دسائس القصور
قال طومان لعمه الغوري: أهذا ما كنت تعمل له منذ عامين يا عم؟! أمِن أجل أنْ يتولى جانبلاط العرش كنت تجهد جهدك وتحتال حيلتك، وتبعث الرسل والرسائل، وتجمع الجماعات وتؤلب الأحزاب؟! ومَن جانبلاط حتى يسبقك إلى العرش ويدعَك حيث كنت وأنت أنت؟!
وابتسم الغوري ابتسامة عريضة وهو يقول: صبرك يا طومان وانتظر حتى يوفى الأجل، أفكنت تحسبني أتولى العرش لو دُعيت إليه اليوم، ومن ورائي مطامع جانبلاط وطومان باي الدوادار، ومن وراء الاثنين أصل باي وخوند فاطمة تغريانهما بالوثوب على العرش؟ صبرك يا بني حتى لا يكون هناك جانبلاط ولا طومان باي، ويومئذٍ …
فأعجله طومان قائلًا: ويومئذ يكون هذا الشعب قد ثقل عليه ما يحمل من مظالم السلاطين، فيخلع الجراكسة جميعًا، فلا يكون ثمة جانبلاط، ولا طومان باي، ولا الغوري، حتى ولا خشقدم الرومي، ويخلص عرش مصر لبدر الدين بن مزهر، أو لابن أبي الشوارب، من صعاليك المصريين أو صعاليك العربان، وتنهار دولة الجراكسة بعد عزٍّ ومنعة، وتتناهبها أطماع البنادقة والروم وملوك النصرانية!
وضاق صدر الغوري بما يسمع من حديث ابن أخيه، فصاح مُغْضَبًا: صهْ! أظننت نفسك أغْير مني على دولة الجراكسة أو أخبر بسياسة السلاطين؟! أنا الذي حطمت الستين وعاصرت سياسة هذه الدولة جيلًا بعد جيل!
ثم هدأ من ثورة وترفق بعد عنف، وأردف قائلًا: إنها يا بني السياسة، أتظن أنَّ الدوادار طومان باي قد رفع السيف، وقاد الجند، واقتحم الباب؛ ليؤْثر جانبلاط على نفسه، ويضع على رأسه التاج، ويقنع هو بأن يظل دوادارًا؟! ما أحمقه إذن! ولكنه يعلم أنَّ جانبلاط أدنى منه منزلة إلى العرش، وإنْ كان بغيضًا إلى الأمراء وإلى المماليك جميعًا، فقدَّمه على نفسه ليخلص منه حين يشاء، ويثب حين يثب إلى العرش، وقد اجتمعت له قلوب الناس وليس وراءه من ينازعه أو يزعم أنه أحق بالعرش منه، فذلك ما أراده الدوادار طومان باي، ولو شاء لنحَّى جانبلاط عن طريقه، وجلس مجلسه على العرش خائفًا يترقب …
قال طومان: أفتراه يرفعه اليوم إلى العرش ليخلعه غدًا؟
قال الغوري: نعم يا بني، وسترى بعينيك إلى أين تصير الأمور!
قال طومان منكرًا: فلماذا لا يخافك طومان باي يا عم، وقد كنت أقدم منه ومن جانبلاط مملوكية وأرفع رتبة؟
فابتسم الغوري حتى برقت أسنانه وقال: لأنني صديق؛ ثم لأنني شيخ كبير قد زهد فيما يطمع فيه الناس، فهل سمعت أحدًا يزعم أنَّ الغوري تنازعه نفسه إلى العرش؟ لكل ذلك يا بني أمن الدوادار الكبير جانبي واطمأن … وسيعلم علم اليقين كيف ينتهي تدبيره …
وكانت الشمس قد آذنت بالمغيب، فرفع الغوري حاجبه ورمى ببصره نحو السماء وهو يقول: انظر يا بني، هل ترى هلال ذي الحجة قد بزغ؟
فنظر طومان ثم قال: نعم، قُلامة ظفر توشك أنْ تغيب!
فأسبل الغوري جفنه وهز رأسه وهو يقول: نعم، قُلامة ظفر توشك أنْ تغيب، وعلى العرش الليلة سلطان جديد، فإذا صح ما حدثني به أبو النجم الرَّمَّال، فسنكون في قصر القلعة يا طومان قبل أنْ يبزغ هلال ذي حجة آخر … بل قبل ذلك بزمان.
