تحت ظل العرش
قال خاير بك حاجب الحُجَّاب لصاحبه خشقدم الرومي: أرأيت يا صديقي كيف تتقلب الأقدار؟ أفكنت تحسب يومًا أنْ يبلغ ذلك الصبي حيث بلغ، وأنْ يرتفع به الحظ حتى يقع ظله على العرش، وأنْ يُسلم له الزمامَ عَمُّه السلطان الشيخ حتى لا رأي لأحد من الأمراء العظام فوق رأي طومان؟
فضحك خشقدم ساخرًا وهو يقول: وأنت يا خاير بك حيث أنت، وأنا … لو شاء ذلك الصبي لردَّنا إلى الرق بعد عتاق، أفرأيت كيف يصعر خده عابسًا حين يرانا كأن لم يكن يومًا ولم نكن!
قال خاير بك: ليس يعنيني عبوسه أو انبساطه، ولكني قد لحظت منذ قريب أنَّ له عينًا عليَّ حيثما أذهب، وما أراه إلَّا يدبر لي شرًّا.
قال خشقدم: أمَّا شره فلا تخفْ يا أمير، فما علمته ينبعث إلى الشر، وإنما هو عين وأذن ولسان، فإن كان قد جعل عليك عينًا كما زعمت، فاحرص منذ اليوم على سرك قبل أنْ يعرف السلطان من خبرك ما تحرص على كتمانه.
قال خاير بك قلقًا: ماذا قلت؟! أفتراه يختلف إلى بيت أقبردي الدوادار حينًا بعد حين لمثل ذلك، وهو يزعم أنَّ خوند مصرباي أخته وأنه لها أخ وجار؟!
قال خشقدم الرومي: أما في بيت أقبردي فلا، فليهدأ بالك يا أمير، ولكن له هناك أمنية يتطلع إليها منذ بعيد …
فابتسم خاير بك وقال: تعني شهددار بنت أقبردي؟
قال خشقدم: نعم، ولكنه لن ينالها، فقد أجمع السلطان على أنْ يزوجه ابنته جان سكر، وما أظنه يغفر له لو عَرَف أنَّ له هوى هنالك، فإن شئت يا أمير فقد عرفتَ من أين تناله.
فسرحت نظرة خاير بك إلى بعيد وهَزَّ رأسه وهو يردد في صوت خافت: نعم، نعم قد عرفت!
ثبتت قوائم عرش السلطان في مصر بعد اضطرام دام سنين، منذ مات السلطان قايتباي، واستقرَّ الغوري على عرشه هادئًا راضي النفس قد أمن ظهره، فليس بين أمراء المماليك اليوم أمير واحد يزعم لنفسه أو لأحد ممن حوله أنه أولى بها من ذلك السلطان الشيخ، وقد تفانى الأمراء العظام ومات بعضهم بأيدي بعض …
على أنَّ طائفة من الأمراء الشبان كانت أنفسهم تنازعهم إلى لون من المجد والجاه، ولكنها لم تكُن تبلغ بهم مبلغ الأمل القريب في عرش السلطان الشيخ إلَّا أنْ يموت حتف أنفه، وكان السلطان الغوري رجلًا من ذوي الرأي والحيلة، له تدبير وكيد، وقد سلخ ما مضى من عمره لا يفكر إلَّا في الوسيلة التي يبلغ بها العرش، فلما بلغ لم يكن له فكر إلَّا في الوسيلة التي تحفظ له هذا العرش، ما عاش ليجعله من بعده ميراثًا لولده، فغفل عن كل تدبير إلَّا ما كان سببًا إلى هذه الغاية، فلم يكَد يحكم حتى كان من أول همه التخلص من أعدائه، يغري بعضهم ببعض ليخلص منهم جميعًا، ولم يسفك دمًا أو يؤرث بغضاء، ثم جَدَّ في طلب السلطان المخلوع، حتى ظفر به فأسلمه إلى أعدائه يأخذون منه بثأرهم. وتخلقت أصل باي بدمه وتخلق عيالُها، وهيأ لها السلطان الوفاء بذلك النذر.
ولم يكن به شَرَهٌ إلى المال، ولكنه أيقن أنَّ المال هو الوسيلة إلى استبقاء العرش، فكان كل تدبيره من بعدُ ليجمع ما يقدر عليه من المال بكل ما يملك من أسباب، ولم يُبق في ذلك ممكنًا إلَّا استعان به، حتى اتَّجر في الغذاء والكساء، واتجر في وظائف الدولة، واحتكر أنواعًا من المتاجر لا تباع ولا تشترى إلَّا من بابه. وسار الموظفون على نهج السلطان، فاتجروا واحتكروا، وفرضوا الضرائب لأنفسهم على الناس باسم السلطان، له منها نصيب ولهم نصيب، وليس يعنيه شيء مما يصيب الشعب من وراء ذلك ما دامت خزانته عامرة بالمال، واتخذ من أعوانه في تقدير الضرائب وتحصيل المال طائفة من ذوي الرأي والحيلة، أو ذوي الغلظة والعنفوان، فيهم جاني باي الأستادار، وفيهم علي بن أبي الجود بياع الحلوى والمشبك عند حمام شيخو كان.
