أرقم الرَّمَّال
لم يحاول أرقم الرَّمَّال — منذ اتخذ تلك الحرفة مرتزقًا — أنْ يتحول عن مجلسه ذاك تحت السرحة الفينانة في بساتين القبة، فقد وجد هنالك من إقبال الناس عليه ما أغراه بالمقام ثمة، فإنه ليقضي نهاره في ظل تلك السرحة، فإذا أظله الليل مشى يتخلع حتى يبلغ القبة، فيقضي ليله في الحجرة الصغيرة الضيقة التي أفردها له الشيخ بدر الدين بن جمعة شيخ القبة، وأذن له في أنْ يتخذها مأوًى …
وكان الشيخ بدر الدين رجلًا له عند الأمراء مقام واعتبار؛ فهو إلى علمه وفضله مسامر له فنون في تشقيق الأحاديث، وطالما أنس إليه الأمراء الذين يختلفون إلى القبة للصلاة، أو التماس شيء من الراحة بعد أنْ يأخذوا حظهم من الرياضة، والفرجة في البساتين النضرة التي تمتد شمالي القاهرة إلى محلة قلج والخانقاه … وكثيرًا ما كانت مسامرات الشيخ بدر الدين وأحاديثه العذبة تُغرِي بعض هؤلاء الأمراء بالمبيت في ضيافته. وقد أُعِدَّتْ هنالك — منذ عهد الأمير يشبك الدوادار منشئ تلك القبة — دار ضيافة عامرة، فيها الخدم والحشم، وفيها كل ما يحتاج إليه السلاطين والأمراء من أسباب الترف والنعمة، فلا يكاد يمضي يوم حتى يفد إلى القبة أمير من الأمراء، أو يفد إليها السلطان نفسه، يحاول أنْ يتخفف في ذلك الجو الممتع من بعض أثقاله، فيلقى شيخ القبة ضيفه، أو أضيافه، ويهيئ لهم مقامًا طيِّبًا وسمرًا لطيفًا، فيجلس إليهم يقص القصص، أو يروي النوادر، أو ينشد الشعر، أو يثير مسألة من مسائل الجدل يشتجر حولها الخلاف حينًا بين السُّمَّار، ثم يجتمعون في النهاية على رأي الشيخ، فإنه ليملك من قوة البيان بالعربية والتركية ما يمتلك به الحجة في أعسر مسالك الجدال والمناظرة … فإذا سئم ضيوفُه الحديث والمناظرة فإن الشيخ بدر الدين لاعب كرة ورامي نشاب، وله توقيع وغناء وألحان على الشبَّابة تستنزل العُصم …
لا جَرَم كان الشيخ بدر الدين بن جمعة بكل ذلك صاحبَ تلك المكانة بين رواد بساتين القبة من الترك والمصريين على السواء، وكان أرقم الرمَّال يعيش في ظله راضيًا بما أفاء الله عليه من حرفته الجديدة …
وتسامع الناس بأرقم الرمَّال، فسعوا إليه من القاهرة وأرياضها، وعرفه كثير من أهل القرى الذين يمرون بهذه الرياض في طريقهم من بلاد الشرقية إلى مصر … فلم يلبث أنْ صار له ذكر أخمل ذكر أبي النجم الذي تفرَّدَ بفنه في القاهرة زمانًا؛ حتى لا يأمل أحد أنْ ينفذ إلى شيء من أسرار الغيب إلَّا من بابه، وظل أوحد عصره في هذا الفن حتى غلبه أرقم على مكانه.
وكأنما كانت دمامة أرقم، وبحة صوته، وغرابة أطواره، هي الأسباب التي حملت الناس على تصديقه والإيمان به، كأنما وقع في وَهْمِ الناس بكل ذلك أنه رجل ليس من الناس، وأنَّ بينه وبين الغيب أسبابًا …
وبلغ صِيتُه السلطان العادل طومان باي، فدعاه إليه …
يا للرجل مما به! إنه لم يفكر يومًا منذ اتخذ تلك الحرفة مرتزقًا، أنها ستقوده إلى ذلك المأزق الحرج، ما له وللسلاطين؟! إنه ليشعوذ على العامة ما يُشعْوذ لأنه رجل منهم، يعرف دخيلة صدورهم، وما يتخايل لهم من الأماني، وما يَحذَرُون من هموم العيش، وإنه ليلقف غيب صدورهم من لحظات أعينهم، وخلجات جوارحهم، وهمسات شفاههم، فما يفعل إلَّا أنْ يردَّ إليهم ما أخذ منهم في عبارة تتسع وتضيق، وتطول وتقصر، وفيها الفأل والطِّيَرَة، فيأخذها كلٌّ منهم على ما في نفسه من معنى، فلا يلبث أنْ يؤمن ويصدق، فأين هو من السلطان وحاشيته ليعرف دخيلة صدورهم، وما يختلج في نفوسهم من الأماني أو من المخاوف والآلام؟! ولكن الشيخ بدر الدين هو الذي جرَّ عليه هذا البلاء، وعرَّضه لتلك المحنة، وحبب إلى السلطان أنْ يدعوه لينبئه عن غيبه.
