حديث المدينة
كان دكان علي بن أبي الجود — بياع الحلوى والمشبك عند حمام شيخو — كأنه منتدى من منتديات السمر، فلا يزال يلتقي عنده كل يوم طوائف من المصريين والمماليك، فيقضون وقتًا طيِّبًا يسمرون ويتبادلون مختلِف الأحاديث ريثما يهيئ لهم ما يشتهون من الحلواء والمشبك، وقد اشتهر في صناعتهما شهرة طبقت القاهرة، فسعى إليه الناس من مختلف الأحياء يشترون من بضاعته هذه اللذيذة ويسمرون في دكانه …
وكان فيمن يقصد دكانه ذاك جماعةٌ من أمراء المماليك الشبان، يستخفهم حديثه وتلذهم حلواه، على أنَّ قنصوه الغوري كان أكثر رواد ذلك المنتدى الصغير وأشدهم إقبالًا على بضاعته، وإنَّ الغوري لجسيم شحيم، وله فنون في أكل الحلوى والمشبك، لا سيما تلك التي يصنعها عليُّ بن أبي الجود. فلما ارتقى الغوري في درجات الإمارة حتى بلغ ما بلغ، لم يرضَ لنفسه أنْ يختلط بالسوقة وصغار الأمراء من رواد ذلك الدكان، ولكن صلته لم تنقطع بعلي بن أبي الجود؛ فقد عرف فيه مصريًّا ذكي الحسِ، خفيف الرُّوح، سريع الخاطر، له دهاء وحيلة؛ فإنه لَأهل لأن يستعين به يومًا ما على أمر من أمره، ثم إنَّ حلواه لم تزل حبيبة إلى نفس الأمير الشيخ … ومن ثَمَّةَ نشأت الصلة بين طومان وعلي بن أبي الجود، فكثيرًا ما كان يقصد إلى دكانه، لحاجة عمه أو لحاجة نفسه، وما كان أكثر حاجته إلى أنْ يلقى من أعيان المصريين من لا يتهيأ له أنْ يلقاهم، فيتحدث إليهم إلَّا في دكان ابن أبي الجود.
ففي أصيل يوم من تلك الأيام قصد طومان إلى ذلك الدكان لبعض حاجته، فإذا طائفة من أصدقاء ابن أبي الجود قد جلسوا ينتظرون ما يهيئ لهم من بضاعته، ويتبادلون الأحاديث، على أنَّ المدينة كلها في ذلك اليوم لم يكن لها إلَّا حديث واحد؛ فقد كان مصرع الأمير قصروه — كبير الأمناء — حادثًا فظيعًا يتردد صداه في كل نفس، فما ترى في عيون الناس ولا تسمع على ألسنتهم إلَّا أمارات الحزن وعبارات الأسى على مصرع ذلك الأمير الكريم، وكأنما لم يكن هتاف ذلك الشعب منذ قريب باسم السلطان العادل طومان باي إلَّا تعبيرًا عن ثقته وحبه لمستشار ذلك السلطان وكبير أمنائه، فما جاءه نبأ مصرعه حتى انقلب ذلك الهتاف باسم السلطان دعاءً عليه وبغضًا له، فلو أطاقوا لانتزعوه من عرشه ورموه في حفرته.
ولم يكَد طومان ابن أخي الغوري يظهر في الطريق مقبلًا على دكان ابن أبي الجود، حتى أمسك الناس هناك عمَّا كانوا فيه من حديث قصروه وأخذوا في حديث غيره، أليس هذا الأمير الصغير هو ابن أخي الغوري دوادار السلطان؟ فإنهم لَيَخْشَوْنَ أنْ يطَّلع على ما تُكِنُّ صدورهم من البغض لذلك السلطان الغادر.
ولَحَظَ طومان صمتَهم بعد ضجيج وسكونهم بعد حركة، فأقبل عليهم بتحيته مبتسمًا ثم جلس بينهم، وطال الصمت فترة، ثم ندر صوت رجل من أبناء الناس كان جالسًا في زاوية الدكان يقول: رحمه الله! لقد عاش كريمًا ومات كريمًا.
ووجد طومان فرجة لينفذ منها إلى ما يريد، فقال وقد بدا في وجهه لون من الأسى: أحسبك تتحدث عن الأمير قصروه، وحقًّا قلت، وإنَّ موته لخسارة!
ثم عاد لحظة إلى الصمت وهو يقلب بصره في وجوه الجالسين، وأردف: ولم يكن مثل قصروه في وفائه أهلًا لهذا الغدر.
