شعب يلهو
كانت الستائر مسدلة على نوافذ القصور في بركة الرطلي، وإنَّ أنوار المصابيح لتنفذ من ورائها فتترامى على سطح الماء في الخليج الحاكمي، وقد هبت نسمات الليل على صفحة الماء، وتكسرت عليها الأشعة، كأنها سطور مكتوبة يقرأ منها كل ذي عينين نجوى خواطره …
وعلى شاطئ الخليج سرادق منصوب قد أقيمت في صدره دكة عالية، جلس عليها جوقة من مشاهير أهل الغناء والموسيقى، بين عازف عود، وضارب دف، ونافخ شبَّابة، فيهم علي بن رحاب صاحب التلاحين المشهورة والأغاني الساحرة، وفيهم هيفاء اللذيذة مغنية السلاطين، وفيهم علي بن غانم الطنبوري، وأنعام الخاصكية معلمة الغناء في قصر السلطان قايتباي … ولم تتخلف عن المجلس عزيزة بنت السطحي كبيرة مغنيات القاهرة لذلك العهد، وإنْ كانت قد هجرت الغناء منذ بعيد …
واصطفَّ الناس جلوسًا على الحشايا والأرائك محتَبِين أو متكئين على النمارق، قد غص بهم السرادق على سعته، حتى ليس فيه مقعد لقادم جديد أو طريق لعابر …
وعلى الأريكة القريبة من دكة المغنين، جلس طائفة من أمراء المماليك يتوسطهم طومان ابن أخي الغوري، قد فرعهم طولًا، وبهرهم جمالًا وسماحة، وأشرقت على شفتيه ابتسامة راضية تشيع فيما حواليه البِشر والاطمئنان.
وعلى مقربة من مجلس هؤلاء الأمراء، جلس جماعة من وجهاء القاهريين وظرفائهم، فيهم الشاعر الماجن جمال الدين السلموني، والخطيب الظريف بدر الدين بن جمعة شيخ قبة يشبك، وفيهم المهذار العَيَّاب سباب الأنام تقي الدين بن محمود الشاهد بالمدرسة الصالحية، وفيهم المؤذن المغني المزواج المطلاق شهاب الدين المحلاوي الذي جاوز عدد مطلقاته تسعًا وتسعين، ولم يزل عَزَبًا يبحث عن زوجة يبلغ بها عددُ مطلقاته المائة … وقد اكتنف هذه الجماعةَ عن اليمين وعن الشمال، رجلان قد بلغا من دمامة الخلقة وبشاعة المنظر الحد الذي يوشك أنْ يخرجهما عن حقيقة الآدمية: أحدهما أرقم المسيخ — خادم خلوة الشيخ أبي السعود الجارحي — والآخر معين الدين بن شمس نائب وكيل بيت المال … وكأنما أرادت هذه الجماعة من القاهريين الظرفاء أنْ يكتنف مجلسهم هذان الدميمان؛ ليكونا وقاية لهم من شر حاسد إذا حسد.
وتهيأت الجوقة للغناء، وأرهف الناس آذانهم يسمعون، وأُزِيحَتِ الأستار عن شرفات البيوت المطلة على الخليج، وبرزت من خلالها وجوه قد نضَّرتها النعمة، وانبسط الضوء على سطح الماء، وتكاثرت عليه الظلال الراقصة، وغنى علي بن رحاب فأطرب وأعجب، وجاوبه أصحابُه وصواحبه عزفًا على العود، أو نقرًا على الدف، أو صفيرًا على الشَّبَّابة، وتردَّد الصدى من بعيد إلى بعيد … وهو يُنشِد:
وفرغ من غنائه فالتهبت الأكف بالتصفيق، وبحت الحناجر بالهتاف، وارتفعت الأصوات من كل جانب؛ تستعيد ذلك اللحن الذي استلب وقار الناس، واستخف الشيوخ والشباب.
وهز علي بن رحاب رأسه شاكرًا، وتهيأ ليعيد لحنه، فلم يكد يرفع صوته: مولاي خذ لي أمانا …
حتى اهتزت جوانب السرادق بصوت أجش يصيح: اخرس، لا أمان لك!
