شعب وحكومة
كان بدر الدين بن مزهر الأنصاري سيدًا من سادات المصريين وذوي الجاه فيهم، وقد تولى — كما تولى آباؤه من قبله — عدة وظائف سَنِيَّة لعديد من السلاطين، فكان ناظر الخاص، ومحتسبًا، وكاتب سرٍّ، وهي وظائف تداني مرتبة الوزارة في نظام الحكومة لذلك العهد، وكانت تربطه ببعض أمراء المماليك صلات من المصاهرة جعلته قريب المنزلة من ذوي السلطان، وكان إلى كل ذلك مليحًا وسيمًا، عريق النسب، كثير المال والنشب، عربي الوجه واليد واللسان، فبلغ بذلك كله منزلة من المجد لم يبلغها مصريٌّ في ذلك العهد … وكانت داره في بركة الرطلي ملتقى الصفوة من الرؤساء والأعيان، وأمراء المماليك وأصحاب الوظائف وقادة الجند.
وكانت الإمبراطورية المصريَّة لذلك العهد مبسوطة الرقعة بين بلاد الروم وصحراء ليبيا شرقًا وغربًا، ومن حدود اليمن على ساحل بحر الهند إلى سواحل بحر الروم جنوبًا وشمالًا، وكانت تنعم باستقلال تامٍّ وحرية كاملة، فليس لدولة من دول الشرق أو الغرب عليها سيادة أو سلطان، فهي سيدة نفسها وسيدة ما يليها من البلاد، لا تصدر ولا ترد إلَّا عن رأي حكومتها المركزيَّة في القاهرة، وقد تعاور عرشَها طوائفُ من الملوك والسلاطين، فيهم الترك من بني طولون وبني الإخشيد، وفيهم العرب من خلفاء العبيدين الفاطميين، وفيهم الكرد من بني أيوب، وفيهم هؤلاء المماليك. ولكن هذه الإمبراطورية — على اختلاف أجناس الأسر الملوكية التي تعاقبت على عرشها — لم تدخل تحت سيادة دولة أجنبية قط، منذ استقل بها عن الدولة العباسية أحمد بن طولون في القرن الثالث …
على أنَّ المصريين في هذا العهد الذي نَقُصُّ من تاريخه، لم يكونوا راضين عن نظام حكومة الجراكسة رضًا يفرض عليهم لها الطاعة والولاء؛ فقد ضاقوا بما يحملون من مظالم المماليك ضيقًا شديدًا، فإنهم ليتمنون — لو استطاعوا — أنْ يخلعوا عن أعناقهم إصر هؤلاء السلاطين الذين يتوارثون عرش مصر سلطانًا بعد سلطان، منذ ثلاثة قرون أو قريب من ذلك، فلم يعدلوا في الحكومة، ولم يقسموا بالسوية، ولم يحققوا للشعب معنى من معاني الحرية والإخاء، أو يهيئوا له عِيشة ناعمة رخية، وإنما كان كل همهم أنْ ينعموا بحياة مترفة قد بلغت الغاية من البذخ والرفاهية، والشعب يعاني ما يعاني من ألوان الحرمان والمذلة، ويقاسي آلام المرض والعري والجوع. بلى، قد حفظ أولئك السلاطين لمصر هيبتها بين دول الشرق والغرب، وصانوا لها حريتها واستقلالها، ولكن ما جدوى الحرية والاستقلال إذا لم يكُن أفراد الشعب أحرارًا مستقلين في ذات أنفسهم، لهم رأي واعتبار ومشاركة في الحكم، ولهم حق المحكومين على الحكام في أنْ يهيئوا لهم حياة إنسانية كريمة؟
ما جدوى الحرية والاستقلال إذا لم يحس كل فرد في الدولة المستقلة الحرة أنه مستقلٌّ حرٌّ؟
كانت هذه الخواطر تلمُّ بقلوب المصريين، فيُسِرُّونَهَا حينًا ويجهرون بها حينًا آخر، ولم تكن عصائب فتيان الزعر، أو غارات الأعراب المتوالية على حدود المدن، إلَّا تعبيرًا صامتًا عن تلك العاطفة التي تغلي بها نفوس المصريين على اختلاف عناصرهم، كما يغلي الماء في القدر فيترشش على حافة الوعاء!