وجعل همه إلى زيادة مماليكه الخاصة؛ ليكون له منهم جيش يحميه ويدفع عنه، حتى بلغ عدد مماليكه الخاصة في طباق القلعة ألفًا ومائتين، غير مماليك الأمراء والوزراء وأصحاب الوظائف، ينفق عليهم جميعًا من مال الدولة ويحتظيهم ويُمكِّن لهم، على حين ترك القرانصة من مماليك السلاطين السابقين لا يجدون ما ينفقون، وانتزع ما كان بأيدي أولاد الناس — ذراري الأمراء السابقين — من إقطاعات خلفها لهم آباؤهم؛ ليهبها لمماليكه الخاصة أو يضمها إلى ملكه …
وضاق الشعب بما يحمل من عبء الضرائب وعسف المماليك الخاصة.
وثار القرانصة لإيثار الجلبان عليهم بالخير والنعماء.
وغضب أولاد الناس لهوانهم بعد عزة وفقرهم بعد غنًى.
ورآها العربان وفتيان الزعر فرصة سانحةً للشغب وإثارة الفتنة؛ ليفسدوا على هؤلاء الجراكسة أمرهم، وينالوا الثأر من حكومة المماليك.
رجل واحد كان يحمل همَّ ذلك كله على كتفيه، فلولا أنه صديق الشعب والقرانصة وأولاد الناس، ولولا إحسانه وبره وتواضعه ورقة قلبه، ولولا أنه صوفيٌّ بين المتصوِّفة، وفتى بين فتيان الزعر، وأعرابيٌّ بين الأعراب، ولولا أنه سفير هؤلاء جميعًا إلى السلطان، وسفير السلطان إليهم، ولولا أنَّ له عينًا ترى، وأذنًا تسمع، وقلبًا يحس ويدًا تعطي، ولسانًا يُبين، لانتقض غزل السلطان الغوري ولم يبلغ تمام أمره، ذلك هو الأمير طومان باي، وإنه يومئذٍ لشابٌّ لم يبلغ الثلاثين …
على أنَّ ذلك الأمير الشاب — على ما يحمل من أعباء هذه الهموم جميعًا — كان ينوء بهمٍّ آخر من هموم نفسه، يجثم على صدره كالجبل الراسخ في موضعه لا يتحلحل، ذلك هو همُّه وهمُّ شهددار.
يا له مما يلاقي من ذلك الهوى!
منذ بضع سنين لم يزل يحمل من حب تلك الفتاة ما يحمل صابرًا ينتظر فرجة من أمل، وبصيصًا من نور، وقد خيل إليه ذات يوم أنه مستطيعٌ أنْ يظفر برضا عمه عن زواجه ببنت أقبردي، وماذا يمنعه من ذلك وقد مات أقبردي، فانقطع ما بينه وبين الأحياء من أسباب العداوة، وقد بلغ الغوري حيث أراد وولي العرش، فليس بينه وبين ذلك الماضي سبب ولا وشيجة من حبٍّ أو من بغضاء، فهل يأبى اليوم أنْ يحقق أملًا لابن أخيه وأحب الأمراء إليه؟
وهمَّ أنْ يتحدث إلى عمه بما أراد حين ابتدره عمه قائلًا: طومان، لقد أبليتَ بلاءك يا بُنيَّ في تثبيت قوائم هذا العرش، فأنت حقيق بأن تبلغ مني أدنى منزلة، وقد اخترتك لابنتي جان سكر، فهي مسماة عليك منذ اليوم … فإن شئت فليكن زفافها إليك بعد أنْ يقدم الحاجُّ في المحرم، أو لا فليكن ذلك في يوم عرفة قبل أنْ يشتد القيظ.
فنكس طومان باي رأسه بين الخجل والحيرة، وقال وصوته لا يكاد يبلغ أذنيه: مولاي!
فابتسم الغوري ابتسامة ماكرة وهو يقول: عرفت يا بنيَّ ما في نفسك، فما بك من حاجة إلى أنْ تشكر، وإنك لولدي ومن حقك عليَّ أنْ أختار لك، وما كانت نفسي لتطيب بها لأحد غيرك.
فرفع طومان باي عينيه برهة في وجه عمه، ثم أطرق صامتًا وصدره يكاد ينشق غيظًا مما به.