فالتفت الناس نحو الباب مذعورين، ليجدوا كوكبة من المماليك السلطانية يقدمهم فارس على جواده، قد اقتحموا السرادق شاهرين السيوف، لا يبالون مَن في طريقهم من الناس أنْ تطؤهم الأقدام، أو تحطمهم سنابك الخيل، فقصدوا إلى المنصة حيث كان علي بن رحاب في جوقته قد ألجمهم الفزع، فتسمروا في أمكنتهم مرعوبين، لم يحاول أحد منهم أنْ يفلت من ذلك القضاء النازل أو يفر بنفسه. وتقدم الفارس إلى حيث كان علي بن رحاب، فانتزعه من صحابته وهو يقول: تعال أيها الصعلوك؛ لترى ويرى الناس فيك جزاء من يتدخل فيما لا يعنيه!
ثم اقتلعه عن المنصة في غلظة وأسلمه إلى جنده؛ ليمضوا به إلى مجلس الدوادار الكبير طومان باي؛ ليقتص منه على ما يُنسب إليه من الذنب …
كان الناس من الفزع والدهشة، كأنما أخذتهم الصاعقة بغتة، فأسرع منهم إلى الباب طائفة يريدون الفرار، فسقطوا تحت أقدام الجند، وترامى بعضهم على بعض، فما منهم إلَّا كسير أو جريح أو قتيل قد لفظ نفسه، وطائفة كأنما أصابها الرعب بالشلل، فيبست أيديهم وأرجلهم، ولم يستطيعوا من مكانهم حراكًا، ونجوا بالخوف من الهلكة، وطائفة تسمع وترى وتتهيأ للدفاع باليد واللسان إذا تهيأ لها سبيل الدفاع …
فلما همَّ الجند أنْ يمضوا بعلي بن رحاب، اعترض سبيلهم الأمير الشاب طومان، وصاح بهم صيحة آمر: قفوا! أين تذهبون به؟
فالتفت إليه قائدهم مستنكرًا يقول: كيف تجرؤ يا سيدي؟ إنه أمر الدوادار الكبير طومان باي!
قال طومان: وما جريرته حتى يؤخذ هذه الأخذة، وتطأ خيلك إليه بطون الناس؟
قال القائد وعلى شفتيه ابتسامة تعبر عن معنى: إذا أردت يا سيدي أنْ تعرف جريرته، فإني أستطيع أنْ آخذك معه لتعرف هناك بين يدي الدوادار الكبير.
ورمى بصره نحو مماليكه، ولكن طومان لم يلبث أنْ رده إليه وهو يقول: بل سيبقى علي بن رحاب هنا؛ حتى يعرف هو نفسه أي جريرة يؤخذ بها.
ثم خطا خطوة فوقف إلى جانب علي بن رحاب، ووضع يده على قبضة سيفه، وهو يجيل نظره بين المماليك كأنما يتحداهم فردًا فردًا، وجماعةً متحدة أنْ يبرزوا إليه ليستخلصوا أسيرهم من يده، وقبل أنْ يتدبر قائد الجند موقفه من هذا المملوك الشاب، كانت كلمات طومان قد لامست كل قلب من قلوب الناس، فسرت في عروقهم هزةٌ عنيفة واستيقظت حَمِيَّتُهُم، فإذا هم يصيحون بالمماليك صيحة رجل واحد، ويندفعون إليهم اندفاع الموج على ساحله … وأوشكت أنْ تنشب معركة.
وأحس قائد العسكر حرج الموقف، فآثر الانسحاب بعسكره، وخلف علي بن رحاب في حماية طومان …
وتَسَحَّبَ الناس إلى بيوتهم، قد نغص أولئك المماليك عليهم ليلتهم، فما استمتعوا بشيء مما ألفوا أنْ يستمتعوا به في ليالي علي بن رحاب.