وكانت الأعوام التي تلت عهد قايتباي — بما ثار فيها من الفتن، وما سُفك من الدم، وما كان بين الأمراء من الحرب — سببًا إلى انتعاش آمال المصريين في حكومة مصريَّة خالصة تنقذهم من جور هذه الأسرة المالكة التي لا يجمعها نسب، ولا تربطها أبوة، وليس بينها إلَّا آصرة المملوكية التي نزحت بهم راضين أو كارهين من بلادهم وراء جبال القبج؛ ليتوارثوا عرش مصر.
وكان السلطان الغوري سعيدًا بما بلغ من آماله حين رأى نفسه سلطانًا على العرش، وقد تفانى الأمراء العظام فأمن غدرتهم، ولكن المصريين — على ما بهم من الضِّيقِ والضجر — كانوا أسعد منه بهذه الحال، فقد انكسرت شوكة الجركس وانحلَّت عروتهم، فلم يبقَ منهم ذو قوة إلَّا السلطان الشيخ وإنه لهامة اليوم أو غد!
وفي دار بدر الدين بن مزهر في بركة الرطلي، كانت تتوالى اجتماعات المصريين ليدبروا أمرهم، وكان يشهد اجتماعهم أحيانًا أمراء من المماليك الطامحين أو الساخطين، يأملون أنْ يكون لهم نصيب من غنائم المعركة حين تنشب المعركة، أو يطمعون في إدراك ثأر … لا يكادون يدركون أنهم يعينون على أنفسهم حين يعينون على إخوانهم من الجركس!
كان ذلك في القاهرة، أمَّا في مضارب الأعراب بين الشرقية وقليوب، فكانت تتوالى اجتماعات أخرى في دار ابن أبي الشوارب، يشهدها زعماء القبائل العربيَّة الضاربة في الشرقية والبحيرة وبوادي الصعيد … وإنَّ لهم — كأولئك — أصدقاءهم من أمراء المماليك.
والغوري مشغول عن كل أولئك بما يجمع من المال بالمصادرة والتعذيب وكبس البيوت، وبما يحشد من المماليك الجلبان في طباق القلعة، وبما اجتمع له من أسباب الرفاهية والنعمة، التي لم ينعم بمثلها سلطان من سلاطين الجركس، حتى كانت أدوات المطبخ تصاغ من خالص الذهب والفضة …
والأمير طومان باي يرى ويسمع ما يجري من الأحداث والأحاديث في المدينة، ويشارك فيما يتمتع به السلطان من ألوان النعيم في قصر القلعة، ولكن له مع ذلك همومه الخاصة قد أقفل عليها صدره وأمسك لسانه، فلم يُطلِع على غيبة أحد؛ فهو موزع القلب بين أسباب الهوى وتقاليد الإمارة وفضول الشباب …
إنه لَيَوَدُّ أنْ يجلس إلى عمه فيتحدث إليه حديثًا صريحًا ويفضي بما يحتقب من أسرار، لعله أنْ يطأطئ رأسه فيرى تلك الهاوية تحت قدميه … ولكن من أين له؟! إنه متهم عند عمه بحب شهددار بنت أقبردي فلن يستمع إليه، وهل يفرغ العاشق لغير حديث الهوى والشباب؟ هل يحسن شيئًا من أسباب السياسة وتدبير شئون الملك، وإنَّ العشق لمذلة وهوان! كذلك يراه عمه السلطان!
وابتسم طومان باي ساخرًا على ما به من الألم والضيق، أفيمتنع أنْ يكون الفتى عاشقًا وطالبَ مجد؟ وماذا يمنع؟ إنَّ العاشق ليرقى أحيانًا إلى أسباب المجد على معراج من شعاع عيني معشوقته، بل إنه ليمتنع أنْ يعشق الفتى النبيل، ولا يطلب أسباب العلاء والمجد. ولكن من أين للغوري الشيخ أنْ يدرك هذه الحقيقة؟! من أين له وهو أبو جان سكر التي يريد أنْ تكون هي لا غيرها معشوقة طومان باي؟!
