّنه ذلك الملك من نقض عهوده مع الدولة العثمانية وعزمه على منع إرسال الجزية.
ولذا فأرسل إليه يطالبه بدفع الجزية، وشعر ملك البوسنة بقوة في نفسه؛ فالبابوية تؤيده. ولم يكن يدري أن البابوية لن تستطيع له نفعًا إذا ما دهمته جحافل الأتراك، أخذ ملك البوسنة الرسول العثماني فأراه كنوزه وبيَّن له باحتقار أنه لا يستطيع التنازل عنها للأتراك.
فقرر فاتح القسطنطينية معاقبة البوسنة على عدم وفائها بتعهُّداتها، وفي سنة ١٤٦٣م جهز جيشًا عظيمًا لذلك الغرض، وعلم ملك البوسنة بما وقع فناله الفزع وأرسل للسلطان في آخر لحظة ينفذ أوامره، ويطلب منه هدنة لمدة خمسة عشر عامًا، فقبِل السلطان ذلك العرض، ولكنه صمَّم سرًّا على ضم البوسنة نهائيًّا إلى الدولة.
ولذا بعد ارتحال رسل البوسنة بأربعة أيام سار السلطان بجيوشه بسرعة هائلة وأخذ البوسنة على غرة فلم يقف أمامه دفاع، وفتحت العاصمة أبوابها له، وجازى السلطان حاكمها على خيانته لوطنه بأن ألقى به من شاهق صخرة لا تزال تحمل اسم «راداك» إلى اليوم.
وأما ملك البوسنة فلم يجد بُدًّا من التسليم، وساعد السلطان على إتمام عثمانيًّا، وأما ملكها فلقد عاقبه السلطان بالإعدام وضرب أعناق أبنائه، وكان قد أمن على نفسه، ولكن مفتي الدولة أفتى بضرب عنقه لأنه غدر بالسلطان فلا أمان له، واستشهد بالحديث الشريف: «لا يُلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين.»
وسقطت الهرسك بعد البوسنة، فالقصة السائدة في البلقان كانت قصتها قصة التنازع على الملك والاختلاف؛ ولذا اضْطُرَّتْ إلى دفع الجزية للسلطان، وتم منحتها نهائيًّا في عهد ابن الفاتح السلطان بايزيد الثاني، ولقد كان لفتح البوسنة أهمية خاصة، فلقد اعتنق نبلاؤها وأرستقراطيتها الدين الإسلامي وأصبحوا بكوات يحكمون إقطاعاتهم على الطريقة السائدة في الغرب في العصور الوسطى.
فتح ألبانيا
بعد البوسنة جاء دور ألبانيا، والألبانيون أقدم جنس في البلقان، وخضعوا للدول التي سيطرت على البلقان خضوعًا تختلف درجته. وفي القرن الرابع عشر خضعوا للإمبراطور الصربي، ولكن بعد سقوط إمبراطورية الصرب انقسموا كعادتهم إلى قبائل متنافسة متنافرة لا تعترف لشخص واحد بسلطة، ولا تحترم غير نظمها الخاصة وتقاليدها التي أملتها عليها طبيعة البلاد الجبلية.
وفي أوائل القرن الخامس عشر كان ينتظر ألبانيا مصيران، إما الخضوع لجمهورية البندقية أو الخضوع للأتراك. ولقد كانت جمهورية البندقية تتوسع في البحر الأدرياتي بينما كان الأتراك يتوسعون في البلقان، فوقعت ألبانيا بين خطرين عظيمين. ولقد استولت البندقية بالتدريج على الأجزاء الساحلية، وتَمَّ لها ذلك في منتصف القرن الخامس عشر تقريبًا. وأصبح البحر الأدرياتي بذلك بحيرة إلى حَدٍّ كبير بندقية.
ولم يكن من مصلحة البندقية — وهي دولة بحرية — أن تتوغل في داخل ألبانيا، في داخل بلاد مقفرة جبلية، سكانها أقوياء أشداء ولكنها استخدمت أموالها في سبيل إثارة القبائل الداخلة على الأتراك، ولكن هذه السياسة وإن نفعت وقتًا ما فلم تنتهِ إلى نجاح، فبالرغم من شجاعة القبائل ومناعة بلادها ما كانت تستطيع الصمود أمام قوة الأتراك مدة طويلة.