وانفضَّ السامر فلم يبقَ من ذلك الجمع الحاشد إلَّا شراذم متفرقة، قد أخذت كل جماعة منها في باب من أبواب الحديث، وتنتهي جميعًا على رأي واحد، هو الإعجاب بطومان، والسخط على غلظة أولئك المماليك، وإنهم فيما يتحاورون ليخلطون الجِدَّ بالهزل، ويستنبطون من كل معنى فكاهة ونادرة وضحكًا عريضًا.
وكان أرقم المسيخ لم يزل حيث كان، قد انتقع وجهه، ودارت عيناه في محجريهما، يرمي بهما إلى هنا وها هنا في قلق ظاهر، كأنما يبحث عن شيء، حتى استقرتا على وجه طومان، وقد جلس إلى علي بن رحاب يتحدث إليه ويسمع منه. وكان الغضب قد زاد أرقم تشويهًا ومسخًا، حتى كأنه تمثال منصوب للقبح والدمامة، فلم تكد عينه تستقر على طومان حتى انحسرت شفتاه عن شيء يشبه الابتسام، وتمثلت في عينيه نظرة إعجاب وحبٍّ ورحمة!
وبلغت أذنيه قهقهاتٌ متتابعة، فاستدار ينظر، فإذا جمال الدين السلموني الشاعر وأصحابه قد وضعوا أيديهم على بطونهم، ومال بعضهم على بعض مُغرِقِين في ضحك عريض، فزمَّ شفتيه أسفًا وهو يقول في همس: حتى في هذه الساعة لا يدعون المزح والدعابة!
وسمعه تقي الدين بن محمود فقال متحديًا: ما لك أنت ولهذا أيها المسيخ الدجال … هَلَّا بقيت إلى جانب شيخك في هذه الليلة، تنظف له خلوته وتحرق بين يديه البخور!
وكأنما ساءه أنْ يذكر شيخه أبو السعود في هذا المقام على لسان ذلك المهذار العابث، فأجاب غاضبًا: وتذكر شيخنا أيضًا! أما والله لولا مقامه في هذه الأمة، لمحقها الله محقًا، وصبَّ عليها العذاب ألوانًا، وإنما تُرحمون به من غضب الله!
قال الخطيب بدر بن جمعة ساخرًا: صدق الله العظيم: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ!
قال المؤذن: صلى الله عليه وسلم.
يمط بها صوته في غناء وترتيل، كأنما يسبح لأذان الفجر …
وقهقه السلموني ضاحكًا حتى كاد يندلق بطنه.
واختنق أرقم بالغضب، وثار لشيخه ولنفسه فهمَّ بأمر، ثم تمتم بكلمات خافتة وتهيأ للانصراف.
قال المسيخ الثاني معين الدين بن شمس نائب وكيل بيت المال: لقد أفحشتم واللهِ على الرجل، وتناولتموه وشيخه بما لا يحق لكم، وليس لي مقام معكم إلَّا أنْ تسترضوه ليعود إلى مجلسه منكم.
قال تقي الدين: أما واللهِ لو لَحِقْتَ به لطاب لنا المجلس، وما تنغصت ليلتنا إلَّا بيمن طلعتك وبركات شيخه، ذلك الذي يريد أنْ يكون بين الأمراء أميرًا، وبين الصوفية شيخًا، وبين المغنين عازف طنبور …
قال السلموني: لا يا تقي الدين، حتى هنا ولا آذنُ لك … أفلا يسلم من لسانك أحد، حتى ولا الشيخ أبو السعود الجارحي! اتَّقِ الله في أعراض الناس يا تقي الدين!
