نداء القلب
كان الشتاء في أخرياته، وقد غمرت القاهرة موجة من البرد لم تشهد مثلها منذ سنين، وعصفت الرياح عصفًا عنيفًا يكاد يهدم الدور ويقتلع الشجر، فأغلقت المتاجر، وخلت الأسواق من المشترين والباعة، وأوى الناس إلى بيوتهم يعتصمون بها من عصف الريح وقرس البرد، وأسدلت الستور على الشرفات والطيقان، فلا ينفذ منها إلى الطريق بصيص من النور، فما أتى الليل حتى خلت طرق المدينة من المارة وغطاها الظلام، فلا خفقة نعل ولا شعاعة نور …
وفي هذه الليلة الليلاء، في هذا الظلام الدامس، في ذلك البرد القارس، في ذلك السكون الرهيب، كان فتى في زي المماليك يمشي على حيد الطريق حذرًا يتلفَّت، فما كان يبلغ دار أقبردي الدوادار حتى انعطف عليه وقصد الباب، وكأنما كان ثمة من ينتظره على ميعاد، فلم يكد يقترب حتى انفتح الباب بخفة ثم أغلق، وغاب الفتى في ضمير الظلماء …
وهناك كانت خوند مصرباي الجركسية في غرفتها من ذلك القصر جالسة تنتظر، فلم تكد جاريتها تؤذنها بمقدم الأمير خاير بك، حتى خفت لاستقباله وعلى شفتيها ابتسامة وفي عينيها بريق … هذا رجل تستطيع أنْ تُسخره فيما تشاء من أمرها، إنه ليحبها حبًّا يفرض عليه الطاعة حين تأمر، لقد كان بينهما يومًا ما عهد مشترك لم تلفظه شفتاها ولم تلفظه شفتاه، ولكنه عهد وثيق، ألم تكن تطمع يومًا أنْ تصير إليه ليرفعها إلى مرتبة الإمارة، وتحدثت عيناها إليه بهذه الأمنية فأجابها بعينيه وتعاهدا في صمت؟ بلى، لقد كان ذلك يومًا، أمَّا هي فمضت في طريقها لم تنظر إلى وراء، ثم لم تزل ماضية حتى بلغت العرش وكان من أمرها ما كان، وإنها لتطمع أنْ تعود يومًا إلى ذلك العرش … وأمَّا صاحبها — هذا الذي واثقها على الحب منذ التقيا في خان مسعود — فلم يزل يأمل أمله ويسعى إليه. إنه اليوم أمير ألف من مماليك السلطان العادل طومان باي، ولعله أنْ يصير أكبر من ذلك يومًا ما، ولكن ماذا يُجدي عليه أنْ يبلغ أرقى مراتب المجد والجاه، وإنه لبعيد عمَّن يجب وإنها لبعيدة؟ ماذا يجديه أنْ يكون أميرًا، أو وزيرًا، أو دوادارًا قد اجتمعت في يديه كل السلطات، وليس إلى جانبه الأميرة المحبوبة الغالية، التي عاش ما عاش منذ التقيا لأول مرة في حلب وليس له فكر إلَّا فيها، ولا حنينٌ إلَّا إلى لقائها، ولا أمل إلَّا أنْ يراها وإياه زوجين قد تمت لهما سعادة اللقاء!
إنه لم يزل يحبها منذ ذلك اليوم البعيد، لم يصرفه عن ذلك الحب أنَّ الأقدار قد تصرفت بها وبه، وانتقلت بها من دار إلى دار إلى دار، حتى عادت اليوم إلى دارها وحيدة ليس لها من كل سعادة الماضي وأمجاده إلَّا ذكريات وأماني، وها هو ذا يلقاها على ميعاد، وها هي ذي تخف لاستقباله وعلى شفتيها ابتسامة وفي عينيها بريق …
«ولكنها لم تزل زوجة الظاهر قنصوه، ذلك السلطان المخلوع الراسف في أغلاله في ذلك المعتقل من برج الإسكندرية الحصين، فمن أين له أنْ يطمع في منالها ولم يزل زوجها حيًّا هناك؟!»
ألمَّ هذا الخاطر بقلبه وبقلبها في وقت معًا، أمَّا هو فسأل نفسه حنقًا: لماذا لم يُجهِز عليه العادل طومان باي كما أجهز على الأشرف جانبلاط؟
وأمَّا هي فقالت لنفسها: وماذا في ذلك؟ … أمَّا إنْ أفلح التدبير وعاد الظاهر قنصوه سلطانًا، فسأعود معه إلى العرش سلطانة، وأمَّا إنْ أخفق التدبير فلن يسلم رأس قنصوه … وإنَّ خاير بك لأهل وجار.
والتقيا وجلسا ساعة تتحدث عيناها إلى عينيه ولا تنبس شفة منهما بحرف، ثم قطعت مصرباي الصمت قائلة: خاير بك!