وابتسم طومان باي ابتسامة أخرى ساخرة … ولكن من نفسه، إنه هو الذي رضي لنفسه أنْ يكون من عمه بهذا المكان، لو شاء لأبى وأسرع عجلانَ إلى بيت صاحبته شهددار ليقول لها: إنك أنت وحدك لي ولو غضب السلطان.
ما هذا؟ … فِيمَ يفكر الساعة وإنَّ الأمر لأجلُّ وأخطر من أنْ يشتغل عنه بمثل هذه الخواطر، إنَّ لحديث الحب ساعة أخرى، أمَّا الآن … أمَّا الآن فإن عليه فَرضًا آخر؛ ليدرك هذا العرش قبل أنْ ينهار …
– عمِّي!
– ماذا يا طومان؟
– إنَّ لي إليك حديثًا، فهلَّا فسحت صدرك لي!
– حديث جدٍّ يا طومان أم حديث دعابة؟
عبس الفتى وهمَّ أنْ يجيب جوابه، ثم عضَّ على شفتيه واستدرك قائلًا في وقار: حديث جدٍّ كله يا مولاي، فهل عرفت يا عمِّ ما يتحدث به الناس في القاهرة عن علي بن أبي الجود، ذلك السوقي الذي أسلمتَ إليه الزمام وأطلقته يعيث باسمك في بيوت الناس؟!
– لا تزال يا طومان تقسو على ذلك المصري الذي يخلص في خدمتنا ما لا يخلص أبناء الجركس، فهل علمتَ أنني إنما احتظيته وأدنيته لأتألف به من وراءه من المصريين؟
– علمت، ولكنه سوقيٌّ لا يعرف قدر ما أنعمتَ به عليه يا مولاي، فهو لا يرى هذه الوظيفة التي أسندتها إليه إلَّا سببًا إلى البغي والتسلط والبطش؛ ليجمع لنفسه ما يجمع من المال، فليس يرى نفسه بين المصريين مصريًّا منهم، بل سيدًا قد سُلط على عبيد لا تساس إلَّا بالسوط، كأن لم يكن يومًا بيَّاع الحلواء والمشبك عند حمام شيخو … بل لعله يزعم أنَّ هذه الوظيفة التي يتولاها من قِبلك هي من بعض ديونِه عليك، وإنَّ له عليك ديونًا … فيما يزعم لنفسه، وفيما يُسر إلى أصدقائه من الحديث!
قال الغوري غاضبًا: ماذا تقول يا طومان؟!
أجاب طومان هادئًا: ذلك بعض ما سمعتُ من حديث الناس في المدينة، وقد أطلقتَ يده يا مولاي فيما يفرض على الناس من الضرائب وما يحصل؛ فإن له على كل تاجر ضريبة الجمعة، وضريبة الشهر، وضريبة السنة، يقتضي كل أولئك سلفًا قبل موعده، كأن له على الناس ديونًا أخرى كديونه عليك، حتى أوشكت أنْ تخرب أسواق القاهرة، وتخلو من الباعة والمشترين، فاحسب يا مولاي ما يدخل خزانتك من هذا كله وما يحتجزه لنفسه! إنَّ له المغنم من ذلك كله وعليك وحدك دُعاء الناس!
