في بلاد الروم
كان خان يونس الرومي في ظاهر مدينة قَيْسارِيَّة من بلاد الروم ملتقًى لكثير من تجار المشرق؛ فقد كان على طريق الغادي والرائح — من هؤلاء التجار — إلى حلب ودمشق والقاهرة، أو إلى أرمينية وبلاد الكرج وما وراء الجبال، يأوُون إليه في ذهابهم، وفي معادهم، يلتمسون الغذاء والدفء والمأوى، وكان يونس الرومي — صاحب ذلك الخان — مستودع أسرار هؤلاء النزلاء جميعًا؛ فإنه لَيعرفهم ويعرفونه منذ سنين بعيدة، وكثيرًا ما كان واسطة تعارُف بين بعضهم وبعض، وكثيرًا ما ربط بينهم روابط تجاريَّة وعقد صفقات رابحة …
وكان أبو الريحان الخوارزمي من رواد ذلك الخان، يأوي إليه بغِلْمَانه ذاهبًا وآيبًا، ويُفضل على الخان وصاحبه من معروفه وبَذْلِه؛ فقد كان من أغنى تجار الرقيق في شرق بلاد الروم وغربها، وكانت تجارته هذه تكفُل له من الربح ما لا يحسب معه حسابًا لنفقاته … على أنَّ يونس الرومي لم يكن يستريح إلى الخوارزمي أو يطمئن إلى رؤيته؛ فقد كان إلى بذله ومعروفه فظًّا غليظ القلب فيه قساوة وجفاء، ولم يكن أحد غير يونس الرومي يعرف أنه ليس تاجرًا من تجار الرقيق بالمعنى الذي يفهمه عملاؤه، ولكنه نخاس يسرق أبناء الحرائر وبناتهم من أحضان آبائهم وأمهاتهم؛ ليبيعهم في أسواق الرقيق، ويزعم أنه يشتريهم من عملائه في أرَّان، وكِرْمان، وخوارزم …
ففي ليلة من ليالي الربيع، بينما كان يونس يتهيأ للنوم بعد أن أدى ما عليه للنزلاء من حقٍّ، وأغلق باب الخان، سمع طَرْقًا على الباب، فأزاح الغطاء عن جسده، وحمل شمعة موقدة في يده، وقصد إلى الباب ليرى مَن ذلك الطارق بليل … وكان الطارق أبا الريحان الخوارزمي، وفي يديه فتى وفتاة يجرهما جرًّا في قسوة وغلظة، فما كاد ينفتح له باب الخان حتى دفع أمامه الفتى والفتاة ودخل وراءهما، ثم جلس وجلسا بين يديه صامتين، يتبادلان نظرات حزينة فيها انكسار وخوف، على حين ارتفع صوت أبي الريحان خشنًا جافيًا يقول ليونس: ما لك واقفًا كذلك كأنما أصابك المسخ؟ اذهب فهَيِّئْ لنا عشاءً طيِّبًا وفراشًا وطيئًا، إنني وهذين الخبيثين لم نَذُقْ طعم الغمض منذ ثلاث، ولم نَطعم شيئًا منذ أمس!
ورفَّت على شفتي الفتاة ابتسامة خابية وهَمَّت أنْ تقول شيئًا ثم أمسكت، وقال الفتى متحديًا وفي عينيه بريق العزم والفُتُوَّة: أمَّا أنا فلن أطعم شيئًا من الزاد حتى تنبئني أين تذهب بنا!
فصرَّت أسنان الخوارزمي في غيظ، ثم اصطنع الهدوء والرفق وقال في صوت ناعم: ويحك يا غلام! انظر إلى مصرباي الجميلة الهادئة، لقد كنت أحسبك أعقل منها وأكثر إدراكًا لحقيقة الحال، أفلم أنبئك …؟
قال الفتى معاندًا: نعم، ولست أريد إلَّا أنْ أرجع إلى أمي …
فربت أبو الريحان على كتفه حانيًا وهو يقول: حسبُك يا طومان ولا تذكر أمك، فما أظنك تراها بعدُ. إنك منذ اليوم لست ابن نوركلدي، ولا أبوك هو أركماس … انسَ ذلك كله كأنْ لم يَكُنْ، فما وراء التذكُّر إلَّا الألم والندم … وليس إلى ما فات من سبيل، فهيِّئ نفسك لغدك، يوم تصير مملوكًا في حاشية السلطان قايتباي، أو أميرًا من أمراء جنده! …
قالت الفتاة باسمة: يا عم …
قال الخوارزمي غاضبًا: ماذا؟ حسبتُك قد فهمت كل ما هنالك فلن تعودي إلى ذلك الحديث، أفلا يرضيك أنْ تكوني غدًا سلطانة على عرش مصر؟!
وعاد يونس الرومي يحمل إلى نزلائه طعام العشاء، فكفَّت الفتاة عن الحديث، وكف الفتى، وأقبل أبو الريحان على طعامه لا يعنيه من أمر أحد شيء، فلما أوشك أنْ يفرغ ما بين يديه من الطعام، وقد امتلأ بطنُه حتى اكتظ، أقبل على الغلامين قائلًا: أفلا تتبلغان بشيء، أم تريدان أنْ تموتا جوعًا؟
ونظر إلى الفتى نظرة، ثم عاد ينظر إلى الفتاة مثلها وهو يقول: كُلي أنت يا بنية، إنَّ أخاك قد أجمع أمره على أنْ يموت أو يعود إلى أمه، وهيهات أنْ يبلغ من ذلك شيئًا!
