خضاب العروس
لم تكد مصرباي — أرملة السلطان الناصر — تغادر القلعة بعد مصرع زوجها، حتى صعدت إليها ثانية في زفة سلطانية، وعادت زوجًا للسلطان الظاهر قنصوه الخال … ولكنها في هذه المرة تحس قلقًا لا تعرف مأتاه … ها هي ذي تعود إلى قصر القلعة سلطانة كما تمنت، وها هو ذا زوجها السلطان الشاب لا تكاد تنقطع خطاه بين قاعة العرش وغرفة زينتها، ولا تزال تسمع خفق أقدامه ذاهبًا وآيبًا، وهي جالسة إلى مرآة زينتها قد وقفت من ورائها جاريتها، وانطبعت على المرآة صورتان.
ألم يكن هذا هو كل ما تحلم به؟ فمن أين لها القلق والضجر، وخفق القلب واختلاج العين، كأنها تتوقع أنْ تحل بها كارثة؟ ألأن عدوتها أصل باي — حظية قايتباي، وأم الناصر، وأخت الظاهر قنصوه زوجها — لم تزل تقيم في القصر؟ وماذا عليها من هذا؟ أم لأنها رأت اليوم — وبعد سنين — صديقها القديم خاير بن ملباي وقد عاد من سفارته في بلاد الروم؟ وما لها ولخاير اليوم وقد بلغت مأملها؟! أم لأن جانبلاط أمير الشام قد عاد إلى القصر ليكون كبير الأمناء لزوجها الظاهر قنصوه، وهو صديق عدوتها اللدود أصل باي؟ وماذا يعنيها من جانبلاط وإنْ كان كبير الأمناء وصديق عدوَّتها اللدود أصل باي؟ أم هي في قلق وهمٍّ منذ لحظتْ تلك الصلة الوثيقة الخفية بين الدوادار الكبير طومان باي وكبير الأمناء جانبلاط، وما يجتمع مثلهما إلَّا على شرٍّ وتدبير غادر، أليس هذا الدوادار هو الذي قتل زوجها الناصر، وكان أميرًا من أمرائه ورقيقًا من مماليك أبيه قايتباي؟ ثم أليس جانبلاط هذا هو الذي كان صديقًا من أوفى أصدقاء سلفها أقبردي، فلما دارت عليه الدائرة قلَب له ظهر المِجَنِّ، وتخلى عنه لينضم إلى أعدائه، ثم هو اليوم صديق أصل باي ولا تزال جاريته تروح بينهما وتغدو، ولا يكاد السلطان يشعر بما بين أخته وكبير أمنائه … فما هذه الصلة الوثيقة الخفية بين الرجلين، وإنَّ لهما في الغدر تاريخًا طويلًا؟ أتراهما يدبران أمرًا للإيقاع بزوجها، أم تلك كلها أوهام وهواجس وأباطيل؟ فما هذا القلق والضجر وخفق القلب واختلاج العين، كأنما يريد القدر أنْ ينذرها بكارثة من وراء الغيب؟
وسمعت وقع أقدام وراء الباب، فأرهفت أذنيها، ليست هذه خطوات الظاهر قنصوه، ودخلت جارية تُؤذنها بمقدم قريبتها شهددار بنت أقبردي.
لتدخل.
ما أحراها أنْ تجد في صحبتها رَوحًا ومسرة وفرجًا من ضيق!
والتقتا على شوق، وخرجت وصيفة السلطانة لتدع لهما أنْ ينعما بخلوتهما هادئتين، وجلستا تتحدثان …
قالت مصرباي باسمة: وكيف أنت وأخي طومان؟ ألم يحدثك حديث غده وغدك؟
فغاب وجه شهددار وراء سحابة من الحزن، وقالت في انكسار: إنني لم أرَ طومان منذ بعيد يا خوند!
قالت مصرباي مدهوشة: لم تريه منذ بعيد؟ فكيف صبره عنك وإني لأعرف قلبه!
فابتسمت ابتسامة كاسفة وهي تقول: أحسبه لم يزل يذكرني على البعاد، ولكنه يخشى أنْ يغضب عمه الغوري، فقد عرف ما بين طومان وبنت أقبردي!
