بأي أرض تموت!
قالت أم السعد لأختها جليلة وقد قصدت إليها تزورها في دار زوجها بالشرابشيين: هنيئًا لك يا جليلة، فقد واللهِ انشرح صدري لمرأى دارك هذه في رونقها الجديد، إنها لتبدو للعين كأنها دار جديدة غير تلك الدار، التي كانت في ذلك الزقاق الخرب كجحر الضب؛ فإنها اليوم لتشرف على الطريق السلطاني، قد تخللها الهواء والنور من جميع جهاتها، وانبسط بين يديها الفضاء، فلولا أنني دخلت حجراتها ورأيت ما فيها من الأثاث ورأيتك أنت، لحسبتها دارًا غير دارك تلك!
قالت جليلة باسمة: كذلك يقول زوجي، أمَّا أنا فلم أخرج إلى الطرق منذ خرجتْ دارنا هذه إلى الطريق، وانهدم ما بين يديها من دور الناس، فلم أرَ منها إلَّا ما كنت أرى وهي في ذلك الزقاق، ولكنني أرى ما بين يديها من الفضاء حين أطلُّ من شرفتها، وأرى هؤلاء الفعلة والبنائين يبنون جامع السلطان …
قالت أم السعد وقد نهضت إلى الشرفة لترى ما تصف أختها: واللهِ لقد اختار السلطان الغوري فأحسن الاختيار، حين خط مسجده ومدرسته في هذا الحي، واختار الله لك حين هدم ما بين يدي هذه الدار من بيوت الناس، فأخرجك من ذلك الزقاق الخرب إلى الطريق السلطاني …
قالت جليلة وفي صوتها رقة وعطف: اسكتي باللهِ يا أم السعد ولا تثيري أشجاني، فهل كان ما كان من ذلك إلَّا على حساب البائسين من أهل ذلك الزقاق، الذين انهدمت دورهم فأصبحوا ولا مأوى لهم؛ ليتهيأ للسلطان أنْ يوسِّع مدرسته ومسجده ويشرع هذا الطريق! وماذا ينفعه المسجد والمدرسة أو يدفعان عنه من غضب الله، وقد شرَّد الناس وأخرب بيوتهم، وفضحهم وكانوا في ستر وتصوُّن! ثم ماذا أجدى علينا ذلك إلَّا الحسدَ وعيون الناس، ثم هذه الضريبة التي فرضها علينا عليُّ بن أبي الجود؛ لأن دارنا قد برزت من جحرها إلى الطريق السلطاني، وكنا واللهِ من ذلك الجحر في نعمة!
قالت أم السعد منكرة: يا أخية! إنك لا تشكرين النعمة أبدًا، ولو قد رأيتِ دارك اليوم حين يترامى إليها النظر من بعيد مجصَّصة مبيَّضة كدور بعض الأمراء، لعرفتِ قدر النعمة وشكرت!
قالت أختها: مبيَّضة مجصصة يترامى إليها النظر من بعيد! ليتك تعرفين مقدار ما تكلفنا من الجهد والمال في تجصيصها وتبييض وجهها طاعةً لأمر السلطان، لقد أنفقنا في ذلك يا أختي ما لا طاقة لنا به، ولو كان الأمر بيدنا ما جصصنا ولا بيضنا، ولكان عندنا اليوم ما ننفق … وتلك الأنظار التي تترامى إلى دارنا من بعيد، قد حرَّمت عليَّ أنْ أقف إلى هذه الشرفة برهة لأتروَّح مما بي من الهم … ادخلي يا أم السعد، إنَّ عينين تنظران نحونا وأخاف أنْ يرانا أحد في الشرفة أو يعرف زوجي، وإنه كما تعلمين لغيور …
وكان البناءون دائبين في عملهم، والفَعَلة طالعين ونازلين على تلك المصاعد الخشبية المشدودة إلى الحيطان، يحملون الآجر والحجر وهم يغنون أغنياتهم، يستعينون بالغناء على ما يجدون من عناء العمل الشاق، وقد ارتفع البناء واستطال وبدا المسجد لعيني من يراه — وإنْ لم يتم تمامه بعدُ — آية من آيات الغوري يجري حديثها على كل لسان …
وجلست الأختان في بهو الدار تتمان ما بدأتا من الحديث.