«ما به حاجة إلى أنْ يشكر!» عجبًا! أفتراه كان يريد أنْ يقول له: «إنك لا تملك معي إلَّا الرضا والطاعة، فليس من حقك أنْ تأبى!» ولكنه اصطنع أسلوبه في السياسة فأبدل عبارة بعبارة؟ وهل كان الغوري يجهل ما في نفس طومان باي وما أجمع نيته عليه؟ ولكن ماذا يملك طومان باي الآن إلَّا أنْ يطأطئ رأسه في صمت وصدره يكاد ينشق غيظًا مما به؟!
يا له مما يلاقي! ويا لشهددار!
وشاع في القصر ما كان من خبر طومان باي وبنت السلطان، وعرف كل مملوك في القصر وكل جارية أنَّ جان سكر بنت السلطان هي منذ اليوم خطيبة طومان باي … وعرف خشقدم الرومي عتيق السلطان.
وذاع الخبر حتى بلغ شهددار، فأوت إلى مقصورتها تبكي في صمت، ويئست بعد أمل، فأسلمها اليأس إلى الهم، فأسلمها الهم إلى فراش الضنى … وما كان لشهددار أنْ تسترسل في أحلامها بعد ما كان؛ فإن طومان باي منذ اليوم صهر السلطان، وما كان له أنْ يروع بنت السلطان بضرة، وأنْ تكون هذه الضرة هي بنت أقبردي الدوادار …
وقال خوند مصرباي لصديقها خاير بك: لقد كنت أتوقع أنْ يكون مثل هذا، ولكن من يدري! فقد يجمع الله الشتيتين …
فزفر خاير بك زفرة عميقة وهو يقول: نعم …
ذلك كل ما أهتف به من الشعر في خلواتي يا مصرباي، فهل تهتفين به في خلواتك؟
فاستضحكت ثم قالت وقد برقت عيناها بريقًا خاطفًا، وافترَ ثغرها عن ثنايا كاللؤلؤ الرطب: لا يا صديقي، وماذا يدعوني إلى الظن بألَّا تلاقي؟
لقد تعودت أنْ أتمنى فأجد، وإنما أتغنى في خلواتي بشعر الشاعر:
ومست ألحان مصر باي قلب خاير بك، فمال نحوها يقول: وماذا يكون إنْ رُئِيَا يا مصرباي؟
ومدَّ إليها يدًا، فكفَّته وهي تقول: الحِفاظ والمروءة يا خاير … ألَّا يراهما ذو عينين.
وأخذا في حديث طويل، فلولا أنَّ بين خاير بك وصديقه خشقدم الرومي موعدًا قد أزف، لظلَّ يحدث صاحبته ويستمع إليها حتى الصباح.
لم يفارق خشقدم الرومي سيده الغوري منذ دخل في رقِّه، فعاد معه من حلب إلى القاهرة عزيزًا مكرمًا، ولم يطُل عهده في الرق، فقد أعتقه مولاه ووهب له خيلًا ومالًا وجعله في بطانته، ولم يأله منذ كان إكرامًا وبرًّا، فهيأ له أسباب الإمارة، وزوَّجه بنت جاني باي الأستادار، وأقطعه دارًا، وأجرى له رزقًا، واعتدَّه من خاصة مماليكه، ولكن خشقدم مع كل ذلك لم ينس أنه روميٌّ بين الجراكسة، وأنه كان يومًا ما رفيقًا لطومان باي، ذلك الجركسي الشاب الذي يهتف اليوم باسمه الأمراء والسوقة، وينفذ أمره في القصر وفي الديوان … ولم يزل خشقدم حيث كان: عتيقًا ليس له إقطاع ولا إمارة!
«لماذا تفاوتت المقادير بينهما هذا التفاوت البعيد؟ ألأنه ابن أخي الغوري فيما يزعم؟ وما هذا في دولة المماليك؟ أترى أولئك الذين يتأمرون منهم ويحكمون، قد بلغوا مرتبة الحكم والإمارة لأن آباءهم كانوا من الأمراء أو من السلاطين؟ فمالهم يجعلون الأنساب سببًا لغير مسبب، ودستورُ هذه الدولة إنما يقوم على حق «المملوكية» لا على الأنساب؟ …»
كذلك كان خشقدم يدير هذه الأسئلة بينه وبين نفسه حينًا بعد حين، فلم تلبث المنافسة بينه وبين طومان باي أنْ انقلبت إلى حسد، وتطور الحسد فإذا هو حقد وضغينة، وتضاعف الحقد حتى صار همًّا مُقِيمًا مُقعِدًا، كأن له عند طومان باي ثأرًا يطلبه، فلا يزال يتحين له الفرصة ليبلغ منه مبلغه.
ودارت المقادير بخشقدم في فلكها الدائر، فإذا هو يلقى خاير بن ملباي ذات يوم وجهًا لوجه، وما التقيا قط منذ افترقا في حلب منذ بضع عشرة سنة، فما كادا يلتقيان حتى ألف بينهما هوى مشترك، فلم يلتقيا بعدها إلَّا على ميعاد.