خطوات الزمن
كان خان يونس في ظاهر مدينة قيسارية من بلاد الروم — كعهد الناس به منذ سنين — فلم يزل ملتقى كثير من التجار يمرون به غادين أو رائحين إلى حلب ودمشق والقاهرة، أو إلى أرمينية وبلاد الكرج وما وراء الجبال، يلتمسون الغذاء والدفء والمأوى …
ففي ليلة حالكة السواد، قارسة البرد، عاصفة الريح، وقفت امرأة على باب الخان تطرقه طرقًا خفيفًا، وكان يونس الرومي قد تَهَيَّأَ للنوم، فما سمع الطرق حتى قام متكاسلًا، فأوقد شمعته وتقدم إلى الباب ضجرًا ثقيل الخطو، فلم يكُن به الليلة حاجة إلى طارق جديد، وقد امتلأت غرفات الخان جميعًا بالنزلاء، حتى ليس فيها موضع يتسع لضيف …
وهبَّت نسمة من طاق غير محكم الغلق، فأطفأت الشمعة في يَدِه وعَمَّ الظلام، فلولا أنَّ رجليه قد تعودتا المشي في سواد الليل لضل طريقه.
ثم لم يكَد يفتح الباب حتى دفعت إليه امرأة متشحة بالسواد، قذفتها إلى داخل الخان ريح عاصف، كادت تكبها على وجهها لولا أنْ تلقاها بيديه، ثم أغلق الباب وأحكم رتاجه وأوقد الشمعة، فإذا بين يديه امرأة نحيلة معروقة العظم، تبص في وجهها عينان سوداوان على وجنتين شاحبتين، وقد تتابعت أنفاسها من البَهَر، كأنها ميت قد فرَّ من الآخرة يحاول أنْ يسترد رُوحَه، أو حيٌّ قد أشرف على الآخرة يلفظ آخر أنفاسه …
واستندت المرأة إلى جدار البهو لا تَنْبِسُ بحرف، وظل يونس الرومي واقفًا بين يديها والشمعة المضيئة في يمينه، لا يسألها سؤالًا، ولا ينتظر أنْ تجيب …
وثابت إليها نفسها بعد فترة، فأدارت النظر فيما حولها، ثم قالت بصوت خافت: هذا خان يونس، أليس كذلك؟
قال الرجل: بلى، وأنا يونس نفسه يا سيدتي، فهل بك من حاجة إليَّ؟
قالت: نعم يا بني، فهل لي أنْ أطلب عندك شرابًا دافئًا … ومأوى؟
ماذا تقول هذه المرأة ليونس؟ «يا بني!» إنها لتبدو أصغر سنًّا ممَّا تظن بنفسها ويظن، ولعلها لم تبلغ الأربعين بعدُ، وإنْ كانت في ثياب العجائز وشحوب الموتى!
هكذا قال يونس لنفسه وهو يستمع إليها.
تريد شرابًا دافئًا ومأوى! أين؟! أمَّا الشراب الدافئ فإن عنده الماء والنار والحطب، ولكن لا مأوى عنده!
ترى ماذا جاء بهذه المرأة تحت الليل إلى خان يونس، وما لها على هذا الطريق تجارة ولا سفارة؟! من أين جاءت؟ وما شأنها؟ إنَّ في وجهها من أمارات الجهد والنَّصَب ما ينبئ أنها قطعت إليه طريقًا شاقة بعيدة، وفي عينيها من فتور الإعياء والسهر ما يكشف عن بعض ما في نفسها من الهم والضنى!
وأشفق يونس الرومي على المرأة ولم يعلم بعدُ من حالها غير ما حدثته به عيناها، وما قرأ في جبينها من سطور الكآبة والألم، فكيف لو عرَف جملة خبرها … هذه الأيِّم الحزينة الثكلى، لم تزل على سفر منذ إحدى عشرة سنة تتقاذفها البلاد، تلتمس مطلوبًا عزيزًا لقاؤه.