قالت أم السعد: فكيف صنعتْ خالتي أم أيوب وقد انهدم نصف دارها، وانكشف سائر ما فيها لعيون الناس؟
قالت جليلة: اسكتي بالله يا أختي فإنني أريد أنْ أنسى … لم يبقَ لنا بعد خالتي أم أيوب جارة ولا جار … وقد ذهبت أم أيوب تحمل على رأسها أنقاض دارها، وتجر وراءها سلسلة من الأحزان، فلم يبقَ منها إلَّا ذكرى!
قالت أم السعد: فأين ذهبتْ؟
قالت جليلة وقد برقت في عينيها دمعة: ذهبت إلى الله وهي تتمتم بدعاء على السلطان لم تسمعه أذنان؛ فإن علي بن أبي الجود لم يدعها لما نابها، وقد انهدم نصف دارها وانكشف سترها للناس، فجاء عامله ليجبي منها الضريبة السلطانية، ومن أين لها أنْ تدفع الضريبة وهي لا تملك ما تتبلغ به؟! ولكن الجابي لم يرفق بها وإنها لعجوز كجدته، فشد وثاقها وساقها إلى الحبس، فلم يطلقها إلَّا حين استوفى الضريبة ببيع ما بقي من الدار. وخرجت المسكينة من محبسها لترى نصف دارها في الطريق، ونصفها في يد مالك جديد … واختار الله لها وسترها فانتقلت إلى الدار الآخرة … وعلى شفتيها دعاء لم تسمعه أذنان!
مصت أم السعد شفتيها محزونة وهي تقول: مسكينة! اللهم احفظنا يا رب!
وسُمِعَ نقر على الباب، فخفت إليه جليلة لتفتحه فتستقبل زوجها عز الدين، وكان عز الدين هذا تاجرًا يبيع طرائف الثياب وألوان القز، قد اتخذ متجره في سوق مرجوش على بعد قريب من داره، ولم يكن يدَّخر مالًا، فلولا أنه لا ولد له ولا يعول إلَّا زوجه لضاق به العيش، على أنه لم يُرَ قط إلَّا ضاحك السن وعلى وجهه مسحة الرضا والقناعة، ولكنه في هذا المساء قد عاد إلى داره عابسًا مطبق الشفتين، فحيَّا وجلس بين زوجته وأختها، فلولا حق هذه الضيفة عليه لظلَّ مطبق الشفتين في مجلسه لا ينبس بحرف.
قالت أم السعد وقد أنكرت هيئته تريد أنْ تحمله على الحديث: هنيئًا لك الدار والجار يا عز الدين!
فابتسم عز الدين بعد عبوس وقال: أمَّا الدار فليست جديدة عليَّ، وأمَّا الجار فلست أدري ما تعنين يا أم السعد، إلَّا أنْ يكون قصدك هذا المسجد الحرام!
وضحك، وضحكت زوجه، وابتسمت أم السعد وهي تقول: المسجد الحرام!
قال ولم يزل يضحك: نعم، إنه المسجد الحرام من دون مساجد المسلمين جميعًا، فقد أُسِّسَ على الظلم والغصب، ونهب أموال الناس، وترويع الآمنين، وماذا يكون الحرام إلَّا ذلك؟
قالت أم السعد: إنَّ لسانك لا يطاق يا عز الدين، أفلا تشكر للسلطان أنْ بني مسجده ومدرسته هذين لتكون له جارًا؟!
قال: والله لقد كان جوار أم أيوب ومختصٍّ الطواشي أحبَّ إليَّ من جوار هذا السلطان، أمَّا أم أيوب فقد أخرب دارها وتركها تلفظ آخر أنفاسها على الطريق، وأمَّا مختص الطواشي فقد أعجب السلطانَ مسجدُه الصغير الذي بناه بالمال الحلال ليكون فيه مدفنه حين يموت، فاغتصبه وأوسعه مما حوله من بيوت الناس وبناه مسجدًا باسمه، وشقَّ لنفسه فيه ضريحًا يدفن فيه إذا حان الأجل، مكان الضريح الذي كان يريده مختص الطواشي لرمَّته، كأنما حسده السلطان على مكانه ميتًا، وكان خليقًا أنْ يحسده على مكانته في الآخرة لا في القبر!
ومصَّت أم السعد شفتيها ثانية وهي تقول: مسكين! حتى على القبر!