ثم مد يده إلى الفتاة بفلذة من اللحم، فأخذتها من يده وراحت تأكل في نهم، حتى أتت على كل ما أفضل لها سيدها من الطعام، والفتى ينظر إليهما محزونًا لا يكاد ينبس ببنت شفة …
ثم عاد يونس الرومي يُنبِئُ السيد وغلامَيْه أنه قد هيأ لهم الفراش للنوم.
ومضى الثلاثة في أثر يونس إلى غرفتهم فأغلق عليهم بابها، وعاد إلى غرفته وهو يهمس لنفسه: ويل له! تُرَى من أين اختطفهما، وماذا خلَّف وراءه من حسرات!
كان جقمق الأشرفي تاجر الرقيق من نزلاء خان يونس في تلك الليلة، وكان رجلًا كثير الرحلة بين مصر والشام وبلاد الروم؛ ليتسوَّق المماليك، وكان له مكان ملحوظ في بلاد السلطان الأشرف قايتباي صاحب مصر لذلك العهد، فقد كان الأشرف حريصًا على أنْ يزيد عدد مماليكه؛ ليكون له منهم جيشٌ قويٌّ يرد به عادية الأمراء الذين ينافسونه على العرش في داخل بلاده، ويدفع به عن مملكته عدوان المغيرين من أمراء البلاد المجاورة، وكان مُلك قايتباي يمتد من صحراء ليبيا إلى حدود بلاد الروم شرقًا وغربًا، ومن بحر الروم إلى حدود اليمن وما وراءها جنوبًا وشمالًا، على أنه لم يكُن يخشى أحدًا من أمراء البلاد المجاورة خشيته ابن عثمان ملك الروم، من أجل ذلك كان دائمًا على الأُهبة، فلم يكن له همٌّ إلَّا زيادة جيشه بما يجلب له التجار من المماليك الذين يتسوَّقونهم من بلاد المشرق، أو يظفرون بهم من سبي الروم والفرنجة. وكانت وظيفة «تاجر المماليك» في ذلك العهد وظيفة رسميَّة من وظائف الدولة، لها إقطاع يساوي إقطاع بعض أمراء البلاط! وكان جقمق هذا واحدًا من أولئك التجار الذين يركن إليهم قايتباي فيما يريد من هذا السبيل، وكثيرًا ما باعه من جلبانه غلمانًا رَقِيَ بهم السعدُ حتى بلغوا مرتبة الإمارة في البلاط …
على أنَّ جقمق في هذه الرحلة لم يكن قد وُفِّقَ إلى شيء يطمع أنْ يحوز به رضا السلطان، فلم يقع له في رحلته إلَّا غلامٌ روميٌّ اسمه خُشقدم. وهو فتى فيه مخايل من ذكاء وفطنة، وفيه خبث وتدبير وكيد، وله إرادة وعزم … ولكنه غلام واحد …
فلما أشرق الصبح، التقى في بهو الخان أبو الريحان الخوارزمي وجقمق الأشرفي، ووقعت عين التاجر على الفتى والفتاة فرأى صيدًا سمينًا … فما كانت إلَّا صفقة يد، حتى انتقل طومان ومصرباي من يد نخاس خوارزم إلى مِلك جقمق الأشرفي … ومضى كلٌّ من الرجلين في سبيله!
لم تكن الأمور في ذلك الوقت بين بايزيد العثماني والأشرف قايتباي سائرة على نهج الصفاء والمَوَدَّة؛ فإن كلًّا منهما لَيتربص بصاحبه غِرَّةً يناله بها أو ينال منه، ولم يكن خافيًا على ابن عثمان أنَّ عَدُوَّهُ قايتباي إنما يتكثر بهؤلاء المماليك المجلوبين ليتهيأ لحرب الروم بالعدد الجم، فمنع تجار الرقيق المصريين أنْ يمروا ببلاده، ورسم لجنده أنْ يقبضوا على كل تاجر منهم يظفَرون به في بلد من بلاد الروم، وكان أولئك التجار يعرفون ما ينتظرهم لو دخلوا بلاد الروم، ولكن ذلك لم يصدهم عمَّا أرادوا، ومن أين لهم أنْ يظفروا بمثل المماليك الذين يجتمعون لهم من طريق بلاد الروم، من أبناء الروم أنفسهم، أو من الجركس والتركمان؟ من أجل ذلك لم يكن لينقطع وفود هؤلاء التجار إلى بلاد ابن عثمان ملك الروم، فمنهم من يعود ظافرًا، ومنهم من تقع عليه عين السلطان فيُساق إلى الاعتقال، فما كاد جقمق الأشرفي يخرج بغلمانه من خان يونس، حتى بصُر به جند السلطان بايزيد، فسِيقَ إلى الأسر، وسيق معه جلبانه الثلاثة: طومان، ومصرباي، وخشقدم. وارتدَّ إلى العبودية السيدُ وعبيده!