وقادها يونس إلى الغرفة التي هيأها لنفسه، وأعدَّ لها طعامًا وشرابًا، وتخلى لها عن فراشه ليقضي ليلته على أريكة في بهو الخان، ليس له ما يستدفئ به إلَّا ثيابه!
ثم أشرق الصبح، فجلست المرأة إلى يونس الرومي تحدثه بقصتها وتستعينه على أمرها: رعاك الله يا سيدي وأضعف لك الأجر على إحسانك، إنني امرأة من أرض الغور في بلاد الكرج، اسمي نوركلدي، كان لي زوج هو كل أسرتي وأهلي، فمضى إلى حيث لا أدري وخلفني، ولطف الله بي في وحدتي وأحزاني، فوهب لي طفلًا كان هو كل عزائي من أبيه الذي مضى. وكبر الطفل فصار غلامًا يخطو إلى الشباب، فلما صار ملء عينيَّ ونفسي، فقدتُه كما فقدتُ أباه من قبله، خطفه نخاس من خوارزم وذهب به، ومضيت في أثره منذ ذلك اليوم، أجوب المدائن، وأطأ بلادًا لم تطأها أقدام أحد من أهلي، حتى قادني الرائد إلى خانك … إنني على الطريق إليك منذ إحدى عشرة سنة؛ لتدلني على الطريق إلى أبي الريحان الخوارزمي فأعرف منه أين ولدي! إنك تعرف أبا الريحان يا يونس؛ لأنه من نزلاء خانك غاديًا على بلاد المشرق، أو رائحًا إلى الشام ومصر، فبالله عليك يا سيدي إلَّا ما دللتني عليه!
قال يونس في صوت خافت كأنما يناجي نفسه في خلوته: أبو الريحان الخوارزمي! ويل لذلك الفظ الغليظ القلب! نخاس! لم تخب فيه فراستي منذ عرفته!
قالت نوركلدي ضارعة: بالله يا سيدي! بحق ولدك إنْ كان لك ولد! بحق أبيك وأمك وما قدَّما لك من إحسان!
وتدحرجت دمعتان على خد يونس الرومي، وتذكر أعِزَّاءه الذين مضوا … تذكر ولده الذي اهتصره الموت صبيًّا، وتذكر أباه وأمه اللذين أضجعهما بيديه في التراب، وعاد بعدهما إلى الحياة وحيدًا يكافح ليعيش بلا أمل ولا غاية.
وعاد صوت نوركلدي يرن في أذنيه: بالله يا سيدي … بالله إلَّا ما أجبتني: أين ألقى نخاس خوارزم! لن يناله سوء، إن أنا إلَّا امرأة عاجزة ليس لها حول ولا حيلة، كل ما أريده منه أنْ أعرف أين ذهب ولدي؛ لأستأنف الرحلة إليه، وله أجره إنْ شاء!
قال يونس: سأنبئك بما تريدين يا سيدتي، وسأجمع بينك وبين أبي الريحان لتعرفي منه ما تريدين أنْ تعرفي … ولكني أخشى أنْ تَمَلِّي المُقام في هذا الخان؛ فإن أبا الريحان لا يقدم علينا في كل عام إلَّا مرة أو مرتين، فهلا أخبرتِني: ما كان اسم ولدك هذا، وما صفته، ومتى فرَّ به أبو الريحان؟ فلعلي أعلم بعض علمه فأهديك!
وراحت نوركلدي تقص عليه تمام قصتها … وراح يونس الرومي يستثير دفائن الذكريات في نفسه، لعله يستطيع أنْ يوفر لهذه الأيِّم الثاكلة بعض الزمن، ويقصر شيئًا من مسافة تلك الرحلة الطويلة النائية، التي بدأتها منذ إحدى عشرة سنة ولا تزال منها في أول الطريق!