قال عز الدين: ليس مسكينًا، فقد نفاه السلطان إلى مكة، فلعله أنْ يجد — حين يموت — في تلك الأرض الطاهرة مدفنًا يضم رفاته خيرًا من مدفنه هنا في أرض الفساد والرجس!
ثم أردف ضاحكًا: وقد سمعته بأذنيَّ وهو في طريقه إلى منفاه، يدعوه الله ألَّا يجعل للغوري في بطنها مدفنًا يُزار، ولعل الله أنْ يستجيب له، وما تدري نفس بأي أرض تموت!
قالت امرأته وهي تهز كتفها: وأين يُدفن الموتى إلَّا في بطن الأرض، أيخطفه طير الجو أو تبتلعه سمكة في جوف البحر؟
قال عز الدين جادًّا: اسكتي يا جليلة، إنها دعوة مظلوم!
وسكت برهة وهو يُحدق بعينيه مفكرًا، ثم أطرق وهو يهمس وقد بدا في وجهه الهم: كم يدعو مظلومون ولا يستجيب الله!
وسمعته زوجته فصاحت به منكرة: ماذا قلتَ يا عز الدين! …
ثم استدركت وقالت بلطف: ماذا بك اليوم فإن على وجهك سحابة همٍّ، أليس يسرك أنْ ترى أختي؟
وخجل عز الدين فرفع رأسه وأقبل على أم السعد باسمًا وهو يقول مازحًا في تكلُّف: ليتك يا أم السعد ذات ولد!
وكانت أم السعد عقيمًا كأختها، فقالت متظاهرة بالرضا: وما حاجتي إلى الولد وإنه لمشغلةٌ وهمٌّ، وما رأيت أمًّا شاكرة …
قال وقد زادت ابتسامته: نعم، ولكن الناس جميعًا يطلبون السعد …
قالت وقد فهمت ما يعنيه وغلبها الضحك: ولكن السعد ما نحن فيه يا عزَّ الدين، ولو كانت الأسماء على مسمياتها …
فقاطعتها زوجته قائلة: لو كانت الأسماء على مسمياتها لكنتَ عزًّا للدين، أو لكان اسمك اليوم عباس!
قال الرجل ضاحكًا: نعم، ولكان اسم علي بن أبي الجود: خرَّاب الديار!
وأمسكت المرأتان عما كانتا فيه من الحديث حين جاء ذكر علي بن أبي الجود، وأوشكتا معًا أنْ تعرفا لماذا كان عز الدين اليوم على غير ما يعهدان فيه من البِشر والطلاقة، فما أذكره الساعة عليَّ بن أبي الجود إلَّا شرٌ عظيم. وأي الناس في القاهرة قد سلِم من عسف علي بن أبي الجود، حتى لكأنه شريك كل ذي مال في ماله، يقاسمه ما يملك باسم السلطان، ثم يعود فيقاسمه ما بقي، ثم يعود … ويسمي ذلك ضرائب لبيت المال، وما هو إلَّا السلب والنهب والطمع فيما في أيدي الناس!
قالت زوجته مشفقة: فما لك ولعلي بن أبي الجود اليوم؟
قال: بل اسألي: ما له ولي! فلا يزال عماله يطلبونني بما لا حق لهم فيه، حتى لقد أوشك متجري أنْ يخرب كما خربت متاجر، وكم يدعو اللهَ مظلومون ولا يستجاب لهم!
قالت زوجته مستنكرة: أفْ! الفقر ولا الكفر يا عز الدين، إنَّ الله يمهل ولا يهمل!
ثم نهضت لتهيئ العشاء!
وقال الرجل وهو يدير عينيه بين ألوان الطعام: هلا بعثتِ يا جليلة فاشتريتِ بعض ما يبيع مماليك السلطان عند باب القلعة من زبادي اللحم، ورقائق الخبز التي تفضُل عن حاجتهم من أرزاق السلطان؛ احتفالًا بزيارة أم السعد؟
قالت زوجته: وهل حسبت يا عز الدين أنَّ السلطان في هذه الأيام يصرف لمماليكه من الرزق زباديَّ لحم أو رقائق خبز تفضُل عن حاجتهم فيبيعونها؟! هيهات! قد كان ذلك في عهد مضى، فإن مماليك السلطان اليوم لَيأكلون أرزاق الناس!