وبدا الارتياح في وجوه الناس، وقال رجل منهم: عجبت كيف يكره قصروه أو يخافه رجل له قلب أو عقل!
قال جاره: ومن قال لك إنَّ لذلك الغادر الذي دبَّر مصرعه قلبًا أو عقلًا! أرأيته — لو أنَّ له عقلًا يدرك به — كان يهدم تلك الدعامة الراسخة التي يستند إليها عرشه؟
قال آخر: أفليس هو الذي قتل الناصر ابن سيده، وخلع الظاهر صديقه، وغدر بصاحبه جانبلاط الذي وثِق به وأسلم له الأمر كله؟ فمن أين لمثله أنْ يكون له قلب أو عقل؟!
في تلك اللحظة، أقبل على دكان علي بن أبي الجود شيخ جليل، له وقار وسمت، فأمسكوا عن الحديث ووقفوا إجلالًا وتحية حين همس واحد منهم: الشيخ جلال الدين السيوطي!
وألقى الشيخ إليهم السلام وهمَّ أنْ يستأنف سيره، بعد أنْ أسرَّ كلمتين في أذن ابن أبي الجود، فقال واحد من الجماعة: ادعُ لنا يا سيدنا الشيخ أنْ يكشف الله عنا هذه الغمة!
فأسبل الشيخ جفنيه وهز رأسه في أسف وهو يقول: الله لهذه الأمة من ذلك الفاسق! عجل الله به لنخلص من شره، ورحمة الله على ذلك الشهيد.
ثم استأنف سيره لتعود الجماعة إلى ما كانت فيه من الحديث.
قال جركسيٌّ قصير القامة كان جالسًا في أقصى المجلس: ليس لنا واللهِ في هذه المحنة إلَّا تدبير الأمير الكبير قنصوه الغوري، لولا عزوفه عنها!
ومال طومان برأسه ينظر، فإذا غلامه أبرك … فابتسم ابتسامة ثم قال: ومن أين لعمي الغوري أنْ يؤمِن بأن عليه اليوم فرضًا أنْ يخرج من صومعته ليقيم هذا العوج؟ إنه ليكره أنْ يظن الناس به الظنون حين يسمعون له صوتًا في هذه الملمة، وإنَّ أبغض شيء إليه أنْ يكون من أصحاب السلطان، فيحمل أوزار هذه الخلائق جميعًا على رأسه يوم القيامة.
قال شيخ كبير: فإذا لم يحملها الغوري فمن يحملها؟ إنه ليزعم أنه يفر من حمل أوزار الناس، وإنَّ فراره ذاك لإثم أكبر، فقد فسد الأمر كله حتى يوشك الناس أنْ يأكل بعضهم بعضًا، ويتخذوا سلطانهم قدوة في الغدر والخيانة.
قال طومان: ولكن الغوري يا أبتِ شيخ كبير يضعف عن احتمال تبعاتها …
قال الشيخ: بل قل كما قلت من قبلُ: إنه يفر من تبعاتها. وماذا صنع الشبان الأربعة الذين تداولوا عرش قايتباي من بعده، ماذا فعلوا إلَّا الغدر والفتك، وهتك الحرمات وسفك الدم، أفلم يكن قايتباي شيخًا قد حطم الثمانين؟ فأين منا تلك الأيام السعيدة المجيدة؟!
قال طومان: صدقت! فمن لي بأن يؤمِن عمي الغوري بما تقول؟
وكان علي بن أبي الجود قد فرغ من حاجة أصحابه هؤلاء، فأخذ كلٌّ منهم حاجته ومضوا لشأنهم، ومضى الشيخ الكبير، والأمير طومان، وأبرك المملوك، كلٌّ منهم في وجه، ولكنهم لم يلبثوا أنْ التقوا عند دار الأمير قنصوه الغوري في ساحة «بين القصرين»، حيث كان الغوري ينتظر أنْ يعودوا إليه بما عندهم من أحاديث الناس في المدينة.
فلما أظلَّ الليل، كان علي بن أبي الجود نفسه بياع الحلوى والمشبك عند حمام شيخو، جالسًا بين يدي الأمير قنصوه الغوري الدوادار الكبير، يقص عليه ما رأى وما سمع من حديث الأمراء والسوقة في ذلك اليوم، الذي لم يكن يجري فيه على لسان أحد من الناس — جراكسة ومصريين — إلَّا خبر مصرع قصروه، وطيش السلطان العادل طومان باي وغدره.