وفي أوائل القرن الخامس عشر بدأ الأتراك فتوحهم في ألبانيا، وكان من بين ما أخذوا كضمانات جورج كاستريونس، وكان لا يزال حديث السن، فأكرموا وفادته وعلَّموه الدين الإسلامي فاعتنقه، وسموه إسكندر، وأعطوه لقب بك فصار إسكندر بك.
خدم إسكندر بك في الجيش العثماني وبرز فيه، حارب ضد الصرب والبنادقة، وأظهر شجاعة ممتازة. وبينما كان يخدم في الجيش الذي استخدم ضد المجر في سنة ١٤٤٣م علم بقيادة ثورة في ألبانيا، وهرب من العثمانيين إلى أحد الحصون الألبانية، وتنصَّر ثانية، وأعلن حربًا صليبية على الأتراك، وساعدته على النجاح طبيعة الجبال التي كان محتميًا بها.
أصبح إسكندر بك من أقوى خصوم الأتراك، ومن أشدهم حقدًا، وهو يشبه في هذه الناحية هونيادي المجري، كما يشبهه في ذكائه العسكري ومقدرته على قيادة الرجال، وأصبح مثله زعيمًا قوميًّا. كان إسكندر بك الزعيم الوطني الألباني الوحيد. لقد التفَّ حوله الزعماء الألبانيون كما التفَّ الزعماء المجريون حول هونيادي. ولقد أيدته في خصومته للأتراك دولةُ البندقية ودولة نابُلي.
لقد حارب إسكندر بك العثمانيين مِرَارًا وهزمهم ومنعهم من أن يسيطروا على ألبانيا سيطرة تامة، ولكنه لم يستطِع اتخاذ خطة الهجوم أو محاربة العثمانيين في السهول.
ولكن السلطان محمد الفاتح ما كان يستطيع أن يقبل تفوُّق إسكندر بك في ألبانيا، فيحاول أن يستفيد من الحزازات الموجودة بين الزعماء الألبانيين، وهزمهم هم وحلفاؤهم من نابلي. ولكن إسكندر بك نجح في إثارة الألبانيين وعَقَدَ صلحًا مع الأتراك ثم نقضه؛ لأن البابا وعده بالمساعدة فحارب الأتراك إلى أن اضْطُرَّ إلى أن يرحل إلى روما يطلب المساعدة والعون، ولكنه مات في أوائل سنة ١٤٦٨م، وبذا استطاع الأتراك أن يُخضِعوا بقية ألبانيا بسهولة.
لقد كلف إسكندر بك الأتراك غاليًا في الفتح، وإذا كان قد نجح في شيء فلقد نجح في تأخير فتح ألبانيا، وأوقف مَدَّ التيار التركي العنيف الذي ربما كان اكتسح إيطاليا.
بعد موت إسكندر بك سيطر السلطان محمد الثاني على ألبانيا تمامًا وطرد البندقية من مملكاتها الساحلية فبدأ انكماشها واضمحلالها.
فتوحات السلطان الفاتح في آسيا
وأما في آسيا فلقد كان نجاح السلطان محمد الثاني تامًّا. فاستطاع أن يقضي على بقايا الإغريق في آسيا الصغرى، فاستولى على سينوب وطربزون. وكان لطربزون إمبراطور إغريقي ليست له إلا المدينة وضواحيها فحاول تقوية مركزه بالاتِّفاق مع أوزون حسن الذي كان يسيطر على بعض أجزاء من أرمينيا والعراق وفارس. ولكن لما علم أوزون حسن بمجيء السلطان بجيش كبير طلب السلام وترك الإمبراطورية الإغريقية في آسيا الصغرى لتلقى مصيرها المحتوم. فلقد توجَّه السلطان إلى المدينة وحاصرها برًّا وبحرًا، وبعد فترة صغيرة سلمت المدينة في سنة ١٤٦١م وبذا تلاشت دولة الإغريق نهائيًّا في آسيا الصغرى، وأصبح الأناضول تركيًّا إسلاميًّا لا سيطرة فيه للإغريق إلا في فترة صغيرة تلَت الحرب الأوروبية الكبرى الأولى.
وأصبح للعثمانيين السيطرة التامة على بحر مرمرة وبحر الأرخبيل والبحر الأسود، وخاصة بعد أن أرسل السلطان الصدر الأعظم لفتح بلاد القرم وتم له ذلك.