ثم استدار نحو القبلة وتَهَيَّأَ لصلاة المغرب، وخلف طومان يرقب هلال ذي الحجة قبل أنْ يغيب عن عينيه، فلما أفلَّ ولى وجهه شطر دار أقبردي الدوادار يناجي خيالًا عزيزًا عليه لقاؤه، ثم سرح في أحلامه وخواطره …
قالت أصل باي وقد اطمأنَّ بها المجلس إلى جانب زوجها الأشرف جانبلاط: إنَّ لي أمنية إليك يا مولاي: أنْ تجعل شكر هذه النعمة التي أفاء الله عليك المنَّ على أخي الظاهر قنصوه بعتق رقبته من الموت…
قال السلطان باسمًا: لك ما تمنيت يا خوند!
قالت: ومصرباي — تلك الجركسية المشئومة — تأمرها أنْ تلزم دارها فلا يدخل عليها أحد ولا يخرج من دارها أحد!
قال: ولك ذلك أيضًا يا خوند!
قالت وأقبلت على السلطان تعبث بأزرار صداره المذهب: وفاطمة بنت العلاء …
صاح السلطان مقاطعًا: وماذا يعنيك من أمر فاطمة بنت العلاء؟!
فتراجعت أصل باي وقالت: لا شيء …
وسكتت قليلًا ثم أردفت: حسبت أنَّ أمرها يعنيك؛ فقد كانت يومًا ما أحظى نساء السلطان قايتباي إليه! ثم غمزت بعينها وهي تقول: وأحسبها لم تزل تحلم بذلك المجد الذي كانت يومًا ما تتقلب في أعطافه، لولا ما تجد من العزاء عن ذلك في عطف الأمير طومان باي الدوادار …
وبدا الغضب في وجه السلطان وقال عابسًا: حسبك يا أصل باي! إنني مدين بعرشي إلى صديقي طومان باي، وليس يرضيني أنْ يجري ذكره على لسانك بغير ما أحب …
قالت وأطرقت: وإنه لأهل للمحبة يا مولاي …
ثم سكتت، وتذكرت حادثًا حدثَ من عامين: يوم خرج ولدها الناصر لنزهته ذات صباح ثم لم يعد، وتدحرج رأسه تحت أقدام طومان باي، ثم تذكرت حادثًا آخر منذ يومين: حين فرَّ أخوها الظاهر من قصر القلعة في زي امرأة، وكان طومان باي واقفًا عند باب القلعة وفي يده سيفه يقطر من دم المماليك، ثم تذكرت حديثًا نقلته إليها جاريتها منذ قريب، تزعم أنَّ طومان باي قد وعد ألَّا يعقد على صاحبته فاطمة بنت العلاء إلَّا يوم يجلس على عرش مصر، وتعود فاطمة سلطانة كما كانت!
تذكرت أصل باي كل ذلك وهي جالسة بين يدي زوجها الأشرف جانبلاط، فلولا أنها تخاف بادرته لصاحت به: «اقتل طومان باي قبل أنْ يقتلك!» ولكنها لم تقلها، وغشت نفسها وغشت السلطان وقالت: نعم، إنه أهل للمحبة يا مولاي.
وهتفت مصر كلها باسم السلطان الأشرف جانبلاط، واجتمعت السلطات كلها في يد الدوادار الكبير طومان باي.
رجل واحد أعلن عصيانه ولم يدخل تحت طاعة السلطان، ذلك هو الأمير قصروه نائب الشام.
يا عجبًا! كيف حدث هذا وقصروه هو أوفى أصدقاء طومان باي الدوادار وأقربهم إلى نفسه؟! أيتمرد على السلطان أم يتمرد على صديقه الدوادار؟
سؤال توجه به طومان إلى عمه الغوري، ولكن عمه ابتسم ولم يجبه، ولم يزد على الابتسام شيئًا، وضاقت نفس الأمير الصغير وعاد يُلْحِفُ في سؤاله: كيف حدث هذا يا عم؟!
قال الغوري ولم تزل الابتسامة على شفتيه: حدث أو لم يحدث، ذلك أمر لا يعنينا، إنما أنا وأنت منذ اليوم جند من جند الدوادار طومان باي! وعلينا أنْ نسمع لقوله …
قال طومان متعجبًا: أنت من جند الدوادار!
