وراء الأكمة
قال بدر الدين بن مزهر لصديقه الأمير قايت الرجبي كبير أمناء السلطان الغوري: والله إنك لتحمل أوزار هذا السلطان يا أمير، فما كان لولا معونتك شيئًا يؤبه له؛ وإني لأعجب كيف رضيتَ وأنت بهذه المنزلة أنْ يتسلطن هذا الشيخ وقد كنت أحقَّ بها؟!
قال قايت: وهل كنتُ يا صديقي أقدِر أن يطيش الغوري هذا الطيش، ويغلبه هواه على عقله وقد جاوز الشباب، لقد كان أزهد الأمراء في العرش والجاه والسلطان على ما بدا لي، فما أدري والله كيف استبدل بتلك الرقة غلظة، وبذلك الزهد شرهًا وضراوة واستكلابًا على جمع المال.
قال بدر الدين: اعتذر بما شئت فإن على رأسك وِزره!
قال قايت وقد أطرق أسفًا: قد كان ما كان يا صديقي، فلا سبيل إلى الرجوع بعدُ.
قال فتى من فتيان المماليك قد اتخذ مجلسه إلى جانب بدر الدين: بل إنَّ بين يديك السبيل يا أمير، فلو شئت لبلغت …
قال كبير الأمناء باسمًا: كذلك تزعم أنت يا خشقدم، فمن أين لي المال أكسب به طاعة الجند ورضا الأمراء؟ وكيف أتوقى طعنة في الظهر من يد سيباي نائب الشام، أو خاير بن ملباي حاجب الحُجَّاب، أو جان بردي الغزالي، وإنَّ كلًّا منهم ليمد عينيه إلى العرش على حذر وتربُّص، يريد أنْ تسنح له فرصة، ثم من أين لي أنْ آمن عيون طومان باي، تلك التي تنفذ إلى ضمائر الناس فلا يكاد يخفى عليه سر؟
قال خشقدم حانقًا: حتى أنت يا أمير تخشى عيون ذلك الفتى؟! لقد صار ذلك الغلام شيئًا …
قال بدر الدين بن مزهر: خلِّ عنك يا خشقدم …
ثم التفت إلى قايت وأردف قائلًا وفي لهجته صرامة وحزم: اسمع يا أمير، إنْ كان ذلك كل ما تخشاه فقد كفيتك هذه المئونة، أمَّا مال البَيْعَة فعليَّ أنْ أبذل لك ما تشاء حتى يرضى الجند والأمراء، وأمَّا سيباي وخاير بك وجان بردي الغزالي، فأرجو ألَّا يشغلك من أمرهم شيء، بل لعلهم أنْ يكونوا أطوع لك وأحرص على نفاذ أمرك، فهم اليوم على نية العصيان والثورة، وسيلتقون في الشام على خطة قد أُحْكِمَ تدبيرُها، فإذا رضيت عن تدبيري فستخرج إليهم على رأس حملة تأديبية، ثم تعود سلطانًا كما عاد العادل طومان باي، وينتهي أمر ذلك السلطان الشيخ؛ فقد كفاه ما تمتع به من عز السلطنة هذه السنين، وكفى الشعب ما نال من أذاه وشحه، وحرصه على جمع المال …
قال خشقدم: وأمَّا طومان باي …
فالتفت إليه بدر الدين مغضبًا وهو يقول: دعني وما أريد يا خشقدم!
ثم عاد إلى قايت يتم حديثه: أمَّا طومان باي فإنه في شغل بنفسه وببنت أقبردي عن كل ما هنالك، ولعله في عماية هواه أنْ يكون لك عينًا على عمه، ذاك الذي يريد أنْ يحول بينه وبين شهددار؛ ليزفه كارهًا إلى ابنته جان سكر. ولعل خشقدم الرومي أقدر على تدبير هذا الجانب من الخطة؛ فإن له وسائله في قصر السلطان، وبينه وبين طومان باي آصرة!
ثم مال إلى خشقدم يتحبب إليه باسمًا وهو يقول: أليس كذلك أيها الرومي الفتى؟
قال خشقدم وعلى وجهه مسحة من الرضا: بلى يا سيدي، وسيكون صهري جاني باي الأستادار عونًا لي في كثير من الأمر، فإنه ليبغض ذلك الفتى المتغطرس كأن بينهما ثأرًا لا يغسله إلَّا الدم!