وكان أرقم قد مضى غير بعيد، فلحق به معين الدين وجمال الدين السلموني؛ ليسترضياه ويعودا به، وبصر به طومان فابتسم له ابتسامة رقيقة ودعاه إلى مجلسه، فعاج عليه وجلس منه غير بعيد، ثم لم يلبث جمال الدين السلموني وأصحابه أنْ انضموا إلى حلقة طومان يشاركون في الحديث … وكأنما أعداهم — وكلهم شيوخ — وقارُ ذلك الشاب النبيل الطلعة، فنَسُوا ما كانوا فيه من المزاح والدعابة، وأخذوا في حديث جدُّ خطير … إلَّا رجلين اثنين: هما المؤذن شهاب الدين المحلاوي، وأرقم المسيخ. أمَّا الأول فقد تعلقت عيناه بالفتى الجميل يسرحهما في مفاتن طلعته، فلم يسمع حرفًا واحدًا من كل ما تتحدث به الجماعة. وأمَّا أرقم فظلَّ طول الوقت صامتًا ينظر ويسمع، فلم تفته كلمة ولا حركة، ولكنه لم ينبس بحرف …
وتهيأ المجلس للانصراف، فمال المؤذن الماجن على أذن أرقم يقول عابثًا: عذرتك يا أرقم وكنت عاذلًا، فلو كان بين نسائي المائة واحدةٌ في مثل جمال صاحبك لما رُعتها بضرة …
فثار به أرقم صائحًا في غضب: اخسأ! عليكَ وعليكَ … أيها الفاسق الملعون!
ولكن المؤذن كان قد فرَّ من بين يديه قبل أنْ تناله لطمته!
وانصرف طومان وأصحابه، وتبعه أرقم، ومشى جمال الدين السلموني، وتقي الدين بن محمود يتحدثان …
قال تقي الدين: ما رأيت كاليوم شبابًا وفُتُوَّةً وجمال خلق، ولا سمعتُ مثل حديث ذلك الفتى …
قال السلموني: وَيْ! ها أنا ذا أراك ذات مساءٍ تثني على رجل من الناس يا سبَّاب الأنام …
فتمتم تقي الدين بكلمات، ولكن كلماته لم تلبث أنْ غابت في ضحكة عالية أرسلها جمال الدين، فجاوبتها أختها من صاحبه … وخلا السامر من السُّمَّار.
لم يكن عليُّ بن رحاب المغني أميرًا من أمراء المماليك يُخاف ويتقى. نعم، ولا كان من «أولاد الناس»: تلك الطبقة التي كان آباؤها منذ جيل أو أجيال مماليك من ذوي السلطان، فلا يزالون يعيشون ممَّا خلَّف لهم آباؤهم من المال والمتاع والضياع، مباهين بأنهم «أولاد الناس»، الذين يحسب الأمراء الحاكمون حسابهم ويتقونهم. نعم، ولا كان علي بن رحاب من المماليك القرانصة، الذين كان لهم يومًا دولة وسلطان، ثم دالت دولتهم وذهب سلطانهم بنزول أستاذهم عن العرش، ولكن أنفسهم لا تزال تنازعهم إلى الإمارة، ولا يزالون يدبرون لخلع السلطان القائم عن العرش ليتولاه أمير من «طبقتهم» ينتسبون إليه ويتأمرون في كنفه. ولا كان عليُّ بن رحاب مملوكًا من المماليك «الجلبان»، الذين ينتسبون إلى السلطان الجالس على العرش، فلا يزالون يتنافسون في أسباب الزُّلْفَى إليه بالدَّسِّ والخيانة؛ ليرفعهم من طبقة المماليك إلى مرتبة الأمراء …
لم يكن علي بن رحاب المغني واحدًا من هذه الطوائف الجركسية، ولا كان شيخًا من شيوخ العربان الثائرين أبدًا على المماليك، لا يدخلون تحت طاعة سلطان منهم إلَّا مطاولة ورياء، حتى تجتمع جموعهم فيعودوا بعد جمام إلى الثورة والعصيان … ولا كان تاجرًا من مياسير التجار المصريين، الذين تفرض عليهم النظم الاقتصادية التي أملتها مطامع السلاطين أنْ يكونوا أبدًا على حذر ورقبة من غدر السلطان، وأنْ يكون السلطان وأمراؤه على حذر منهم. ولا كان واحدًا من فتيان الزُّعر أو زعمائهم: تلك العصائب الشعبية التي تألفت في الظلام؛ لمقاومة طغيان السلاطين وعسف الأمراء … ولا كان من تلك الطبقة المصرية الضئيلة من الفقهاء وأهل الكتابة الذين أهَّلتهم مواهبهم ليتولوا بعض الوظائف السلطانية التي تدنيهم إلى السلطان بمقدار ما تبعد بهم عن أبناء جَلدتهم، فلا يزالون مترددين بين العوامل المتناقضة، تتنازعهم ذات اليمين وذات الشمال، ولا يزالون بذلك موضع الرِّيبة عند المصريين وعند المماليك على السواء …
لم يكن علي بن رحاب واحدًا من هذه الطوائف التي تنتظم المصريين وأبناء الجركس جميعًا … فلماذا يخافه الدوادار الكبير، ويرسل عسكره للقبض عليه؟!