وأما فيما يختص بإمارة قرمان ففي سنة ١٤٦٣م مات أمير هذه البلاد، وكان يدفع الجزية للسلطان محمد الفاتح. وترك أبناءً سبعة، اختلفوا فيما بينهم على وِرَاثَةِ الحكم، فتدخل السلطان وقضى قضاءً مبرمًا على استقلال هذه الإمارة في سنة ١٤٧١م. وبذا أصبحت الأناضول عثمانية وانتهت نهائيًّا بقايا النظام السلجوقي القديم.
ولكن حدود العثمانيين الشرقية ما كانت آمنة؛ أولًا: لغزو جنود التتار، ثانيًا: لعداوة أوزون حسن السابق الذكر للعثمانيين؛ فلقد حاول هذا الرجل نهب البلاد الواقعة على الحدود الشرقية، وفعلًا نجح في ذلك وفي إحراق بعض المدن الأخرى، وهاجم قرمان، فقابله الأمير مصطفى بن محمد الفاتح، وأسر قائد الغزاة، وكبَّله بالحديد وأرسله إلى أبيه، وقامت وقائع أخرى كان النصر فيها حليف الأتراك أيضًا. وحاول أوزون حسن هذا — وقد أحس بالخطر على بلاده — فتح باب المفاوضات مع رودس والبندقية، وطلب منهما إمداده بالمدافع وبعض رجال المدفعية، وفعلًا أنجدته البندقية فعاد إلى غزو الحدود العثمانية، ولكن قواته دُحِرَتْ، وهرب هو من ميدان القتال بحياته، فعاد إلى الحدود الشرقية أمنُها وسلامُها.
على أن فتوحات محمد الفاتح وضعت أساس الخطة التي سيتبعها خلفاؤه فيما بعدُ؛ فلقد أصبح للعثمانيين حدود غير مستقرَّة مع كل من مصر وفارس والمجر، وكان لا بد من وقوع الاصطدام بين العثمانيين وهذه الدول عاجلًا أو آجلًا.
علاقة السلطان الفاتح بجنوة والبندقية وإيطاليا
كان لوجود العثمانيين في أوروبا وحلولهم محل الإغريق في البلقان وفي القسطنطينية أثر كبير على علاقاتهم مع جنوة والبندقية.
لقد عمل السلطان محمد الثاني فعلًا على المحافظة على العَلاقات السلمية بينه وبين هاتين الدولتين أثناء حصاره لمدينة القسطنطينية، فلم يهاجم غلطة، وهي مستعمرة جنوية مستقلة على حدود القسطنطينية، ولكنه عندما انتهى من فتح مدينة قسطنطين طلب من الجنويين هدم حصون غلطة وأسوارها وفرض عليهم الجزية؛ مما عمل على سوء العلاقات بينه وبين جنوة.
وعلاقة السلطان السيئة مع جنوة هي التي دعته إلى التفكير في القضاء على ممتلكاتها في البحر الأسود؛ ولذا أرسل حملته المشهورة إلى بلاد القرم إلى ثغر كافا. كانت الحملة بقيادة الصدر الأعظم ومكوَّنة من أسطول ضخم وأربعين ألف مقاتل.
وكانت مدينة كافا قوية وغنية؛ فلقد كان يطلق عليها اسم القسطنطينية الصغيرة. ولم تستطع المدينة الوقوف أمام قوات السلطان العظيمة، فسلمت بعد حصار أربعة أيام، وكانت الغنائم والأسلاب كثيرة، واصطفى السلطان محمد الثاني ألفًا وأربعمائة من أبناء نبلائها للخدمة في صفوف الإنكشارية، ثم استولى الأتراك على شبه جزيرة القرم كلها، وأصبح خانات التتار في هذه الأجزاء الواقعة في شمال البحر الأسود تابعين للدولة العثمانية لمدة تقرب من ثلاثة قرون.
ولم تكُن علاقة السلطان محمد الثاني بالبنادقة خيرًا من علاقاته مع جنوة، فلقد اصطدم بقوات البندقية على سواحل بلاد الإغريق، وفي جزر بحر الأرخبيل، وكانت نتيجة ذلك الاصطدام المسلح أن استولى العثمانيون على إيبويبا ولسبوس ولمنوس وسفالونيا وبعض الجزر الأخرى.