كان يوم الخميس الثامن من رجب سنة ٩٠٩ يومًا من أيام القاهرة المشهودة، فقد ازَّيَنَتِ المدينة كلها بأمر السلطان احتفالًا بدوران المحمل، وكانت هذه العادة قد بطلت منذ بضع وثلاثين سنة، حتى نسيها الناس أو كادوا، ولم يبقَ منها إلَّا ذكريات على ألسنة العجائز والشيوخ، يستمع إليها الشباب في لهفة وشوق … فما كاد الغوري يأمر أمره بالرجوع إلى تلك العادة، حتى شمل مصر كلها فرح غامر، فلم يبقَ في المدينة على سعتها عجوز ولا شيخ، ولا فتاة ولا فتى، إلَّا تهيأ لاستقبال ذلك اليوم والاشتراك في ذلك المهرجان، فازدحم النساء والفتيات على سطوح الدور ووراء أستار النوافذ، وزغاريدهن تتجاوب أصداءً من شرق المدينة إلى غربها، أمَّا الرجال شيوخًا وفتيانًا فقد احتشدوا على جانبي الطريق كتلًا متراصَّة، وامتلأت بهم الدكاكين وشرفات الدور، حتى استؤجرت أسطح البيوت والمصاطب والشرفات بالثمن الربيح، وانثالت وفود المصريين من الخانكاه وبلبيس، ومن قريب ومن بعيد؛ لتشهد ذلك اليوم الفريد، وبلغ الزحام غايته كأن المدينة كلها في عرس. على أنَّ ساحة الرملة — حيث يطل السلطان من شرفته بالقلعة على الرماحة، وهم يعرضون فنونهم ويعتركون بالرماح بين يديه في براعة وخفة — كانت أشد ميادين القاهرة زحامًا وأكثرها اكتظاظًا بالخلق. وفي انتظار ساعة العرض احتشد العامة راقصين يغنون أغنيتهم التي صنعوها احتفالًا بهذا اليوم، والنساء من وراء الأستار يغنين معهم:
وفي ذلك اليوم الذي كانت المدينة تموج فيه بالخلائق، قد اشتغل كلٌّ منهم بما يرى وما يسمع عن نفسه وحاجة أهله، كان فتى وفتاة يجلسان وراء شرفة من تلك الشرفات التي تطل على موضع قريب من ذلك الميدان، قد شغلهما أمر ذو بالٍ عن كل ما اشتغل به الناس من أسباب اللهو والفرجة … كأنما قد شَبِعَا من هذا المنظر وما شاهداه قبلها قط، ولا رأيا مثله في الأحلام …
قالت الفتاة: أعرف هذا يا طومان، وما دعوتك إلى مجلسي في هذا اليوم لأحاول أمرًا يفسد ما بينك وبين عمك السلطان، ولستُ من الحمق بحيث آمل أملًا لا سبيل إليه … ولكن …
وغَصَّتْ بكلماتها فأمسكت، ولمعت في عينيها دمعة. ودنا منها طومان وقد غلبته أشجانه، فمس ظهر كفها براحته وهو يقول: بعض هذا يا شهددار، إني لأعلم ما في نفسك وإنْ حاولتِ كتمانه، وأحسبك تعلمين ما في نفسي …
قالت وقد مالت بوجهها إلى ناحية؛ لتستر الدمعة التي تدحرجت على وجنتيها: ليس هذا ما أريده يا طومان، وإنما دعوتك لأفضي إليك بسرٍّ انكشف لي من أمر خاير بن ملباي …
ثاب طومان إلى نفسه سريعًا وقال في لهفة: خاير بن ملباي!
– نعم يا طومان، وإنك لتعلم ما بينه وبين مصرباي، ومنها وقفت على بعض سِرِّهِ، فقد كانت تتحدث إليَّ حديثًا عن خاير، فانطلق لسانها ببعض ما كانت تريد أنْ تخفي، ثم استدركت فصمتت … وعلمتُ من وقتئذٍ أنَّ بينها وبين خاير سرًّا أعمق مما كنت أحسب، وأيقنت أنها شريكته في ذلك التدبير …
قال طومان وقد بدا القلق واللهفة في لحن صوته ونظرة عينيه: أي تدبير تعنين يا شهددار؟
قالت: إنَّ خاير يا طومان يشارك في أمر خطير من أمور السياسة لست أعرف ما يكون، ولكن صلة ما بينه وبين بدر الدين بن مزهر وسيباي نائب الشام، وما يجتمع الثلاثة على أمر هين، ومن يدري؟ لعل خاير يأمل أملًا يتقرب به إلى قلب مصرباي ويكون أدنى إليها منزلة!