لماذا؟!
لأن علي بن رحاب وإنْ لم يكن من أولئك الجركس الطامعين، ولا من هؤلاء المصريين الثائرين، كان يشعر أنه مصريٌّ، وأنَّ مصريته تفرض عليه أنْ يتتبع الأحداث الجارية في وطنه بين الشعب وأمرائه، وأنْ يكون له رأي فيما يجري من تلك الأحداث، وأنْ يتحدث برأيه إلى من يغشى مجلسه من أصحابه أو من غير أصحابه، وكان له لسان وبيان، وله إلى ذلك منزلة في نفوس الناس، وإنه لشاعر وإنْ كانت شهوته بالموسيقى والغناء، وكان مجلسه يضم من السراة والعلية طائفة من المصريين، لو اجتمعت على رأي لتزلزلت قوائم عرش السلطان، من أجل ذلك غضِب عليه الدوادار الكبير طومان باي، وأجمع نيته على الانتقام منه، فكيف يجرؤ مصريٌّ على التحدث في شأن من شئون الحكومة القائمة؟ وكيف تأذن له هذه الحكومة بهذا التدخل فيما لا يعنيه؟ ومن هو؟ مصريٌّ من ذلك الشعب يُقحِم نفسه على الوزراء والأمراء وأصحاب الشأن من الجركس! ويا لها جريمة!
ولم تنفعه شفاعة صديقه الأمير طومان، ولا دعوات شيخه أبي السعود الجارحي، ولا منزلته في الفن عند المصريين والمماليك على السواء … لم ينفعه ذلك ولم يشفع له، فما هي إلَّا أيام حتى وجد الدوادار الكبير الفرصة السانحة، ولم يكُن مع علي بن رحاب أحد يحميه، فانقض عليه جند السلطان وذهبوا به … وشهدت القاهرة كلها نكبة علي بن رحاب الشاعر الملحن المغني الموسيقار، الفنان الذي لم تشهد مصر مثله من قبله، وهيهات أنْ تشهد مصر مثله من بعده؛ كل ذلك لأنه «تدخل فيما لا يعنيه»، وجرى على لسانه في بعض مجالسه حديث عن بعض أمراء السلطان الذي يحكم …
وأسفت القاهرة كلها على ما نال علي بن رحاب أسفًا بالغًا، ولكن ذلك الأسف البالغ الذي شمل المصريين جميعًا، لم يكن له إلَّا مظهر ضئيل في غارات فتيان الزعر للفتك والسفك وترويع الناس في باب اللوق، وبولاق، والحسينية، وسوق مرجوش، ليلة وليلة أخرى، ثم عاد الهدوء والاستقرار … وعاد المصريون ينتظمون حلقات في مجالي السمر، وفي رحاب المساجد، وعلى أبواب الدكاكين، يقصفون ويتفكَّهون، ويستنبطون من كل نازلة تنزل بهم فكاهة ونادرة وضحكًا عريضًا …
طائفة قليلة من أولاد البلد هي التي أثرت فيها نكبة علي بن رحاب أثرًا بعيدًا، هي زمرة جمال الدين السلموني الشاعر، وتقي الدين بن محمود «سبَّاب الأنام» وأصحابهما … أكان ذلك لأنه مصريٌّ منهم قد نالته يد السلطان الجركسي بالقسوة والبطش؟ أم لأنهم فقدوا من بعده مثل مجلسه ولم يستمعوا إلى مثل غنائه؟ ليس يدري أحد … ولكن الحقيقة المؤكدة أنهم ظلوا يذكرونه زمانًا في حزن وانكسار ولهفة.