قالت مصرباي منكرة: ولكن أقبردي قد مات، فما استمرار الغوري على عداوته؟
فدمعت عينا شهددار وقالت بصوت مختنِق: لو لم يكن أقبردي قد مات لكان الغوري أدنى إليه اليوم … ولما جرؤ الدوادار الكبير على مصادرة أمي.
قالت مصرباي منكرة: أمك؟ ما شأن الدوادار الكبير بأمك؟ وكيف يجرؤ على مصادرة امرأة أقبردي الدوادار، هل تسلط وبطش إلى هذا الحد؟ فما عمل السلطان الظاهر؟
فترددت شهددار برهة ثم قالت: بإذن الظاهر قنصوه بطش دواداره وفتك، واقتحم على الناس بيوتهم، وصادر امرأة أقبردي الدوادار، فلا تنسي يا خوند أنه لم يصادر أمي وحدها، بل صادر معها خالتي خوند فاطمة بنت العلاء — أرملة الأشرف قايتباي — وإنك لتعرفين بعض ما كان بينها وبين أخت الظاهر قنصوه حين كانت جارية في حريم قايتباي، فلعل الظاهر قنصوه لم يصادر خوند ويصادر أمي إلَّا قربانًا إلى أخته أصل باي، وشفاءً لذات صدرها!
صاحت مصرباي غاضبة: أوه! دائمًا أصل باي! أصل باي! ما لهذه المرأة لا تريد أنْ تخرج من حياتي؟!
قالت شهددار باسمة: فكيف لو علمت يا خوند ما يتحدث به الناس عن أصل باي وجانبلاط؟
فبدا الاهتمام في وجه مصرباي وقالت في لهفة: أصل باي وجانبلاط؟! بماذا يتحدث الناس عنهما يا شهددار؟
قالت: يقولون يا خوند: إنَّ جانبلاط قد عُقِدَ له على أصل باي، فهي زوجته منذ عاد من الشام كبيرًا للأمناء في قصر الظاهر!
فشحب وجه مصرباي وقالت: ماذا تقولين يا شهددار؟ هذا كثير! أفلا يعرف الظاهر قنصوه من أمر أخته وكبير أمنائه ما يعرف الناس؟
قالت شهددار معتذرة: إنه حديث الناس يا مولاتي، وقد ظللتُ أنكره زمانًا، حدثتني به اليوم جارية طومان!
فزاد اهتمام مصرباي وقالت: جارية طومان! وماذا يعني طومان وجاريته من أصل باي وجانبلاط؟! وماذا يعنيك حتى تتحدث به إليك جاريته؟!
ثم سكتت برهة وأردفت تسأل صاحبتها: أكان طومان يعرف أنك على نية زيارتي اليوم؟
قالت شهددار: أظن ذلك يا مولاتي، فقد أنبأتُ جاريته بذلك أمس!
قالت: آه …! لعلي قد فهمت شيئًا … ولأمر ما يرسل طومان جاريته إليك اليوم بهذا النبأ لتبلغيني إياه! إنَّ أمورًا خطيرة تُدَبَّرُ بليل!
ثم عادت إلى الصمت وأطرقت تُفَكِّرُ، ورفعت رأسها بعد حين لترى شهددار وقد ازدحمت في عينيها دموعها وتسابقت على خَدَّيْهَا، فقالت تريد أنْ تميل بها إلى ناحية أخرى من الحديث: كذلك تبكي العاشقات في خلواتهن، ولا يُسمع لهن نشيج! قولي لي: ألم تزل جارية طومان تزورك لتنقل بينكما الرسائل؟ فلماذا أخفيت عني هذا النبأ بادئ الأمر يا خبيثة؟! الآن قد اطمأن قلبي فليطمئن قلبك، إنَّ طومان لا يخيس بعهده أبدًا يا شهددار، ولا يحنث في يمين … كذلك كان أبوه وكان جَدُّهُ فيما سمعت من حديث أهلي في بلاد القبج!
وصمتت فجأة … ماذا أذكرها الساعة بلادها وقد فارقتها منذ سنين بعيدة، فلم تخطر لها قبل اليوم على بال!
وعاد الزمان القهقرى ينشر على عينيها ماضيها كله، منذ كانت، وكانت، وكانت، حتى بلغت …
ونهضت شهددار لشأنها، وخلت مصرباي إلى نفسها تسترجع الذكريات …