قال السلطان منزعجًا: يدعون عليَّ؟ وماذا صنعت بهم، ومن أجل حمايتهم من العدو الطارق أجمع هذا المال؟! أفلم يأتِهِم نبأُ ابن عثمان الذي يتربص بنا على الحدود؟ أم لا يعرفون ما نبذل من المال لحماية سواحل بحر الهند من غارات لصوص البحر من البنادقة والفرنجة، أم لم يشهدوا ما أنشأنا في القاهرة من المساجد والمدارس، وما بنينا على الثغور من القلاع والبروج، أم لم يروا هذه المنشآت التي جمَّلنا بها القاهرة، حتى صارت زينة الحواضر في الدنيا وقصدها القُصَّاد من كل فجاج الأرض؛ ليروا بأعينهم ثم يعودوا إلى بلادهم فيتحدثوا بما رأوا ليكبتوا الأعداء ويفلوا عزائمهم فلا يستخفهم الطمع فينا، أم لم يشهدوا ما حشدنا من المماليك في طباق القلعة ليكون لمصر جيش قاهر لا يثبت له عدو في الهجوم ولا في الدفاع … فمن أين لنا أنْ نقوم بذلك كله إلَّا من المال الذي يدفعه ذلك الشعب؟!
هزَّ طومان رأسه موافقًا، ثم قال: كل ذلك قد رآه المصريون بأعينهم وعرفوه وشهدوا آثاره، ولكنهم يطلبون الغذاء والكساء والمأوى والأمان يا مولاي، فلا عليهم إنْ أنكرتْ أعينهم كل ما ترى؛ لأنهم جياع عراة، لا مأوى لهم ولا أمان من بطش عمال السلطان، ولقد كان في طَوْقهم أنْ يشبعوا من جوع ويكتسوا من عري، ويأووا إلى دار الطمأنينة والسلام، لو أنَّ عمال السلطان اقتصروا فيما يجبون من الضرائب على ما يدفعون إلى خزانة السلطان، ولكن عمال السلطان لا يقنَعون؛ فإن الذهب والفضة ليملآن حجرات بيوتهم مما جمعوا بالقهر والبطش والتعذيب باسم السلطان، فهل جاءك يا مولاي أنَّ علي بن أبي الجود اليوم يملك مئات الآلاف يختزنها في القدور، فلو شاء لاشترى العرش بماله وعاش سلطانًا، وكان — لولاك — حتى اليوم سوقيًّا يبيع الحلواء والمشبك في دكانه عند حمام شيخو، وهو مع ذلك لا يستحي أنْ يتحدث مباهيًا بأن له دينًا على السلطان؟!
قال السلطان مغيظًا: ماذا قلت؟! عليُّ بن أبي الجود يملك مئات الألوف يختزنها في القدور؟!
– نعم يا مولاي، ولو شئتَ لردَّ إلى الناس ما اغتال من أموالهم!
دار رأس الغوري فنسي كل ما سمع من حديث طومان، فلم يبقَ منه في أذنيه إلَّا أنَّ عامله علي بن أبي الجود يملك مئات الألوف يختزنها في قدور، فسالت نفسه طمعًا وأرسل يدعوه إليه.
ومثل ابن أبي الجود بين يديه، فسأله أنْ يدفع إلى خزانة السلطان ثلاثمائة ألف دينار من ماله.
قال علي بن أبي الجود معتذرًا: يا مولاي! …
قال الغوري غاضبًا: هو ما قلت، فإمَّا دفعتها، وإمَّا شنقتك على باب زويلة!
وسيق علي بن أبي الجود إلى السجن حتى يفي بما فرض عليه السلطان، وبيعت وظيفته بمال، وتعهد مشتريها أنْ يكون أكثرَ وفاءً من سلفه، فيحمل إلى خزانة السلطان ضِعْفَ ما كان يجبيه علي بن أبي الجود، وزاد دخل الخزانة السلطانية بما قبض السلطان من ثمن الوظيفة … وبما تضاعف على الشعب من الضرائب …
وحين كانت جثة علي بن أبي الجود معلقة على باب زويلة، كان خلَفه يجوس خلال الأسواق في طائفة من جنده يجبي من التجار ضريبة جديدة باسم السلطان؛ ليفي بما تعهد به!
وقال طومان باي لنفسه أسفًا: آذنتْ واللهِ هذه الدولة بالانحلال، كأنني لم أتحدث إلى السلطان هذا الحديث إلَّا لأغريه بعامله، وأزيدَه هو نفسه ضراوة وجشعًا إلى المال!