وخلا المجلس بعد قليل بطومان وعمه، فقال الفتى: يا عم، إنَّ في نفسي حديثًا أرجو أنْ تأذن لي فيه.
قال الغوري: وما ذاك يا طومان؟
قال طومان: إني أخشى أنْ يكون علي بن أبي الجود عينًا عليك، فقد نُبئت أنَّ له سببًا إلى السلطان، وليس لمثل هذا السوقي عهد.
قال الغوري باسمًا: نُبئت! فمن أنبأك؟ حسبتك تعرف منذ بعيد أنَّ له أسبابًا إلى السلطان. إنني أعرف هذا فلا تخشَ سوءًا يا طومان، إنَّ عمك يعرف أين يضع رجله قبل أنْ يخطو خطوة إلى أمام، أو إلى وراء.
ضاق صدر طومان بحديث عمه هذا، فقال غاضبًا: تعرف هذا؟ فهل عرفت أنَّ كلمة واحدة قالها الشيخ جلال الدين السيوطي اليوم على مسمع من ذلك السوقي، فلم تلبث أنْ بلغت السلطان، فإن الجند ليبحثون عن الشيخ جلال الدين منذ ساعات؛ ليسوقوه مقيدًا إلى مجلس السلطان ينتقم منه.
فزادت ابتسامة الغوري اتساعًا وعمقًا وهو يقول: عَرَفْتُ هذا، وأحسبهم لن يظفروا بالشيخ جلال الدين ولو كبسوا كل بيوت المدينة، فقد عرف الشيخ ما يُراد به من قبل أنْ يعرف الجند الذين ينقبون عنه في زاوية كل دار ومسجد.
فبدت الدهشة في وجه طومان وأمسك عاجزًا عن الرد، ولم يزل يحيك في صدره الشك والقلق.
وفي هدأة الليل وقد نامت العيون، كان شيخ في الستين يدلف حذرًا في الطريق إلى بركة الفيل، حتى بلغ دارًا لم يُرْتَجْ بابها فنفذ من ورائه إلى الطريق شعاع يتراقص، فدفع الشيخ الباب في خفة ودخل، ثم أغلقه فأحكم رتاجه، ووضع عباءته عن كتفيه وانتصبت قامته، واستقبلته جارية كانت تنتظره ثمة فسألته: هل أنبئ مولاتي؟
قال: نعم، قولي لها قد جاء الغوري لموعدك يا خوند، وإنَّ به حاجة إلى أنْ يعود إلى داره قبل أنْ يتقدم الليل.
وكانت خوند أصل باي تنتظر، فلم تكد تنبئها الجارية بمقدم قنصوه الغوري حتى هبت واقفة وتهيَّأت لاستقباله.
والتقى الأمير الشيخ بالأميرة الكسيرة الجناح التي كانت ذات يوم أحظى جواري السلطان قايتباي، ثم لم تزل من بعده آمرة ناهية في عهد ولدها الناصر، وأخيها الظاهر، وزوجها جانبلاط.
أين هي اليوم مما كانت تنعم به من الجاه والمجد والسلطان؟! لقد ذهب ذلك جميعًا، وتخضب سيف العادل طومان باي بدم ولدها وزوجها، ولعله يدبر الساعة لأخيها الظاهر في معتقله ما يدبر من كيد ليؤمِّن ظهره، ولم يَكْفِهِ هذا الذي صنع، فسلط عليها زبانيته يحاولون أنْ يغتصبوا ما ادَّخرته من مال في أيام عزها؛ ليكون لها عونًا في تلك الأيام الشداد …
قال الغوري: إني واللهِ يا خوند ليعزُّ عليَّ ما نالك على يد ذلك السلطان الغاشم، وإني إلى ذلك لأعجب كيف رضي لك مماليك السلاطين الأربعة هذا الهوان، فلم يدفعوا عنك أذاه، ولم يحاولوا أنْ يأخذوا بثأرهم منه؟!
قالت ورفعت منديلها إلى عينيها تجفف عَبرة: شكرًا يا أمير، وإنها لمروءة أنْ تذكرني حين لا يذكرني أحد، وقد كان مماليك السلاطين أهلًا لأن يدفعوا عني ويأخذوا بثأرهم، لولا ما بيني وبينهم من حجاب، ومن أين لي أنْ ألقى أحدًا من أمرائهم فأتحدث إليه! فلولا أنك تذكرني لغاب عني أنني كنت يومًا سلطانة وكانوا لي بطانة، وإني لأشتري قطرة من دم ذلك الباغي بكل ما أملك من مال. فقد نذرتُ نذرًا أنْ أتخلق أنا وعيالي بدمه، بما أثكلني ورمَّلني وأسخن عيني.