وبعد أن استولى السلطان على ألبانيا والبوسنة والهرسك زاد اتصاله بممتلكات البندقية على الشاطئ الشرقي للبحر الأدرياتي، وأراد السلطان الفاتح أن يعاقب البندقية على موقفها العدائي إزاءه في كثير من الظروف، فأرسل في سنة ١٤٧٧م جيشًا قويًّا إلى ممتلكاتها يحاول تهديد المدينة نفسها، ففزعت البندقية وأقامت التحصينات المنيعة، ولكن الأتراك اخترقوا كثيرًا من هذه التحصينات وهزموا جنودها مرارًا واكتسحوا بلادها إلى قرب المدينة، وارتجف شيوخ المدينة في قصورهم لهول الأنباء التي وصلت إليهم ورأَوْا بأعينهم النيران تشتعل في قراهم، ولكن لحسن حظهم لم يكُن السلطان الفاتح ينوي الاستيلاء على هذه المدينة، ورجعت جنوده وسراياه محمَّلة بالأسرى وبالغنائم الكثيرة.
ولذا أسرعت البندقية فعقدت صلحًا مع السلطان محمد، وتعهدت بأن تساعد السلطان بأسطول مكوَّن من مائة سفينة إذا هاجمته دولة أخرى، ووافق السلطان على أن يساعدها بمائة ألف جندي إذا هاجمها أعداؤها.
وكان السلطان محمد الثاني يفكر في إخضاع إيطاليا، ولكنه كان دائمًا يؤجل ذلك المشروع؛ أولًا لظروف العثمانيين الحربية في البلقان، ولعناد هونيادي وإسكندر بك، ولذا بعدما اختفى هذان الخصمان من المسرح السياسي في البلقان جهز السلطان محمد الفاتح الاستعدادات العظيمة البرية والبحرية، وأحب أن يمهد لذلك بالاستيلاء على جزيرة رودس حتى لا تصبح شوكة في جانب ممتلكاته العظيمة. وكانت في يد فرسان القديس يوحنا الذين وطَّدوا مركزهم فيها في أوائل القرن الرابع عشر، وأصبحوا قوة مستقلة لا يُستهان بها، ولقد وصلت للسلطان معلومات عن هذه الجزيرة وعن حصونها، ولذا أرسل مسيح باشا في أبريل سنة ١٤٨٠م بقوة كبيرة مكوَّنة من مائة وثمانين سفينة وجيش قوي ومدفعية كبيرة، واستطاع الباشا أن ينزل في الجزيرة، واستولى على بعض الأماكن فيها، وحاصر المدينة، فدافعت عن نفسها دفاعًا مشهودًا، وكادت تسقط لولا جشع الإنكشارية وسوء سياسة القائد.
لقد استطاع الأتراك بمدفعيتهم القوية إحداثَ ثغرات في أسوار المدينة، ورفع العلم العثماني فعلًا على الأسوار، وكادت المدينة تؤخَذ لولا أن أعلن مسيح باشا في هذه اللحظة أن الغنائم كلها ستُحفظ للسلطان، ففتَّ ذلك في عضد المهاجمين وغضبت الجنود المهاجمة، ورفضوا مساعدة إخوانهم الذين اقتحموا الأسوار، وانتهز المُدافِعون ذلك الخلل فردوا الفرق الأولى المهاجِمة على أعقابها، واضْطُرَّ مسيح باشا إلى رفع الحصار والعودة، وأُنقِذت رودس لمدة نصف قرن من الزمان.
وفي نفس الوقت الذي هاجم فيه الأتراك رودس أنزلوا جنودهم بقيادة بطل القرم إلى إيطاليا، على شاطئ أبوليا، وساروا نحو تارنتو، وكانت تُعتَبر في ذلك الوقت مفتاح جنوب إيطاليا، فلم تستطِع الوقوف طويلًا أمام قوة الأتراك وسلمت في أغسطس سنة ١٤٨٠م وقتل سكانها واستبيحت المدينة. فكانت هذه الحملة الحربية درسًا قاسيًا لإيطاليا لتدخلها في شئون البلقان، وتهديدًا لمركز البابوية في إيطاليا ذاتها.
لقد وضع السلطان محمد الفاتح قدمه في إيطاليا واستولى على ميناء صالحة لتوغُّل جنوده في داخلها، وأخذ في تجهيز معَدَّات عظيمة لإتمام مشروعه، ولم يكن يعرِف وجهتها الحقيقية غيره، فلقد كان يحتفظ دائمًا بسرية مشاريعه لنفسه، ولكنه مات بغتة في وسط جيوشه في ٣ مايو سنة ١٤٨١م، فأُنقِذت إيطاليا من الخطر العثماني.