أجابها: مولاتي!
وكان صوتها يرن في أذنيه كالصدى راجعًا إليه من الزمان البعيد في المكان البعيد، وكأنه ذكرى تومض في الوجدان، أو خاطر يتمثل في الوهم، أهذه مصرباي التي لقيها ذات يوم في حلب فتحدث إليها وتحدثت إليه، بالعينين تارة وبالشفتين، وتعاهدا على الوداد؟ إنها هي هي كما كانت، بل إنها لأكثر سحرًا وفتنة مما كانت …
وقال خاير بك: إنني لم أزل يا مولاتي على ذلك العهد، ولم يزل قلبي لك خالصًا لم يغيره تقادم السنين …
وصمت فجأة وعض على شفتيه، كيف جرى على لسانه مثل هذا الحديث؟ لكأنما يعيِّرها ويمنُّ عليها … تلك التي عاهدته ذات يوم عهدًا فلم تثبت على الوفاء به، وأسلمت نفسها للمقادير تتقاذفها من دار إلى دار إلى دار، ولها في كل دار منها قلب وحبيب، وإنه على ذلك ما يزال يحبها، ويطمع أنْ تخلص له.
وأطرق أسفًا خزيان! وكأنما قرأت ما قام بنفسه من هذه الخواطر، فسرها أنْ تكون منزلتها من نفسه حيث وصف، فقالت باسمة: لم أشك فيك يومًا يا خاير بك، ولم أنسَ … حتى يوم خلفتني هنا ومضيت إلى بلاد ابن عثمان، فطاب لك المقام زمانًا!
ورضي خاير بك وسُري عنه، وخيل إليه كأنما تعتذر إليه من بعض ما كان، فهدأت نفسه من قلق، وهمَّ أنْ يجيب فأعجلته قائلة: وإنني — أيها الصديق — لم أزل أراك بتلك العين، كأنما لم تمضِ تلك السنون، فلم تزل أخي وجاري ومعقد أملي!
وخفق قلب الرجل وهزَّته قشعريرة الحب، وغشَّت عينيه دموع، واسترسلت المرأة في حديثها: وقد كنت أدخرك يا خاير لأمر عظيم، ولكن بيني وبينك اليوم حجابًا، فليس يخفى عليَّ أنك اليوم من أمراء ذلك السلطان …
وسكتت برهة، ثم علا صوتُها وزاد شدةً وحدةً، وأردفت: ولكن ذلك الغادر السفاك لا بُدَّ أنْ ينال جزاءه، ولا بُدَّ أنْ تطلبه المقادير بالثأر فتأخذه بدم الناصر وجانبلاط، ومن يدري ماذا يفعل غدًا أو بعد غد بالظاهر قنصوه! ولكنك اليوم يا خاير أمير من أمراء ذلك السلطان.
قال خاير: مولاتي …
فقاطعته قائلة في رقة: لست مولاتك يا خاير، إنَّ مولاك هو ذلك السلطان، وإنما أنا مصرباي التي كنت تناديها باسمها ذات يوم في حلب منذ سنين!
قال خاير وقد غلبه وجدانه: نعم يا مصرباي … ولكنك إلَّا تكوني مولاتي، فلن يكون مولاي هو الغادر السفاك طومان باي، وستعرفين من خبري وتسمعين عن بلائي!
فلمعت عينا مصرباي ببريق فاتن، وأقبلت على محدثها حتى أحس أنفاسها تتضوَّع في جوه عطرًا مُسْكِرًا، وقالت وعيناها في عينيه: وإنك أهل لذلك يا خاير بك … بل إنك لأهل لأكثر من ذلك.
وانضم إلى أعداء العادل طومان باي — منذ تلك الليلة المقرورة — أمير من أمراء المماليك له شدة وبأس وعنفوان!
على أنَّ العادل وقد صعد إلى العرش وتحققت له كل أمانيه، لم يكُن يفكر فيما يُدبَّر وراءه، وما كان له أنْ يخشى غدرة وقد تفانى الأمراء العظام، فلم يبقَ ثمة من تنازعه نفسه إلى العرش، أو يطمع في الوثوب على السلطان! ومن ذا هنالك غير الظاهر قنصوه رهين محبسه في برج الإسكندرية يرسف في أغلاله، وليس وراءه من يهتم به، وغير قصروه وإنه لأوفى أصدقائه له، وبجهده وتدبيره ولي العرش ولو أراده قصروه لسبق إليه، ثم قنصوه الغوري ذلك الشيخ الذي جاوز سن الطموح وعزف عن مغريات المجد والجاه؟ ومن غير هؤلاء يخشاه العادل أو يحسب حسابه؟
واطمأن إلى حظه راضيًا آمنًا غدرة الأيام.