قال الغوري: أرجو أنْ تجدي وفاء نذرك يا خوند وتقري عينًا؛ فقد آلمني وبلغ من نفسي مبلغًا بعيدًا أنْ يطيش ذلك السفاك حتى يسلط عليك زبانيته يستصفون مالك، فلا يتركون لك أبيض ولا أصفر.
ثم صمت برهة وعاد يقول والكلمات تتعثر على شفتيه: وإنَّ عليَّ دينًا لأستاذي قايتباي ولك، يقتضيني أنْ أمدَّ إليك يدي بما أملك من مال قليل، يكون لك عوضًا مما انتهب هؤلاء اللصوص.
فابتسمت أصل باي وقالت مزهوَّة: وهل حسبتهم — كما زعموا وزعم الناس — قد أخذوا من مالي إلَّا قلامة ظفر! فالحمد لله على نعمته وشكرًا لك.
وخرج الغوري من دارها تحت الليل كما دخل، وقد أيقن أنَّ تحت لوائه منذ الليلة كل مماليك السلاطين الأربعة؛ لينالوا ثأرهم عند العادل طومان باي …
ومضى جمادى ورجب وشعبان، والبذرة تستجمع لنفسها أسباب النماء والقوة في باطن الأرض، فما أَهَلَّ هلال رمضان حتى نَجَمَ النبات واستطال، وامتدت فروعه إلى يمين وشمال، وحلَّ الربيع — بعد شتاء عاصف — يُجدُّ الآمال ويوقظ الفتن النائمة، فلم يكن للسامرين في ليالي رمضان الضاحكة في نور الربيع ونوَّاره إلَّا حديث واحد، يبدأ وينتهي عند اسم العادل طومان باي. واستطال الناس عهده وما استقر على عرشه ثلاثة أشهر …
وأحس السلطان نُذر الشر فراح يدبر أمره، ودعا الأمراء إليه فلم يجبه مجيب، فعوَّل على خطة يخلص بها من الأمراء جميعًا، ولم يوقظ فتنة، ولم يسفك دمًا.
العيد بعد غد، وسيجتمع الأمراء في المسجد يوم الفطر للصلاة، وهنالك … هنالك يحيط بهم الجند فرادى، فيسوقونهم إلى حيث يلقون آخرتهم، ويخلص له العرش.
وجاءهم النبأ قبل أنْ تغرب شمس رمضان، فحشدوا الجند ووثبوا على القلعة قبل أنْ يأخذ السلطان أُهْبَتَه!
وكما فرَّ من قبلُ الظاهر قنصوه والأشرف جانبلاط، فرَّ العادل طومان باي قبل أنْ يدركه هلال شوال وهو على العرش.
واجتمع الأمراء صبيحة يوم الفطر يداولون الرأي ويتساءلون بينهم: من ذا يلي العرش في هذه الفتنة إلَّا رجل عرك الدهر وخبر سياسة الدولة جيلًا بعد جيل؟ مَن غير قنصوه الغوري؟
وتمنع الغوري وبكى وهو يقول: دعوني أقضي ما بقي من أيامي هادئًا، لا تقدموا عنقي إلى الجلاد في مهرجان، فما هذا التاج الذي تضعونه على رأسي إلَّا غلٌّ تسوقون فيه رجلًا منكم إلى الموت، بين عزف الموسيقى ونقر الدفوف.
قال الأمراء وقد نال منهم حديثه فأقبل منهم من كان مُعرِضًا، ومال إليه من كان مائلًا عنه: ليس لها غيرك يا قنصوه، وكلنا جند من جندك!
وأقسموا له على الطاعة والولاء مخلصين.
وجلس قنصوه الغوري على العرش في يوم الفطر سنة ٩٠٦ وعيَّدت المدينة عيدين.
وكان أرقم الرمَّال جالسًا في ظل سرحته الفينانة من بساتين القبة حين جاءه النبأ، فقلب كفيه عجبًا ودهشةً وهو يقول: ما شئت يا رب لا ما شاء الناس، بيدي رفعت ذلك الثعلبان الشيخ إلى العرش، حين خُيِّلَ إليَّ أنني قد وضعت في قفاه السيف، وبيدي قتلت قصروه الشهيد وخلعت العادل طومان باي.
ثم غاب في سبحة من سبحاته الخيالية مطوِّفًا في الآفاق البعيدة، وتتابعت على خديه دموعه.