– أنا وأنت فما علينا إلَّا الطاعة.
وصدع الأمير الصغير بالأمر، فمشى في ركاب عمه.
وقال الدوادار الكبير طومان باي للسلطان: إني لأخشى أنْ يقوى أمر قصروه في الشام حتى يغلبنا على أمرنا، والرأي عندي أنْ نبادره قبل أنْ يستفحل خطره.
قال جانبلاط: وبماذا تشير يا أمير؟
قال الدوادار: نُعدُّ له حملة كبيرة تقضي عليه وتبدد شمله؛ ليكون أول أمرنا حزمًا وعزمًا، فلا يجرؤ بعدها أمير من أمراء الأطراف على العصيان، ولا تنازعه إليه نفسه.
قال السلطان راضيًا: قد رأيتُ ما ترى فخذ في أسبابك!
وراح الدوادار منذ اليوم يعد عدته لأمره، فلم يزل دائبًا في الاستعداد، حتى اجتمع له جيش لم يجتمع مثله للأشرف قايتباي يوم خرج للقاء ابن عثمان منذ بضع عشرة سنة، فلم يترك في القاهرة كلها من الجند ما يكفي للدفاع عن القلعة، لو بدا لبعض أعداء البلاد أنْ يغير على القاهرة …
واتخذ الجيش طريقه إلى الشام وعلى رأسه الدوادار طومان باي، وودعته القاهرة كلها هاتفة داعية، وودعه السلطان جانبلاط إلى حدود المدينة. وبلغ الجيش الشام، والتقى طومان باي وقصروه، ولكنهما لم يقتتلا؛ لأن الدوادار طومان باي لم يخرج لقتال، وإنما خرج لأمر آخر قد أعدَّ له عُدَّتَهُ وجمع أسبابه، فما هي إلَّا أنْ لقي صديقه قصروه العاصي حتى أخذا في تدبير الخطة لتنفيذ ما كان مُبَيَّتًا من الأمر …
واجتمع أمراء العسكرين على خلع السلطان الأشرف جانبلاط، ومبايعة «العادل» طومان باي. واستعلن الدوادار بنيته المبيتة، وبايعه الجند والقادة، وبايعه قصروه نائب الشام، وعاد الجيش إلى القاهرة يقدمه السلطان الجديد، وشقَّ العادل طومان باي القاهرة في موكب حافل إلى القلعة؛ لينزل جانبلاط عن العرش ويجلس مكانه، ويحقق أمنية لنفسه ولصاحبته فاطمة بنت العلاء.
وكان في حاشيته كبير أمنائه قصروه، ودواداره الكبير قنصوه الغوري!
ومضى الجند بالأشرف جانبلاط أسيرًا إلى برج الإسكندرية، حيث يؤنس وحشة سلفه الظاهر قنصوه في معتقله من ذلك البرج الحصين.
وصعدت خوند فاطمة بنت العلاء ثانية إلى العرش، وقد وفى لها صاحبها بما وعد، وكان لها زفة سلطانية لم يرَ الراءون مثلها، فبسطت على الأرض شقق الحرير، وأضيئت في الطيقان القناديل على طول الطريق من قنطرة سنقر إلى قصر السلطان بالقلعة، ونثرت على رأسها رقائق الذهب والفضة … وعادت سلطانة كما تمنت على صاحبها ذات مساء. ونزلت أصل باي عن العرش الذي عاشت في ظله منذ عهد مولاها قايتباي، وولدها الناصر، وأخيها الظاهر، وزوجها الأشرف جانبلاط؛ لتعيش في دارها الصغيرة عند بركة الفيل، ليس لها من عمل إلَّا أنْ تسترجع ذكريات ذلك الماضي الذي كان … ثم تبكي حتى تشرق بالدمع!
على أنَّ السلطان لم يترك أصل باي لأحزانها، فقد انقض عليها زبانيته ذات يوم يسألونها أنْ تدفع إليهم ما عندها من مال السلاطين الأربعة، فلم يتركوها حتى وثقوا أن لم يبقَ عندها أبيض ولا أصفر … ثم لم تلبث طويلًا بعد هذه النكبة التي أصابتها في مالها، حتى جاءها النبأ بمقتل زوجها جانبلاط في معتقله من ذلك البرج، بتدبير العادل طومان باي!