لعل الشيخ بدر الدين كان بريء النية فيما قصد إليه، بل لعله أراد لصاحبه الخير والنعمة فاحتال ليصل حبله بالسلطان، ولكن أرقم الرَّمَّال لم يفهم ذلك إلَّا على أنه بلاء ومحنة وهَمٌّ طويل …
فقال محتجًّا: يا سيدنا الشيخ، ما لي ولهذا المأزق ترميني إليه؟! وإنك لتعرف أنَّ بضاعتي لا تَنْفُقُ في سوق السلطان، وما لي علم بما في نفسه فأحدثه عنه، ولا خبر عن حاشيته فأرويه له، وليس في وجهي طلعة بِشر كما تراني!
قال الشيخ ضاحكًا: فإنك يا أرقم تعرف من خبره أنه سلطان، وأنَّ لكل سلطان حاشيته، وأنَّ في حاشيته قصروه وقنصوه، وأنَّ زوجته خوند فاطمة بنت العلاء، وماذا يختلج في نفس السلطان من الأمل والهم إلَّا أنْ يفكر في عرشه، وفي حاشيته، وفي زوجه؟! وإنَّ في يُمن حديثك يا أرقم ما يُغني عن يُمْنِ طلعتك!
بلع أرقم ريقه وهو يهمس لنفسه: في حاشيته قصروه وقنصوه! إلى أين ترمي بي المقادير يا رب وليس لي اختيار؟!
وصمت برهة يفكر، وغاب في سبحة من سبحاته الخيالية الطويلة، فلو كان في مجلسه ثمة شيخه أبو السعود الجارحي، لقرأ في عينيه بعض سره …
وطال صمته في مجلس بدر الدين بن جمعة، فلم يتنبَّه حتى هزه الشيخ بلطف وهو يقول: هيه! ماذا قلت يا أرقم؟
وعاد أرقم من سرحته فأجاب قائلًا: سأذهب يا سيدي، سأذهب إلى السلطان فأنبئه بغيبه، على أنْ تعيرني من ثيابك جبة وقفطانًا وعمامة!
قال الشيخ ضاحكًا: هي لك ملكًا لا عارية يا أرقم.
كان قصروه — كبير الأمناء — رجلًا محببًا إلى الناس، فإنه لجَوَاد سمح، وإنه لرفيق متواضع، وإنه لوافي العهد جريء القلب، يؤثِر صاحبه على نفسه وإنْ كانت به خصاصة. ولم ينس له أهل القاهرة مشهدًا قريبًا يوم رأوه يحفر الخندق عند القلعة بيديه مع الفَعَلة، ويحمل التراب على كتفيه؛ ليهيئ لصاحبه طومان باي أنْ يكون سلطانًا على عرش مصر، وإنَّ قصروه لأعلى مقامًا وأقدم مملوكية من طومان باي، ولكنه صديق.
وكان حب المصريين لقصروه وإعجابهم بخلاله هما الدعامة القوية التي يستند إليها عرش السلطان العادل طومان باي. لم يكن ذلك رأي المصريين وحدهم، ولكنه رأي المماليك جميعًا، ورأيُ قنصوه الغوري الذي طالما تحدَّث به وتحدث به ابن أخيه طومان إلى المماليك وإلى الناس.
على أنَّ السلطان العادل نفسه لم يكن غافلًا عن هذه الحقيقة؛ فإن قصروه لأدنى أمرائه إليه وأصفاهم عنده، وإنه لَيَأْذَنُ له أنْ يبيت في القلعة حين لا يأذن لغيره، وإنه ليأكل على سماط السلطان حين لا يأكل أحد غيره على سماط السلطان.