هزَّ طومان رأسه وزمَّ شفتيه قائلًا: لست أفهم ما تعنين يا شهددار، وما شأن مصرباي وسيباي، وبدر الدين بن مزهر؟
فابتسمت شهددار وقالت: لست أدري، وإنَّ مصرباي لأعمق غورًا وأحرص على كتمان سرها، وإنَّ لها غدًا مأمولًا حدثها به أبو النجم الرمَّال ذات يوم منذ سنين، فلم تزل منذ ذلك اليوم ترقب مطالع النجوم وتنتظر كل مساء مشرق الصبح … فإذا شئت يا طومان أنْ تقطع ما بينها وبين خاير بن ملباي وتحول بينها وبين ما تُدَبِّر من كيد، فاخطبها لعمك الشيخ … أو لا فدعها وما يداعب نفسها من أماني، ولا تسألني عن شأنها وشأن سيباي وبدر الدين بن مزهر!
قال طومان منكرًا: أتمزحين أم تجدين يا شهددار، فإني لأسمع منك اليوم ما لا أكاد أفهم!
قالت: بل هو الجد كل الجد يا طومان!
قال: أفتقترحين جادة أنْ أخطب مصرباي لعمي الشيخ؟
قالت ضاحكة: نعم، وماذا يمنع؟ وهل تحسبها تأبى أنْ تكون سلطانة، ولو كان سلطانها شيخًا قد حطم السبعين، وهي شابة لم تبلغ الثلاثين؟ وهل يأبى عمك؟
قال طومان ولم يزل في حَيْرَتِه: ولكنها لم تزل زوجة الظاهر قنصوه، فهو زوجها وإنْ كان سجينًا في برج الإسكندرية!
قالت: آه يا طومان! لقد فكرتَ فيما لم تفكر فيه مصرباي وخاير، حين تواثقا على أمل مشترك يرقبان له مطالع النجوم، وينتظران كل مساء مشرق الصبح، كما قال أبو النجم الرمَّال ذات يوم لمصرباي …
قال طومان: آه! أحسبني قد فهمت ما تعنين يا شهددار …
قالت شهددار: نعم، إنها لتطمع أنْ تعود سلطانة على العرش، وإنَّ خاير بن ملباي ليطمع مثلها …
قال طومان منكرًا: باللهِ إلَّا ما أخبرتني يا شهددار: أتتحدثين جادة وعن بينة؟ أتظنين أن يبلغ خاير يومًا هذه المنزلة؟
قالت وقد تجهم وجهها: إلَّا يكن خاير يطمع فإن مصرباي خليقة بأن تُطمِعه، وإلَّا فما شأن خاير بسيباي وبدر الدين بن مزهر؟ وما ذلك السر العميق الذي تحرص مصرباي على كتمانه، فلم تكد تلفظه شفتاها حتى أمسكتْ؟
قال طومان وقد بدا في وجهه الغضب: ويل لذلك الخائن! لا بُدَّ أنْ يدرك عاقبة تدبيره، ويلقى جزاء كفره بنعمة السلطان!
قالت شهددار منزعجة: ماذا نويت يا طومان؟ هل هو إلَّا ظنٌّ يوجب الحرص والحذر؟ فكيف تتعجل الأمر قبل أنْ تعرف مصدره ومورده؟
قال طومان هادئًا: اطمئني يا شهددار، إنَّ طومان لا يعجل قبل أنْ يتثبت …
ثم سكت وسكتت، وسرحت خواطرهما إلى بعيد، وافترقا على التوهُّم ثم التقيا. ولما مدَّ إليها يده للوداع بعد فترة، كان في عينيها عَبرة وفي عينيه مثلها، فشدَّ على يدها بعنف وهو يقول في حسرة: لماذا أجبتُ دعوتك يا شهددار وكنتُ خليقًا أنْ أتوارى عن عينيك حتى لا ينتكئ الجرح؟
قالت وقد أفلتت يدها من يده: بل اسألني يا طومان لماذا دعوتُك وكان حقًّا عليَّ أنْ أتصبر؛ ليحملك تصبُّري على الصبر والسلوان، ويفرغ قلبك لما تحمل من هم الدولة؟
ثم فرت عَجْلَى من بين يديه وخلفته في أشجانه، فلما توارت عن عينيه استدار على عقبه، واتخذ طريقه إلى الباب في صمت، ويكاد قلبه يثب من بين ضلوعه وجدًا ولهفة!