واطمأنت القاهرة ومصر كلها، ورضيت عن السلطان العادل؛ لأن الأمير المحبوب قصروه هو مستشاره وكبير أمنائه، ولأن دواداره الكبير هو قنصوه الغوري، ذلك الشيخ الذي عرك الأيام وعركته، وجاوز سِنَّ الطموح فليس له نزوع إلى مزيد من المجد المخضَّب بالدم.
وبات قصروه في القلعة ذات مساء، ثم أصبح فبكر إلى مجلس السلطان، ووقف يومئذٍ بباب القلعة حمار هزيل، عليه شيخ مُعْتَمٌّ، قد غطت عمامته أذنيه وبعض وجهه، وغرق في جبة فضفاضة كأنه طفل في ثياب أبيه.
وترجل الشيخ عن حماره ومشى يتخلع في مشيته، وقد جمع في يده فضل ثيابه، فانحسر قفطانه عن ساقين معروقتين كأنهما عودان من قصب، ودنا من البواب يؤذنه بنفسه ويتعرف إليه: أرقم الرمَّال مدعوُّ السلطان!
وغض البواب بصره وفسح له الطريق، فمشى حتى بلغ مجلس السلطان، فقبَّل الأرض بين يديه ووقف صامتًا حتى يؤذَن له، ثم اتخذ مقعده بين يدي السلطان وبسط منديله … ونظر عن يمين وشمال، ثم قال في صوت أبح: مولاي!
قال السلطان: قد فهمت ما تعنيه، فهل تأذن لنا في خلوة يا أمير قصروه!
قال قصروه وقد تهيأ للقيام وعلى شفتيه ابتسامته: نعم، وباليمن والبركات يا مولاي.
وخلا المجلس إلَّا من السلطان والرمَّال، وبسط الرجل على المنديل حفنة من الرمل، وراح يخط عليها بأصابعه خطوطًا متوازية وأخرى متقاطعة، وهو يزمزم ويقلب عينيه بين الأرض والسقف والحيطان، ثم انحنى على منديله وراح يتحدَّث في همس، ثم شرع صوته يرتفع رويدًا رويدًا حتى بلغ أذني السلطان، فسمع صوتًا كأنه من وراء الغيب يقول: ومولانا السلطان مسعود الطالع بتوفيق الله، على يمينه يُمن، وعلى يساره يُسر ورخاء وسعادة … الطيبات للطيبين والصالحات للصالحين، والخير لأهل الخير والإحسان، والخَيِّرَة بنت العلاء للخيِّر ابن الطيبين الطاهرين، تعيش في ظل نعمائه دهرًا، وتنجب للخلف الكريم ما لم تنجب للسلف العظيم، ويكتنفه النَّيِّران حتى يتم تمامه ويبلغ عنفوانه …
ثم أخذ الصوت ينخفض رويدًا رويدًا حتى عاد كما بدأ، همسًا خافتًا كأنفاس النائم، ثم عاد يرتفع رويدًا رويدًا حتى ظهر كأنما طوَّف في الآفاق ثم آب، واستمع السلطان إلى الرمَّال يقول في صوت أبحَّ كأنما يعالجه قسرًا فلا يكاد: وفي السماء نجوم طالعة، ودراريُّ ساطعة، وكواكب يخفق نورها بين الخبوِّ والإشراق، ونجم مولاي السلطان بينها متفرد في عليائه، متميز بلألائه … وثمة نجم يلاحقه ويوشك أنْ يدركه. ابعد أيها الكوكب الخابي! ابعد أيها المتقحم على ما ليس من قدرك! ابعد! ابعد فلست هناك، هل أنت إلى هذا النجم الساطع إلَّا حصاة تتضوَّأ من نوره، وذرة من تراب تتلألأ في شعاعه، فلولا أنك في مداره لكنت فحمة الليل، وسوادًا أسحم ينذر بالويل. ابعد! ابعد فقد عرفناك، لست هناك لست هناك، وإنه لمولاك وإن أطمعك وأدناك … ق ۚ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ عوذت بها السلطان من شيطانك المريد، فلا تنال منه منالًا، ولا تبلغ محالًا، ومولانا بعين الله يحفظه ويرعاه، فلا يقفوه «قاف» بالشر إلَّا كبَّه الله على وجهه وأرداه!
وتقاطر العرق على جبين الرمَّال وبدا في وجهه الإعياء، فكأنما كان يغالب الغيب على أسراره حتى استخلصها وما كاد، ثم لم يكد ينتهي من حديثه حتى أطرق إطراقة طويلة، ثم رفع رأسه وهو يرتعد كأنما غشيته الحمى …
وكان السلطان في أثناء ذلك كله يسمع صامتًا لا يكاد يجد نفسه، فما هدأ الصوت حتى تنفس تنفُّسًا عميقًا، رده إلى الوعي واليقظة، ثم قال وفي وجهه أمارات القلق واللهفة: ماذا قلت يا شيخ؟ وبماذا حدثتك نجومك؟
قال أرقم ولم يزل جسده يرتعد: هو ما سمع مولانا السلطان مما أنبأتني به الطوالع، وإنَّ مولانا السلطان لمنصور بإذن الله، ولن ينال الكائدون منه منالًا.
قال السلطان حانقًا: من ذلك الذي يكيد لي يا شيخ؟ وفيمَ يطمع؟
قال أرقم وقد ضُيِّقَ عليه حتى لا يكاد يجد سبيلًا للفرار: عوذت مولانا برب الفلق. إنه أمير من بطانتك يا مولانا أول اسمه ق.
فنهض السلطان عن مجلسه، ودنا من أرقم حتى مس كتفه بيده وهو يقول: بالله إلَّا ما صرحت لي، فإنني لا أكاد أفهم ما تعنيه!
وثاب إلى أرقم إيمانه بنفسه حين رأى مكانه الذي بلغ عند السلطان، فانفرجت شفتاه عن ابتسامته تلك، وقال: فليبحث مولانا السلطان عن ق بين أمرائه، فسيعرفه بسمات الشر في وجهه وقَسَماته، فإذا لم يكشف لمولانا السلطان عن صدره تائبًا نائبًا، فليكشف عن مكنون صدره السيف.
قال السلطان مؤمِّنًا: صدقت، وإنَّ السيف لأصدق ما يكشف عن خبيئات الصدور، وكأنْ قد عرفتُ الذي تعنيه …
ثم مد يده إلى الرمَّال بصرة فيها دنانير، وكساه كسوة سلطانية، وشيعه إلى الباب وهو ماشٍ يتخلع في مشيته، كأنه صرة ثياب على عصوين من قصب.
قال أرقم لنفسه والحمار ينحدر به من القلعة: الآن قد وضعت السيف في قفا قنصوه الغوري، وتوشك الدنيا أنْ تطهر من ذلك الثعلبان الشيخ.
وقال السلطان لنفسه وهو يدور في غرفته قلقًا حيران لا يكاد يستقر على حال: الآن ينبغي أنْ أتدبر أمري وأمر قصروه، فأناله قبل أنْ ينالني، ولست أدري كيف غاب عني قبل اليوم أن قصروه إنما يتحبب إلى الشعب ليجد منهم جنده حين يثب وثبته على العرش؟! فالحمد لله إذ انكشف لي أمره قبل أنْ يأخذني على غرة وينال مناله!
وأُعد السماط السلطاني، وجلس إليه السلطان عابس الوجه شارد اللب، لا يكاد يمد يده إلى شيء من الطعام، وجلس كبير الأمناء قصروه إلى جانب مولاه يلحظه قلقًا، لا يكاد يجد مذاق الطعام في فمه، وكان حولهما على السماط أمراء من حاشية السلطان لم يشغلهم شيء عن طيبات الطعام والشراب والفاكهة، وعن التندُّر والمفاكهة، فإنهم ليأكلون أكل الفارغين، ويمزحون مزح السكارى.
وقال قصروه وقد أوشك النُّدل أنْ يرفعوا المائدة: حرس الله مولاي السلطان وجنَّبه العوادي، ماذا بك اليوم يا مولاي؟
وابتسم السلطان ابتسامة غامضة، وقال وقد ثبَّت عينيه في عيني كبير أمنائه: أنا والله خائف منك يا أمير.
وغصَّ كبير الأمناء بريقه، وتوقف الأمراء عما كانوا فيه، واتجهوا بأنظارهم إلى حيث كان يجلس السلطان وكبير أمنائه، وأطبق الصمت على المكان …
ثم لم يلبث الأمراء أنْ غادروا المجلس، وخرج قصروه وقلبه يحدثه بالشر الذي يتربص به …
ثم انقضى الليل، فلم يكد الناس يصبحون فيغدون على أعمالهم، حتى جاءهم نعي قصروه كبير أمناء السلطان …
وانهارت الدعامة العظيمة التي يستند إليها عرش السلطان العادل طومان باي، وآذن صبحه بليل.